المادة كاملة    
تحدث هذا الدرس عن الإسراء والمعراج، وثبوته بالجسد والروح معاً، والحكمة من الإسراء إلى بيت المقدس، ثم تكلم عن إثبات العلو لله تعالى بالفطر السليمة والعقول الزكية، ثم انتقل الكلام بعد ذلك إلى الحديث حول حكم من أنكر الإسراء والمعراج، وفي نهاية المطاف كان الحديث حول كتاب الإسراء والمعراج جمع رياض العبد الله.
  1. ثبوت الإسراء والمعراج بالجسد والروح

     المرفق    
    يقول المصنف: [إن ما يدل عَلَى أن الإسراء كَانَ بجسده صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حال اليقظة لا المنام: أن الله تَعَالَى قَالَ: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى))[الإسراء:1] والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح].
    فإذا أُطلق فإنَّه يطلق عَلَى الروح والجسد معاً كقوله تعالى: ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ)) [الجـن:19] أي: أنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قام بروحه وجسده [كما أن الإِنسَان اسمه مجموع الروح والجسد] فلا نفهم أنه روح فقط, فإذا قلنا: جَاءَ إنسان، فلا يمكن أن يفهم أحد أنه جاءت روح إنسان, وإنما المقصود أنه جَاءَ بذاته، أي: بجسده وروحه, [هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح.
    فيكون الإسراء بهذا المجموع
    -وهذا ما تقدمت الأدلة عليه بالتفصيل- ولا يمتنع ذلك عقلاً] بل لا نأبه أن يكون هناك من يقول: إن العقل يثبت هذا الشي أو ينفيه مادام أنه قد صح عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعقولنا: إنما هي آلات أعطانا الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إياها لنستعين بها عَلَى فهم ما ينزله علينا، فإذا جعلناها معارضة لما أنزل فقد خرجنا بها عن طورها، وظلمنا أنفسنا كما قال تَعَالَى عن الشرك: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان:13] والبدعة: ظلم؛ بل المعصية أيضا ظلم؛ لأنها وضع للشيء في غير موضعه، ومن أكبر الظلم: أن يظلم هذا العقل -الذي جعله الله أداة لنفهم طريقنا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما بين وشرع- فنجعله أداة معارضة ومضادة للوحي الذي أنزله الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فإنه أعطانا إياه لنفهم به هذا الوحي لا لنرد به الوحي.
    لكن المُصنِّفُ ذكر ذلك عرضاً من باب التنزل والجدل واستدراج الخصم، وإلا فإننا -أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ- كما أننا في المأثور والمنقول نستطيع أن نتكلم ونبين الحق، فكذلك أيضاً في المعقول والنظر نَحْنُ أصدق النَّاس وأنصحهم في النظر والعقليات يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [ولا يمتنع ذلك عقلاً] أي: ما المانع العقلي أن يكون الإسراء بالروح والجسد، وأن يتحقق في هذه السرعة، وفي هذا الوقت، وبهذه الكيفية التي ثبتت عنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

    يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إِلَى إنكار النبوة وهو كفر] يريد أن يُلزم الذين ينكرون الإسراء والمعراج عامة، والذين ينكرون كون ذلك بالجسد والروح بلازم وهو: أن كل مؤمن بالإسلام وبنبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقر بأن جبريل عَلَيْهِ السَّلام ينزل إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، بل قد نزل إِلَى من قبله، وهناك ملائكة آخرون ينزلون إِلَى الأرض، ثُمَّ يصعدون إِلَى السماء؛ فإذا كَانَ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد بين ذلك، وكلنا مقرين بأن الملائكة تنزل من السماء إِلَى الأرض، ثُمَّ تصعد وتعرج، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعلى تفاوت في أحوالها ووظائفها وأعمالها بهذه القدرة العظيمة، وكل الذين يؤمنون بالرسل وبالأنبياء حتى من غير الْمُسْلِمِينَ مقرون بهذا الأمر، فما المانع من الإقرار بصعود البشر ثُمَّ نزولهم، كما حدث ذلك لنبينا مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا سيما وهو أفضل الخلق وسيد ولد آدم وهو أفضل الأَنْبِيَاء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه عليهم أجمعين.
    فإنكار نزول الملائكة يؤدي إِلَى إنكار النبوة، وقد سبق في مبحث النبوة أن كل الدين مركب عَلَى قضية أساسية، وهي إثبات نبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن من ينكرها معناه أنه لا يؤمن بالسنة، ولا يؤمن بالملائكة، ولا بالله ولا باليوم الآخر فهذا كافر، كحال من أنكر نبوته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهود والنَّصارَى وغيرهم، ومن أقر بنبوته، فإنه تلقائياً يجب عليه أن يقر بكل ما صح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأخبار، وكذلك يجب عليه أن يعمل بكل ما صح من الأوامر والنواهي.
    1. الحكمة من الاسراء إلى بيت المقدس

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إِلَى بيت المقدس أولاً؟
      فالجواب والله أعلم: أن ذلك كَانَ إظهاراً لصدق دعوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس، فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كَانَ عروجه إِلَى السماء من مكة لما حصل ذلك، إذ لا يمكن إطَّلاعهم عَلَى ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس فأخبرهم بنعته. وفي حديث المعراج دليل عَلَى ثبوت صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبره وبالله التوفيق] اهـ.

      الشرح:
      يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إِلَى بيت المقدس أولاً؟ فالجواب -والله أعلم-] نسب العلم إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونسبة العلم إليه أسلم وهو أدب من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها العالم والمتكلم في هذه الأمور التي لا يستطيع الجزم فيها، ولاسيما ما يتعلق بالحكمة، فنحن لا نعرف ولا ندرك هذه الحكمة، فمنها ما هو ظاهر يدرك بالفهم وبالنظر السليم الصحيح، ومنها أمور خفية ودقيقة لا يمكن أن ندركها بنفس القوة في القطع والجزم، ومنها ما لا يدرك أصلاً.
      فعلى الإِنسَان أن يرد العلم إِلَى الحكيم العليم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَقُولُ: والله أعلم، هذا خير وأفضل وأسلم في أمثال هذه الأمور، فهو من الآداب التي ينبغي علينا أن نتحلى بها، فلا نجزم في شيء لا نملك عليه دليلاً نستطيع معه أن نجزم.

      فَيَقُولُ: [أن ذلك كَانَ إظهاراً لصدق دعوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المعراج]، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى كل شيء قدير ويستطيع أن يعرج به إِلَى السماء، وأن يأتي بأي دليل آخر عَلَى إثبات هذه الواقعة غير الإسراء، قبله أو بعده، أو بأي أمر من الأمور، فلا نستطيع أن نحد قدرته ومشيئته وإرادته، لكن هذا جانب من جوانب الحكمة التي تظهر لنا، أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يريد إظهار صدق دعوى المعراج، فكان الإسراء مهلاً له
      فلذلك حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس نعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، وهذا بعض الحكمة، لأن قريشاً تعرف بيت المقدس وتسافر وترتحل إليه وهذا أمر مشهود معروف عندهم، كما في حديث أبي سفيان مع هرقل، حين قبض عليه أعوان هرقل كان في أرض الشام، وهم يعرفون ذلك المسجد، فحينما يخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه أسري به إِلَى بيت المقدس ثُمَّ يخبرهم أنه عرج به إِلَى السماء، نجد أن هناك نوعاً من النقلة النفسية، وهو خارق بلا شك، فلذلك قالوا: نَحْنُ نضرب إليها أكباد الإبل الشهر والشهرين، ويذهب مُحَمَّد إليها في ليلة، لكن أعظم منه وأدهى وأشد أن يعرج به من ذلك المسجد إِلَى السماء، فهذا شيء بعيد جداً؛ لأنهم يجادلون ويمارون في هذا الأقل.
      لكن عندما يكون لديك أمران: أحدهما مستحيل في نظرك، ثُمَّ يأتي بعده ما هو أكثر استحالة منه، فإن هذا يدفعك إِلَى أنك تكاد أن توافق بالأمر البسيط، وتقول: ما دام أن فيها كذا نسلم بهذا الأقل والأهون، وهذا أمر يمكن أن يجادل فيه، فلهذا جاءوا يجادلون كيف ذهبت؟ فلما طلبوا منه وصف المسجد أظهره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أمامه المسجد، فأخذ يراه رأي العين ويصفه لهم حتى أيقنوا وصدقوا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أسري به، وكان ذلك تصديقاً قلبياً وليس تصديقاً إيمانياً، ووقر ذلك في قلوبهم، كما قال الله تعالى: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ))[الأنعام:33] فجحدوه بعد أن وقر في قلوبهم.

      ومن الحِكَمِ الأخرى أن بيت المقدس هو مهبط النبوة قبل نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنبياء بني إسرائيل بعثوا في تلك الأرض المقدسة، وهناك القبلة الأولى التي كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يستقبلونها، إذاً فهناك ربط بين هذا النبي الجديد وبيئته وبلدته الجديدة -النبوة الخاتمة- وبين مهبط النبوة السابقة لها أيضاً، وفيه إشعار بأن هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكمِّل ومتمِّمٌ لرسالات الأَنْبِيَاء قبله، فهو خاتمهم، ولم يأتِ في باب التوحيد والإيمان بجديد عما جاءوا به في أصَلِ القضية، وإنما دعا إِلَى ما دعوا إليه.
      فعلى كل من يقر بنبوة الأَنْبِيَاء ويثبتها من أهل الكتاب بالأخص أن يؤمنوا بهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك ما حصل فيه من صلاته بجميع الأَنْبِيَاء صلَى الله عليم وسلم في ذلك المكان، وهذا أيضاً تحصل به الحكمة، إذا كَانَ الإسراء أولاً، ثُمَّ بعد ذلك المعراج، وأن العبادة موضعها هي هذه الأرض في هذه الدنيا، لا سيما في مثل هذا المقام الذي يراد منه أن يظهر فضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العبودية عَلَى بقية الأنبياء، ولهذا صلَّى بهم إماماً فجمعهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- له، وأمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مهبط الدعوة، فكان بذلك إيذاناً بأنه أكملهم في العبودية.
      فالنبوة حصرت في ذرية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، ثُمَّ كانت النبوة في فرع إسحاق فنقلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فرع إسماعيل، وكلاهما أبناء إبراهيم الخليل عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم،
      ويمكن أن نستنبط حِكَماً كثيرة غير التي ذكرها المُصنِّف وإن كانت هذه التي ذكرها المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ من أظهر وأجلى الحكم.
  2. إثبات العلو لله تبارك وتعالى

     المرفق    
    ثُمَّ يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [وفي حديث المعراج دليل عَلَى ثبوت صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبره وبالله التوفيق] موضوع إثبات العلو من أجلى وأبين موضوعات الصفات، فإثبات علو الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هو أحد الموضوعات المهمة في باب الصفات، وكل صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يجب علينا أن نؤمن بها، لكن هناك بعض الصفات كثر فيها الحديث، وكثر فيها الاختلاف، مع جلاء دليلها وبيانه وظهوره، ومن ذلك العلو، وتليها صفة الكلام، وقد سبقت إشارات كثيرة في موضوع العلو وسوف يأتي -إن شاء الله- تفصيل البحث في آخر الكتاب، فقضية العلو من أهم القضايا في الصفات، وهي من أجلى أمور العقيدة من حيث الأدلة، لأنه كما نقل الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: أن الأدلة عَلَى إثبات علو الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تعد بالمئات؛ بل بالألوف، وجميعها تثبت علو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى مخلوقاته، ومنها هذا الحديث العظيم.
    والأحاديث الكثيرة التي تثبت الإسراء والمعراج كلها تثبت علو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى مخلوقاته، فيقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [إن في حديث المعراج دليل عَلَى إثبات صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبره] وهذا الاستطراد الذي ذكره المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: يدلنا عَلَى أن عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ عقيدة متكاملة يصدق بعضها بعضاً، فإذا تحدثنا في موضوع الإسراء والمعراج، نجد ما يؤيد العلو، ونجد ما يؤيد الكلام، ونجد ما يؤيد النبوات، فكلها يدل عليها حديث الإسراء والمعراج، وكلها يُصدّق بعضها بعضاً، أما المتكلمون والفلاسفة والمجادلون فلابد أن يتناقضوا فعندما يثبتون قضية ما يتناقضون إذا تعرضوا لموضوع آخر.
    1. بعض الأدلة البديهية على إثبات علو الله تعالى وبيان تناقض أهل البدع

      من أمثلة تناقض أهل البدع :
      الفخر الرازي ينكر العلو عَلَى مذهب الفلاسفة، كما ذكر ذلك في أساس التقديس، وهو من المصرحين بالقول: بأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، وأن إثبات الجهة يخالف دين الإسلام، وهو مما يجب أن تؤول الأدلة فيه، ويقول وهو في مجال النسيان والغفلة والذهول عما قرره في أساس التقديس وغيره من إنكار العلو: (إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رفع محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى كَانَ منه قاب قوسين أو أدنى، وخسف بقارون حتى تجلجل في أعماق الأرض) وهو يتحدث عن موضوع: كيف أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يرفع من يشاء ويخفض من يشاء!! فنسي أنه هو الذي يقول: إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يثبت له العلو.
      إذاً: هناك بُعدٌ عنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهناك قرب منه، فهذا الذي كتب أساس التقديس، وهو الذي دافع الدفاع الطويل العريض لإثبات أن تأويل آيات وأحاديث العلو ضرورة شرعية لابد منها وقع في التناقض، وتأبى الفطرة إلا أن تظهر نفسها، وتقر بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عالٍ عَلَى جميع المخلوقات.

      وكذلك قصة أبي جعفر الهمذاني مع أبي المعالي الجويني عندما كَانَ أبو المعالي الجويني يخطب عَلَى المنبر فسئل عن العلو، فقَالَ: كَانَ الله ولا عرش، وهو الآن عَلَى ما عليه كان، أي: أنه تَعَالَى لا يحتاج إِلَى العرش، ولا يحتاج إِلَى مكان ولا يحتاج إِلَى زمان، فإذاً ليس هو مستوٍ عَلَى العرش، وليس هو عالٍ فوق المخلوقات، وكان أبو جعفر الهمداني رَحِمَهُ اللَّهُ جالساً بين القوم في الحلقة، فَقَالَ له أيها الشيخ: دعنا من الجدال ومن قضية العلو والحاجة إِلَى العرش وعدمها، ولكن ما هذه الضرورة التي يجدها الإِنسَان في نفسه إذا أراد أن يدعو الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فإنه لا يتجه إلا إِلَى السماء إِلَى جهة العلو؟ فكيف ندفع هذه الضرورة؟
      والضرورة عند علماء الكلام ينبغي التسليم لها بدون حاجة إِلَى تفكير، لأن من العلم ما يسمى بالعلم الضروري، وهو ما يسبق إِلَى الذهن الإيمان به قبل التفكير فيه، كما تعلم أن الواحد أقل من الاثنين، وهذه ضرورة يجدها كل إنسان في نفسه وهي: أنه إذا أراد أن يدعو الله، أو يتوجه إليه، أو يستغيث به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل إذا ذكر الله بقلبه، فإن شعوره وإحساسه بالضرورة يتجه إِلَى جهة العلو قبل أن يعرض الموضوع عَلَى عقله. فضرب أبو المعالي بكُمِه ولطم وتحير، وقَالَ: حيرني الهمداني حيرني الهمداني، ونزل من عَلَى المنبر.

      فهذا الموضوع تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة والفطرة السليمة ولا يحتاج أمره إِلَى نبوة فهناك أناس كانوا يعيشون في الفترات بين بعثات الأَنْبِيَاء يُقرون بالعلو، منهم أمية بن أبي الصلت فإنه أقر بذلك في شعره، ولم يكن مؤمناً، والعرب تقر بذلك إقراراً في جميع أشعارها وأخبارها، حتى أن عنترة الشاعر المشهور يقول في أول قصيدة له :
      يا عبل أين من المنية مهرب            إن كَانَ ربي في السماء قضاها
      وعنترة جاهلي مشرك كافر لكنه أثبت أمرين مهمين مما جادل فيه المجادلون: العلو والقدر.

      أما الاستواء فإنما ثبت بالنقل، أي أنه: لو لم يخبرنا الله أنه استوى عَلَى العرش لما عرفنا أن له عرشاً استوى عليه، والقول بأنه في كل مكان ليس عليه دليل حقيقة، لكن قد يشتبه أمره عَلَى ضعاف العقول، الذين لم يفهموا حقيقة هذا الدين، ولم يفهموا حقيقة الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، فيشتبه عليهم قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) [الحديد:4] وهذه شبهة ضعيفة جداً، لكنها قد تقع، فإذا جليت الشبهة، ذهبت أمام الحقائق الواضحة، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس معنا بذاته، وإنما بعلمه فهذا الموضوع الثالث فيه شبهة ضعيفة.
      أما الموضوع الرابع الذي لا دليل عليه ولا شبهة عَلَى الإطلاق، هو قول من يقول: إنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله فهذا القول ليس عليه دليل من الكتاب والسنة، ولا من العقل ولا شبهة في التفكير، وإنما هو قول اختلقه فلاسفة اليونان ثُمَّ تبعهم من تبعهم، وبقي عليه أكثر المعتزلة والأشاعرة وأهل الكلام.
      العروج: تَجَاوزَ السماوات السبع، حتى كَانَ بتلك المنزلة العظيمة التي لم يبلغها ولن يبلغها بشر بعده، وبعد ذلك: نزوله إِلَى موسى، ثُمَّ رجوعه إِلَى ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ وقوف جبريل عند حد معين، ثُمَّ مجاوزة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له، هذا دليل عَلَى أن القرب من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بلغ منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزلة لم يبلغها أحد، ولو كانت المسألة كما قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه فكيف يتصور هذا عقلاً!!
      وكذلك إذا كَانَ في كل مكان، كيف يكون هذا أقرب من هذا، أو هذا بلغ درجة أعلى من هذا، واستفتاح جبريل لمن في السماوات، وفي كل مرة يفتح له عَلَى من هو أعلى منها، وهما في الطريق إِلَى سدرة المنتهى، الذي يشعر اسمها: المنتهى بأنه ليس وراءها شيء من هذه المخلوقات، ولم يبق وراءها إلا الحجاب الذي قال عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نور أنى أراه} أو {حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجل جلاله
      .
  3. حكم من أنكر الإسراء والمعراج

     المرفق    
    إن من أنكر الإسراء والمعراج، فإنه ينكر شيئاً ثابتاً في القرآن، وهناك قاعدة معروفة صحيحة يجب أن نعرفها جميعاً، وهي أن من أنكر شيئاً ثبت في القُرْآن فإنه كافر، وكذلك في السنة.
    وأما دلالات الآيات التي في القُرْآن فقد تختلف، وأعظم دليل عَلَى الاختلاف اختلاف أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القُرْآن وهم أفضل النَّاس عقلاً وفهماً فقوله سبحانه: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب)) [آل عمران:7] هذه آية واضحة وجلية لا نقاش فيها ولا خلاف، ((وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)) [آل عمران:7]
    فمذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ما عليه السلف: هو الإيمان والتصديق بالمحكم، والإيمان بالمتشابه ورده إِلَى المحكم
    ، ولهذا فإن أهمية السنة أنها تفسر القُرْآن فتبينه وتحدد مدلولاته، فهي كالشرح والإيضاح للقرآن، أما القُرْآن فهو حمال وجوه، قد تحتمل الآية أكثر من معنى وأكثر من وجه.
    نقول: ما الذي ذكره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في القُرْآن صريحاً؟ وما الذي ذكره ضمناً؟ فالإسراء ذُكِرَ صريحاً ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)) [الإسراء:1] إذاً لو أن أحداً أنكر الإسراء فإنه يكفر رأساً، لأنه بمجرد أن يقرأ الآية أو يسمعها يفهم دلالتها، فيكون منكر الإسراء كافراً.
    وإنما حصل الخلاف والإشكال فيمن ينكر المعراج، لأن الدلالة ليست جلية، وهذا يستلزم منا أن نجليها وأن نوضحها من خلال سورة النجم، فمنها نستطيع أن نبين هذه الحقيقة، فتصبح أيضاً يدل عليها القُرْآن دلالة لا شك فيها ولا شبهة، فقوله سبحانه: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى))[النجم:13] أين رآه؟ ((عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصرُ وَمَا طَغَى))[النجم:14-17].
    فجملة ((مَا زَاغَ الْبَصرُ)) تبين أن العروج ليست بمجرد الروح كما يقولون، بل هي حقيقة واضحة ببصره صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى تلك الآية الكبرى التي أراه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في ذلك الموضع، فنستطيع أن تجلي دلالة القُرْآن فتكون دلالته صريحة، ثُمَّ نؤيد ذلك بالأحاديث الكثيرة المتواترة التي تثبت الإسراء والمعراج، فنقول: إن من أنكر المعراج فهو أيضاً كافر بعد بيان الحجة عليه.
    ومن المعتزلة من فرق بين الإسراء والمعراج وهذا من الحماقة والغباوة، وهم أعمى من قريش في موضوع الإسراء والمعراج؛ لأن قريشاً لم تجادل فيه، إنما أرادت أن تجادل في الشيء الواضح الذي تعرفه، ولا تعرف خبر السماء، ولا تدري ما هي سدرة المنتهى ولا أي شيء، لكنها تعرف بيت المقدس، وتعرف أن المسافة إليه قد تصل إِلَى شهر أو شهرين بالإبل، فلما أثبته النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تولوا وأفحموا ولم يستطيعوا أن يستمروا في المناظرة ولا في المحاورة، لكن هَؤُلاءِ المعتزلة وأمثالهم فتنوا كما قال الله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاس))[الإسراء:60] فُتنوا كما فتن بعض دعاة الإيمان، وكذلك المُشْرِكُونَ الذين فتنوا بها.
    فبعض الْمُشْرِكِينَ ازداد بعداً عن الإيمان لما سمع بقصة الإسراء والمعراج، لأن موضوع النهي عن عبادة الأصنام لأنها حجارة لا تضر ولا تنفع كل هذا كلام عقل، لكننا الآن دخلنا في متاهة أخرى وهي موضوع السماوات، فازداد بُعداً عن الإيمان، ومن ضعاف الإيمان من كَانَ قد أعلن إسلامه، فلما جاءت هذه الحادثة تركه وتخلى عنه، وهَؤُلاءِ المعتزلة وأمثالهم الذين أخذوا يمارون ويجادلون في مسألة الإسراء والمعراج، فحكمهم -إذا أقمنا الحجة عليهم- أنهم يكفرون بعد ذلك، وهذا هو القول الذي لا يجوز العدول عنه إِلَى قول آخر.
    لكن مبدئياً نقول: إن من أنكر المعراج، أو تأوله بأنه بالروح أو غير ذلك بناءً عَلَى أن العقل ينفيه، نستطيع أن نطلق عليه الضلال، لأن كلمة الضلال تشمل الكفر ولا تقتضيه بالضرورة، فالضلال يطلق عَلَى الخروج عن الطريق المستقيم عامة، فيدخل فيه الكفر وقد لا يقتضيه بالضرورة، فقد لا يكون الإِنسَان كافراً وإن كَانَ ضالاً، وكذلك الفسق، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ((إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ))[البقرة:34] وفي آية: ((فَفَسَقَ)) [الكهف:50].
    إذاً: الفسق قد يطلق عَلَى معنى الكفر، ((فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه))[الكهف:50] أي: كفر به وخرج عنه، والخروج عن أمر الله قد يكون خروجاً كلياً وقد يكون خروجاً عن الاتجاه المستقيم إِلَى البدع والضلالات، ومن أطلق عليهم الضلال، فإنه لا يعني أنه ينفي عنهم الكفر،
    لكن أطلق عليهم أو حكم عليهم بالحكم الذي يرى أنه قد يعفيه من تبعة إقامة الحجة، وهم بلا شك عَلَى ضلال، لكن إذا محصت الأدلة، وقامت الحجة، فإن من ينكر الإسراء والمعراج أو أحدهما يكون كافراً.

    فـالجهمية وبعض المعتزلة قد ينكرون المعراج، لكن غالبهم أو بعضهم يثبت الإسراء، لأنه جَاءَ في القرآن. ثُمَّ يؤول المعراج بأنه كَانَ في المنام، أو أنه بالروح، أو ما أشبه ذلك، لدلالة أن العقل يمنع أن بشراً يخترق هذه السماوات ثُمَّ يعود في ليلة، هذه شبهتهم وهذا دليلهم، كما أولوا العلو بنفس الاستدلال. وقد بينا أن المسألة إذا كانت مجادلة بالعقل، فالمُشْرِكُونَ أيضاً جادلوا، وأنكروا الإسراء والمعراج وَقَالُوا: هذا غير معقول، كيف نضرب إليها أكباد الإبل في الشهر أو الشهرين، ويبلغها في ليلة. وهذه هي شبهة المعتزلة نفسها، أمر مستحيل لا يمكن أن يقع.
    حقيقة النبوة براهين يُصدِّقُ بعضها بعضاً، فالسحرة الذين ناظروا موسى عَلَيْهِ السَّلام وبارزوه تلك المبارزة العظيمة، فجاءوا بشيء في أول الأمر -أن الحبال والعصي تسعى وتتحرك- فسحروا أعين النَّاس بها، وظن النَّاس أنها حق، حتى أن موسى عَلَيْهِ السَّلام خاف، وهو الذي جَاءَ بأمر من الله وواثق من الله، ومتأكد من صحة نبوته وصدق آيته التي أعطاه الله.
    كما قال الله تعالى:((فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)) [طـه:67] فلما ألقى العصا قال الله تعالى: ((فَأَلْقَى مُوسَى عَصاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ))[الشعراء:45] فذهب الزيغ وانكشف الباطل، فالذي لا يريد أن يقر بهذه ليس مقراً بنبوة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من يريد أن يعرض كل شيء عَلَى عقله وعلى فكره وعلى رأيه! إذاً فنقول له: أنت ما آمنت بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمنت بما قاله أفلاطون وأرسطو وجعلته حكماً ومعياراً لما جَاءَ به النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    1. ملاحظات حول بعض ما كتب في الإسراء والمعراج

      ما وقع فيه بعض النَّاس من أخطاء في موضوع الإسراء والمعراج في الكتب وغيرها كثير، كثيرة، ولكنني اخترت كتاباً اسمه الإسراء والمعراج، إعداد وتقديم رياض العبد الله وهو أعده من كلام الشيخ مُحَمَّد الشعراوي، وفيه بعض الأخطاء بلا شك، منها نفس الكلام الذي ذكره الشيخ مُحَمَّد الغزالي، وهي من تعليقات رياض العبد الله فيه (وكلمة البراق يشير اشتقاقها من البرق، أي: أن قوة من الكهرباء قد سخرت في هذه الرحلة العجيبة والخارقة لقوانين البشر، ولكن كيف تم ذلك والجسم في حالته المعتادة يتعذر عليه النقل في الآفاق بسرعة البرق الخاطف.
      إذاً: لا بد من أن يكون هناك إعداد خاص يحصن أجهزته ومكان لهذا السفر البعيد، ولتلك السرعة الخارقة وما أحسب أن ما روي من شق صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغسل القلب وحشوه إنما هو رمز لهذا الإعداد المحفوظ) هذا نفس كلام الشيخ مُحَمَّد الغزالي في فقه السيرة.
      والشيخ الشعراوي ينفي أن يكون هناك زمن لحالة المعراج العملية فهو لم يستغرق أي زمن.
      يقول: (وكما يقولون: إن المسافة تتناسب مع القوة تناسباً عكسياً فكلما ازدادت القوة قصرت المسافة، والقوة التي فعلت هي قوة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فنجد عندئذٍ أن النتيجة لا زمن فعندما يأتي شخص ويقول لك ما دام أنه لا زمن، فلماذا أخذ ليلة للرحلة؟ نقول له: هناك فرق بين حدث الإسراء في ذاته كنقله، وبين مرائي تعرض لها الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      فالرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين تعرض لمرائي رآها هو ببشريته وبقانونه فالمرائي المشاهد التي تعرض لها هي التي احتاجت للزمن، أما النقلة ذاتها فلا تحتاج إِلَى زمن، لأنها محمولة عَلَى قانون ليس يتحكم فيه الزمن. فالذين ناقشوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم جماعة يعطون صورة من عقلهم بأنهم قارنوا مقارنة غير موضوعية) ونفي الزمن سواء في الانتقال بالبراق إِلَى بيت المقدس أو إِلَى السماء هذا معنى كلامهم.
      وليس هناك ما يستدعي، أننا ننفي الزمن نهائياً لكي نبرهن ونثبت للمشركين أن الإسراء والمعراج ممكن، وأن مقارنتهم كانت غير موضوعية، فما المانع في أن تكون المسافة إلى بيت المقدس شهراً، وتكون فرضاً دقيقة أو عشر ثوانٍ عَلَى البراق؟
      حقيقةً ليس هناك أي دليل، ولا يجوز القول في أي مسألة بغير علم، وهذه المسألة تشكل عَلَى الذين يدرسون النظريات الحديثة التي تتعلق بموضوع الزمن، فالشيخ هنا فيما يبدو تأثر بالنظرية التي تسمى "النسبية العامة" التي تحدث عنها إنشتاين، يقول إنشتاين: "إنه ما دام أن سرعة الضوء ثلاثمائة ألف كيلو في الثانية إذاً الضوء عندما ينتقل في مسافة تعدل قطر الأرض -مثلاً- فهذه العملية تمت في ألاّ زمن"
      والمقصود من كلامه هذا ليس إنكار وجود الزمن، وإنما المقصود السرعة العظيمة ليبرهن عَلَى سرعة الضوء العجيبة، وأنها تنتقل في سرعة لا يمكن أن نقيسها بمعيارنا الزمني الذي نتعارف عليه، فهذا شيء لا يدل عَلَى نفي الزمن في الواقع، بل نفس نظرية النسبية التي اشتهر بها إنشتاين وهي: "النسبية العامة، والنسبية الخاصة".
      فالنسبية العامة: أضافت إِلَى الأبعاد الثلاثة، البعد الرابع: وهو الزمن، فالنظرية مركبة عَلَى قضية الزمن، وعلى إثبات الزمن، لكن فحوى النظرية أن الزمن المعهود لنا يتلاشى مع هذه الأبعاد الهائلة مع سرعة الضوء. فأرقامنا وأحاسيسنا وشعورنا هو في حدود عالمنا الذي نعيش فيه، هذا بالنسبة لعالمنا، لكن بالنسبة إِلَى الكون: الأمر أكبر من أن نستطيع أن ندركه أو أن نفكر فيه، فمثلاً: لو مرت سيارة فإنك تستطيع أن تراها، مهما كانت سرعتها ولو مرت طائرة فإنك أيضاً تستطيع أن تراها في مسافة معينة، لكن لو تضاعفت سرعة الطائرة حتى صارت مثل سرعة الضوء فلا تستطيع أن تراها لأن رؤيتك للشيء تحتاج إِلَى زمن ولو ثانية.
      وسرعة الضوء في الثانية ثلاثمائة ألف كيلو، هذا مجرد الأفق الذي أمامك، فهو لا ينفى الزمن، وإنما يقول: إن الزمن نسبي، فبالنسبة لنا الزمن شيء، وبالنسبة إِلَى ما عدانا شيء آخر، فعلى هذا لا نستطيع أن ننفي الزمن بلا دليل عندنا، وكما جَاءَ في الأحاديث أن الله تَعَالَى بين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرج به في أول الليل، ثُمَّ عاد في آخره، وحصلت هذه المشاهد.
      القضية الأخرى: وهي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بثلاث مراحل، يقول رياض العبد الله صـ51: "إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه المسألة تعرض لثلاث مراحل، المرحلة الأولى: كَانَ بشراً وجبريل عَلَيْهِ السَّلام يعرض عَلَى مُحَمَّد الأشياء، ثُمَّ يقول: ما هذا يا جبريل فَيَقُولُ: هذا كذا وهذا كذا، وجبريل يعرف أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراها فيسأل عنها جبريل، المهم أن هذه حالة البشرية.
      المرحلة الثانية: لما صعد في السماء كَانَ يرى المرائي فلا يستفهم جبريل عنها ويسمع فيفهم إذاً: فقد تحول شيء في ذاتية مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لم يذكرها لكنه ربما نواها- وأصبحت له ذاتية فاهمة بلا واسطة جبريل عَلَيْهِ السَّلام، وهذه الحقيقة ليس لها أساس عند تأمل الحديث، فالقضية واحدة فهو يسأله في الطريق كلها، يقول: (أصبحت له ذاتية فاهمة بلا واسطة جبريل عَلَيْهِ السَّلام ورائية بلا واسطة أحد -أي: فاهمة ورائية من غير واسطة- ففي الأرض إرائة وأما في السماء فقد رأى بالرؤية، ثُمَّ بعد ذلك نجد أنه بعد أن انتقل إِلَى مرحلة يكون فيها ملائكياً كالملائكة فهو يراهم، ويتكلم معهم، ويخاطبهم ويفهم منهم).
      المرحلة الثالثة: ويدخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرحلة ثالثة فوق مرحلة الملائكية.
      يقول: (يزج بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبحات النور، ولم يكن جبريل معه، وهذا دليل عَلَى أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ارتقى ارتقاءً آخر، ونُقِلَ من ملائكية لا قدرة لها عَلَى ما وراء سدرة المنتهى، إِلَى شيء من الممكن أن يتحمل ما وراء سدرة المنتهى، ودون مصاحبة جبريل عَلَيْهِ السَّلام.
      إذاً فسيدنا مُحَمَّد كَانَ بشراً في الأرض مع جبريل وبعد ذلك كانت له ملائكية مع الرسل ومع جبريل في السماء، وبعد ذلك كَانَ له وضع آخر ارتقى به من الملائكية حتى أن جبريل نفسه يقول له: أنا لو تقدمت لاحترقت، وأنت لو تقدمت لاخترقت... إلخ).
      وهذا الكلام ليس عليه أي دليل من الأحاديث ولا من الآيات عَلَى الإطلاق بأن شخصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرت بثلاث مراحل، وتحولت ثلاث تحولات بشرية ثُمَّ ملائكية ثُمَّ أعلى من الملائكية
      ، لأن الأعلى من ذلك هو الألوهية، وقد يخطر ذلك عَلَى كثير من الناس، وهذا مما نهى عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو من الإطراء والغلو ونتيجة استخدام مجرد النظر والرأي والتفكير في أمر ليس هو موضع تفكير، وإنما هو موضع تسهيل وبحث في الأدلة، فنقرأ الأدلة ونؤمن بها ونصدق بما جاءت به، ولا نجعل الخيال يشطح ليتصور ويتفلسف من عنده دون أي دليل ولا برهان من كتاب الله ولا من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      والعجيب أن المقدم والمعد رياض العبد الله أراد أن يوثق الموضوع ويبرهن عَلَى كلامه من شجرة الكون للشيخ محيي الدين بن عربي، الذي ليس بحجة ولا يرجع إليه؛ لأنه كافر بإجماع كل من كتب عنه من أئمة الْمُسْلِمِينَ الموثوقين، فهو من أصحاب وحدة الوجود.
      يقول ابن عربي: (إنه يقول: يا مُحَمَّد إذا كَانَ العرش مشوقاً إليك فكيف لا أكون خادماً بين يديك، فقرب له مركبه الأول وهو البراق إِلَى بيت المقدس، ثُمَّ المركب الثاني وهو: المعراج إِلَى السماء الدنيا، ثُمَّ المركب الثالث وهو: أجنحة الملائكة من سماء إِلَى سماء، وهكذا إِلَى السماء السابعة، ثُمَّ المركب الرابع وهو: أجنحة جبريل عَلَيْهِ السَّلام إِلَى سدرة المنتهى، وهنا تخلف جبريل عَلَيْهِ السَّلام عند سدرة المنتهى، فقَالَ: يا جبريل نَحْنُ الليلة أضيافك، فكيف يتخلف المضيف عن ضيفه أهاهنا يترك الخليل خليله، فقَالَ: يا مُحَمَّد أنت ضيف الكريم ومدعو القديم، ولو تقدمتُ الآن بقدر أنملة لاحترقت، كقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:((وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ))[الصافات:164]).
      ثُمَّ قَالَ: (قال: يا جبريل إذا كَانَ كذلك ألك حاجة؟ قَالَ: نعم، إذا انتهى بك الهوج حيث لا منتهى، وقيل لك: ها أنت وها أنا، فاذكرني عند ربك، ثُمَّ زج به جبريل عَلَيْهِ السَّلام زجة فخرق سبعين ألف حجاب من النور... إلخ) وهذا الكلام كله لا دليل عليه، والآية: ((وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ))[الصافات:164] أي: الملائكة، كما في تفسير ابن كثير أو الطبري فكل ملك من الملائكة له مقام معلوم، فما من موضع شبر في السماء إلا وفيه ملك راكع أو ساجد، كما أمرهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فالحفظة لهم مقام معلوم، والكرام الكاتبون لهم مقام معلوم، والكربيون لهم مقام معلوم، والذين يوكلون بالغيث والقطر والجبال لهم مقام معلوم، وكل منهم له مقام معلوم.

      وإنما أحببنا أن ننبه إِلَى مثل هذه الأخطاء لشيوعها وانتشارها ولكثرة من سأل عنها من الإخوان.