المادة كاملة    
لقد ضرب السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم أروع الأمثلة وأجلها، وأفضل الصور وأحلاها في مراقبة الله تعالى، وتعاهد نفوسهم وقلوبهم، ورعاية إيمانهم، وكان يوصي بعضهم بعضاً بذلك، فيجتمعون عليه، فلله درهم من جيل، وما أعظمهم من رعيل!
  1. تابع أدلة زيادة الإيمان ونقصانه

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    كنا قد وقفنا عند أدلة زيادة الإيمان ونقصانه، ومن ذلك حديث نقصان عقل المرأة ودينها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم علة نقص العقل والدين في النساء بقوله: ( أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، وتمكث الليالي لا تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين )، وهو ما عبر عنه الشارح رحمه الله في المتن بقوله: (وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين).
    قال الشارح: [وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين ) والمراد: نفي الكمال، ونظائره كثيرة، وحديث شعب الإيمان، وحديث الشفاعة، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السموات والأرض سواء، وإنما التفاضل بينهم بمعانٍ أخر غير الإيمان؟
    وكلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذا المعنى كثير أيضاً، ومنه: قول أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: [ من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينقص ]، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول لأصحابه: [ هلموا نزدد إيماناً ]، فيذكرون الله تعالى عز وجل، وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول في دعائه: [ اللهم زدنا إيماناً، ويقيناً، وفقهاً ]، وكان معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه يقول لرجل: [ اجلس بنا نؤمن ساعة ]، ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه، وصح عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه أنه قال: [ ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم ] رواه البخاري رحمه الله في صحيحه ، وفي هذا المقدار كفاية وبالله التوفيق ]
    اهـ.
    بدأ الشارح رحمه الله بحديث نقصان الدين؛ لأنه صريح في إثبات النقص؛ وبعض العلماء من السلف توقف في إثبات النقص، ولم يشك أحد منهم أو يتوقف في إثبات الزيادة؛ لأنها جاءت صريحة في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    1. دلالة حديث شعب الإيمان وحديث الشفاعة في الخروج من النار على زيادة الإيمان ونقصه

      يقول: (ونظائره كثيرة)، ثم قال: (وحديث شعب الإيمان) أي: أنه ذكر حديث نقص الإيمان، وحديث كمال محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر حديث شعب الإيمان، وقد تقدم الحديث عنه، وفيه الدلالة أيضاً على أن الإيمان يزيد وينقص، قال: (وحديث الشفاعة: وأنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان) وقد تقدم ذلك مبسوطاً وموضحاً في باب الشفاعة، والاستدلال به واضح، فمن الناس من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، ومنهم من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، ومنهم من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة، وهذا هو يقابل الشعيرة في الروايات الأخرى، ويقابل الذرة هنا بالوصف اللغوي، وهؤلاء هم آخر من يخرج من النار، والنار دركات، فهناك من يخرج قبل ذلك، أي: قبل هذه الشفاعة الأخيرة، وهنالك من يعذب في الموقف في عرصات القيامة، وهناك من يعذب في قبره فقط، وهناك من يعذب في الدنيا بمصائب الدنيا ويطهر فقط.
      فهكذا درجات الناس وتفاوتهم في العذاب، وفي حصوله، وهذا بمقتضى إيمانهم، فبمقدار قوة الإيمان يقل التعذيب، وبمقدار كثرة المعاصي ينال صاحبه العذاب إما في القبر، وإما يوم الحساب، وإما أن يمتد إلى النار، وقد يطول مكثه في النار أو يقصر، وآخر من يخرج هو الذي على هذا الحد الذي ليس وراءه شيء من الإيمان، وهو من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، كما جاء ذلك في الصحيح.
      إذاً فهذا دليل واضح على تفاوت أهل الإيمان في الإيمان، وكتاب الإيمان في صحيح البخاري رحمه الله هو من أفضل الكتب التي تبين عقيدة أهل السنة والجماعة ، فهو يأتي بترجمة الباب، ثم يأتي بأقوال السلف، والأحاديث المعلقة، ثم يأتي بالأحاديث المسندة الدالة على هذا، فرضي الله تعالى عنه.
      قال: (فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السماوات والأرض سواء، وإنما التفاضل بينهم بمعانٍ أخرى غير الإيمان؟!) وهذا قول المرجئة ، ويشاركهم فيه أيضاً الخوارج ؛ فإنهم يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لكن بتفسير ومقتضيات ولوازم أخر، والمقصود هنا هم المرجئة ، وهذا ما ينسبه المرجئة إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله، كما ذكرنا ذلك من كتاب العلم والمتعلم ، فإنهم يقولون: إنه يصرح بأن إيمان الواحد منا كإيمان جبريل وميكائيل، وهذا لا شك أنه باطل، ولا تصح نسبته إلى الإمام أبي حنيفة ؛ وإن كان لازم ذلك الكلام هو هذا، ولكن لا يصح أن ينسب ذلك إليه.
    2. منزلة محبة رسول الله من الدين والإيمان

      ثم ثنّى على ذلك رحمه الله بقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين )، رواه الإمام أحمد والشيخان وغيرهم، فهذا الحديث يدل على أن العبد لا يكمل إيمانه كما قال الشيخ هنا: (فالمراد: نفي الكمال)، فلا يكمل إيمانه، ويكون مؤمناً حقاً إلا إذا كانت محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده بهذه الدرجة، وهذا لا يكون لكل أحد من المؤمنين، فكثير من المؤمنين يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعادل منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلبه منزلة أحد من العظماء والكبراء والمتبوعين أو المطاعين إلا أنه يحب ولده أو والده أكثر منه صلى الله عليه وسلم، أو يحب نفسه أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      وقد قال عمر رضي الله عنه: ( يا رسول الله! إنك لأحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر ! قال: فوالله يا رسول الله! إنك لأحب إليَّ من كل شيء حتى من نفسي، قال: الآن يا عمر )، الآن بلغت حقيقة الإيمان وكمال الإيمان، فهذا هو معيار التفاضل عند المؤمنين، وهو من أكبر وأهم المعايير.
      ومحبة الله سبحانه وتعالى تقتضي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما متلازمان، فمن أحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانت محبته لله ورسوله بهذه الدرجة؛ حتى يقدم ذلك على حب الأهل والوالد والولد والناس أجمعين؛ فهذا قد بلغ الغاية العظمى في الإيمان، ولازم ذلك ومقتضاه أن يقدم ما أمر الله به وما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم على هوى النفس، وعلى شهواتها وعلى رغباتها وحظوظها، وعلى هوى ورغبة كل أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمحبة كما تقدم هي أساس كل الأعمال وكما تقدم أيضاً في شرح حديث: ( من أحب لله وأبغض لله، ومنع لله وأعطى لله، فقد استكمل الإيمان ) فالمحبة أصل حركة القلب كما قال الشارح: (ومعناه: أن الحب والبغض أصل حركة القلب)، هذا أصله، فمن كانت محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنده بهذه المنزلة فلا يتحرك قلبه إلا بما يوافق دين الله وما جاء من عند الله وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن هنا لا بد أن تزكوا وتطهر أعماله الظاهرة والباطنة؛ لأنه أخرج من قلبه كل شيء يخالف حب الله، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم.
      ومن هنا كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يتنافسون في هذا، ويتسابقون ويتفانون في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذهل عروة بن مسعود لما جاء في صلح الحديبية وابن أخيه المغيرة بن شعبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً بالسيف، ومعه من كان معه من أعيان قريش فتعجبوا؛ لأنه كان من ثقيف، وقال: والله لقد رأيت الملوك -وكان هو وبعض أشراف قريش ممن يذهبون إلى الملوك ويرونهم في الشام وغيرها- فما رأيت أحداً يحب أحداً كمحبة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لمحمد؛ فقد رآهم يتسابقون لأخذ ما فضل من وضوئه صلى الله عليه وسلم، وما يتساقط من شعره، كما فعلوا ذلك لما اعتمر صلى الله عليه وسلم، ورأى الهيبة والتوقير والتعزير والعظيم الذي لا نظير له في الدنيا على الإطلاق؛ لأن الذين يحترمون الملوك والسلاطين أو القياصرة والأكاسرة هم مرغمون، ثم إن هذا مقتضى عملهم الدنيوي، وما يظهر من هذا إنما هو بمقتضى العادة أو المحبة الدنيوية، وأما هؤلاء فإنهم يفعلون ذلك عن رغبة، ويفعلونه طواعية، ويبتغون بذلك وجه الله، والتقرب إلى الله تبارك وتعالى بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      ولهذا لما ذكر الحسن البصري رحمه الله تعالى حديث الجذع الذي كان رسول الله يخطب عليه ثم تركه فحن الجذع كما يحن الفصيل إلى أمه، أي: وكأنه حيوان، بل وكأنه إنسانٌ سميعٌ بصيرٌ ناطقٌ يحس ويفكر، وقد فقد أعز وأغلى حبيب، فقال الحسن : [ أيها الناس! هذا حنين الجذع وهو جماد فكيف لا تشتاق قلوبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ]، وهذا من آيات نبوته صلى الله عليه وسلم كما قال العلماء، فالمسيح بن مريم عليه السلام أعطاه الله تبارك وتعالى آية وبرهاناً على صدق نبوته وهي: إحياء الميت، والميت هنا قد كان حياً ثم مات، وسوف يحييه الله تبارك وتعالى مرة أخرى؛ فمن شأن الميت أن يعيش؛ لأنه كان قبل ذلك حياً وسيرجع حياً، فالحياة بالنسبة له أمر عارض لا تستغرب بمقدار ما يستغرب أن يتصرف الجماد الذي لا حياة فيه تصرف الأحياء؛ لأن الجذع لا حياة فيه، وكذلك الحصى الذي كان يسبح في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجر الذي كان يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الجمادات ليست مؤهلة بذاتها وبطبيعتها للحياة، ولا للنطق، ولا للتعبير عن المشاعر أو الأحاسيس، ومع ذلك كان منها ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا من أعظم الآيات والبراهين الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، فهو نبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه.
      فالمقصود: أن الإنسان بمقدار محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم يرتقي في درجات الإيمان ومنازله، وبمقدار نقص هذه المحبة يكون نقصه في ذلك، وفي هذا دليل على زيادة الإيمان ونقصانه.
    3. قاعدة في النصوص التي يأتي فيها نفي الإيمان

      ويريد المؤلف هنا أن يضع قاعدة عامة فيما جاء من الآيات والأحاديث التي يأتي فيها نفي الإيمان، وإطلاق أنه (لا يؤمن)، والقاعدة فيها -وهي قاعدة عظيمة-: أن كل نص جاء فيه نفي الإيمان فإنه يدل على وجوب عمل أو تحريمه، أي: أن من نفي عنه الإيمان قد ترك واجباً، أو فعل محرماً، ثم بعد ذلك ننظر في هذا الواجب: هل يقتضي نفيه الخروج من الدين أو لا يقتضي ذلك، وهذه مسألة أخرى، وإنما الغرض من النص هو إثبات أن هذا الفعل واجب إذا نفي الإيمان عمن لمن يفعله، أو أن هذا الفعل محرم إذا نفي الإيمان عمن فعله، وليست هذه القاعدة مطلقة، فلا يقول خارجي: إذا وجدنا حديثاً مثلاً فيه: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، أو: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه.. ) الحديث؛ فيقول: من لم يكن كذلك فقد كفر وخرج من الملة، فلا يحق للخارجي أن يستشهد بكفر الزاني أو ناقص المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذه النصوص؛ لأنا نقول: إن هذا النص يدل على أن المحبة واجب وفريضة، ويدل على أن الزنا حرام وكبيرة وفاحشة، هذا هو المراد من النص، وأما كون فاعله يخرج من الملة أو لا يخرج فلا يدل عليه مجرد النفي، بل لا بد من قرائن أخرى كأن يكون في النص ما يدل على ذلك، كقول الله تبارك وتعالى: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[النساء:65] فهذا القاعدة منطبقة في هذه الآية، وهي تدل على أن تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض وواجب متعيَّن، ومن ترك تحكيمه صلى الله عليه وسلم يكون كافراً؛ لأن الآية رتبت الدرجات فجعلتها ثلاث مقامات: التحكيم، وهذا مقام الإسلام، ونفي الحرج، وهو مقام الإيمان، والتسليم، وهو مقام الإحسان، وما قبلها من السياق يدل على ذلك.
      فهذه الآية وهذا الموضع أصل في أصل الدين وأساسه، وتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصل الدين وأساسه، وأما زيادة واكتمال محبته في القلب فهذا من كماله؛ أي: من كماله الواجب، فهو لا يكمل ولا يحصل الكمال إلا بمحبته صلى الله عليه وسلم، ثم كلما كمل في ذلك فهو أكمل له حتى يستكمل الكمال الواجب والكمال المستحب.
      فالمحبة في ذاتها -أي: محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم- ليس فيها غلو، وإنما يكون الغلو في خروج المحبة عن معناها وعن مقتضاها، فـ مهما أحببت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعد غالياً بمجرد المحبة، وأما أن يخرج العبد عن مقتضى هذه المحبة فيظن أنه صلى الله عليه وسلم إله، ويرفعه عن مرتبة البشرية التي جاءت صريحة في القرآن، أو يطريه كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم؛ وقد نهى عن ذلك صلى الله عليه وسلم، أو يتخذ قبره عيداً وقد نهي عن ذلك، وهذا من فعل اليهود و النصارى إلى غير ذلك؛ فهذا ليس من المحبة، وإنما هو خروج عن مقتضى المحبة الحقيقي، فهذه القاعدة هي الأصل.
      وبعد ذلك ننظر إلى حكم المخالف: فإما أن يكون قد ترك ركناً أو أصلاً من أصول الدين؛ فيكون كافراً، وإما أن يكون قد ترك واجباً؛ فيكون مرتكباً لكبيرة، وكذلك إذا فعل كبيرة فهو مرتكب لكبيرةٍ.
  2. كلام الصحابة الدال على زيادة الإيمان ونقصانه

     المرفق    
    ثم قال: (وكلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذا المعنى كثير أيضاً)، كما تبين لنا ذلك هذا من الآيات، ثم من الأحاديث أيضاً، فهذا يدل عليه أيضاً كلام الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهم أفقه الناس، وأعلم الناس بما جاء في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك؟
    1. معنى قول أبي الدرداء: (من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه...)

      قول أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: [ من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص ]، فالسلف رضي الله تعالى عنه ولا سيما الصحابة كان الفقه عندهم أعم من مفهومه عند المتأخرين، فإذا قيل: الفقه أو الفقهاء في عرف المتأخرين؛ فهو -كما نعرفه اليوم-: الاشتغال بالأحكام التفصيلية والمسائل العملية التي يستفتي فيها الناس، لكن الفقه عند الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أعم من ذلك، فمن جملة ما يدل عليه: حقيقة العلم، العلم النافع الذي يعرف الإنسان به ما هو أعظم من الأحكام العملية؛ وهي معرفة الله تبارك وتعالى، أو ما نسميه نحن الآن: العقيدة، فالفقه عندهم يدخل في العقيدة كما يدخل في الأحكام أو في الشريعة.
      ولذلك نجد أن الإمام أبا حنيفة مثلاً نسب إليه كتاب: الفقه الأكبر ، وكذلك ينسب للشافعي كتاب في الفقه الأكبر، فلما اشتغل الناس بالفروع وسموها: الفقه؛ سمى أولئك العلماء الاشتغال بالأصول الفقه الأكبر، فهذا فقه، وهذا فقه.
      وهناك جانب آخر من جوانب الفقه كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يتكلمون فيه وهو ما يسميه المتأخرون من الصوفية وغيرهم: علم السلوك، وهو الذي يسمى في العرف أو في الاصطلاح المعاصر: بالتربية؛ أو التربية للنفس، أو التربية للغير، والتربية تسمية صحيحة على أي حال، ولكن الأولى منها أن نقول: التزكية؛ لأنها هي التي جاءت في القرآن، قال تعالى: (( وَيُزَكِّيهِمْ ))[البقرة:129]، وقال: (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ))[الشمس:7-9]، فالتزكية هي اللفظ الشرعي الأفضل، والتربية أيضاً معناها صحيح كما في قوله تبارك وتعالى: (( وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ))[آل عمران:79]، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: [ الرباني هو الذي يعلم صغار العلم قبل كبار ] فالمقصود: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قبل أن تفتّق هذا العلوم والفنون وتصنف وتبوب كانوا يسمون هذا كله: فقهاً، والفقه الذي يقصده أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه هنا هو: فقه التربية، أو بمعنى أصح: فقه التزكية، وكذلك ما يتعلق بمعرفة الله، فهو عنده من الفقه.
      قال: [ من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه ] أي: مما يدل على أنه عالم وفقيه: أن يتعاهد إيمانه، فهو فقيه في دينه ومن فقهه: أنه يتعاهد إيمانه، كما أن الإنسان يتعاهد كل شيء ثمين لديه، ويحرص عليه، فيتعاهده ويتفقده وينظر ما حاله وما شأنه، فأعز عزيز لديك، وأحرص شيء عندك تحرص عليه وتتعاهده وتتفقده فيجب أن يكون إيمانك كذلك، وهذا من علامة فقه الرجل، ومن علمه وحرصه على التزكية: أن يتعاهد إيمانه، وما نقص منه.
      قال: [ ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص ] أي: أن يقيس إيمانه فينظر هل يزداد إيمانه أم ينتقص، وينظر هل حاله اليوم خير أم حاله فيما قبل ذلك، ومن أسرار ذلك أن تعلم أنه ما من يوم يمر عليك، بل ولا لحظة أو ساعة إلا وهي تقربك إلى الآخرة، وتقربك إلى لقاء الله، فيجب عليك أن تستعد لهذا اللقاء، وأن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب، وأن تتهيأ لهذا الموعد، فهذا حال الناس في دنياهم: كلما اقترب منك موعد أو أمر عظيم كنت أكثر شغلاً به، وتفكيراً، وحرصاً، واهتماماً، فما يأتي عليك يوم إلا ويزيدك من الآخرة قرباً، ويزيدك عن الدنيا بعداً، فكيف يأتي عليك يوم وإيمانك على حاله؟! وأسوأ من ذلك أن يأتي عليك يوم جديد وإيمانك أقل من اليوم الذي قبله.
      فهذا من فقه السلف رضوان الله تعالى عليهم، فقد كانوا هكذا يعيشون، ولذلك كانوا في كل يوم يزدادون إيماناً، ويحرصون على زيادته ويتعاهدونه؛ لأنهم يعرفون أن الإيمان كما جاء في الحديث الآخر: ( إن الإيمان ليخلق ) أي: يبلى كما يبلى الثوب، فلا بد من تجديد الإيمان؛ لكي لا يعتريه البلى والاهتراء، فيجدد المرء الإيمان بعوامل كثيرة، ويتعاهده، ويعلم أنه يزداد من لقاء الله تبارك وتعالى، ومن الآخرة قرباً؛ فيجب أن يكون خيراً مما كان.
      ومن هنا كان أخوف ما يخاف منه السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم سوء الخاتمة والعياذ بالله؛ لأن الأعمال بالخواتيم، والعبد منهم يجتهد ألا يطلع الله تبارك وتعالى عليه على معصية، وألا يفتقده حيث أمره، ولا يجده حيث نهاه.. هكذا حال الإنسان منهم؛ لأن العبد الصالح المجتهد في طاعة الله لا يأمن من نفسه أن يعمل معصية فيلقى الله، فتكون آخر ما عمل على سوء خاتمة والعياذ بالله.
      وعندما تعرضنا لتفسير حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه الصحيح وهو من أعظم الأدلة في إثبات القدر وتفصيله، فالقدر إما كوني شامل، وهو ما كتب في الذكر، وإما قدر خاص يبني الإنسان وهو التقدير النوعي، أي بتنوع الإنسان، كما في حديث استخراج الذرية من ظهر آدم وقال: هؤلاء في النار ولا أبالي، وهؤلاء في الجنة ولا أبالي، فهذا قدر نوعي، أي يشمل النوع البشري كله، فقدر الله في ذلك اليوم أن هذا في الجنة، وهذا في النار، ثم يأتي التقدير العمري أو الفردي، أي: أنه بالنسبة إلى عمر الإنسان، والفردي نسبة إلى الفرد، وهو ما في حديث الصادق المصدوق، ثم يأتي التقدير الحولي، وهو ما يكون في ليلة القدر، ثم التقدير اليومي كما في قوله تعالى: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))[الرحمن:29]، وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قلنا: إن التفسير الصحيح له: هو أن الإنسان يجب عليه أن يخاف سوء الخاتمة مهما اجتهد في طاعة الله تبارك وتعالى؛ لأنه قد: ( يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها )، وبذلك رجحنا هذا على القول بأنه فقط فيما يظهر للناس، وقلنا: لا يحمل هذا على هذا؛ لأن الذي يعمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس هو في الحقيقة عامل بعمل أهل النار، فالمقصود أعظم وأعم من ذلك في التزكية الإيمانية، فإنك لو كنت صادقاً مع الله، وتعمل بعمل أهل الجنة، وتصلي لله، وتصوم لوجه الله، وتنفق ابتغاء مرضات الله، وتحج الحج المبرور، تريد بذلك مرضات الله؛ فمع ذلك كله احذر أن تعصي الله فتلقى الله تبارك وتعالى بسوء خاتمة والعياذ بالله.
      وأما حالة من يعمل العمل في ظاهره من عمل أهل الجنة، وهو في الباطن يرائي، أو هو لا يريد به وجه الله؛ فهذا في الحقيقة إنما هو عامل بعمل أهل النار، فيأتيه التخويف والوعيد من جهة أنه غير صادق، وغير مخلص في عمله، فهو من جنس النفاق، فقد يكون أكبر، وقد يكون أصغر.
      فهذا من فقه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فقد كانوا يتعاهدون إيمانهم أيزداد أم ينقص؛ خشية أن يوافي أحدهم الأجل وهو على قبيح وعلى معصية، ويخافون مما هو دون ذلك، فيخافون أن يأتيهم الموت وهم أقل إيماناً مما كانوا، لهذا فأفضل ما يتمنى الإنسان الموت وهو في أعلى درجات الإيمان؛ حتى ينال الدرجات العلى في الجنة عند الله تبارك وتعالى.
      ومن هنا نعلم حكمة الله تبارك وتعالى -وهذا من عجائب آيات الله في خلقه- أن الإنسان كما قال صلى الله عليه وسلم: ( يشيب ابن آدم -يعني: يهرم الإنسان ويشيب ويكبر- ويشب -أي: ينمو ويطول ويزداد- معه اثنان: الحرص، وطول الأمل )، فكل يوم تزداد أنت من الآخرة قرباً، ويزداد قلبك على الدنيا حرصاً، وحكمة الله سبحانه وتعالى في ذلك: ليظهر من يزداد إيماناً، ومن يجتهد في طاعة الله أكثر، فيكون هذا من الابتلاء.
      والملاحظ الآن: أن الشاب في سن العشرين لا يبالي كثيراً إذا فقد الوظيفة، أو فقد المال، أو فقد الزوجة، لكن لو قست مبالاته بمبالاة أبيه الذي في الستين؛ لوجدت الفرق كبيراً جداً، فالأب لا يريد أن ينتقص من ماله شيء، ولا من أولاده، وأما الشاب فكأنه يقول: أنا ما زلت في أول الأمر، ولسان حاله يقول: أعوض هذا بغيره.
      والله تبارك وتعالى أراد من العباد تحقيق مصالح عظيمة ونجملها في مصلحتين: المصلحة الأولى: مصلحة إعمار الدنيا بالخير، فلو أن الإنسان كلما تقدم به العمر، واقترب من القبر؛ ازداد زهده في الدنيا، وبعده عنها؛ لما عمرت الدنيا بهذا الشكل الذي نراه، والعمر سريع ويفاجئ الإنسان، فلا يكاد الشاب يستقر إلا ويبدأ يفكر في الموت فلا يعمل شيئاً، ويأتي الجيل الجديد، ويأتي الأولاد فلا يجدون أمامهم من أعمار الدنيا ما يكفيهم.. وهكذا، فكأن البشرية مع الزمن تتقهقر ولا تتقدم، لكن إذا كان الأب حريصاً على كبر سنه، والأبناء لا يبالون؛ فإذا مات الأب ورث الأبناء ما قد عمر وما قد خلف، ثم لا يكادون يعملون فيه إلا وقد جاءهم الكبر، فيبدأ يزيد عندهم الحرص، ويزيد عندهم طول الأمل، فيجتهدون أكثر.. فهكذا تظل الحياة البشرية -من حكمة الله تبارك وتعالى- دائماً أرقى وأحسن وأفضل، وهذا على المستوى العام ما لم يعرض لها عارض فهذا أمر آخر، هذا من جهة الدنيا.
      وأما المصلحة الثانية: فمن جهة الآخرة؛ ولذلك ليزداد الابتلاء، فـ الإنسان إذا كان من طبعه أنه إذا كبر يزهد في الدنيا لما كان لذلك كبير أثر في زيادة إيمانه، وفي ثوابه، وفي عقابه، ولهذا -والعياذ بالله- نجد أن الأشمط الزاني شر عند الله تبارك وتعالى من الزاني الشاب، فهو قد انقطعت به أسباب الشهوة ودواعيها ومثيراتها، وقد استمتع من عمره فيما مضى بما يكفي، فما الذي يدفعه لأن يزني زنا الشاب؟! فهذا حرام وهذا حرام، وكلاهما مرتكب للفاحشة، لكن ذلك أسوأ منه بكثير كما جاء في الحديث.
      فالمقصود: أن الله تبارك وتعالى جعل زيادة الحرص، وطول الأمل مع الشيب، ومع اقتراب الإنسان من القبر ابتلاءً وفتنةً؛ ليزداد الإنسان إيماناً، ويتعاهد قلبه كما ذكر أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه، فيعلم أنه بذلك يزداد عند الله تبارك وتعالى منزلة، وكلما قاوم هذا الميل الفطري الطبيعي إلى الحرص، وإلى طول الأمل؛ فإنه يكون أكثر إيماناً، ويكون بذلك أكثر أجراً عند الله عز وجل.
    2. معنى قول عمر: (هلموا نزدد إيماناً)

      قال: (وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول لأصحابه: [ هلموا نزدد إيماناً ] فيذكرون الله عز وجل)، وهذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة رضي الله تعالى عنه وفيه: قال ذر بن عبد الرحمن المرهبي : [ كان عمر : ربما يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: قم بنا نزدد إيماناً ]، هذا هو عمر رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين، الذي بشره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهو الذي قال عنه علي رضي الله تعالى عنه -مع أن علياً مبشر بالجنة رضي الله تعالى عنهم أجمعين- قال: [ ما وددت أني ألقى الله تبارك وتعالى بعمل رجل إلا هذا الرجل ]، فكان يتمنى رضي الله تعالى عنه أن يلقى الله بعمل عمر ، ( وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم عمر لابساً ثوباً سابغاً، فقيل له: ما أولته؟ قال: الدين ).
      فـعمر رضي الله عنه في الدين وفي الإيمان هو في الدرجة العليا، ومع ذلك فإنه يتعاهد إيمانه، فيمر على الرجل والرجلين فيقول: [ هلموا -أي: تعالوا وأقبلوا- نزدد إيماناً ]، فيذكرون الله عز وجل، فذكر الله تبارك وتعالى يزداد به العبد إيماناً، فيقرأ شيئاً من كتاب الله، ويتذكر أو يتفكر في الآخرة، وفي مصارع الأمم الغابرة، ويتذكر أحوال الموتى، ومن سبقونا إلى تلك الدار، ويتذكر نعم الله تبارك وتعالى عليه، وكيف أسبغها علينا ظاهرةً وباطنة، ثم كيف نقابل ذلك بالغفلة إن لم يكن بالجحود والعياذ بالله؟! ويتفكر في كل ما يحيط به، (( فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ))[عبس:24]، هذا الذي يأكله كثير من الناس كما تأكل البهائم، ولا يتفكرون كيف سخره الله تبارك وتعالى، وكيف دبره، وكيف جعل لك من يزرعه، ومن يحصده، ومن يعجنه، ومن يخبزه، ومن ينضجه، وأنت تأكله هنيئاً مريئاً، وتفكر في نفسك، (( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ))[الذاريات:21]، فيتأمل كيف كان نطفة، وكيف كان أكبر مجرمي العالم في التاريخ: من فرعون، إلى مجرمي هذا العصر، إلى ما قبله؛ كل هؤلاء الفراعنة العتاة المتكبرون المتجبرون كانوا نطفة، والآن يقولون في العلم الحديث: أن الإنسان لا يخلق من النطفة كلها، فهذه النطفة مكونة من ملايين من الحيوانات المنوية، والمخلوق يكون من واحد منها، فهذا أيضاً فيه زيادة عبرة، فهذا المخلوق لم يخلق من كلها، وإنما من نطفة حقيرة جداً، وبعد ذلك يتكبر على الله، ويصبح جباراً في الأرض: يفسد، ويقتل، ويقطع الطريق، وينهب الأموال، ويدمر البلاد والعباد، ويفعل كل ما من شأنه أن يغضب الله عز وجل، وهو من هذا الأصل الحقير، ثم بعد ذلك يميته الله عز وجل، فيحشرون يوم القيامة كأمثال الذر، وهكذا فمجالات العبر كثيرة.
      فالصحابة رضي الله تعالى عنهم من كمال فقههم الذي لم يسبقهم إليه أحد، ولم يناله بعدهم أحد إلا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ كانوا من كمال فقههم يتعاهدون إيمانهم كل منهم بأسلوبه، وكل منهم بطريقته، وإن لم ينطق بعضهم بذلك نطقاً فلا شك أن حالهم دائماً هو ذلك، وهذا هو شأنهم، فكانوا إذا رءوا ذكر الله.
      وقد نقل نصارى الشام وغيرها من البلاد؛ الذين كانوا يقرءون سيرة المسيح، وسيرة الحواريين، وكانوا يتعجبون أنه لا يوجد في الدنيا نظير لهؤلاء، فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء؛ فقد رأوا سيراً عجيبة جداً تنطق بنفسها: أن هذه التربية التي رباهم إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من عند الله، وإلا كيف بلغت بهم هذه التزكية، والخلق الرفيع، والتواضع، والخشية، والخشوع والوجل من الله عز وجل، وهذا الحكمة التي تتفجر على ألسنتهم، وينطقون بها ليل نهار؛ وهم الجفاة فيما قبل؛ كيف بلغت بهم هذا المبلغ؟! فقد كانوا أعراباً قطاع طريق، وكان الواحد منهم يئد ابنته، ويرتكب أفظع المحرمات، ويتزوج امرأة أبيه، ويسفك الدم، إنها نقلة هائلة، فهؤلاء أنفسهم أصبحوا كالملائكة يمشون على الأرض مطمئنين، فقالوا: والله ما الذي صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء.
    3. تأثير سير السلف فيمن قرأها واطلع عليها

      وقراءة أحوالهم لها أثر كبير في النفس، فلو أن شاباً قرأ ( صفة الصفوة ) فإنه سيتغير، بل لو قرأ سيرة واحد منهم بتأمل واعتبار فإن سلوكه سيتغير؛ لأنهم كانوا هذا حالهم، فكانوا يتعاهدون إيمانهم، ويحرصون على زيادته، ولذلك نقول: إننا مقصرون جداً في إعلامنا، وفي صحافتنا، وفي مساجدنا، وفي كلامنا في مجالسنا في إبراز سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإبراز سيرة أصحابه، ولا تغني عنها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم على فضلها، وكونها أهم وأعظم سيرة؛ لأن النفوس تقول: هذا رسول الله، وهذا يأتيه الوحي من عند الله.
      لكن انظر إلى أصحابه هؤلاء؛ فهم بشر مثلنا؛ إلا أن الله فضلهم بالصحبة، وبالانتفاع بالصحبة، وإلا فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم من صناديد الكفر، وممن كانوا في القليب يوم بدر ، ورآه المنافقون في المدينة ؛ ولم ينفعهم ذلك، وقرأوا الآيات كلها ولم تنفعهم.
      إذاً: إن قرأنا سيرته صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الحق والهدى ولم ننتفع -والعياذ بالله-، ففينا شبه من هؤلاء، وأما إن انتفعا ففينا شبه بأولئك، فلنتشبه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنتشبه بهذا الجيل الكريم الذي كان ينطق بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها-: ( كان خلقه القرآن )، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كان خلقهم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعه في القرآن، وفي السنة، وفي كل عمل من الأعمال.
    4. معنى قول معاذ وابن رواحة: (اجلس بنا نؤمن ساعة)

      يقول: (وكان معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه يقول لرجل: [ اجلس بنا نؤمن ساعة ])، وهذا الأثر علقه البخاري رضي الله عنه في الصحيح، قال: (ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه) في غير البخاري يقول: [ اجلس بنا نؤمن ساعة ]، وفي رواية ابن أبي شيبة قال: كان معاذ يقول للرجل من إخوانه: [اجلس بنا فلنؤمن ساعة، فيذكران الله ويحمدانه]، ومن العجيب -وما أكثر العجائب في حالنا، وضعفنا، وعجزنا، في هذا الزمن- أنا نحتاج أن نذكر بالثناء على الله، وبعظمة الله.
      فكانوا يجلسون يحمدون الله، ويثنون عليه عز وجل، وأما نحن فإنا إذا أثنينا نثني في الإذاعة، وفي الصحافة، وفي التلفاز، وفي مجالس الناس، وفي كل شيء؛ نثني ونمجد الدنيا وأهلها؛ فإن كان العبد أعلى من ذلك فقد يثني على أناس صالحين من البشر، وأما الثناء على الله عز وجل بمحامده، وبيان عظمته فإنها تكون متأخرة إن لم تكن مهملة منسية! فهل هذا حال المؤمنين الصادقين؟! لا، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يكونوا يجلسون ويتحدثون في ذلك، ولا يخطب الخطيب على المنبر في الثناء على عمر رضي الله تعالى عنه، وهو أمير المؤمنين الذي فتح بلاد كسرى وقيصر، وهو أهل للثناء، وأهل لأن يقتدى به، لكن المقصود أعظم، فكانوا يثنون على الله عز وجل، ثم يثنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم من دونه؛ لأن الخير كل الخير إنما جاءنا من الله، ومن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الذي يستحق الثناء أكثر من الله، ثم رسوله؟! لا أحد أبداً.
      والناس الآن لما ضعفت عندهم عظمة الله؛ هان عليهم أن يعصوا الله)، ولما عظم عندهم من يثني عليه عظم عندهم؛ فالناس الآن يخافون من أمريكا، ومن الدول الكبرى العظمى ذات القنابل النووية، والصواريخ عابرات القارات، وبعض الموظفين أكثر ما يعظم: المدير، أو الرئيس، وأكثر ما يخاف من المدير؛ لأنه في حدود عمله أكبر قوة يراها مسيطرة على حياته هي هذه، فالمدير، أو الرئيس، أو القائد إن كان عسكرياً، فكل ذهنه وقلبه قد سيطر عليه هذا، فهو مستعد أن يعصي الله بأي معصية؛ ليرضي هذا القائد، أو الرئيس، أو المدير، وما أشبه ذلك؛ لأن عظمة الله في قلبه مفقودة أو ضعيفة، فهو إذا جلس مع أحد يكون ثناؤه وتعظيمه لهؤلاء.
      ولو أن المجالس وكل وسيلة إعلامية يكون التعظيم فيها لله، والثناء على الله، والذكر لله تبارك وتعالى؛ لقدروا الله حق قدره، وإذا قدروه حق قدره لم يعصوه، وكيف يقدم على معصيته من عرفه؟! فأكثر الناس يعصونه عن جهل به، فلذلك جعل الله سبحانه وتعالى صفة الجهالة لازمة لكل من عصى الله عز وجل، وليس المراد الجهل بالحكم أنه حلال أو حرام، وإنما المراد الجهل بالله عز وجل، ولذلك سمى الذين لم يعرفوا الله، ولم يدينوا بدين الله؛ أهل الجاهلية، فأعظم جهل عند أهل الجاهلية هو جهلهم بالله، فهم لم يعرفوا الله تعالى حق معرفته، فهم يقولون: هو الخالق والرازق فقط، ويجعلون له البنات، ويجعلون له ابناً، ويجعلون للأصنام منزلة وقيمة، أو يجعلون ما يعبدون من دون الله شفعاء عنده، ويجعلون له شريكاً ونداً، ويحلفون بغيره، ويذهبون إلى الكهان وأمثالهم .. وهكذا، فكل هذا الشرك هو نتيجة أنهم لم يعرفوا الله، ولم يقدروه حق قدره، والذين كفروا بآيات الله وكذبوا رسله لم يعرفوا الله، ولم يقدروا الله تعالى حق قدره.
      والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    5. معنى قول ابن مسعود: (اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً)

      وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول في دعائه: [اللهم زدنا إيماناً، ويقيناً، وفقهاً]، وهذا أيضاً من جوامع الدعاء، وقد كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم، فأخذ ذلك منه أصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم؛ فكانت كلماتهم كلمات يسيرة ولكنها عظيمة وبليغة، فإذا زادك الله إيماناً ويقيناً وفقهاً فما الذي ينقصك بعد ذلك؟! لا شيء، فقد جمع لك الخير كله، وجمع لك الخير من أطرافه، فمن زاده الله تبارك وتعالى إيماناً؛ وزاد يقينه، وزاد فقهه.
      فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يعلمون أن الإيمان يزيد، فكانوا يدعون الله تبارك وتعالى أن يزيدهم إيماناً؛ لأنهم يعتقدون ذلك ويعلمونه، واليقين عمل القلبي، وهو من أعظم أعمال الإيمان، والفقه هو أيضاً من الإيمان؛ لأن العلم بالله تبارك وتعالى يزيد العبد إيماناً به، ورأس الفقه والفقه الأكبر: هو معرفة الله عز وجل، ورأس الفقه أيضاً أن يعرف العبد نفسه.
      وإذا قلنا: إن الفقه يقصد به السلوك، أو التربية، والفقه، ويقصد به علم العقيدة، ويقصد به أيضاً الأحكام؛ فهذا ينطبق عليه قول بعض السلف: (اعرف نفسك؛ تعرف ربك)، وقد اختلف العلماء في تفسيرها، فـابن القيم رحمه الله في الفوائد فسرها تفسيراً بديعاً، فقال: اعرف نفسك: بضعفها، وفقرها، وذلها، وعجزها، وتقصيرها، وذنوبها؛ تعرف ربك: بغناه سبحانه وتعالى، وبكماله، وبقدرته، وبرحمته، وبعفوه، وبعقوبته.. وهكذا، فبمقدار ما تعرف حقيقة نفسك فإنك تعرف ربك سبحانه وتعالى، وبمقدار ما تعرف ما تحتاج إليه أنت من التزكية الإيمانية لنفسك؛ فإنك تعرف ما تحتاج إليه أيضاً من الفقه الأكبر وهو: معرفة ربك تبارك وتعالى.