المادة كاملة    
الإيمان بالله تعالى وصف لا يستحقه إلا من اتصف بما أورده الشرع من أوصاف، وقام بما أمر به الله ورسوله من الأعمال كالإنصاف من النفس، والإنفاق عن إقتار، وإفشاء السلام وغيرها. وادعاء الإيمان دون عمل قول ترده النصوص الشرعية جميعها.
  1. شبهة عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة والرد عليها

     المرفق    
    الشارح رحمه الله يرد هنا على القول: بأن عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة، وهذه هي الشبهة الخامسة، فلو رجعنا إلى شبهات المرجئة وأدلة الأصحاب لـأبي حنيفة رحمه الله لوجدنا أن الشارح قد أجاب على الشبهة الأولى وهي أن معنى الإيمان هو التصديق من الناحية اللغوية، والثانية وهي تابعة للأولى من ناحية اللغة، وعلى الشبهة الثالثة وهي أن الإيمان ضد الكفر، وعلى الرابعة وهي شبهة التركيب، فأتى هنا للرد على الشبهة الخامسة وهي أن العطف يقتضي المغايرة، ونقدم لهذا بقاعدة سهلة إن شاء الله، وهي: أن لفظ الإيمان لو تتبعناه في القرآن وفي الأحاديث والآثار نجد أن اسم الإيمان له ثلاث حالات لا يخرج عنها:
    الحالة الأولى: أن يذكر الإيمان مفرداً أي أن لا يذكر معه الإسلام ولا العمل.
    الحالة الثانية: أن يذكر الإيمان ويذكر معه الإسلام.
    الحالة الثالثة: أن يذكر الإيمان ويذكر معه أي نوع من أنواع العمل. ‏
    وهذه الحالات الثلاث سنذكر لها الأمثلة.
    1. مجيء لفظ الإيمان مفرداً

      فأما ذكر الإيمان مجرداً فذلك جاء في قوله تبارك وتعالى: (( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ))[المائدة:5]، وقوله تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ))[البقرة:143]، وقوله: (( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ))[المجادلة:22]، وقوله أيضاً: (( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:7]، وقوله: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106]، وقوله تعالى: (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ ))[الحشر:9].
      فهذه النصوص جميعاً ذكر فيها الإيمان وحده، وهو هنا يدل على الدين كله، فإذاً: قوله تبارك وتعالى: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106] يعني مطمئن بالإسلام وبما شهد به وآمن به من هذا الدين، وقوله تعالى: (( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ))[آل عمران:167] أي: الدين بمفهومه العام: الإسلام والإحسان والإيمان بمعناه الخاص، وكذلك بقية الآيات، فـ الإيمان إذا ذكر مفرداً فإنه يدخل فيه العمل الصالح كله، ومراتب الدين كلها، كما جاء في آخر حديث جبريل: ( هذا جبريل آتاكم يعلمكم دينكم )، فديننا هو هذه الثلاث جميعاً، فيشمل الأعمال الظاهرة التي في جواب: ( أخبرني عن الإسلام ) والأعمال الباطنة التي في جواب: ( أخبرني عن الإيمان )، فأركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، وما يتعلق بالإحسان -وهو العلو في هذه الدرجات- هي الدين، وقد قال الله تعالى: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ))[آل عمران:85].
      وأما مثال مجيء الإيمان مفرداً في الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: ( وليس وراء ذلك مثقال حبة من إيمان ) وقوله أيضاً: ( يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من إيمان ) مثله قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) هذه الحالة الأولى.
    2. مجيء لفظ الإيمان مقترناً بلفظ الإسلام

      الحالة الثانية: أن يذكر الإيمان ويذكر معه الإسلام في آية واحدة أو في حديث واحد، وذلك مثل قوله تعالى: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14].
      فالإسلام والإيمان إذا ذكرا مقترنين فيكون المراد بالإيمان الأعمال الباطنة، وبالإسلام الأعمال الظاهرة، ومثال ذلك حديث جبريل، وهو واضح في هذا؛ لأن جبريل لما سأل: ( أخبرني عن الإسلام..) فسره صلى الله عليه وسلم بالأركان الخمسة، وهي الأعمال الظاهرة، ولما سأله عن الإيمان فسره له بالأركان الستة، وهي الأعمال الباطنة.
      فإذاً: الإسلام والإيمان إذا ذكرا معاً فالإسلام ينصرف للعمل الظاهر، والإيمان ينصرف للعمل الباطن، وأعلاهما درجة هو الإيمان؛ لأن العمل الظاهر هو ثمرة للعمل الباطن، فثمرة إقرار المؤمن واعتقاده هو هذا العمل، فيصلي ويصوم ويلتزم بالأحكام الظاهرة، فـ إذا دخل الإيمان في القلب ورسخ أثمر زيادة في الذكر والصلاة، وإذا زاد إيمانه الباطن زاد خشوعاً؛ لأن الخشوع هو الجزء الباطن من الصلاة، وزاد محافظة عليها وحرصاً عليها، وهكذا في الزكاة والإنفاق وهكذا في بقية الأعمال، ولذلك قال الله تعالى في حق الأعراب: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ))[الحجرات:14] فنفى الإيمان عنهم، ثم قال: (( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14] فأرشدهم إلى أن يقولوا: أسلمنا، وهم وإن كانوا قد آمنوا من حيث الأصل بمعنى: الإقرار بالدين وانقادوا في الظاهر، فأصبحوا من جملة المسلمين، لكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم، فكأنه قال لهم: الإيمان الذي تقصدونه أنتم إلى الآن لم يدخل، لكنه غير بعيد؛ لأن (لما) تدل على أن الحدث لم يقع، لكنه قريب الوقوع بخلاف (لم) فهي تفيد نفي مجرد وقوع الحدث، ولذا جاء بعد هذه الآية إيضاح مفهوم مهم، وهو أنه إذا كنتم تريدون معرفة المؤمنين، وتريدون أن تكونوا مثلهم ومعهم، وأن تستحقوا اسمهم فهم من قال الله فيهم: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ))[الحجرات:15]، أي: فهذه هي صفتهم، ومن صفاتهم قول الله تعالى عنهم: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ))[الأنفال:2]، فليس مجرد من أذعن وأقر، وأدى بعض الأعمال الظاهرة يصبح مؤمناً، بل ذلك مسلم، والمؤمن هو من دخل الإيمان في قلبه.
      إذاً: الإسلام والإيمان إذا ذكرا معاً انفرد هذا بمعنى وانفرد هذا بمعنى، ويذكر العلماء قاعدة في الفرق بين الإسلام والإيمان ويقولون: إن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، بمعنى أنه إذا جاء لفظ الإسلام في نص فيكون معناه: الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا جاء لفظ الإيمان في نص فيكون معناه: الأعمال الظاهرة والباطنة معاً، وهذا لا ينفي أن بينهما عموم وخصوص من وجه، يعني: ليس أحدهما عاماً عموماً مطلقاً، والآخر خاصاً خصوصاً مطلقاً، بل بينهما عموم وخصوص من وجه، فإذا نظرنا إلى حقيقة الإيمان ومفهومه ودلالته فهو أعم؛ لأنه يشمل الإسلام، فالإيمان أعم من حيث حقيقته، أي: أن الإنسان يبدأ أولاً بالإسلام، ثم بعد ذلك يدخل الإيمان في قلبه ويزداد إيماناً، فتكتمل فيه شعب الإيمان، وأما الإسلام فهو الانقياد وأداء الأعمال الظاهرة، فإذا ازداد العبد إيماناً ازداد عمله الظاهر، فالذي لا يزال في مرتبة الإسلام إذا أذن المؤذن مثلاً فإنه ينتظر إلى الإقامة، ثم يذهب للصلاة متباطئاً، ويصلي أحياناً في المسجد، وأحياناً في البيت، فهذا من أهل الإسلام، لكن صاحب الإيمان كلما قوي إيمانه قويت علاقته بالمسجد وبالصلاة، فيخشع فيها ويتدبر ويتفكر في الآيات.
      فالإيمان أعم، ولذلك فالأعراب مسلمون لكنهم غير مؤمنين؛ لأن الإيمان لم يدخل في قلوبهم على الحقيقة، فالإيمان أعم باعتبار المعنى، ولكن من جهة الأفراد، فالإسلام أعم؛ لأن المسلمين أكثر من المؤمنين.
      إذاً: فالقاعدة على هذا أن نقول: كل مؤمن مسلم، ولكن ليس كل مسلم مؤمناً .
    3. اقتران لفظ الإيمان بالعمل

      الحالة الثالثة: أن يذكر الإيمان ويذكر معه العمل، وهذا هو موضع النزاع، وهذا هو الذي يجادل فيه المرجئة ويقولون: أنتم قلتم: إن الإيمان يشمل العمل، فماذا تفعلون في الآيات التي يذكر فيها الإيمان، ثم يُعطف عليه العمل؟ فهذا يدل على أن الإيمان شيء والعمل شيء آخر.
      وقد استدل هؤلاء بظواهر قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ))[الكهف:107]، وقوله تعالى: (( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ))[العصر:1-3]، وقوله تعالى أيضاً: (( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ))[مريم:60] وهذا كثير في القرآن وفي هذه الحالة لا مانع أن يفسر الإيمان بالتصديق والإقرار الباطن، وأن يفسر العمل بالامتثال ظاهراً أو باطناً، كما فسر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم هذه الآيات، فيكون قول الله تعالى: (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[الشعراء:227] معناه: الذي صدقوا بالحق، وامتثلوا له وأذعنوا وانقادوا له وقبلوه، ثم بعد ذلك نرد على المرجئة بأن هذا لا يلزم منه أن العمل مغاير للإيمان، ولكنهما يذكران معاً على سبيل التلازم بينهما، والتنبيه على أهمية العمل، ولذلك كله مع العمل أسرار وحكم، وهذا هو الجواب العام، ولكن لا مانع -كما قلنا- من الرد بما في تفسير الطبري أن كثيراً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن بعدهم يفسرون الإيمان في مثل هذه الآيات بالإقرار أو التصديق، ويفسرون العمل بالامتثال، فالإيمان عمل القلب، والعمل عمل الجوارح، فمن علم وأقر وصدق، ثم امتثل وانقاد، وفعل المأمورات، واجتنب المحرمات وابتعد عنها فهذا هو المؤمن الذي جمع بين التصديق وبين الامتثال، لكن هل تفسير الإيمان بالإقرار والتصديق يعني أن العمل خارج عن اسم الإيمان وحقيقته؟
      الجواب: لا.
      يقول المؤلف رحمه الله: (وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة فلا يكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان) أي: كما يقول المرجئة (فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقاً عن العمل وعن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام، فالمطلق مستلزم للأعمال، قال الله تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ))[الأنفال:2] وقال: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ))[الحجرات:15]، وقال: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ))[النور:62]، وقال: (( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ))[المائدة:81]) كما في آيات الموالاة في المائدة وهكذا.
      إذاً: مراد الشيخ من هذا أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال، فكان الأقوى أن يقول: لأنها جزء من حقيقته، لكنه يأتي في مقام النقاش بما لا يختلف عليها أهل السنة ولا المرجئة بل يقبله الطرفان، وهو أن الإيمان مستلزم ومتضمن للأعمال، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) وقد تقدم الكلام في هذا، وأن له عدة معانٍ، وذكرنا ما هو الراجح من تلك المعاني، وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أفشوا السلام بينكم )، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( من حمل علينا السلاح فليس منا )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من غشنا فليس منا ) وفي ورواية: ( من غش فليس منا )، وهذه الرواية أعم، أي: فلا يجوز غش أي شخص، ولو كان من أهل الكتاب، ويوضح هذا سبب الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( مر بصاحب الطعام فأدخل يده الشريفة صلى الله عليه وسلم فوجد بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته سنة -يعني: مطر، وأراد أن يخفي العيب- فقال: من غشنا فليس منا )، وهذا وقع في المدينة التي كان يكثر فيها أهل الذمة، والإسلام دين الإنصاف، حتى لو كان التبايع مع يهودي فإنه لا يجوز الغش.
  2. الرد على المرجئة في تفسيرهم لحديث: (من غش فليس منا)

     المرفق    
    قال المؤلف رحمه الله: (وما أبعد قول من قال: إن معنى قوله: ( فليس منا ) أي: فليس مثلنا)؛ لأن من المرجئة من قال ذلك كما روى هذا الخلال في كتاب الإيمان )، فـالخلال رحمه الله في كتابه الجامع المسند روى كل ما نقل عن الإمام أحمد بالسند، وفي جملة ذلك كتاب الإيمان للإمام أحمد ، فكتاب الإيمان للإمام أحمد هو ضمن كتاب الجامع للخلال ، ولذلك فالإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان يسميه: الجامع ، و ابن تيمية أكثر من مرة يسميه: المسند ، وهما شيء واحد، وقد نقل عن الإمام أحمد إنكاره الشديد على من قيل له من المرجئة : ما تقولون في قوله صلى الله عليه وسلم: ( من غش فليس منا )؟ فأجابوا بأن المعنى: فليس مثلنا؛ لأن المرجئ يريد بهذا أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن الناس فيه سواء، فعلى هذا لا يكون معنى: ( من غش فليس منا ) أنه خارج من الدين، بل يعني: من غش فليس مثلنا، ويريدون نفي القول بزيادة الإيمان ونقصانه، والجواب على هذا من وجوه:
    الوجه الأول: أن نقول لمن قال هذا: لقد وقعت فيما فررت منه، أو ليس قولك: ليس مثلنا دليل على أنه أقل إيماناً؟
    إذاً: هذا الذي فررتم منه من إثبات تفاضل الناس في الإيمان فقلتم: ليس مثلنا -أي: أقل منا- فيه خطأ كبير في المعنى، وقد نبه عليه الإمام أحمد رحمه الله، وهو أن معنى قولهم هذا أن من لم يغش يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان المعنى: من غش فليس مثلنا، فهل الذي لم يغش يكون مثلنا؟ أي: مثل خيار الصحابة من المهاجرين والأنصار؟ هذا فضلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فينال هذا الوصف بمجرد أنه لم يغش، فإذا غش لم يعد كذلك، فتأويل المرجئة للحديث تأويل شنيع للحديث، ولهذا أنكره الإمام أحمد رحمه الله إنكاراً شديداً.
    والصحيح أن معنى قوله: ( من غش فليس منا ) أي: من غش، فليس سائراً على هدينا، ولا متمسكاً بأحكامنا وشرعنا، وليس متصفاً بصفات المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، والذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، والذين هم في صلاتهم خاشعون، وبمعنى آخر: الإيمان اسم ثناء ومدح، بل هو من أفضل أسماء الثناء والمدح، فالذي يستحق أن يثني به عليه وأن يمدح بأنه مؤمن هو من لم يأت بكبيرة، فمن فعل كبيرة خرج عن هذا الثناء وعن هذه الدرجة، وأصبح ممن يذم ويعاب على هذا هو، ولا نقول بأنه قد كفر، ولا نقول: إذا لم يغش فقد صار من المؤمنين، بل غاية ما في الأمر أنه بارتكابه للكبيرة أو مثلها لم يكن من المؤمنين الممدوحين في كتاب الله، لكن لم يزل عنه اسم الإسلام؛ لأنه لا يخرج من الملة والدين بارتكابه الكبيرة، ولكن ليس معنى هذا أن تشهد لرجل تعلم أنه ارتكب كبيرة بأنه مؤمن وقد وجدته يبيع الطعام ويغش؛ لأن من اتصف بهذه الصفات، فهو لم يتخلق بأخلاق المؤمنين، ولم يتصف بصفاتهم، ولم يتعامل بمعاملتهم، ولم يلتزم هديهم ونهجهم وأحكامهم، فهو بذلك ليس منهم.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
  3. شرح قول عمار: (ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان...) ودلالته على زيادة الإيمان ونقصانه

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فقد قال المؤلف رحمه الله: (وصح عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه أنه قال: [ ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: الإنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم ]، ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه ، وفي هذا المقدار كفاية وبالله التوفيق).
    ثم قال: (وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة فلا يكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان، فلا شك أن الإيمان تارةً يذكر مطلقاً عن العمل وعن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام، فالمطلق مستلزم للأعمال، قال تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ))[الأنفال:2]، وقال تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ))[الحجرات:15]، وقال: (( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ))[المائدة:81].
    وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تؤمنوا حتى تحابوا )، وقال: ( من غشنا فليس منا )، وقال أيضاً: ( من حمل علينا السلاح فليس منا ).
    وما أبعد قول من قال: إن معنى قوله: (فليس منا) أي: فليس مثلنا، فليت شعري من لم يغش يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟]
    سبق أن ذكرنا ما يفيد دخول العمل في الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن مسعود و معاذ بن جبل و عبد الله بن رواحة وأمثالهم، وقد ختمنا ذلك بهذا الأثر العظيم الذي جاء عن عمار بن ياسر رضي الله عنه، وهو يعد من أعظم الآثار في مسألة الإيمان، وقد رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في الصحيح معلقاً، لكن وصله ابن أبي شيبة في المصنف وغيره كما ذكر الحافظ رحمه الله وهو صحيح؛ وفي رواية: [ ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان ]، أي: ثلاث خلال أو صفات، وفيه دليل على زيادة الإيمان ونقصانه، وعلى اختلاف الروايات فما قاله عمار هو من الحكمة التي تعلمها من معلم الحكمة الذي آتاه الله الحكمة، وهي من أعظم ما يقتدي بها السائرون على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقتفون لأثره وطريقه في الدعوة إلى الله أن يتحلوا بهذه الخلال الثلاث ليستكملوا بها الإيمان. وأولها:
    1. إفشاء السلام وأثر ذلك على الإيمان

      وبذل السلام ربما كان أعجب من الإنصاف والإنفاق عن إقتار؛ لأن كثيراً من الناس يحتقرونه أو يهملونه، خصوصاً من طلبة العلم، فربما نرى من طلبة العلم من لا يبالي به، أو لا يهتم به، فقلما يسلم، ولا سيما إن مر في السوق، أو مكان عام على بعض من يرى أنهم من العوام، أو ممن هو متلبس بشيء من المعاصي، فيقول: ما الفائدة من السلام على هؤلاء؟ بل ربما يحدث هذا الخلل والتقصير أحياناً لدى الدخول أو المرور على بعض أهل الخير، وبعض الإخوة يتهاون بهذا الأمر، وهو مهم لا يجوز التهاون فيه، بل لابد أن تبذل السلام للعالم من المسلمين وأن تفشيه بينهم؛ لأن ذلك هو وسيلة المحبة كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ألا أدلكم على عمل إن فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم ) فعندما يفشي السلام بين المؤمنين فإنه قد أسمعهم اسم الله تبارك وتعالى السلام، والإسلام هو دين السلام، ولو أن الواحد منا كان في مكان مهما كان ذلك المكان موحشاً في ظلمة الليل ومر عليه أحد وكان أول ما قاله له: السلام فإنه يرتاح وتهدأ روحه، ويشعر أن هذا الشخص فيه خير، وإن لم يبدأ بذلك، فإنه يتوقع منه الشر والعياذ بالله، فالسلام تحية أهل الجنة، وهو تحية هذه الأمة، وهو تحية أبينا آدم حين علمه الله تبارك وتعالى ذلك السلام، كما جاء في الحديث الصحيح أنه أمره أن يمر على الملائكة، وأن يسلم عليهم، ويعلم كيف يردون عليه، ثم جعل ذلك تحية في بنيه، فهذا من فضل الله تبارك وتعالى علينا أن نشيع السلام، وأن نشيع المحبة وأن نشيع الأخوة التي تستل ما في القلوب من ضغائن، فإن العرب الذين لم يتخلقوا بخلق الإسلام كانوا يعلمون ذلك ويرونه من الشيم والمناقب، فكيف بمن وفقه الله تبارك وتعالى للاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه.
      يقول الشاعر العربي:
      ولا أحمل الحقد القديم عليهم            وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا
      بل كان العرب يعتبرون أن من الخلق أن تلقى من قاتلك أو قتل أباك أو أخاك فتسلم عليه، وتستقبله ويستقبلك، ويعدون هذا من غاية النبل وغاية السمو والخلق العالي عند الرجال، فكيف بالمؤمنين الذين يريدون وجه الله، ويريدون الدار الآخرة، والذين لا ينظرون إلى حظ نفوسهم، وإنما يراعون في كل ما يفعلون أو يدعون وجه الله تبارك وتعالى، فلا بد على المسلمين أن يبذلوا السلام للعالم، وأن يفشوا السلام في الأمة، وأن يحببوا الناس إلى هذا الدين، وإفشاء السلام خلق مهم للمسلم وإن كان الذي تسلم عليه ممن ترى أنه تلبس بشيء من المعاصي والبدع والمنكرات، فإنك تسلم عليه ثم تعظه بعد ذلك وتنصحه وتذكره، ولو بدأت الموعظة أو النصيحة من غير سلام لما قبل منك، وربما خسرت هذه الفضيلة، فلم توفق في دعوته، فبالسلام تستعطف قلبه وتشعره أنك تحبه، وتحب له الخير، ثم أنكر عليه وبين له ما ترى، فإذا كان هذا حالنا وأفشينا السلام في منتدياتنا وفي تجمعاتنا وفي طرقنا وفي أسواقنا وفي كل مكان فسنجد أن الناس يحبون الخير الذي نحمله؛ لأننا عملنا بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى من لم يتمسك بالدين فإنه يحب أهل الدين وأهل الدعوة، ويحب فيهم هذا الخلق الرفيع، فإذا لم تفش السلام فإن الناس تداخلهم الريبة والشكوك، ويقولون: هؤلاء متكبرون، أو هؤلاء الدعاة يكفروننا ويدعون أنه لا يدخل الجنة إلا هم، وأننا من أهل النار إلى غير ذلك مما يوسوس به الشيطان وإذا رأوا فينا الخلق الفاضل، ورأوا التواضع، ورأوا المحبة فإن ذلك أحرى أن تلين قلوبهم إلى الحق وإن لم يتقبلوه، وحينما لا يقبلوه فإن عداوتهم تكون أخف، وربما كان خلق بعض الشباب أو الدعاة سبباً في نفور ذلك العاصي أو الفاجر، فلا يعود للرشد أبداً.
      وبالمقابل فإن الأخلاق الرفيعة عند بعض الدعاة تكون سبباً في رجوع العاصي وهدايته وعودته إلى الحق، وسبباً في توبته عن الذنوب.
      ولذلك فإن عماراً رضي الله تعالى عنه اعتبر أن هذه الصفات الثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان، وهذه الأخلاق العظيمة منها ما يتعلق بالخلق المالي، وهو جانب الإنفاق من الإقتار، ومنها ما يتعلق بأمر عام مع الخلق كلهم، وهو إفشاء السلام، ومنها ما يتعلق بالتعامل مع الآخرين، وهو الإنصاف في المعاملة ولو مع النفس، وبهذه الثلاث يكتمل الإيمان عند العبد، والشاهد من هذا أن عماراً رضي الله تعالى عنه يرى أن الإيمان يزيد وينقص، ويحث عامة الناس إلى استكمال إيمانهم بأن تكون فيهم هذه الخلال الثلاث.
    2. الإنصاف من النفس وأثر ذلك على الإيمان

      الإنصاف من النفس، وهذه الصفة قل من يتحلى بها، وأكثر الخلق كما ترون على المكابرة والمعاندة، فلو أخطأ أحدهم خطأ مثل الجبل لأنكر وعاند، أما المؤمنون الذين يريدون كمال الإيمان فإنهم ينصفون من أنفسهم.
      وأثر عمار فيه بيان أن الإنصاف من النفس من الإيمان، وهذا تؤكده سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حين صعد المنبر وقال: ( أيها الناس! من كان له مظلمة فليأخذها )، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بالرحمة، وعلم الناس العدل والإحسان، وجاء بهذا الدين العظيم الذي لا يظلم في ظله أحد ولو كان كافراً، وأبعد ما يكون عن الظلم هو دين الإسلام وشريعته التي تأبى إلا العدل مع كل أحد، وفي ذلك يقول تعالى: (( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ))[المائدة:2]، ومن تتبع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وسائر الصحابة الكرام يجد أن الواحد منهم كان ينصف من نفسه، ولا يكابر في خطأ أخطأه، وكان الواحد منهم إذا فعل ما ينبغي أن يعتذر منه في معاملة مع أي أحد فإنه يعتذر عن ذلك، بل ربما كان الواحد منهم محقاً، ولكنه يرى أنه لا بد أن يعتذر ولا يصر ولا يجادل، بل كان من هدي السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أنهم يتمنون جريان الحق على ألسنة مخالفيهم، وقد ذكر أن الشافعي رحمه الله كان يقول في مناظراته: [ ما ناظرت أحداً إلا سألت الله عز وجل أن يجري الحق على لسانه ] ، وهذا من عظيم إنصافه، فلم يكن يبالي أكان الحق في كلامه أو في كلام خصمه؛ لأن المهم هو الوصول إلى الحق، وهذه هي أخلاق أهل النفوس العالية التي يجب أن يتربى عليها شباب الدعوة في كل زمان، فيجب أن تكون هذه من الخلال التي لا تفارق الإنسان، وأن يجتهد في إرغام نفسه عليها؛ لأنها صعبة وشاقة، ولولا مشقتها ما جعلها عمار رضي الله تعالى عنه بهذه الدرجة وبهذه المنزلة، فكم يصعب على الإنسان أن يقول: نعم أخطأت أو تجاوزت أو قصرت، ولكن هنالك من الناس من أعطاه الله تبارك وتعالى هذا الخلق العظيم سجية وجبلة، وطبعه عليه، فمن جعل الله تعالى جبلته كذلك فليحمد الله، فإن الله عز وجل قد أعطاه أمراً عظيماً، قال تعالى: (( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ))[فصلت:35]، فصاحب هذه الخصلة من ذوي الحظ العظيم، وإن لم يكن كذلك فليجاهد نفسه على أن يكون منهم بقدر المستطاع؛ ليحقق كمال الإيمان.
      إن مما يعين الإنسان على اكتساب هذه الصفة أن يتذكر أنه ما منا أحد إلا وفيه عيب، وما منا أحد إلا وفيه تقصير، وهكذا فطر الله تبارك وتعالى البشر، وقد جُعل المؤمن مرآة أخيه، فالواجب عليه أن لا يتمادى في خطئه إذا نصح، أو في ذنبه مهما كان، وعليه أن يرجع ويستغفر، ولهذا لم يثن الله تبارك وتعالى على أوليائه الصالحين بأنهم لا يذنبون؛ لأن (كل بني آدم خطاء)، وكل واحد منهم معرض للذنب، ولكنه أثنى عليهم بقوله: (( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ))[آل عمران:135]، فكون العبد يذنب أو يخطئ ويقصر فهذا أمر لا بد منه، ولكن الإصرار على الذنب هو المشكلة، ولذا فعلى المرء أن يكون منصفاً.
      ومع أن هذه العبارة أكثر ما تطلق مع الخلق فإنه من الواجب أيضاً أن يكون الإنسان منصفاً من نفسه في تعامله مع الله عز وجل، فيجب عليه أن يراجع نفسه، وأن ينصف من نفسه فيما بينه وبين الله عز وجل، وإذا لم تكن معاملتك بالإنصاف فإنك لست على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة، فإن من هديه صلى الله عليه وسلم العفو والصفح والإحسان والإنصاف ولو من نفسه أو من الأقربين، فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه صاحب الفضل على العالمين أجمعين، ولا حق لأحد عليه، ولم يحدث أنه صلى الله عليه وسلم أخطأ في حق أحد أو أساء إلى أحد، بل كان صلى الله عليه وسلم مثالاً لهذا الإنصاف، وكان يعلم أصحابه ذلك، كما في قصة الحبر زيد بن سعنة الذي كان حبراً من أحبار اليهود ، ووقعت منه تلك القصة العجيبة عندما قال: لقد عرفت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، ورأيت ما ذكر فيها واختبرتها فما بقي إلا صفة واحدة، وهي أنه صلى الله عليه وسلم يقابل الجهل بالحلم، ولا يؤاخذ بالجهل، بل يعفو ويصفح -وكأن هذه هي عبارة التوراة تقريباً في وصف النبي صلى الله عليه وسلم- قال: فما هو إلا أن مرت أيام، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلي -وزيد هذا غير مسلم- يقترض مني طعاماً قال: ففرحت وأقرضت النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، ثم إن زيداً جاء قبيل موعد الأداء إلى رسول الله فجذبه جذباً شديداً، وكاد أن يؤدي ذلك إلى سقوطه صلى الله عليه وسلم وأغلظ عليه في القول وهو قاصد ذلك، وأخذ يجادل ويقول: يا محمد أعطني حقي، فوالله ما عهدناكم يا بني عبد مناف إلا قوم مطل، وهذا الكلام يقوله التجار عادة إذا فات لهم حق أو خشوا فواته، ولا يراعون حرمة المخاطب، وكان عمر رضي الله عنه واقفاً بجواره فآلمه أن يقع هذا للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يسيء هذا اليهودي الأدب معه صلى الله عليه وسلم وهم يرون، فقال: ( يا رسول الله! دعني أضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر ! أو خيراً من ذلك أن تأمره بحسن الطلب، وأن تأمرني بحسن الأداء أو القضاء ) فأنصف النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه مع أنه لم يخطئ في حق اليهودي، وهذا هو الأدب النبوي، يا عمر ! كن على العدل المستقيم، وأنصف هذا وهذا، مره أن يطلب حقه مني بأحسن الطلب، ومرني أن أؤدي حقه بأحسن الأداء والقضاء، فقال اليهودي مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ما أردت الطعام، ولا أردت المال، وإنما أردت أن أختبر صفتك التي قرأت في التوراة ، فأشهد حقاً أنك نبي، وأنك لا تقابل الجهل بالجهل، بل تقابل الجهل بالحلم، وتعفو وتصفح.
      وهناك مواقف كثيرة جداً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصف فيها من نفسه، ويعلم أصحابه ذلك، ولهذا لم يكن أحد من الصحابة الكرام أو الخلفاء الراشدين يترفع أن يقال له: أخطأت، أو لقد ظلمتني وأخذت مالي، وإنما كانوا إذا حدث منهم شيء من ذلك رجعوا إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويحكِّمون من يقضي بينهم بشرع الله، ولا يبالون أبداً في هذا، ولا يتحرجون؛ لأنهم يعلمون أنه لا يجوز لمن قد أخطأ وقصر واعتدى أن يدافع عن نفسه، ويبرر لها الخطأ وينفيه عنها أو يستكبر عن سماع الدعوى ضده، فهم القوم الذين بلغوا الغاية في الإنصاف وفي العدل، وبهذا العدل أقاموا دولة الخلافة العظيمة التي عم نورها المعمورة شرقاً وغرباً، وبهذا العدل أقبل الخلق على دين الله أفواجاً، وأصبح الناس يتحاكمون إليهم، ويهربون من ظلم أقربائهم وذويهم وملوكهم إلى ظل هذا الدين، وحكم المسلمين الذي يجدون فيه العدل والحق.
      وهاهم كفار اليوم إلى الآن ما زالوا يتحدثون عن حقوق الإنسان والتي هي ضائعة مهدرة، ولا سيما الإنسان المسلم في كل مكان، أما هذا الدين فإنه بلغ الغاية في ذلك.
      فإذاً: الإنصاف من النفس خصلة عظيمة، ومنقبة كريمة، وخلق شريف لا يصح أن يفوت أحداً منا حظه منها، هذه أول الصفات التي ذكرها عمار.
    3. الإنفاق عن إقتار وأثر ذلك على الإيمان

      الصفة الثانية: الإنفاق من إقتار.
      الإنفاق عن غنى هو أمر لا بد منه، سواء كان الحق الذي فرضه الله تبارك وتعالى في أموال الأغنياء من الزكاة أو الحقوق الأخرى؛ لأن في المال حقاً سوى الزكاة، وذلك كحق الأهل في المال، وحق الضيف، وحق الجار إذا كان محتاجاً، وهناك حقوق أخرى في المال تدخل في الحق الواجب، وبعضها يدخل في المندوب، فإذا كان الإنسان ينفق ويتصدق عن غنى فإنه لن يستكمل الإيمان حتى ينفق عن الإقتار والإملاق وقلة ذات اليد، وأن يعطي الصدقة التي قال عنها صلى الله عليه وسلم لما قيل له: ( ما أفضل الصدقة؟ فقال: أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وترجو الغنى ) أي: أن الإنسان إذا حضره الموت فأوصى بخير، فإنه قد فعل خيراً؛ لأن من خير ما يختم الإنسان به حياته أن يوصي لله عز وجل بشيء مما أنعم به عليه، لكن الأفضل من ذلك هو الإنفاق في حال الرخاء والصحة، وفي الحالة التي يريد المرء أن يجمع المال خشية الفقر، ويطمع أن يغنيه الله تبارك وتعالى عن الناس؛ لأنه في هذه الحالة أنفق طائعاً راضياً سراً أو علانية لوجه الله عز وجل في حالة الإقتار، وهذا دليل على استكمال الإيمان، ولذلك أثنى الله تبارك وتعالى على الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان بأنهم يحبون من هاجر إليهم، ثم بين الله عز وجل أن من أعظم صفاتهم في تعاملهم مع إخوانهم المهاجرين أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فمهما كانت حاجتهم فإنهم يؤثرون إخوانهم، وقد ضربوا بذلك أروع الأمثلة رضي الله تعالى عنهم، مع أنهم كانوا مجتمعاً فقيراً محدود الموارد استقبل إخواناً له في العقيدة بجموع غفيرة، وكانت الهجرة حينها واجبة متعينة على كل مؤمن، فكلما آمن أحد وأتى إلى المدينة ، إلى هؤلاء الأنصار مع فقرهم ومع ما هم عليه من الحالة المعروفة عند عامة العرب في ذلك الحين، فقد كانوا ينتظرون مطر السماء، فإن تأخر المطر جاء القحط وهلكت الزروع، فيعانون الضنك والشدة والضيق، وأكثرهم -رضي الله تعالى عنهم- كانوا فقراء، ومع ذلك فلما جاءهم إخوانهم في الإيمان والعقيدة آثروهم على أنفسهم رغم ما بهم من خصاصة، فتحلى الطرفان رضي الله تعالى عنهم بخير الأخلاق.
      أما المهاجرون فإن الجاهل يحسبهم أغنياء من التعفف، ولا يسألون الناس إلحافاً، وكان لهم من عزة النفس وعلوها وكرمها الشيء العظيم، حتى كان الواحد منهم يُرى أنه من أغنى الناس، وأنه لا يحتاج أحداً وهو من أشدهم حاجة في تلك اللحظة.
      وأما الطرف الآخر وهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم فقد قابلوهم بالمحبة وبالإكرام وبالإيثار، فلله ما أعظم هذا الخلق من الطرفين رضي الله تعالى عنهم أجمعين.