المادة كاملة    
إن حديث شعب الإيمان من أقوى الأدلة على دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وقد أورد بعضهم شبهات حول هذا الحديث، فقالوا: إن الراوي قد شهد بغفلة نفسه حيث شك، وأن هذا الحديث مخالف للكتاب، وقد رد أهل السنة على هذه الشبهات ولله الحمد.
  1. حب الصحابة إيمان ودليل على دخول الأعمال في مسمى الإيمان

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال ابن أبي العز: [ويأتي في كلام الشيخ رحمه الله في شأن الصحابة رضي الله عنهم: (وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان) فسمى حب الصحابة إيماناً، وبغضهم كفراً.
    وما أعجب ما أجاب به أبو المعين النسفي وغيره عن استدلالهم بحديث شعب الإيمان المذكور، وهو: أن الراوي قال: بضع وستون، أو بضع وسبعون. فقد شهد الراوي بغفلة نفسه حيث شك، فقال: بضع وستون، أو بضع وسبعون، ولا يظن برسول الله الشك في ذلك، وأن هذا الحديث مخالف للكتاب.
    فطعن فيه بغفلة الراوي ومخالفته الكتاب، فانظر إلى هذا الطعن ما أعجبه، فإن تردد الراوي بين الستين والسبعين لا يلزم منه عدم ضبطه، مع أن البخاري رحمه الله إنما رواه: بضع وستون. من غير شك.
    وأما الطعن بمخالفة الكتاب، فأين في الكتاب ما يدل على خلافه؟ وإنما فيه ما يدل على وفاقه، وإنما هذا الطعن من ثمرة شؤم التقليد والتعصب.
    وقالوا أيضاً: وهنا أصل آخر، وهو أن القول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة، وإذا بقى تصديق القلب وزال الباقي فهذا موضع المعركة!
    ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، قال عليه الصلاة والسلام: ( إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب ) فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً بخلاف العكس]
    .
    يريد الشيخ رحمه الله هنا يريد أن يكمل الأدلة على أن الأعمال داخلة في الإيمان، وهنا بعد أن ذكر الأدلة النقلية جاء بهذا الدليل أو بهذا القول، قال رحمه الله: (يأتي في كلام الشيخ) -المتعلقة بالصحابة رضي الله تعالى عنهم- أبي جعفر الطحاوي (في شأن الصحابة رضي الله عنهم: وحبهم دين وإيمان)، أي: أن حب الصحابة رضي الله تعالى عنهم دين وإيمان وإحسان، قال: (وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، فسمى حب الصحابة إيماناً وبغضهم كفراً) فالحكمة من ذكر هذا القول والتذكير به هنا: أن الإمام الطحاوي لما ذكر الإيمان عرفه: بالإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، وهذا هو مذهب الحنفية، فالنزاع بين أهل السنة وبين الحنفية هو في دخول الأعمال وفي كون الإيمان شعباً، فهم لا يقرون بأن الإيمان هو أجزاء وشعب، ولا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وإنما يقولون: إن الأعمال لوازم أو ثمرات أو كمالات، فعندما قرر هذا في تعريفه للإيمان، جاء في آخر كلامه فنص على أن حب الصحابة إيمان، وهذا الموافق للنصوص، ومعنى أنه إيمان: أي: أنه شعبة من شعب الإيمان، وهذا لا إشكال فيه عند أهل السنة والجماعة ، إذ إن الشعبة الواحدة تسمى إيماناً، ومجموع الشعب يسمى إيماناً.
    إذاً: فكأن الشيخ رحمه الله في آخر هذه العقيدة -في هذه الفقرة- وافق الصواب ووافق الأحاديث، ولم يشعر أن هذا فيه شيء من التناقض مع ما قد قال، فقد ذكر من قبل المذهب الحنفي المرجوح الذي لا يدخل الأعمال في الإيمان ولا يجعلها شعباً منه؛ ولهذا ناسب هنا أن الشيخ ابن أبي العز لما أراد أن يستدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة وإبطالهم لشبهات الحنفية، أن يأتي بكلام الإمام أبي جعفر ويقول: إن الشيخ في آخر كتابه نطق بذلك، وصرح بما هو موافق لمذهب أهل السنة والجماعة ، وهذا هو القول الصواب.
    وعليه -لا شك- فإن حب الصحابة رضي الله تعالى عنهم دين وإيمان، وأن بغضهم كفر ونفاق، وقد جاء ذلك صريحاً في عدة أحاديث، وهذه الجملة هي -فعلاً- جملة عظيمة، ومما يجب أن تعلمه الأمة جميعاً، وهي مأخوذة من نص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  2. الشبهات التي قدمها النسفي على أهل السنة لاستدلالهم بحديث شعب الإيمان والرد عليها

     المرفق    
    ثم قال: (وما أعجب ما أجاب به أبو المعين النسفي ، وغيره عن استدلالهم بحديث شعب الإيمان المذكور)، أي: لما رد عامة أهل السنة على المرجئة أو على الحنفية بحديث شعب الإيمان، وهو من أقوى الأدلة في هذا الباب، جاء بعض المتأخرين ومنهم النسفي ليردوا على استدلال أهل السنة والجماعة بهذا الحديث، فقالوا: يمكن أن نجد ثغرة أو مطعناً في لفظه أو متنه؛ لأنهم لا يستطيعون من حيث الصحة أن يردوه؛ لأن الحديث متفق على صحته، فقد رواه الإمام البخاري ومسلم ، ورواه غيرهما كثير من أهل السنن ودواوين السنة، فلم يستطيعوا أن يقدحوا في صحته، لكن قالوا: المتن يدل على أن الحديث غير محفوظ. ‏
    1. الشبهة المتعلقة بالراوي من جهة ضبطه والرد عليها

      قال النسفي : إن الراوي قال: بضع وستون، أو بضع وسبعون شعبة، وفي بعض الروايات: باباً، والباب أو الشعبة بمعنى واحد، فقال: إن الراوي تردد، فقد شهد الراوي بغفلة نفسه حيث شك، فقال: بضع وستون، أو بضع وسبعون. ولا يظن برسول الله الشك. ولا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل: (أو)، أي: لم يقل: بضع وستون أو بضع وسبعون، وإنما قال إحدى العبارتين، والشك لا شك أنه وقع من الراوي، والراوي يحتمل أن يكون الصحابي فمن دونه في السند، فيقول: إن هذا الراوي الذي شك قد شهد على نفسه بالغفلة، وأنه لم يحفظ، وعلى هذا يرد الحديث، وهذا إجحاف، إذ لو أن كل راو شك رد حديثه كله لكان في هذا هضماً لجملة عظيمة من أحاديث رسول الله، وكذلك في واقع الناس، فإن الشك إنما يقوله أو يظهره الثقة الثبت المتقن أمانة منه وتورعاً، وإلا فإن غير ذلك يجزم بما يغلب على ظنه، فالذي يذكر الشك لا يقتضي ذلك بالضرورة أنه إنما ذكره لأنه لم يضبط، أو لم يتقن فهو غير ثقة، وغير ضابط، وعدم الضبط قدح في قبول الحديث من الراوي، لكن إذا جاء الشك من الثقة الثبت العدل المعروف بضبطه وإتقانه فإنما هو زيادة في الطمأنينة، أي: أن نطمئن أن هذا الذي يروي المئات أو الألوف من الأحاديث من غير شك إذا قال مرة في حديث: (أو) علمنا بهذا القول أمانته، وورعه فيما يقول، وهذا أمر.
      الأمر الآخر -كما قال الشيخ أو كما أشار-: أن الشك لا يؤثر مطلقاً؛ لأننا نجزم بأن رسول الله قال إحدى العبارتين، على أنه لم ترد إلا رواية الشك من غير ترجيح، فنقول: إن كان النبي عليه الصلاة والسلام قال: إن الإيمان بضع وستون، أو إن الإيمان بضع وسبعون، فالاستدلال واحد، وأهل السنة والجماعة لم يقولوا: إن مذهبنا واعتقادنا أنه بضع وستون، ومن قال: إنه بضع وسبعون فقد ابتدع، أو العكس، إنما هم يستدلون على أن الإيمان شعب، وعدد الشعب غير مؤثر؛ لأنكم معشر الحنفية تقولون: إنه لا يزيد ولا ينقص، بمعنى: أنه شعبة واحدة، فنحن إذا أثبتنا ولو شعبتين أو ثلاثاً فقد انتفى مذهبكم وثبت بطلانه، فلا يهم العد أياً كان العدد، والمقصود أنه يحسن بثبوت أي اللفظين، ونحن نجزم أنه قال عليه الصلاة والسلام، إحداهما فلا يؤثر هذا في الاستدلال.
      الأمر الثالث: أن هذا الحديث -كما ذكر الشيخ رحمه الله- قد رواه البخاري رحمه الله: بضع وستون، من غير شك، وإنما الشك في رواية الإمام مسلم وابن ماجه وغيرهما، ولو أن مرجحاً رجح وقال: لا شك أن صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم ، وهو شيخ الإمام مسلم ، وأعلم منه بالروايات وبالطرق، وقد روى رواية واحدة مجزوماً بها لا شك فيها، وعليه فما في صحيح البخاري هو الراجح، لكان ذلك الوجه حسناً ومقبولاً عند العلماء العالمين بهذا الفن وبهذا الشأن، ولا ريب أنه لو روى راويان، وشك أحدهما، فإنه من المعقول أن يقدم الذي لم يشك على الذي شك، ولا يؤثر ذلك في صحة الحديث، فالحديث صحيح ونجزم برواية الذي لم يشك، وأما الذي شك فنعلم أنه بشر يعتريه النسيان، وربما عرض له عارض، ولكن ذلك لا يطعن في صحة الحديث في ذاته.
      إذاً: لا غبار على هذا الحديث إطلاقاً، وهذا قول متهافت مردود، ولا يحمل مثل هذا الرد أو لا يحمل أصحابه عليه إلا التعصب كما ذكر الشيخ في آخر كلامه، وإلا لو أن هذا الحديث أو مثل هذا الشك جاء في موضوع يستدل به الحنفية أو غيرهم لا خلاف فيه لما طعن النسفي وغيره في الحديث بمجرد ما يرى من هذا الشك.
    2. شبهة مخالفة الحديث لظاهر القرآن

      وأما الطعن بمخالفته للكتاب، فأين في الكتاب ما يدل على خلافه؟ فالشارح ما نقل لنا كلاماً عن النسفي في مخالفته للكتاب؛ لأن هذه الشبهة مركبة من شيئين: الأول: الشك الذي وقع فيه الراوي، والثاني: أن الحديث مخالف للكتاب، وكأنه يقول: اجتمع فيه مخالفته للقرآن وشك راويه، فالحديث لا يحتج به في هذا الباب، وقد أبطلنا ما يتعلق بالراوي وضبطه وشكه، وبقي المخالفة للكتاب، فما الشبهة التي جعلت هؤلاء يقولون: إنه مخالف للقرآن؟ إن من أصول مذهب الحنفية في رد حديث الآحاد أن يخالف ظاهر القرآن، وهو مما ينتقد في مذهبهم، ويرد عليهم في هذه القضية بردود، لكن نحن الآن نقتصر على هذا الموضوع، فإن من أكبر شبهاتهم كما ذكرنا سابقاً: أن الإيمان هو ما في القلب، وأن الأعمال عطفت عليه، فظاهر القرآن في آي كثيرة جداً ربما تقارب المائة أو تزيد: (( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[البقرة:25] فيعطف العمل على الإيمان، والمعطوف غير المعطوف عليه، لكن نقول: ظاهر القرآن فيه أمران: أعمال صالحة وإيمان، وهذا مغاير لهذا، أما الحديث فهو يجعل هذه الأعمال أجزاء وشعباً من هذا، فحصل في نظرهم الاختلاف والتضاد، فهناك مخالفة بين ظاهر القرآن والحديث.
      والجواب على ذلك: أن العطف لا يقتضي المغايرة من كل الوجوه، بل ربما عطف الخاص على العام لبيان أهميته، مثل قوله تعالى: (( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ ))[الأحزاب:72]، فالجبال جزء من الأرض وهكذا، والشيخ رحمه الله قد أعرض عن الكلام في هذه الشبهة؛ لأنها أقل من أن يشتغل بالرد عليها، ثم إنه لا تعارض بين القرآن وبين الحديث، بل إن في القرآن ما يدل على الحديث ويوافقه، وقد قال رحمه الله: وإنما فيه ما يدل على وفاقه. مثل أن القرآن سمى بعض الأعمال إيماناً، كقوله تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ))[البقرة:143]، أي: ليضيع صلاتكم، فسمى شعبة من شعب الإيمان إيماناً؛ ونحن نجزم والحنفية المرجئة كافة بذلك، وليس المقصود: ما كان الله ليضيع تصديقكم باليوم الآخر، ويقينكم بالبعث وبالكتب، وبالرسل؛ لأن هذا ليس هو موضع الإشكال والخلاف الذي وقع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإنما كان الخوف أن تكون صلاة الصحابة إلى بيت المقدس قد ردت وبطلت وحبطت بتحويل القبلة إلى الكعبة المعظمة، فخافوا على ما صلوا، أو ما صلى إخوانهم الذين ماتوا قبل أن تتحول القبلة، فطمأنهم الله تبارك وتعالى فقال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، أي: لن تضيع صلاتكم وعبادتكم التي هي جزء من الإيمان، وليس المقصود أصل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، فنحن وهم متفقون عليه، وعلى هذا فإن القرآن قد سمى شعبة من شعب الإيمان إيماناً، والحديث يقول: (الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة) فبذلك اتفق القرآن والحديث، ولا شك أنه لا يمكن أن يتناقض شيء من الحق، والحق إنما هو في القرآن والسنة معاً وليس في أحدهما فقط، ولا يمكن أن تتناقض آية وآية، ولا أن يتناقض حديث صحيح وآية أبداً؛ ولذلك نحن نقول: لو أن حديثاً ما خالف صريح القرآن، فلا ريب أن هذا يعد طعناً في هذا الحديث، ويتأمل فيه من أين جاء هذا اللفظ؟ ولا يكاد يوجد شيء من هذا إلا قلة يعرفها العلماء النقاد الذين هيئهم الله تبارك وتعالى لهذا الدين، فحفظوه وعلموه، فيعلمون نقد المتن كما يعلمون نقد السند، وهؤلاء الأئمة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم هم النقاد، وهم الصيارفة في هذا الفن، وهم الذين يعرفون الراجح من المرجوح، وإن جاءت رواية ففي كتب السنة روايات أخرى تبين المراد؛ ولذلك فإن الصحيحين -وهما أصح الكتب بعد كتاب الله تبارك وتعالى- فيهما ألفاظ غير صحيحة، لكن هذا لا يؤثر في صحة الكتابين فضلاً عن أن يؤثر في صحة السنة كلها، وبالتالي فأيما حديث انتقد في الصحيحين فإن هذا اللفظ -الذي ثبت أن النقد فيه صحيح- بذاته هو الذي يرد، لكن قد يصح الحديث بألفاظ أخرى غير هذا اللفظ، وقد يصح في كتب أخرى خارج الصحيحين ، فالسنة محفوظة في جملتها والحمد لله، وقد حفظها الله تبارك وتعالى بهؤلاء الرجال، فلا يأتي أحد ويقول بمجرد عقله وهواه أو رأيه: إن هذا الحديث مخالف للقرآن أو لظاهر القرآن فيرد، والأصل الذي أصله الحنفية في هذا الباب مردود، والأمثلة في هذا العصر الحديث، على هذا كثيرة جداً، وقد ناقشنا أحد الذين انتهجوا المنهج العصري العقلاني، والذي رد بعض الأحاديث الصحيحة، بزعمه أنها معارضة للقرآن، مثل: قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يقتل المسلم بالكافر )، فجاء هؤلاء وقالوا: إن الله تبارك وتعالى يقول: (( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ))[المائدة:45]، فالمسلم يقتل بالكافر، وقال الشيخ محمد الغزالي قولاً عظيماً في هذا: فلنفرض أن خبيراً أمريكياً قتله فلاح صعيدي مسلم، ألا نقتله به؟! قلنا: إن هذا التمثيل يدل -والعياذ بالله- على مرض الذي في القلوب: وهو تعظيم الكفر وأهله، واستفضاع -في نظره- أن يقتل خبير أمريكي، فلا يقتص من القاتل الذي هو مجرد فلاح، فالنظرة ليست نظرة الكفر والإيمان، وإنما النظرة إلى الفلاح وإلى الخبير، وإلى كون هذا عربياً أو مصرياً، وكون ذاك أمريكياً، وقلنا: إن هذا دليل على أن الحامل لهم على هذا ليس النظر في الأدلة، ولو تعارضت الأدلة ونظر العالم أو المجتهد في الأدلة وأخطأ فالخطأ مغفور له، لكن المشكلة إذا كان هؤلاء يصدرون عن مرض في قلوبهم، ويستفضعون ويستكبرون أن يقارن هذا بهذا، أما المؤمن بالله واليوم الآخر فيعلم أن أدنى عامي من المسلمين هو خير من ملئ الأرض من أكبر زعيم من زعماء الكفر، أو عالم من علماء الكفر؛ لأن المعيار هو الإيمان بالله تعالى؛ ولذلك الحديث في الصحيحين وغيرهما بطرق كثيرة: ( لا يقتل مسلم بكافر ). هو الذي يجب أن يعمل به، وقد عمل به المسلمون ولله الحمد، وطعن هؤلاء فيه غير مؤثر، وإنما طعنهم يدل على مرض قلوبهم، أما ما يقوله الحنفية وأمثالهم، فهو اجتهاد خطأ مردود عليهم، لكن ما كان فقهاء الحنفية يتكلمون بهذا القول مستدلين بمثل هذا الدليل الذي يدل على أن المسألة هي نظرة غربية أكثر من كونها استدلالاً واستنباطاً، فمثلاً عندما يقول الحنفية: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم وقضى في الزاني البكر: بجلد مائة وتغريب عام )، فيقولون: لا نعمل بالتغريب؛ لأنه زيادة عما في القرآن، والزيادة نسخ، والسنة لا تنسخ القرآن، وهذا مذهبهم، وهو خطأ ومردود، لكن مع ذلك هؤلاء لهم أجر الاجتهاد؛ لأنهم بأصولهم الفقهية هذه ما أرادوا بها محادة أو مضادة النص، وهذه في الجملة، ولا نعني كل واحد منهم، فربما يوجد منهم من يكون اتباعه للرأي أو للقياس آثر عندهم من اتباع الحديث، فيكون مريضاً مرض القلب والعياذ بالله، أما هؤلاء العصريون أو العقلانيون أو مهما سموا أنفسهم فإنهم أبعد شيء عن العقل في الحقيقة؛ لأن العقل السليم يوافق النقل السليم، أما كونهم عصريين فنعم؛ لأنهم يريدون أن يسخروا الدين والقرآن والشريعة لمقتضيات العصر كما يزعمون، والمقصود أن هذه الشبهات مردودة، وأنه كما ذكر الشيخ رحمه الله: وإنما هذا الطعن ثمرة شؤم التقليد والتعصب، أي: أنه لا يصدر هذا الطعن في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من كان في قلبه مرض، إما مرض التعصب والتقليد كما هو حال هؤلاء الحنفية، وإما مرض الإعجاب بالكفار، بل ربما نقول: إن تفضيل الكفار على المسلمين -نسأل الله العفو والعافية- هو مرض خطير ويدل على نفاق كبير، وربما أخرج صاحبه من الملة نسأل الله العفو والعافية، لو التزم لازم هذا القول.
  3. رد أهل السنة على شبهات المرجئة في تلازم عمل الجوارح وعمل القلب وشبهة التركيب

     المرفق    
    1. رد أهل السنة على شبهة التركيب عند المرجئة

      الشبهة الرابعة: التركيب، أي: أنه لا يتبعض ولا يتجزأ بل هو مركب، يقول ذلك أهل السنة والجماعة ، و المرجئة يقولون: ولأنه لو كان مركباً من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه. قال الإمام ابن أبي العز: [وأما كونه يلزم من زوال جزئه زوال كله، فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت فمسلم، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء فيزول عنه الكمال فقط] وهذا الكلام يحتاج إلى تفصيل، ولكن قبله لابد أن نعرف حقيقة شبهتهم، فهم يقولون: إنه في الهيئة الاجتماعية أو في الأشياء المركبة إذا زال جزؤها زال الاسم، مثل: العدد: عشرة، إذا زال منها واحد لم تعد عشرة، وأنتم تقولون: -أي: أهل السنة - إذا زال جزء من الإيمان فإن الباقي يسمى إيماناً، فيقولون: هذا الدليل العقلي يدل على بطلان مذهبكم، وذلك أن المركب إذا زال جزؤه زال كله، بمعنى: إذا الاسم انتفى فلا يسمى إيماناً، ويمثلون (بسكنجبين)، وقد استغرب منه الشيخ الشنقيطي رحمه الله في مذكرة أصول الفقه ، و ابن تيمية ، وهذه المادة وغيرها -مخلوطة- تتركب من مادتين، كأن يركب دواء من العسل ومن الليمون، فيصبح لا هو حلو ولا هو مر، فليس عسلاً وليس ليموناً.
      والمقصود: أن هذا التركيب يجعله مادة أو شيئاً ثابتاً، لو زال المركب -أي: العسل- وما بقي إلا المادة الأخرى -الليمون- فلا يصح أن تطلق عليه الاسم، وكذلك لو أخذنا الآخر فلا يطلق عليهما الاسم إلا مجتمعين، وكلامه هذا صحيح، فإذا زال أحدهما، أي: ما تتكون منه الهيئة الاجتماعية، أو الشيء المجتمع، إذا زال أحدهما زال الاسم وانتفت الهيئة الاجتماعية كلها، وأصبح شيئاً آخر غير هذه الهيئة، وكما يقال: إن الماء مركب من أوكسجين وهيدروجين، فإذا أخذت عنصر الهيدروجين أو الأكسجين لم يعد الباقي ماءً، وبالتالي المركبات الكيميائية مثل الملح لو أخذنا عناصره لم يعد يسمى ملحاً.
      والمقصود أن المرجئة يقولون: إنكم عندما تقولون: إن الإيمان مركب، ثم تقولون: إنه تزول بعض أجزائه ولا تزول هيئته، ويظل تتناقضون مع الحقيقة العقلية؛ لأن الأشياء -بالعقل والنظر- المركبة إذا ذهب جزؤها ذهب كلها، فيعني هذا: أن أهل السنة بين قولين: إما أن تقولوا بقول الخوارج وهو: ما دام أن الشيء المركب إذا ذهب جزؤه فقد ذهب كله، فكذلك أن الإيمان مركب، فالذي ترك واجباً من الواجبات يكون كافراً؛ لأن الإيمان قد ذهب كله! أو تقولون كقولنا نحن المرجئة وهو: أن الإيمان غير مركب، وهذه هي شبهتهم في التركيب، والرد عليهم أن يقال: إن المركبات على نوعين -ومن أراد مرجعاً في هذا ففي الإيمان الأوسط لشيخ الإسلام ابن تيمية-: (منها ما يكون التركيب شرطاً في الاسم) فلا يطلق على أحد الأجزاء الاسم، مثل: الليمون لا نسميه: زنجبيل، وإنما نسمي مجموعهم (ومنها ما لا يكون التركيب شرطاً فيه) بل يسمى كل جزء من أجزائه باسم الكل، مثل: الآية من القرآن تسمى قرآناً، والسورة تسمى قرآناً والمصحف كله يسمى قرآناً، والقرآن مركب من هذه السور ومن هذه الآيات، ومثل: البحر، الجبل، الماء، الأرض، التراب وغيرها، فالقليل منها يسمى بحراً، أو تراباً، أو جبلاً.. وزوال شيء منه لا ينفي الاسم.
      والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    2. رد أهل السنة على شبهة عدم تلازم عمل الجوارح وعمل القلب عند المرجئة

      (وقالوا أيضاً) -أهل السنة في ردهم على شبهات المرجئة (وهنا أصل آخر) أي: في موضع الكلام: أن الإيمان هو ما في القلب ولا يشمل الأعمال، وقاعدة يظهر بها الرد عليكم، وإبطال كلامكم، قال: (وهو أن القول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح) -وهو امتثالها وفعلها الطاعات-.
      (فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله) أي: زال الإيمان كله، فنحن أهل السنة وأنتم معشر المرجئة متفقون على أنه إذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان، وإذا زال تصديق القلب الذي هو قول القلب، أول جزء من أجزاء الإيمان يقع للإنسان؛ لأنه أول ما يقع للإنسان من أجزاء الإيمان هو أن يصدق بقلبه، ثم ينطق ويعبر عن هذا التصديق بلسانه، وبعد ذلك عمل القلب والجوارح، قال: (وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة). والمهم أنها لا تنفع قطعاً بالإجماع، (فإذا بقي تصديق القلب) وذهبت الثلاثة (فهنا موضع المعركة) وهنا الخلاف بيننا وبينكم، بل في الحقيقة أن الحنفية في الأصل يثبتون إقرار اللسان، وقد بينا فيما بعد حول الكلام على أن الإقرار ليس ركناً، أو أنه ركن زائد، أو أنه مجرد شرط، أو أنه علامة إلى آخر ما بينا، لكن لنفرض أسوأ الاحتمالات كما هو مذهب المتأخرين منهم فنقول: إن الرجل الذي لديه تصديق القلب، لكنه لم يأت ببقية الأجزاء الثلاثة، فهنا موضع المعركة، والخلاف بيننا وبينهم، فكيف يجيب أهل السنة ويلزمونهم، يقولون: لا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، أي: يأخذوها واحداً واحداً، فهذا الرجل الذي صدق بقلبه، لكنه لم يطع بجوارحه، فنأخذ الظاهر أولاً، أي: عمل الجوارح من الطاعات المعروفة، هذا ما فعل بها، فهذا يلزم منه عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت، وهذا معلوم، وبالتالي هذا الرجل مفقود منه عمل القلب؛ لأن العمل متلازم، ولا يمكن أن تعمل الجوارح إلا بعمل القلب، فاستدللنا بانتفاء عمل الجوارح على انتفاء عمل القلب، وبقي أن تنفي عنه قول القلب، يقول: ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده، عدم التصديق المستلزم للطاعة، فيلزمه من ترك عمل الجوارح، وفقدها أن يكون أيضاً فاقداً لعمل القلب، وإذا فقد عمل القلب فينبغي أن يكون فاقداً لتصديق القلب؛ لأنه لو صدق حقاً لعمل بقلبه، ولو عمل بقلبه لعمل بجوارحه، فتأمل هذا التسلسل، والشيخ لا يريد أن يلزمهم بأن الأقسام الأربعة حق كما بينا، وبالأدلة الصحيحة أن الأقسام أربعة وأنها حق، وأن الأدلة عليها واضحة، بل هو يقول فقط من باب الاستلزام، فهذا يلزم منه هذا، أي: يلزم من انتفاء الثاني، ويلزم من انتفاء الثاني انتفاء الثالث أو الأخير، فليس بعد انتفائه شيء؛ ولذلك أتى بالحديث المعروف المتفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد كله، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد كله، ألا وهي القلب ) فالقلب لو صح تصديقه وإقراره للزم من ذلك خشوعه وإنابته ورغبته ورهبته وتوكله ويقينه وإخلاصه ومحبته، أي: أعمال القلوب الأخرى، ولو حصلت هذه الأعمال لكان من لوازمها ولا بد: أعمال الجوارح، من الصلاة والصيام وأداء الأمانة وترك المحرمات إلى آخر ما هو من أعمال الجوارح. فإذاً: هذا يدل على ما قال أهل السنة ، بخلاف عكس ذلك، وهو أنه قد تصح أعمال الجوارح ولا يصح إيمان القلب، أي: عمله وإقراره، ومثل ذلك: المنافق، فالمنافق يأتي بأعمال ظاهرها الصحة، ولكن انطواء قلبه على النفاق -والكلام في النفاق الأكبر- يجعل هذا العمل باطلاً، والمقصود أنه يحصل أن يجتمع أو أن يصلح أو أن يستقيم الظاهر مع فساد الباطن، لكن لا يمكن بحال من الأحوال أن يستقيم الباطن ولا يستقيم الظاهر، أن يؤمن الإنسان باطناً ولا يؤمن ظاهراً، بل لا بد أن يؤمن؛ ولهذا حتى حالة الإكراه نقول: هذه حالة مستثناة، ولما أكره إنما أكره ليخالف ما هو مستقر في باطنه، أما المنافق فإنه يعمل أعمال المسلمين في الظاهر، ولا يرغمه أحد في الباطن أن يعتقد الحق أو خلافه، بل لا يستطيع أحد أن يرغم أحداً بما يعتقد بداخل قلبه، لا بالحق ولا بالباطل، لكنه هو في الحقيقة اختار الباطل والكفر على الإيمان، وهذا يتخيل ويتصور، إذ إن التلبيس بالعمل الظاهر ممكن، لكن بالعمل الباطن لا يمكن؛ لأنه هو أصلاً نفسه باطن، فكيف يمكن أن يخفي الإنسان باطناً في الباطن؟! لكن أعمال الجوارح ممكن أن يظهرها العبد ويخفي حقيقة خلافها، كأن يظهر أعمال الكفر -مثلاً- وهو يبطن الإيمان في حالة الإكراه، أو أن يظهر أعمال الإيمان ويبطن الكفر في حالة المنافق، وهي حالة دائمة وليست حالة عارضة كحالة المؤمن، وعليه فالارتباط بين الباطن والظاهر، والعلاقة بين الظاهر -هي كما قررنا- كما هو نص الحديث ولا عكس؛ لأن العكس غير صحيح، فإذا صلح القلب صلحت الجوارح والأعمال، ولكن صلاح الأعمال لا يستلزم ولا يقتضي صلاح القلب، فهذا من أهل السنة والجماعة إلزام لهم، بأن قولكم مردود، وأن شبهتكم غير صحيحة.