المادة كاملة    
كثيرة هي الشبهات التي استدل بها أبو حنيفة ومن تبعه من مرجئة الفقهاء على قولهم في أن الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب وأن الإقرار باللسان ركن زائد في الإيمان وليس ركناً أصلياً فيه. وقد رد أهل السنة على جميع تلك الشبه في كتبهم وبينوا خطأ من قال بتلك الأقوال وآثارها وأخطارها في الأمة.
  1. أدلة أصحاب أبي حنيفة في مسمى الإيمان وحقيقته

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فقد قال ابن أبي العز: (فمن أدلة الأصحاب لـأبي حنيفة رحمه الله: أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق) -وهذه هي الشبهة الأولى- (قال تعالى خبراً عن إخوة يوسف: (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ))[يوسف:17]، أي: بمصدق لنا، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك، ثم هذا المعنى اللغوي) -وهو التصديق بالقلب- هو الواجب على العبد حقاً لله -وهذه هي الشبهة الثانية- وهو أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله، فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا. هذا على أحد القولين كما تقدم -وهذه هي الشبهة الثالثة- ولأنه ضد الكفر، وهو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب، فكذا ما يضادهما، وقوله: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106]، يدل على أن القلب هو موضع الإيمان، لا اللسان، ولأنه لو كان مركباً من قول وعمل -وهذه هي الرابعة- لزال كله بزوال جزئه، ولأن العمل قد عطف على الإيمان -وهذه شبهة العطف- والعطف يقتضي المغايرة، قال تعالى: (( آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[البقرة:25] وهي الخامسة في البقرة وغيرها في مواضع من القرآن.
    إذاً: هذه الخمس الشبهات أو الأدلة:
    فأولاً: اللغة.
    ثانياً: أن المعنى اللغوي وهو مجرد التصديق بالقلب هو المطلوب، وأن النطق مجرد شرط لإجراء الأحكام أو علامة.
    ثالثاً: أنه يعرف بنقيضه وضده، فالكفر لما كان هو التكذيب والجحود -في نظرهم- فيكون الإيمان هو مجرد الإقرار والتصديق.
    رابعاً: أننا إذا قلنا: بالتركيب، أي: أن الإيمان مركب من قول وعمل؛ فإنه يزول كله بزوال جزئه، وقد تحدثنا أيضاً عن موضوع التركيب، وقولهم: إن المركبات تزول أسماؤها بزوال أجزائها.
    خامساً: هو أشبه ما يكون باللغة أيضاً أي: يكاد أن يكون استدلالاً لغوياً، ألا وهو العطف، إذ إن الله تبارك وتعالى عطف العمل على الإيمان في آي كثيرة من القرآن، فقال تعالى: (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ويقولون: إن العطف في اللغة للمغايرة، فالمعطوف غير المعطوف عليه، وعلى هذا يكون العمل غير الإيمان.
  2. الرد على شبهات وأدلة أصحاب أبي حنيفة رحمه الله

     المرفق    
    ثم شرع الشيخ في الرد عليهم، وهذا الرد عبارة عن اختصار شديد ولكنه غير مخل، فقال رحمه الله: [وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق بمنع الترادف بين التصديق والإيمان، وهب أن الأمر يصح في موضع، فلم قلتم: إنه يوجب الترادف مطلقاً؟ وكذلك اعترض على دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان، ومما يدل على عدم الترادف أنه يقال للمخبر إذا صدق: صدقه، ولا يقال: آمنه، ولا آمن به، بل يقال: آمن له، كما قال تعالى: (( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ))[العنكبوت:26]، وقال: (( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ ))[يونس:83]، وقال تعالى: (( يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ))[التوبة:61]، ففرق بين المعدّى بالياء والمعدَّى باللام، فالأول يقال للمخبر به، والثاني للمخبر، ولا يرد كونه يجوز أن يقال: ما أنت بمصدق لنا؛ لأن دخول اللام لتقوية العامل، كما إذا تقدم المعمول، أو كان العامل اسم فاعل، أو مصدراً، على ما عرف في موضعه. فالحاصل أنه لا يقال قط: آمنته، ولا صدقت له -كلمة (قط) نفي للمستقبل، وهي الأفصح في اللغة من (أبداً) وإنما يقال: آمنت له كما يقال: أقررت له، فكان تفسيره بأقررت أقرب من تفسيره بصدقت، مع الفرق بينهما، ولأن الفرق بينهما ثابت في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب، يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال له: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدقت. وأما لفظ الإيمان، فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب، فيقال لمن قال: طلعت الشمس: صدقناه، ولا يقال: آمنا له، فإن فيه أصل معنى الأمن، والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب فالأمر الغائب، هو الذي يؤتمن عليه المخبر، ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ: آمن له، إلا في هذا النوع. ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق، وإنما يقابل بالكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك؛ لكان كفراً أعظم، فعلم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، ولا الكفر هو التكذيب فقط]. ولعل الأحسن أن يقال بدل (لكان كفراً): لكان كفره؛ لأنه يتحدث عن واحد، فيفترض أنه قال: لا أكذبك، ولكن أعاديك وأخالفك، فيكون: لكان كفره، أي: هذا القائل أعظم من لو لم يقلها، ثم قال رحمه الله: [بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب، فكذلك الإيمان يكون تصديقاً وموافقة وموالاة وانقياداً، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان. ولو سلم الترادف، فالتصديق يكون بالأفعال أيضاً، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع ) إلى أن قال: ( والفرج يصدق ذلك ويكذبه ). وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: [ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال] ]<\m>، ولو كان تصديقاً فهو تصديق مخصوص كما في الصلاة ونحوها كما تقدم، وليس هذا نقلاً للفظ ولا تغييراً له، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص، وصفه وبينه، فالتصديق الذي هو الإيمان أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام، فلا يكون مطابقاً له في العموم والخصوص من غير تغير اللسان ولا قلبه] وفي نسخة: [من غير تغيير للبيان ولا قلبه]. ولعل هذا أقرب، وعلى كل حال: البيان أو اللسان المقصود واحد، من غير تغيير للمعنى اللغوي أو القلب له. قال رحمه الله تعالى: [بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق، ولأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فإن هذه من لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم. ونقول: إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة، وتخرج عنه أخرى، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة، ولكن الشارع زاد فيه أحكاماً، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية، مجاز لغوي، أو أن يكون قد نقله الشارع، وهذه أقوال لمن سلك هذا الطريق]. هذا ملخص أو موجز لما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق بمنع الترادف بين التصديق الإيمان، وأنه لو صح الترادف في مواضع فإنه لا يشمل المواضع كلها. ثم ذكر التمييز بين الإيمان والتصديق من جهة المعنى، وهو بماذا يوصف المخبر إذا أخبر بخبر وصدق القائل به؟ فإنه يقال: صدقه، ولا يقال: آمنه، وهذا أيضاً فرق في اللغة. ثم تعرض لموضوع الفرق بين المتعدي بالباء والمتعدي باللام وهو تكملة لهذا، وبين لماذا أحياناً يكون المتعدي باللام، في غير بابه وفي غير موضعه؟ وقلنا: هذا يكون بتقوية العامل، فإذا ضعف العامل إما لكونه اسم فاعل، أو مصدر والمصادر أسماء، أو لتأخره، أو لتقدم المعمول وتأخر العامل. ثم بين بأننا إذا أردنا أن نصف أو نقرب معنى الإيمان من الناحية الشرعية إلى اللغة لكان أقرب كلمة لغوية هي: الإقرار، فالإقرار أقرب من كونه مجرد تصديق. وأيضاً ذكر مسألة الفرق من جهة أن الإيمان يخبر به عن الغائب، وأما ما كان محسوساً -يدرك بالحسن- فإنما يقال: صدقناه، وذكر أمثلة ومنها: إذا قال رجل: طلعت الشمس، أو قدم فلان، أو مات فلان، فإننا لا نقول: آمنا به؛ لأنه ليس غيباً، وإنما هو من عالم الشهادة، وإنما يقال: قال كذا فصدقناه، أما في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فنقول: أخبرونا عن كذا فآمنا به؛ لأنه غيب لا يمكن أن نصل إليه بعقولنا وإدراكنا، وليس لمعرفته سبيل إلا الخبر الصادق، والخبر الصادق يأتي عن طريق الأنبياء وعن طريق الوحي فنقول: آمنا به، والخبر الكاذب يأتي عن طريق الكهان وإلقاء الشياطين وما يشبه ذلك. والحاصل: أن عالم الغيب لا يمكن أن نصل إليه إلا من خلال هذين الطريقين: إما طريق اليقين والحق، وهو طريق الأنبياء، وإما طريق الكذب والافتراء والزيادة والنقص، وهذا ما يأتي به الكهان ومسترقو السمع، وما توسوس به الشياطين للشعراء، ولأصحاب السجع، والغالب أن السجع في الجاهلية كان مقترناً بالكهانة، وإلا فمن العرب من يخطبون ومن يسجعون وغير ذلك، ولهذا كان في القرآن الحديث عن تمييز الوحي من كلام الكهان والشعراء، فإذا تميز الوحي عن هذين فقد تبين أنه الحق، ((وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ))[الحاقة:41]، ((وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ))[الحاقة:42] وما أشبه ذلك، كما في آخر سورة الشعراء: (( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ))[الشعراء:221-222]، فبين أن المصدر للإيحاء الباطل هو الشياطين، والشياطين: (( تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ))[الشعراء:222-223]، ثم بين: (( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ))[الشعراء:224] فالعاقل المستبصر يعلم علماً يقينياً صدق ما جاء به الأنبياء، ولذلك من أعرض عن علم الغيب أو عن الوحي فلا بد أن يأخذه عن طريق إلقاء الشياطين، وما يسمونه في العصر الحديث: الإيحاء الذاتي أو الحبس، وكل ذلك من هذا؛ لأن الإنسان كما يتخيلون ويظنون أنه يمر بتجربة روحية، فتحدث له خيالات وتأملات ورؤى، فيظنون أنه بهذا قد عرف شيئاً من الأمور الغيبية أو علم الباطن أو ما أشبه ذلك، وهذا يدعيه البوذيون والهندوس ورهبان النصارى ، وكذلك المتصوفة من المسلمين، فكل هؤلاء يعتمدون في المعرفة على هذا الجانب، ونحن نعلم أن هذه مهما كثرت وتنوعت فإن مصدرها واحد، وهو الإيحاء الشيطاني، فالقلب إذا فرغ عن ذكر الله أصبح كالبيت الخرب غير المسكون، فيكون محلاً للشياطين، وخراب القلوب هو بخلائها عن ذكر الله تبارك وتعالى، وإعمار القلوب هو بذكر الله تعالى، وبقراءة القرآن، والأدعية التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما عالم الشهادة فله وسائل كثيرة لمعرفته، وكل ما يمكن معرفته من عالم الشهادة يقال فيه للمخبر: صدقناه، ولا يقال: آمنا به، أما لو أن أحداً صدق الكهان -مثلاً- قلنا: هذا يؤمن بالكهانة، يؤمن بالدجل، يؤمن بالخرافة، وكذلك لو صدق النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: هذا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا شيء وذاك شيء آخر. وأما الشبهة الثالثة فهي: لأنه ضد الكفر وهو التكذيب والجحود، وهي التي رد عليها بقوله: (ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب) وقد تقدم أيضاً شرحها (كما يقابل لفظ التصديق، وإنما يقابل بالكفر)، فمقابل الإيمان هو الكفر، ومقابل التصديق هو التكذيب، وهذا يدل على اختلاف المعنى بينهما.
  3. الرد على شبهة من زعم بأن القلب هو موضع الإيمان

     المرفق    
    وأما الشبهة التي تقول: إن قول الله تبارك وتعالى: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106] يدل على أن القلب هو موضع الإيمان، فنقول: إن الآيات التي تدل على هذا كثيرة، ومنها قوله تعالى: (( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ))[المجادلة:22]، وقوله تعالى: (( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ ))[الحجرات:7]، فذكر في الآيات: كتب، وطمئن، وحبب، القرآن هو الأساس، فمن آتاه الله تبارك وتعالى فهماً لمعاني القرآن، أو استعان على ذلك بكتب التفسير؛ فإنه يجد فيه من الخير والإيمان واليقين والطمأنينة ما لا يجده في كلام أحد من البشر، فإن اضطر إلى أن يفهمه -ولا بد أن نضطر إليه باعتبار اللغة- فلنأخذ أول ما نفهم ذلك، ونستزيد في المعرفة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم من كلام السلف وما فسروا به القرآن، وهذه وصية يجب أن نتواصى بها دائماً، أي: ليكن القرآن هو الأساس في حياتنا، وفي علمنا، وفي اطلاعنا، وفي إيماننا، وفي يقيننا، ولنعلم أنه ما من شبهة -كما قال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما-: يأت بها ملحد أو كافر أو ضال إلا وجوابها في كتاب الله، علمه من علمه وجهله من جهله، وسواء شبهات النصارى أو الروافض أو الخوارج أو الفلاسفة أو الباطنية أو المرجئة أو غيرها، ولكن من الذي يفقه القرآن؟ من الذي يتدبر القرآن؟ من الذي يتأمل ما يقرأ؟ ولذلك العامي من المسلمين الذي لا يقرأ ولا يكتب، لكن يعرف شيئاً من لغة العرب، فإنه يفهم القرآن إذا قرأه، ولو شيئاً من الفهم، بل ويزداد إيمانه، حتى لو لم يفهم ما معنى هذه الآيات، وما هو تفسيرها، وما هي الأحكام المستنبطة منها، فإن إيمانه يزداد، والمهم والأساس هو الإيمان، وليس مجرد زيادة أحكام أو تفريعات أو مسائل، فهذه أمور تبعية، والتدبر والتأمل لا بد أن يورث زيادة الإيمان في قلب العبد، وتأمل خطيب الجمعة الذي يأتي بأبلغ العبارات وأقواها، ويأتي أحياناً بالأشعار والأخبار وغيرها، فإن أكثر الناس من العامة الذين لا يفقهون هذه العبارات وهذه المعاني، وهذه التشبيهات وهذه المجازات -كما يسمونها- وما أشبه ذلك، إذ إنها أمور تبعية، لكن لو أنه قرأ آية فإنه يفهمها، فهل هناك أفضل وأعظم من ذلك أن نعلم الناس كلام الله؟ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة بـ (ق)، فالقرآن هو مصدر المعرفة واليقين والإيمان، فيجب أن يكون كذلك في حياتنا، ثم تكون السنة شارحة له ومفسرة، ثم كلام السلف الصالح والأئمة العلماء الموثوق بعلمهم، وأخيراً ما يكمل ذلك من كلام -مثلاً- لأهل الأخلاق، أو حكم أخلاقية أو عبر أو ما أشبه ذلك، فهذه تأتي في الأخير، من شعر الشعراء، ومن خطب الخطباء، أما أن نقدم المؤخر ونؤخر المقدم، فهذا شيء لا يليق، فالمقصود أننا نراجع هذه المواضع ثم نفهم تفسيرها، وإذا فقهنا ذلك فهو خير كبير، فالله تبارك وتعالى جعل القلب موضع الطمأنينة والكسب للإيمان وتزيين الإيمان، وبالمقابل أيضاً الكفار، فجعل القلب موضع إنكارهم وجحودهم وكفرهم وتكذيبهم واستكبارهم.. إلخ.
  4. الرد على من زعم بأن الكفر مقابل التصديق لا الإيمان

     المرفق    
    فهل يدل هذا على أن الإيمان لا يوجد إلا في القلب كما تقول المرجئة ، ولا علاقة له باللسان والجوارح؟ لا، إنما يدل على أن القلب هو موضع الإيمان الأصل والأهم، وما عداه فرع، أما أنه لا يوجد إيمان إلا ما كان في القلب فهذا لا يدل عليه ذلك، ولا يوجد شيء في اللفظ يقتضي ذلك، فهنا يرد على هذه الشبهة بهذا الدليل، أي: الدليل الذي واقع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ينطق به ويصرح به، وهو لو أن رجلاً قال لأي نبي -ولنفرض أنه قال لنبينا صلى الله عليه وسلم-: أنا أعلم أنك صادق، وأعلم أنك نبي، ولكني لا أتبعك، وقد يقول: بل أعاديك وأبغضك، وقد لا يقولها، فماذا يكون حكمه؟ يكون كافراً، إذاً الكفر ليس مقابل التصديق كما يظنون، وإنما هو مقابل للإيمان، وقد حدث هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود ، ومن بعض كفار قريش، فإنهم ما كذبوه، قال تعالى: (( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ))[الأنعام:33] فالكفر له أسباب غير التكذيب، فمن الناس من يكفر حسداً وبغياً، قال أبو جهل : كنا وبنو عبد مناف كفرسي رهان، سقوا فسقينا -التنافس الجاهلي- وأطعموا فأطعمنا، حتى قالوا: منا نبي، فأنى لنا بنبي؟! فكفروا به حسداً وبغياً.
    وكذلك هرقل ما منعه من الإيمان إلا حب الدنيا، فقد جمع البطارقة وكبار رجال الدين وقال: إن نبي آخر الزمان قد بعث، وهذا كتابه، فما رأيكم لو أسلمنا وآمنا به؟ فحاصوا حيصة إلى الأبواب يريدون أن يهربوا، أي: خافوا أن يؤمن ومن كفر منهم يقتله، فلما رأى ذلك منهم قال: إنما فعلت ذلك لأختبركم، وأعادهم وبقي على كفره والعياذ بالله، فهذا نوع آخر وهو إيثار الدنيا، وكثير من الخلق ما يمنعهم من قبول الحق إلا إيثار الدنيا -والعياذ بالله- ويخشى لو آمن لفقد دنياه، وهذا حال كثير من الكبراء، بل لهذا كان الذين يصدون عن دعوات الإيمان من الأنبياء أو من المصلحين والمجددين هم الكبراء وأصحاب الشأن، كما في القرآن: (( قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ))[الأعراف:60]، أي: كبار القوم في كل زمان ومكان، وكذلك كبار الروافض و الخوارج أكثر من يعادي أهل السنة ، وأيضاً أحبار اليهود ، لكن قد تجد من عوام اليهود أو النصارى من يؤمن ويدخل في هذا الدين من أن يدخل فيه أحد كبارهم إلا من تجرد لله، لكنه قليل كما فعل عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، والناس يعظمونه؛ لأنه حبر من أحبار يهود، أو أنه كما يسميه الروافض : آية الله فلان، ولو صار من أهل السنة لعد من الأتباع.
    وكذلك الحسد، إذ إن أهل الكتاب عموماً كما ذكر الله تبارك وتعالى عنهم أنهم يحسدون هذه الأمة على الدين، ويعترضون لم اختص الله تعالى هذه الأمة بهذه الفضائل والميزات؟ فرد الله تبارك وتعالى عليهم في غير موضع من القرآن من أن الله سبحانه وتعالى يختص برحمته من يشاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكان في ذلك رد على اليهود الذين يرون أنهم شعب الله المختار، وأنهم أولى بأن تكون النبوة فيهم، وبالتالي فالكفر قد يجتمع مع التصديق -وهذا هو الشاهد- بأن يقر ويصدق، ولكنه ينازع ويعارض ويحارب ويرفض الانقياد التام.
    يقول رحمه الله: (بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب أيضاً، فكذلك الإيمان يكون تصديقاً وموافقة وموالاة وانقياداً) ولو أن أحداً قال: آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم، لكنه ظل موالياً لليهود أو للنصارى ، فهل يكون مؤمناً حقاً؟ لا يكون كذلك، ولذلك ما الذي فعله عبد الله بن أبي وعلم به نفاقه؟ الآيات التي أنزلها الله تبارك وتعالى في سورة المائدة: (( نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ))[المائدة:52]، فـعبد الله بن أبي إلى الآن لم يفكر ولم يستوعب أن الله سينصر هذا الدين، فيقول: أربعمائة دارع، وثلاثمائة حاسر، تحصدهم في غداة واحدة يا محمد! إني امرؤ أخشى الدوائر، أي: أخشى أن نتعرض لأزمة أو نكبة في المستقبل، فمن أين لي من أقاتل به من الحلفاء؟ ما عندي إلا هؤلاء اليهود، إذاً هو في نفسه يتوقع أن هذا الدين ربما ينتهي، أو ربما أن قريشاً ستقتل محمداً، فأرجع إلى ما كنت عليه، وعند ذلك أحتاج الحلفاء فلا أجدهم؛ لأنك قد قتلتهم، فهذا الظن السيئ بالله تبارك وتعالى، وبمستقبل هذا الدين، كشف الله تعالى به موالاة المنافقين لهؤلاء اليهود الكافرين، وبذلك علم أنهم وإن أظهروا الإيمان بألسنتهم فإنهم غير مؤمنين بقلوبهم، ولهذا يقول الله تعالى: (( فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ))[المائدة:52]، فهذا ما حدث والحمد لله، فقد جاء الفتح، وجاءت الانتصارات في بدر والأحزاب، ثم أظهر الله تبارك وتعالى هذا الدين، ومات المنافقون بالخزي والندامة، وكذلك من والاهم من الكفار -من نجى من سيف المؤمنين- فإنه مات بالندامة والذل والخزي والصغار والجزية، كما حدث لآخر اليهود وهم يهود خيبر .
    إذاً لا بد -هذا جانب عظيم من جوانب الإيمان يراد أن يهدم- في الإيمان من موالاة المؤمنين، والانقياد والإذعان والتسليم لله تبارك وتعالى في حكمه الشرعي ما يحل وما يحرم، وفي حكمه القدري، فكل ما يقضي ويقدره الله تبارك وتعالى فنحن نؤمن به ونسلم ولا نعترض عليه أبداً، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزءاً من مسمى الإيمان، وهذا قد تقدم بيانه أكثر من مرة.
  5. بيان أن التصديق يكون بالأفعال

     المرفق    
    قال: ولو فرضنا -وهذا أيضاً موجز من كلام شيخ الإسلام - أننا قلنا: بالترادف، فإن التصديق يكون بالأفعال، وهذا من ناحية اللغة، فلم تقولون: إن التصديق لا يكون إلا في القلب أو باللسان أو بالقول؟ نقول: إن التصديق يكون بالأفعال، وذكر الشيخ هنا ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله هناك من ذكر الحديث الصحيح المتفق عليه، وذكر الآثار عن السلف، واقتصر الشيخ هنا على أثر الحسن البصري رحمه الله تعالى، والحديث معروف وهو قوله صلى الله عليه وسلم في آخره: ( والفرج يصدق ذلك أو يكذبه )، فالتصديق كما يكون بالأقوال يكون أيضاً بالأفعال، والأثر قد تقدم شرحه.
    ثم لو فرض وقيل: الإيمان هو التصديق، فيقال: أي تصديق هو؟ أهو ما كان في لغة العرب فقط بلا زيادة؟ نقول: لا، إنه تصديق مخصوص، وذكر كما تقدم: الألفاظ التي مثل: الصلاة، والجهاد، والنفاق، وأشباهها من الألفاظ التي كانت في لغة العرب، ثم جاء الإسلام لها بمعان جديدة، فهل يقال: إن الشارع نقلها وغيرها، أم يقال: إنه خصصها وقيدها، أم يقال: إنه استعملها مجازاً إلى غير ذلك مما ذكره الشيخ هنا؟
  6. بيان أن الإيمان في كلام الشارع مؤلف من العام والخاص

     المرفق    
    والجديد في كلام الشيخ قوله: بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف عند المناطقة بأنه: حيوان ناطق، وهذا التعريف معترض عليه عقلاً وليس فقط شرعاً، لكن المقصود أنهم يقولون: إن حقيقة الإنسانية عند المناطقة هي اجتماع أمرين: الحيوانية، والناطقية، فـ(حيوان) جنس، و(ناطق) فصل، واجتماع الجنس والفصل به يكون التعريف، والجنس أعم شيء، فحيوان عام يعم كل ذي حياة، والفصل هو الذي يحدد المميز الذاتي وهو الناطقية، فالإنسان يختلف عن غيره من الحيوان، ويتميز بالناطقية مع اتفاقه معهم في الحيوانية، والمقصود بالنطق هو الفكر وليس فقط الكلام، إذاً يا من تدرسون علم المنطق تقولون: إن حقيقة الإنسانية هي باجتماع الجنس والفصل -العام والخاص- فلو عرفنا الإنسان وقلنا: إنه حيوان، قلتم هذا التعريف باطل؛ لأنه تعريف بالجنس فقط ولا يكفي ذلك، وبالتالي لا بد أن نقول: حيوان، ونضيف إليها: ناطق، وهذا على كلامهم وهو الشاهد، والمرجئة يقولون: إن الإيمان قول فقط، ولا يقولون: قول وعمل، فنقول: هذا مثل هذا، فلو قلنا: إن الإيمان قول لكان ذلك إخلالاً ونقصاً وخطئاً، وبالتالي لا بد أن نقول: الإيمان قول وعمل، وهذا هو المقصود به، أو لأن التصديق التام إذا وقع حقيقة في قلب العبد فإنه مستلزم ولا بد لأعمال الجوارح، ولو قال أحد: أنا مصدق تصديقاً حقيقياً كاملاً بيقين، لكان ذلك لا بد أن يستلزم عمل الجوارح والقلب؛ فإن هذه لوازم الإيمان التام، وانتقاء اللازم دليل على انتقاء الملزوم.
    وبالتالي إذا وجدنا من لا يطيع الله، ولا يمتثل أوامر الله، ولا يترك ما حرم الله، وقال: إن لدي إيمان في قلبي، فنقول: أين هذا الإيمان؟ إن انتقاء اللازم يدل على انتقاء الملزوم؛ لأنه إن وجد الإيمان فلا بد أن يظهر لازمه، ولنفرض أن الخلاف لفظي، وأننا نقول: الأعمال ليست داخلة في حقيقة الإيمان، فألستم تقرون على أنها لازمة لهم ولا بد، إذا وقع تاماً وكاملاً في القلب، ولو أن الأمر مجرد خلاف: هل يقال: إنها إيمان أو لازم إيمان لكانت لفظية، لكن المرجئة يخرجونها من الإيمان، وتقولون: يمكن أن يقع الإيمان تاماً وكاملاً بغير عمل الجوارح، ونحن نخالف في هذا ونقول: لا يمكن أبداً ولا يصح بحال، بل لا بد من تحقق القدر من العمل في الواقع، وذلك إذا كان القلب حقاً مشتملاً على الإيمان التام الكامل كما تدعون، وبمقدار ضعف العمل نعلم ضعف الإيمان، وبمقدار نقص العمل أو الإخلال فيه نعلم أن ذلك أثراً من آثار ما في الإيمان من نقص إلى آخره.
    ونقول: إن هذه اللوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة وتخرج عنه أخرى، وهذا امتداد لقوله في معنى التصديق: أنه هب أن الأمر يصح في موضع، فلم قلتم: إنه في كل المواضع؟ لنفرض أن هذه اللوازم لا تدخل أحياناً في مسمى اللفظ، لكنها تدخل أحياناً أخرى، فهي لوازم، سواء دخلت في مسمى اللفظ أو لا، ولو اتفقنا نحن وأنتم على هذا لظل النزاع مجرد نزاع لفظي، فهل يشملها اللفظ أو لا يشملها؟ لكن نقول أيضاً بالنسبة للعطف: لو فرض أن العطف للمغايرة، وأن قول الله تبارك وتعالى: (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[الشعراء:227]، فيكون العمل غير الإيمان، فنقول: أحياناً هذه اللوازم تدخل في مسمى اللفظ كما في حالة عدم العطف، مثل قول الله تبارك وتعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ))[البقرة:143]، أي: صلاتكم، فهي داخلة فيه ولا عطف هنا، وقد نقول -فرضاً- كما تقولون: يأتي العطف فيخرجها من اللفظ، أليست لوازم؟ نعم هي لوازم ولا بد منها، ثم يقول: أو أن اللفظ باق على معناه، وهذا لا إشكال فيه، أي: كون اللفظ باق على معناه في اللغة التصديق، أو الصلاة معناها في اللغة الدعاء، وهي في الشرع أيضاً دعاء، لكن الشارع زاد فيها أحكاماً، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي على قول من يقولون: بالمجاز، ونحن ننكر ذلك، وبالذات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان ، فقد أبطل المجاز، ثم توسع فيه تلميذه الشيخ الإمام ابن القيم رحمه الله أيضاً في الصواعق المرسلة ، فهو باطل، وهو الحق، لكن نقول تنزلاً معكم وعلى اصطلاحكم: لنفرض أنكم تقولون: إن الكلمة لها حقيقة لغوية، وأن لها معنىً مجازياً، فجاء الشارع واستعمل الكلمة في المعنى المجازي على كلامكم، فيضل أيضاً.
    اصطلاح الشرع -ولو كان مجازاً- هو المعتبر والمأخوذ به، وأنتم تقولون: إن المجاز جائز وسائغ، ولك أن تستخدمه بشروطه وبقواعده.
    ولنفرض أن الإيمان في لغة العرب هو التصديق، وأن إطلاقه على الأعمال مجاز في اللغة، فجاء الشارع فاستخدمه وأطلقه على الأعمال، فيكون حقيقة شرعية، مجازاً لغوياً، وهذا على سبيل التنزل، وإلا فلا إشكال أن تكون الكلمة من حيث اللغة مجازاً، ومن حيث الاصطلاح حقيقة، وبالتالي بطلت شبهتهم في قولهم: إن ذلك مجازاً، أو أن يكون الشارع قد نقله، يقول رحمه الله: وهذه أقوال لمن سلك هذا الطريق. وقد تقدم في كلام شيخ الإسلام إيضاح وشرح لهذا.
  7. الرد على شبهة المرجئة بأن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط

     المرفق    
    يقول: [وقالوا: إن الرسول قد وقفنا على معاني الإيمان، وعلمنا من مراده علماً ضرورياً أن من قيل: إنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان، مع قدرته على ذلك، ولا صلى ولا صام، ولا أحب الله ورسوله، ولا خاف الله، بل كان مبغضاً للرسول، معادياً له يقاتله؛ أن هذا ليس بمؤمن]. وهذا من الرد؛ لأنه قال: وقد اعترض على استدلالهم -أي: استدلال الحنفية - فيكون: (وقالوا) هنا، أي: المعترضين على الحنفية ، وهذا تفنيداً وإبطال لما زعمته المرجئة من أن الإيمان هو ما في القلب، تكملة لقولهم: إن الإيمان بمعناه اللغوي -الذي هو التصديق- هو الواجب على العبد حقاً لله، فإذا أداه العبد، وعرف الله بقلبه، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم بقلبه فقد جاء بالإيمان، وهذه هي شبهتهم الثانية، أما أن ينطق فهذا مجرد شرط الإجراء الأحكام الدنيوية أو علامة على ما في الباطن وقد تقدم.
    فالفريقان من المرجئة في الإقرار، أي: الإقرار باللسان أهو ركن، أم شرط؟ وكيف أن المتأخرين من الحنفية والماتريدية تركوا كلام أبي حنيفة الذي يجعل الإقرار ركناً وجعلوه مجرد شرط، أو قال البعض: إنه ركن زائد، وليس ركناً أصلياً، واستدلوا على ذلك بالأخرس الذي لا يستطيع النطق، وبمن يؤمن عند النزع الأخير عند الموت، وهذا كله قد تقدم، والرد على هذه الشبهة يكون من واقع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: لو علم أن أحداً صدق النبي صلى الله عليه وسلم بقلبه، ولكنه لم يتكلم ذلك بلسانه، أو لم يظهر هذا الإقرار والتصديق، ولم يصل ويصم ويحج ويزك ويجاهد ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر، بل ما عمل شيئاً من أعمال الخير والإيمان، مع قدرته على ذلك، ثم زيادة على ذلك -كما يقول الشيخ- وأنه ما أحب الله ورسوله -لأن الغرض أعمال القلب- ولا خاف الله، بل كان مبغضاً للنبي صلى الله عليه وسلم، معادياً له يقاتله، أن هذا ليس بمؤمن. فمستحيل أن يأتي المرجئة بمثال واحد من أن النبي صلى الله عليه وسلم عد مثل هذا النوع مؤمناً، بل حتى لو لم يعاد ولم يبغض، أو أنه عرف الحق بقلبه لكنه لم ينطق به بلسانه، فإنه يموت كافراً مثل أبي طالب ، فإنه لم يكن مبغضاً ولا معادياً للرسول صلى الله عليه وسلم ولما جاء به، فكان كفره كفر امتناع، وما استكبر عن الحق، فلم يطب نفساً بأن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله على سبيل الانقياد والإذعان، لكن لو طلبها منه النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإخبار عما في القلب لقال أبو طالب : أشهد أنك رسول الله، ويشهد بذلك ويقولها لقريش، وليس عنده مانع منها، أي: إخبار أنه يعتقد صدقه، لكن لا على سبيل الانقياد والإذعان، والدخول في دينه المقتضى بالضرورة التخلي عن ملة عبد المطلب ، والكفر بملة عبد المطلب ، ولذلك قال: ولولا أن يعيرني قومي لأرضيتك بها، فخشي أن يعيره قومه، ويقال: إنك يا أبا طالب ! تركت ملة عبد المطلب فرقاً من الموت وإرضاءً لمحمد، إذاً هناك فرق بين هذا وهذا، والمقصود هنا أنه حتى لو لم يشتمل قلبه على المعاداة والبغض، لكنه لم يقر في قلبه إقراراً متضمناً للانقياد والإذعان، فإنه لا يكون مؤمناً، ولا يعد من المؤمنين، وعليه فلا يجد المرجئة مثالاً واحداً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر فيه أو عد فيه من صدق بالقلب فقط، ولم يعمل أي عمل من أعمال الإيمان، ولم يقر ولم يتكلم اعتبر ذلك مؤمناً، وأبو طالب يصرح بالتصديق كما في الأبيات:
    ولقد علمت بأن دين محمد                        من خير أديان البرية ديناً
    لولا الملامة أو حذار مسبة                        لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
    قوله: ولوجدتني سمحاً مبيناً على سبيل الانقياد، وأما على سبيل الإخبار، أي: نسبه المخبر إلى الصدق، كأن إنسان بخبر فقلت: هذا صادق، فهذا القدر لا يسمى إيماناً، فأنت صدقته لكن ليس بالضرورة أنك اتبعته وآمنت به، فـأبو طالب وغيره من المشركين يصدقون النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القدر، لكنهم لم ينقادوا ولم يتبعوا ولم يذعنوا ولم يؤمنوا بقلوبهم وجوارحهم، ولذلك امتنع عن النطق لعلمه أنه يستلزم البراءة من ملة عبد المطلب.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.