المادة كاملة    
إن تلازم عمل الجوارح وعمل القلب، وكفر من ترك جنس العمل، وزيادة الإيمان ونقصانه، لمن أهم عقائد أهل السنة والجماعة، خلافاً للمرجئة وغيرهم من الفرق الأخرى.
  1. تلازم عمل الجوارح وعمل القلب

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال رحمه الله: (ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد كله، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد كله، ألا وهي القلب )، فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً بخلاف العكس، وأما كونه يلزم من زوال جزئه زوال كله، فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت فمسلم، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء، فيزول عنه الكمال فقط).
    ثم قال: [والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً: منها: قوله تعالى: (( وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]. (( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ))[مريم:76]. (( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ))[المدثر:31]. (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ))[الفتح:4]. (( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))[آل عمران:173].
    وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها: إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟ فهل في قول الناس: (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) زيادة مشروع؟ وهل في إنزال السكينة في قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟ وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ؛ ليزدادوا طمأنينة ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ))[آل عمران:167]، وقال تعالى: (( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ))[التوبة:124-125]
    .
    وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية فقال: حدثنا الفقيه ، قال: حدثنا محمد بن الفضل و أبو القاسم الساباذي ، قالا: حدثنا فارس بن مردويه ، قال: حدثنا محمد بن الفضل بن العابد ، قال: حدثنا يحيى بن عيسى ، قال: حدثنا أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: لا، الإيمان مكمل في القلب، زيادته كفر ونقصانه شرك ).
    فقد سئل شيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير رحمه الله عن هذا الحديث فأجاب: بأن الإسناد من أبي الليث إلى أبي مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع فهو: الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ، ضعفه أحمد بن حنبل و يحيى بن معين و عمرو بن علي الفلاس و البخاري و أبو داود و النسائي و أبو حاتم الرازي و أبو حاتم محمد بن حبان البستي و العقيلي و ابن عدي و الدارقطني وغيرهم.
    وأما أبو المهزم الراوي عن أبي هريرة ، وقد تصحف على الكتاب واسمه: يزيد بن سفيان ، فقد ضعفه أيضاً غير واحد، وتركه شعبة بن الحجاج ، وقال النسائي : متروك وقد اتهمه شعبة بالوضع، حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم بسبعين حديثاً!].
    يقول الشارح رحمه الله: في بيان أهمية العمل، وأن من ترك جزءاً من العمل فلا بد أن يترك الجزء الآخر الذي يرتبط به، فإذا ترك الإنسان عمل الجوارح -وهو موضع المعركة بين المرجئة الفقهاء أو الحنفية وأهل السنة - فهو لا بد تارك لعمل القلب؛ لأن عمل الجوارح وعمل القلب متلازمان؛ فلا يمكن أن يعمل قلب أحد إلا وتعمل جوارحه، أي: إذا انقاد القلب وأيقن وأخلص وصدق ظهر ذلك على الجوارح في شكل العمل الظاهر المعروف من أداء الفرائض الواجبة واجتناب المحرمات، وإذا انتفى عمل القلب فإنه لا ريب ينتفي تصديق القلب الذي هو الأصل في الإيمان، وأساس الإيمان الذي إذا انتفى فلا شك في كفر صاحبه، ولا شك في كفر من انتفى التصديق والإقرار من قلبه بين الفريقين أو الطائفتين المختلفتين وإن قال بلسانه، وحينئذٍ لا يكون هذا التصديق تصديقاً، وإنما يكون مجرد علم أو مجرد معرفة، وهذا لا يجدي شيئاً، وقد تقدم هذا في بيان أجزاء وشعب الإيمان بأن هذا النوع لا إيمان له، بل إن الله تبارك وتعالى قال: (( يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ))[البقرة:146]، وهذا من أعظم الأدلة على كفر أهل الكتاب، فهم عرفوا النبي عليه الصلاة والسلام، لكنهم لم يتبعوه وينقادوا لأمره، فتلك المعرفة المجردة أو مجرد العلم كما قال أبو طالب في شعره:
    ولقد علمت أن دين محمد                        من خير أديان البرية دينا
    فمجرد العلم أن يقول أحد: أنا أعلم أن هذا الدين حق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، فهذا لا يجدي شيئاً، وليس إيماناً؛ لأنه يمكن أن يقع من أكفر الكفار، كما يقع من أتقى الأتقياء، وإنما العبرة بتصديق القلب، وهو درجة أعظم من مجرد معرفة القلب، ثم بعمل القلب، ثم بعمل الجوارح، فيستدل أهل السنة بهذا على إبطال مذهب المرجئة الحنفية: بأن من ترك عمل الجوارح ليس كامل الإيمان، إذ يمكن أن يكون كامل الإيمان، ولكنه بتركه الجوارح يكون ترك الكمال فقط كما سبق من كلامهم، فنقول: هذا لا يمكن، بل الذي يترك عمل الجوارح هو تارك ولا بد لعمل القلب، وترك عمل القلب لا بد أن يؤثر أيضاً فيترك صاحبه تصديق وإقرار القلب، فيكون لا إيمان له.
    1. كفر من ترك جنس العمل

      ومن أجلى الأدلة على ذلك: أن ترك عمل واحد من الأعمال الظاهرة يوجب تكفير فاعله، كترك الصلاة الذي أجمع عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت الإجماع ونقل نقلاً صحيحاً، فلا يجوز العدول عنه بعد ذلك، وأما تأويلهم: بأن مرادهم تركها جحداً لا من تركها تهاوناً وكسلاً أو ما أشبه ذلك، فهذا تأويل لا يليق بمن كان في مثل فهم الصحابة الكرام والتابعين الذين نقلوا هذا الإجماع؛ لأن الكلام في التارك وليس في الجاحد، إذ الجاحد له حكم آخر، فهو كافر باتفاق الجميع، سواء جحد الصلاة أو غيرها مما هو معلوم لمثله، وعلم أنه من دين الله، ولذلك كلام السلف الصحابة إنما هو في الترك، وهو شيء آخر، والمراد أن نؤكد هذه القضية، وأن نعرف أن من ترك جنس العمل فهو كافر؛ فالإنسان الذي يعيش في هذه الحياة، ولم يصل ولم يصم ولم يحج ولم يؤد الزكاة ولم يعمل أي عمل من أعمال الإيمان، إلا أنه يدعي أنه مسلم، فهذا لا يكون مؤمناً أبداً، وهو كافر، لكن بالنسبة لإجراء الأحكام الدنيوية لمن لا يعلم حاله، لمن يراه وهو يمشي بين المسلمين ويقول: أنا مسلم، ويسمي نفسه باسم من الأسماء الإسلامية، ويقول أحياناً: أشهد أن لا إله إلا الله أو ما أشبه ذلك، فهؤلاء نعاملهم بحسب الظاهر، وما أمرنا أن نتتبع أحوال الناس وبواطنهم، لكن من عرف هذا منه فإن له معاملة الكافر، فلا تؤكل ذبيحته ولا يزوج، ولا يصلى عليه إذا مات، وليدع المسلم غيره ليتولى ذلك إذا مات، فهذا هو الذي يجب أن يعلم.
    2. التمييز بين أحكام الدنيا والآخرة

      وأما ما قد يقع في أذهان بعض الشباب من الاختلال بسبب الخلط بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة فهذا أمر آخر، فنقول: لا ينبغي أن يقع هذا الخلط، فأحكام الدنيا تجري على الظاهر، ولا يضرنا في ديننا لو اعتقدنا أن فلاناً فيه خير بما ظهر منه، أو أنه مسلم بناء على ما ظهر منه، وهو في الحقيقة كافر، إلا إذا أظهر الكفر فجادلنا عنه وعن الذين يختانون أنفسهم كما ذكر الله تبارك وتعالى عن الكافرين، فهذا قطعاً لا يجوز، أما إذا كان الإنسان قد حكم بظاهر ما رأى ولم يعلم غير ذلك، فإنه لا يلزم كل أحد من أهل السنة أن يعلم أهل البدعة والنفاق والشرك بأعيانهم، ولو كان الأمر كذلك لكان هذا من أعظم المشقة، ولتعذر هذا حتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن يعلم كل المنافقين، فمنهم من أطلعه الله تبارك وتعالى عليه: (( لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ))[التوبة:101]، ومنهم من أرشده الله سبحانه وتعالى، وبين له أنه يمكن أن يعرفهم في لحن القول، ومنهم من كان واضح النفاق وظاهره، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم منهم كما قال الله عز وجل: (( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ))[التوبة:47]، أي: منهم من كان يستمع لهم، ومنهم من كان يدافع عنهم، وربما جادل أحياناً عنهم، ولذلك نجد أن بعضهم قد يقول: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن فلاناً منافق، وذلك كما قال عمر رضي الله تعالى لـحاطب وهو ليس كذلك، فهذا اجتهاد منهم، فيحكمون وقد لا يحكمون، فهذه المسألة وهي إجراء الأحكام في الدنيا أمر اجتهادي فيه سعة، لكن من أظهر الكفر وأعلنه وأباح به، فهذا لا يجوز أن يختلف فيه، غير أن هذا موضوع آخر، والموضوع الذي نريد أن نعرفه ويهمنا هو موضوع إثبات الإيمان على الحقيقة في الواقع وفي نفس الأمر، هل هذا مؤمن أم غير مؤمن؟ فالذي عاش عمره لم يصل ولم يصم ولم يزك ولم يحج ولم يفعل شيئاً من أعمال الطاعات، فهذا لا يكون مؤمناً في الحقيقة؛ لأنه بانتفاء أعمال الجوارح انتفى عمل القلب، وبانتفاء عمل القلب انتفى تصديقه، حتى لو قلنا: إن الإيمان هو تصديق القلب فقط كما قالوا، وإلا فليس كذلك، فنقول: حتى لو جعلتم هذه الأعمال لوازم وثمرات وليست داخلة في الحقيقة، فإن انتفاء هذه اللوازم ينبني عليه انتفاء الملزوم.
  2. شبهة التركيب عند المرجئة والرد عليها

     المرفق    
    وأما شبهة التركيب فقد قالوا: إن المركب إذا زال جزؤه أو ذهب بعضه ذهب كله أو ذهب اسمه، كالرقم: عشرة، فإذا أخذنا منها واحداً لم تبق عشرة، وأصبح لها اسم آخر، وكذلك المرجئة يقولون: أنتم يا أهل السنة ! يا معشر الجمهور! يلزمكم أن تقولوا بمذهب الخوارج ، أو ترجعوا عن قولكم: بأن الإيمان يتركب ويتجزأ ويتبعض. ومذهب الخوارج : أنه إذا ذهب جزء من الإيمان ذهب كله، فإذا زنى العبد أو سرق أو ارتكب كبيرة فهو عندهم كافر! بينما أهل السنة لا يرون أن مرتكب الكبيرة يزول عنه اسم الإيمان، مع أن الإيمان يتركب ويتجزأ ويتبعض، والرد على شبهة المرجئة : نقول: إن المركبات على نوعين: مركب يزول عنه الاسم بزوال جزئه، أي: جزء التركيب، ونوع لا يزول، والإيمان عند أهل السنة والجماعة من النوع الثاني، والأول مثل: المركبات التي فيها التركيب شرط في الهيئة الاجتماعية، فإذا زال جزء التركيب ذهبت، وعموماً المركبات التي نستطيع نحن أن نقول: إنها مركبات، مثل: المركبات الكيمائية العضوية، وكالملح أو الماء، فهاتان المادتان مركبتان من جزئين أو عنصرين، إذا ذهب أحدهما ذهب التركيب، ولم يعد ماء أو ملحاً، وإنما يطلق عليه اسم آخر، وهذا هو الذي لو كان الإيمان كذلك -كما تزعمون- لكان أن يزول بزوال الجزء الواحد منه، لكن نقول: إن الإيمان ليس كذلك، وإنما هو مركب تركيباً آخر، وأما النوع الثاني من أنواع التركيب الذي لا ينتفي الاسم بزوال جزئه، وهو أكثر الأشياء في الدنيا، مثل: الأرض والبحر، فالجزء منه بحر والباقي بحر، والماء قليل منه أيضاً.
    1. المثال الأول للرد على شبهة التركيب عند المرجئة

      ومن أوضح الأمور: القرآن، فهو يطلق على الآية، وكذلك على السورة، والمصحف كله قرآن، فإذا أمرنا الله تعالى بقوله: (( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ))[النحل:98]، فالمقصود إذا أردت قراءة آية أو سورة أو نحو ذلك، ولا يشترط قراءة القرآن كله، وكذلك قوله: (( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا ))[الأعراف:204]، فليس بمعنى: إذا قرئ كله من أوله إلى آخره، ولكن أي قرآن يسمع، وقوله: (( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ))[الأحقاف:29]، فلا ريب أنهم لم يتمكنوا من سماع القرآن كله، وإنما المقدار الذي سمعوه هو القرآن وهكذا، والأحاديث في هذا كثيرة، ومن ذلك: أسباب النزول، فإذا قيل: أنزل الله في ذلك قرآناً، فالمقصود أنه ما أنزل القرآن الكريم كله، وإنما يكون قد أنزل -مثلاً- آية أو آيتين كما في أول سورة المجادلة، أو أنزل بضع آيات، أو بضع عشرة آية كما في سورة النور في حادثة الإفك، أو آيات الحجاب أو ما أشبه ذلك، وهذا كثير جداً، أي: إطلاق القرآن على القليل منه والكثير، فإذا أخذت آية من القرآن أو سورة أو جزءاً، فإن الباقي يسمى قرآناً ولا يزول الاسم.
    2. المثال الثاني للرد على شبهة التركيب عند المرجئة

      المثال الآخر: الإنسان، وهو مثال حي أو واضح للإيمان، فالمؤمن الحقيقي هو الذي يجعل إيمانه في أحسن تقويم، كما أن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأحسن الناس إيماناً وديناً هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد اجتمع فيهم اكتمال أعضاء الإيمان مثل الإنسان المكتمل الأعضاء الذي لم يفقد يداً ولا رجلاً ولا عيناً، واجتمع فيهم تناسق الأعضاء، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كان إيمانهم متناسقاً متناسباً، والذي فقد في هذه الأمة في العصور الأخيرة أمران: الاكتمال، فإنك تجد من لديه ثلث، ثلاثة أرباع، نصف.. إلى آخر، فلا تجد الخلقة الكاملة، ثم لا تجدها متناسقة، بمعنى: أن المتأخرين يقع فيهم الغلو في جانب، والظهور في جانب، فلو كبر الرأس -مثلاً- أو ضمر الجسد، فهذه ليست خلقة متناسقة، أو كبرت إحدى الأيدي والأخرى ضامرة، وبالتالي ابتلى المسمون بهذين: إما فقد هذا العضو بالكلية، أي: عضو من أعضاء الإيمان، فمنهم من ضيع الجهاد بالكلية، فأمة بأكملها تنسى الجهاد، فلا جهاد لديها، وأمة تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعظم من ذلك أن يهمل التوحيد، وأمة ليس فيها توحيد، وإنما فيها القباب والقبور والقوانين والمناهج العلمانية، فهي جثة وليست حية، إذاً تجد العجب في فقد هذين الأمرين، ثم من أهل الدين المتمسكين به تجد أن البعض لم يكتمل دينه وإيمانه في أحسن تقويم، كمثال على ذلك: حديث الشعب، إذ إن ديننا أركان وواجبات ومندوبات، فأعمالنا يجب أن لا تخرج عن هذا إلا إلى دائرة المباح، لكن هذه الأعمال أو هذه الدرجات الثلاث والمباح بالنية الحسنة تصبح مثاباً عليه مأجوراً به، فإذا جعل الإنسان عملاً من الأعمال الواجبة ركناً فقد أخطأ وأخل بهذه الخلقة، وبهذا التركيب الصحيح، ومن المحتمل -وهو الغالب- أنه لا بد أن يخل ببعض الأركان؛ لأن الأركان وضعها الطبيعي محدود، فإذا أتيت بواجب وجعلته ركناً فلا بد أن تخل بأحد الأركان الذي وضعت هذا الواجب محله، وأسوأ من هذا لو أنك أخذت مستحباً وجعلته ركناً، وضيعت الركن والواجب، وهذه مشكلة وقع فيها كثير من الناس الذين ربما كانوا صادقين ومخلصين في تعبدهم وتدينهم. لكن حقيقة الإيمان وبناؤه وشجرته التي ضرب الله تعالى بها مثلاً، وشعبه، لم تكن في قلوبهم وأذهانهم، كما كانت عند الصحابة الكرام رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، ولهذا الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لما رتبوا هذه الأمور ترتيباً حقيقياً ظهر ذلك في أعمالهم، فتاركو الأركان يقاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاتلوا المرتدين من بني حنيفة وأتباع الأسود العنسي و سجاح مثلاً، أو من تركوا الزكاة؛ لأنهم تركوا أركاناً، والمختلف الذي يختلفون معه في بعض الواجبات هل هو واجب أو غير واجب؟ هذا سائغ؛ لأنه أقل من الركنية، لكن ينكر على من أخل بواجب من الواجبات، فيؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقد يكون الاختلاف في أصل مشروعيته، وفي أصل كونه واجباً وسائغاً وجائزاً، لكن ينكر على من خالفه فيه، وأما من ترك المندوب أو المستحب فإنه ينبه إليه ويحث عليه، وهكذا لم يكن في دعوتهم تضخيم جانب وإهمال جانب آخر، أو وضع شيء في غير موضعه، وبهذا المثال كان دينهم أحسن الدين وأكمل الدين.
    3. الكلمة الطيبة كمثال للرد على تركيب المرجئة

      ويتضح هذا بالمثال الآخر: وهو ما ضربه الله تبارك وتعالى للكلمة الطيبة: كلمة: لا إله إلا الله، كلمة الإيمان والتقوى، فقال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ))[إبراهيم:24-25]، فالإيمان باطن وظاهر، وكذلك الشجرة جذور تمتد في باطن الأرض، ولا تظهر ولا ترى، لكن ارتواء الجذور يظهر بامتداد الفروع والأغصان ونمو الجذع، فكيف نرد على من يقول: التقوى هاهنا؟ نقول: التقوى في القلب كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يظهر على جوارحه أي عمل من أعمال الخير، ولا يحق له أن يحتج بهذا، وهو مثل إنسان قلت له: أنا أرى أرضك مقفرة ليس فيها شجرة، فقال: لا، إذ إن فيها جذوراً مدفونة، فنقول له: ماذا نريد بجذور مدفونة في الأرض ليس لها غصن ولا ساق ولا ثمرة؟ إن هذا دعوى، ومثله من يقول: الإيمان ههنا، وأعماله الظاهرة مخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك لا ينفعه أبداً، وهكذا ضرب الله تعالى هذه الكلمة الطيبة، فإذا قطع من الشجرة غصن فإنها تبقى شجرة، ولهذا يقول أهل السنة : مرتكب الكبيرة يظل يطلق عليه اسم الإيمان، ولا يقال: شجرة كاملة، بينما المرجئة يقولون: مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، فنقول: كيف وقد قطع منها هذا الغصن؟ لكن لو تساقط منها أوراق من أعلاها فلا يؤثر ذلك، ولهذا نؤثر كلمة المستحب حتى لا يلتبس؛ لأن السنة هي الهدي والطريقة، ومنها ما هو ركن، ومنها ما هو واجب، ومنها ما هو أيضاً مستحب، لكن نتكلم عنها بمعنى المندوب، فإذا بتر جذع الشجرة فقد ذهبت الشجرة -وهي شهادة أن لا إله إلا الله- وهو الإيمان الذي هو ملتقى ومجمع الأركان الباقية التي تتفرع منه، إذا قطع لم تبق الشجرة، فلذلك يكون لا إيمان له أعمق، ومن ذلك: لو اجتثت جذور الشجرة من تحت الأرض، فلا تسمى شجرة أصلاً، ولذلك لا يسمى إيمان المنافق إيماناً إلا شكلياً، فلو أوتي -مثلاً- بشجر من البلاستيك، ووضع في حديقة مليئة بالأشجار اليانعة، ووضعت بينها عشرون أو ثلاثون شجرة، ثم دخل إنسان فإنه لا يفرق بين هذا وهذا، ويظن أن هذا كله شجر؛ لأن الشكل والمظهر واحد، والجذور لا يراها إلا لو قلع واحدة بيده، وهكذا حال المنافقين بين المسلمين، فتراهم يمشون مع المسلمين في أسواقهم وفي مساجدهم وتظنهم منهم، ولا تميزهم إلا إذا علمت عن فلان بعينه فإذا لا ماء ولا حياة فيه، ولا جذور له في الخير، وإنما هو شكل ظاهر فقط يدخل به بين المؤمنين، وهكذا تكون بلاغة القرآن في الذروة عندما يضرب مثل هذه الأمثلة، ويريد منا أن نتدبرها وأن نتفطن فيها وأن نتفقهها، فمن أراد زيادة الإيمان وثمراته وفروعه ليعلو ويسمو في السماء، فليرو هذه الشجرة، وإرواء هذه الشجرة بقراءة القرآن، وبذكر الله، وبالتفكر في ملكوت السموات والأرض، وفي زيارة المقابر، وتذكر أحوال الغابرين ومصارعهم، بل وفي كل ما جعله الله تبارك وتعالى -وهذا ما قلناه إلا جزءاً منه- في كتابه مما يزيد الإنسان إيماناً، وكذلك دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم مما تزيد الإنسان إيماناً.
      والخلاصة: أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة مركب ويزيد وينقص، لكن من هذا النوع الثاني من المركبات، فلذلك الماء يطلق على ما في الكوب، ويطلق على ماء البحر، فهذا ماء وذاك ماء، لكن أين هذا من ذاك؟ إذاً بعض الناس عنده إيمان، ولكن ذاك إيمانه مثل البحر، وهذا إيمانه مثل القطرة، ففرق بين هذا وذاك، ويوم القيامة يكون التفاوت كذلك، فلذلك يكون منهم من يكون في أعلى درجات الجنة، أهل الجنة الذين في الدرجات الدنى كما يترآى من على الأرض الكوكب الدري في السماء، ومنهم من يكون في أسفل دركات النار والعياذ بالله، وآخر أهل الجنة دخولاً لها: الذين هم آخر أهل النار خروجاً منها من أهل التوحيد، الذين ليس في قلب أحدهم إلا أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان كما ثبت ذلك في الحديث، ثم من كان أفضل فهو أسرع وأحرى أن يخرج، ثم من كان أكثر إلى حد أنه لا يدخل النار، ولكن يكون في الدرجة الدنيا من الجنة، ثم من كان أعلى يكون أعلى في الجنة وهكذا، ولذلك يظهر أن مذهب أهل السنة والجماعة يتفق فيه النقل الصحيح الصريح مع العقل السليم الصريح أيضاً.
  3. الأدلة من القرآن على زيادة الإيمان ونقصانه

     المرفق    
    يقول الشيخ رحمه الله: (والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً) أي: أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا هو التركيب عند أهل السنة والجماعة بعد أن أجمل في الرد العقلي، وفصل في الرد النقلي من الكتاب والسنة والآثار، قال: (منها: قوله تعالى: (( وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]) قال واصفاً عباده المؤمنين: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، أي: أن إيمانهم السابق يعلو، فينضاف إليه إيمان جديد بما نزل من الآيات، وحتى هم في الإيمان الجديد متفاوتون، فكما أنهم في الإيمان السابق متفاوتون فهم في ما يستجد من إيمان يتفاوتون، قد تنزل الآية فتقع في قلب الواحد موقعاً عظيماً يزداد بها زيادة عظيمة، وقد تنزل الآية فيزداد إيماناً، لكن بقدر أقل من ذاك وهكذا، فإذاً هناك قدر مشترك بين المؤمنين جميعاً، وهو زيادة الإيمان بتلاوة آيات الله تبارك وتعالى، أو بإنزالها عليهم، وهم أيضاً في هذا القدر -الزيادة- متفاوتون، فيتفاوت في جملته وفي أفراده وأعيانه، وقوله تعالى: (( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ))[مريم:76]، فهذه الآية ليس فيها ذكر الإيمان، وإنما فيها ذكر الهدى، فهل هذا يصلح للاستدلال؟ قد قررنا موضوع الألفاظ في الاقتران وفي الانفراد وفي الاشتراك، مثل: الإيمان، والتقوى إذا أفرد الواحد منها دخل فيها الدين والعبادة والبر، والهدى من أعظمها؛ لأنه يطلق على الدين كله، والطاعة، والحق، والخير، والإسلام، والإيمان، والإحسان، والذكر، إذ يدخل فيه الإيمان، والنور، والتصديق إذا أردنا به الإيمان والعمل، والاستقامة، إذ هي أخص، قال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ))[فصلت:30] فهي تطلق على مرحلة ما بعد استقرار الإيمان، ولهذا شيخ الإسلام رحمه الله كتب كتاباً سماه: الحسنة والسيئة ؛ لأنها أصل كل شيء، فأعظم الحسنات التوحيد، وأعظم السيئات الشرك، ثم يدخل فيها كل الشعب، وكذلك المعروف والمنكر، والمعروف يدخل فيه كل الدين، وأعظم المعروف الذي نأمر به التوحيد؛ لأنه ما دام يدخل التوحيد في شيء فاعلم أن الدين كله تبع له؛ لأن التوحيد هو أساس الدين، وبالتالي فإن قول الشيخ هنا واستدلاله بالآية في محله، وقوله تعالى: (( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ))[المدثر:31]، يدل أيضاً على زيادة الإيمان دلالة صريحة لا تحتاج إلى تأويل، ولهذا لما تعرض الشارح رحمه الله للتأويل كيف يؤول مثل هذه الآية التي تدل دلالة صريحة على زيادة الإيمان؟ وقال: (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ))[الفتح:4] وهذه أيضاً دلالة صريحة في ذلك، وقوله تعالى: (( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))[آل عمران:173].
  4. بيان المراد بقول المرجئة: بأن الزيادة في الإيمان باعتبار زيادة ما يؤمن به والرد على ذلك

     المرفق    
    والشيخ رحمه الله نوع هذه الآيات كما هو في كلامه الذي بعد هذا، أو بعضاً منها، كأنه يريد أن يذكر هذه الآيات؛ لأنه لو اكتفى بذكر الآيات التي فيها زيادة عمل من أعمال الإيمان لقال المرجئة وأولوا هذا بأن المقصود زيادة ما يؤمن به، فلذلك يقول: وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها -أي: آية آل عمران وآية الفتح-: إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟ أي: يريدون أن يقولوا: إن الإيمان الذي في القلب لم يزد، وإنما زاد المؤمن به، وذلك كثرت الآيات كان الواحد يؤمن بمائة آية، والآن يؤمن بمائة وعشرين آية، لكن الإيمان واحد، أيضاً كان يؤمن بثلاثين شعبة من شعب الإيمان، الآن يؤمن بأربعين شعبة وهكذا، وهذا تأويل المرجئة، إذ يقولون: الإيمان لم يزد في القلب، وإنما الإيمان هو الإيمان، والذي زاد هو ما يؤمن به، فنقول: هذا من العجب، والشيخ قد أجاب بإجابة واضحة وسهلة، فنرجع إلى هذا الكلام من الناحية العقلية، فيقول الشيخ: (هل في قول الناس: (( قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ))[آل عمران:173] زيادة مشروع) لأن الآية قالت: (( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ))[آل عمران:173]؟ فالناس الأولى المراد بها: المخبر، سواء كان واحداً، أو جنس المخبرين الذين أخبروهم بذلك، وينطبق عليهم أنهم منافقون، وقالوا ذلك بغرض الفت في عضدهم، وإضعاف همتهم وعزيمتهم، فطائفة من المرجفين قالت للمؤمنين: إن الناس -قريش وغطفان واليهود- قد جمعوا لكم فاخشوهم، وهذا هو ما يريده المنافقون دائماً والمرجفون؛ فيريدون من الشباب المؤمن، أو من أولياء الله أن يخشوا وأن يخافوا أعداء الله، والنتيجة: فزادهم إيماناً، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، أي: يكفينا أن يكون الله تبارك وتعالى هو معنا وناصرنا، ومهما حشد الخلق، ومهما جمع الكفار، ومهما تآلب الأعداء، ومهما تكالبوا وتآمروا، ومهما خططوا وكادوا ومكروا، فنحن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، ويكفينا ذلك كما أمرهم الله: (( حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ))[الأنفال:64] أي وهو أيضاً حسب من اتبعك من المؤمنين كما قال: (( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ))[الزمر:36] بلى تبارك وتعالى، فهو كاف عبده وعباده المؤمنين الذين وعدهم وتأذن لهم بالنصر: (( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ ))[الحج:40]، وإن أبطأ أو تأخر، فهو في النهاية لا بد منه: (( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ))[غافر:51]، حتى لا يظن ظان أنه إنما يطمع في نصر الله يوم القيامة فقط، فالله تعالى في الحياة الدنيا ينصر المؤمنين بأنواع من النصر، وقد يكون منها أن يستشهدوا، فيخلد الله ذكرهم ويهلك عدوهم، وهذا في الدنيا يراه الناس جميعاً، ويغبطهم عليه من يغبطهم، وأما يوم القيامة فالأمر فيه جلي ولا ريب في ذلك، فيقول الشيخ: هل في هذا القول مشروع؟ هل نزل أمر تعبد به الناس؟ لقد خاطب منافقون مرجفون المؤمنين وقالوا لهم: إن هذه الجموع الكافرة قد احتشدت لكم فاخشوهم، فماذا أنزل؟ وماذا شرع من الدين جديداً حتى يقال: إنه زيادة ما يؤمن به؟ هذا واضح أن الأمر ليس كذلك، وكذلك (هل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع)؟
    يعني: أن الله تبارك وتعالى لما قال: (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ))[الفتح:4] وعلل ذلك: (( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ))[الفتح:4]، فما الذي شرع جديداً؟ هل شرع أمراً من أمور الدين؟ هل أنزل فريضة أو نهاهم عن شيء؟ لا، وإنما أنزل السكينة ليزدادوا إيماناً، فهذا فضل منه تبارك وتعالى، وتكريم ومن منَّ عليهم به، يقول رحمه الله: (وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقيناً)؛ لحاجتهم في ذلك الموقف الرهيب إلى هذا، وأنعم الله تعالى عليهم به؛ لأنهم لما خرجوا من المدينة خرجوا وهم واثقون في دخول مكة بناءً على رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إن رؤيا الأنبياء حق، فما كان عندهم شك أبداً في أنه الفتح، كما ذكروا ذلك في أكثر من حديث صحيح فيما ورد في السير من أخبار الحديبية ، لكن لما عادوا كبر وعظم ذلك في قلوبهم، وترددوا في أن يحلوا الإحرام، فكان موقفاً في غاية القسوة عليهم، فطمأنهم الله تبارك وتعالى، وأنزل السكينة في قلوبهم، وبشرهم فقال: (( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ))[الفتح:27] فالمؤمن لا يستعجل نصر الله، لكن يثق في أن وعد الله آت، ولهذا قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه في محادثته لـعمر ومن معه من المؤمنين: [أفي عامنا هذا
    فلم يدل دليل على ذلك، ولم يحدد ذلك، فكان من فضل الله تبارك وتعالى عليهم أن أنزلت عليهم هذه السورة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن نزولها عليه خير مما طلعت عليه الشمس، ولو أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدنيا بأكملها، لما كان يعادل عندهم نزول هذه الآيات والبشارة بالفتح المبين: (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ))[الفتح:1]، وكان لله تبارك وتعالى في ذلك حكمة عظيمة؛ لأن العرب كانت تتلون في الحديث، أي: تنتظر وتتمهل وتتأمل دخول قريش في دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا: هم أتباع البيت، هم أهل البيت، وهم أهل الدين ونحن لهم تبع، فإن آمنوا آمنا، وإن حاربوه فهم أهله وذووه، وهم أعرف به منا، فلما أراد الله تبارك وتعالى أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً عقدت هذه الهدنة، أما المؤمنون فزادتهم إيماناً مع إيمانهم، وزاد انتظارهم، وأخذوا يعدون العدة، ونشروا الدين، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم الرسل والبعوث في جزيرة العرب ، إنه إعداد كامل وتهيئة كاملة في الجبهة الداخلية، أما العدو الخارجي فقد كفوا أمره بهذه الهدنة، وأما قريش وأهل الجاهلية في كل زمان ومكان، فإن الهدنة تعني: عود إلى حياة اللهو والدنيا والاشتغال بما يهمهم في أنفسهم، ولذلك عادوا إلى تجارتهم، وقد ذهب أبو سفيان زعيم قريش وشيخها إلى بلاد الشام وترك أمر القتال ،وما يتعلق بالقضاء على هذا الدين الجديد، وعاد تاجراً كما هو عمله الأول، وذهب هنا وهناك، فقبض عليه وأتي به إلى هرقل كما في الحديث العظيم الذي يعد من دلائل النبوة، ولذلك لما سئل قال: ونحن الآن في هدنة -وما وجد شيئاً يطعن- ولا ندري ماذا يصنع؟ أي: قد يفي وقد يغدر، فطمأنه هرقل ، فقال: والأنبياء لا يغدرون، فكان الغدر من قريش، وفي فترة الانتظار هذه كان الفتح العظيم، فبعد أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل مكة بألف ومائتين أو بألف وأربعمائة في أصح الروايات، دخل عام الفتح بعشرة الآف مقاتل، ثم لما فتحت مكة فتحت قلوب العرب ودخلوا في دين الله تبارك وتعالى أفواجاً، فيقول الشيخ: لم ينزل أمر مشروع، وإنما أنزل الله السكينة والطمأنينة على هذه القلوب المتوقدة المتحمسة المشتعلة للجهاد، ولدخول البيت الحرام، ولمنازلة المشركين إن ردوهم عن ذلك؛ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فكيف تقولون: إنه فيما يؤمن به، أي: فيما يأتي من أحكام أو تشريعات جديدة يؤمن بها.
    قال: (ويؤيد ذلك قوله تعالى: (( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ))[آل عمران:167])، أي: أن المنافق متردد مذبذب، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فهو متردد كالشاة العائرة بين الصفين، فإيمانه الظاهري يميل به أحياناً نحو أهل الإيمان، فيرى وكأنه معهم، أو أقرب إليهم، ويأتي عليه حين يكون أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان، فالمنافقون أنواع: منهم من -كما ذكر الله تبارك وتعالى- كفروا بعد إيمانهم، كما في آيات التوبة، ومنهم من كفروا بعد إسلامهم، ومنهم من قال: (( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ))[آل عمران:167] ومنهم من في قلوبهم مرض وهكذا، حتى النفاق درجات ومراتب، وفي هذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، فالمنافق إذا نقص إيمانه جداً، أو اضمحل وذهب، فيكون مع الكفار أو أقرب شيء إلى الكفر وأهله، وإذا زاد إيمانه -وكانت زيادته قليلة ومحدودة- كان أقرب إلى المؤمن، ولذلك ذكرنا الله بالمثل الذي ذكره في أول البقرة فقال: (( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ))[البقرة:19] والآية التي قبلها: (( اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ))[البقرة:17]، فهم ليسو من أهل الظلمات المطلقة، وإنما استوقدوا ناراً، أي: جاءهم النور، وجاءهم الإيمان، وجاءهم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما أضاءت ذهبت؛ لأنه لم يثبت في قلوبهم، ولعل هذا نوع منهم، أما الطائفة الأخرى فهي تلك الطائفة الحائرة المترددة، وقد ضرب الله تعالى لها هذا المثل الحسي الواضح المشاهد: عندما يكون الإنسان في حالة الصيب -المطر- من السماء، وفيه ظلمات ورعد وبرق، وفي هذه الحالة المخيفة التي يخاف فيه الإنسان ويخشى من الصواعق، فلا يضيء له إلا البرق، لا نور فيه ولا شمس، وإذا أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا، وكذلك الإيمان يأتيهم لمحات خاطفة، فإذا خطف الإيمان في قلبه كما يخطف البرق، يرى أن هذا شارع، وهذا طريق، وهذا بيت، وهذه حفرة، لكن لا تنفعه ولا يستضيء بها؛ لأنه من حيرته وتردده واضطراب الإيمان في قلبه سرعان ما تنطفئ، وإذا به يرى ما أمامه من ظلام دامس مطبق، إنها حالة يمكن من رآها وعايشها يتذكر فعلاً كيف يكون حال هؤلاء المنافقين؟ ولو اطمأنت قلوبهم بالإيمان، لكانوا كالإنسان الذي يفتح عينيه، ويرى أمامه هذا الضياء، وهذا النور، وهذا الإشراق، إذ إن طريق الهدى واضح، وطريق الكفر والضلال والانحراف واضح جداً، ولا ننسى قصة ذلك الرجل الذي من الله تبارك تعالى عليه بالهداية، فقد كان مغنياً إنجليزياً، يسمونه كات استيفن ، ثم سمى نفسه بعد الإسلام يوسف إسلام، وعندما أجريت معه مقابلة سئل: كيف كان شعورك في حال الكفر؟ فقال: كنت كالذي يعيش في ظلام مطبق تام الظلمة، لا أرى فيه شيئاً مطلقاً، ولما أسلمت كنت كالذي فتح عينيه ورأى النور، ورأى الضياء، ورأى الأشياء على حقيقتها، فهذه عبارته أقرب تشبيه حقيقي يقال لمثل هذا الموقف.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.