المادة كاملة    
إن اللغة العربية سبب مهم في فهم نصوص الشرع، ولكنها ليست شرعاً بحد ذاتها، ولذلك فقد ضلت المرجئة حين عارضوا معنى الإيمان في النصوص بما تخيلوه من المعاني اللغوية، وهذا ناشئ عن الفهم الخاطئ والتطبيق الفاسد لأوجه القياس والتأويل، والاعتماد على الفلسفة والمنطق الذي غزا الأمة المسلمة، وأثر تأثيراً سلبياً في تشكيك الضعفاء في كفاية الوحي لفهم الحياة ديناً ودنيا، فلم يفد أهله علماً، ولا جنبهم فتنة الوقوع في مخالفة الوحي.
  1. المرجئة واستدلالاتهم باللغة

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فإن استدلال المرجئة وغيرهم من أهل البدع باللغة فإن شيخ الإسلام رحمه الله قد تعرض له في أول الجزء السابع من مجموع الفتاوى عند كلامه رحمه الله عن المجاز؛ لأن المرجئة قالوا: إن إطلاق الإيمان على الأعمال مجاز، فناقشهم الشيخ في إثبات المجاز من أصله وبين أنه لا مجاز في لغة العرب ولا في القرآن بالتعريف الذي يعنيه المتكلمون، وأن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز إنما هو تقسيم مبتدع محدث، ولم يعرفه السلف الصالح، ولا دليل عليه من النقل ولا من العقل، وللفائدة فإن الدراسات اللغوية -عربية أو غيرها- كلها -أو الدقيقة منها- تؤكد بأنه لا يوجد مجاز في اللغة، وهكذا كثير من المعاصرين من العرب وغيرهم يؤكدون أنه لا يوجد في اللغة مجاز مطلقاً، وأن الكلمة إنما تكون بحسب السياق والاستخدام، وعلى افتراض أن المجاز يوجد في اللغة فلا مجاز فيما جاء به الشرع ووضعه من الأسماء والحقائق، وأقل ما يقال في هذه الأسماء: إنها أصبحت حقيقة شرعية، وهنا ذكر الشيخ موضوع استدلال المبتدعة ومنهم المرجئة باللغة، فيقول الشيخ رحمه الله: (وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين بإحسان، واعتمدوا على رأيهم).
    وهذه قاعدة عظيمة في حياتنا، فالله عز وجل إنما شرع لنا الدين وأنزل الكتاب وبعث الرسل لنتحاكم إليهم، فالأهواء لو جمعت لها أكبر العقول في العالم وطلبت منها رأياً في شيء معين فإنها قد توفق للحق وقد لا توفق، وإن أصابت بعض الحق فلا بد أن تخطئ في الباقي، بخلاف الوحي فإنه حق خالص، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه من عند الله العليم بكل شيء، والمحيط بكل شيء تبارك وتعالى، أما البشر فلو عرضت عليهم مثلاً قضية اقتصادية، وجمعت لها أكبر مائة اقتصادي في العالم، وقرروا فيها رأياً بالإجماع، فلا يستبعد أن يأتي رجل برأي مخالف، أما الوحي فهو الحق والصواب.
    ولذلك نجد أن المرجئة وغيرهم قد وقعوا في هذا حين تركوا الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم، الذين هم أعلم الناس بالكتاب والسنة. ‏
    1. ضرورة الوحي لضبط الأفهام

      فإن زعموا أنهم يفكرون بعقولهم ويعملون أفهامهم كما قال علي رضي الله تعالى عنه: [ إلا فهماً في كتاب الله يؤتيه الله عبداً من عباده ]، فجوابه: أن عقول الصحابة تربت على نور الوحي واستضاءت به، فليست كالعقول المظلمة من نور الوحي، فإنها قد تصل إلى الصواب بحكم التجربة وبحكم العادة، وبحكم القراءات والخبرات المعينة، كما أن الإنسان الذي يسير في الظلام قد يصل إلى الطريق أحياناً بعلامات يتمسك بها فيهتدي نوعاً ما، وهذا من رحمة الله بالبشر أنهم يعيشون بما أعطاهم من عقول في حدود حياتهم الدنيا، فربما يحققون فيها شيئاً كثيراً، لكن صاحب العقل المستضيء بالإيمان هو كمثل الذي يمشي في نور، وليس بحاجة إلى هذه العلامات، فهو يرى أمامه كل شيء جلياً واضحاً، ولذلك فإنه يحكم على الأشياء حكماً صحيحاً لا سيما ما يتعلق منها بحقائق الدين وبعالم الغيب، ولهذا فيكون رأي العامي من أهل الإيمان ممن يهتدي بنور الوحي خير من رأي أكابر علماء أهل الضلال الذين لا يهتدون بنور الوحي في آرائهم، وهذا الظلام الذي يعيشه أهل الضلال قد يكون ظلاماً كلياً كظلام الكفار والملحدين، وقد يكون مشوباً بشيء من الاستضاءة مثل أهل الكلام وأهل البدع؛ فإنه لديهم شيئاً من الحق والخير في بعض الأمور، ولكن في الجوانب الأخرى قد يكون الظلام هو الغالب، فبقدر ما يأخذون من الوحي يكون النور.
      فـالمرجئة لما تركوا الكتاب والسنة، وتركوا أقوال العقول التي استنارت بنور الوحي من عقول وأفهام الصحابة والتابعين كان البديل أنهم اعتمدوا على رأيهم، وعلى ما يتأولونه بفهمهم من اللغة، وهذه طريقة أهل البدع، تقول له مثلاً: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.. )، ومعروف في علم المنطق أن (كل) يسمونها من ألفاظ السور التي تشمل كل ما يدخل تحت الاسم، فلا يخرج عن هذا السور شيء إلا إذا استثني، فلو قلت: كل الطلاب حضروا، معنى ذلك أنه لم يغب أحد، لكن إذا قلت: كل الطلاب حضروا إلا أحمد، فالذي غاب فقط هو أحمد، فيقولون: البدعة في اللغة في الشيء الجديد، إذاً البدع منها بدعة حسنة، ومنها بدعة سيئة، فما كان جديداً فهو حسن، وما كان جديداً ولم يكن من قبيل ما هو سيئ فهو حسن، فيعارضون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ العام الذي لم يخصصه، وهو أعلم الناس بما يقول صلى الله عليه وسلم، وقس على هذا كثيراً من المسائل، فيتأولون اللغة بفهمهم.
    2. من أسباب الخطأ في المسائل العلمية

      ولقد كان الإمام أحمد يقول: أكثر ما يخطئ الناس من جهة القياس والتأويل.
      وهذه الكلمة العظيمة صدرت من إمامٍ عظيم، إمام بارع في النقل في الشرعيات، في الحديث فهو ممن تشهد له الأمة بهذا، ولا خلاف على جلالته وإمامته وتقديمه في علم الحديث، ومن جهة القياس والفقه والاستنباط، فإنه قد عانى رحمه الله ما عانى في بيئة العراق حيث مذهب أهل الرأي، وقد تلقى عن الشافعي وغيره القياس أو الاستنباط الصحيح، فكن على إطلاع بهذا وهذا، فهذه العبارة نتيجة لخبرة الإمام رحمه الله، فأكثر خطأ الناس وطلاب العلم والعلماء يقع من جهتين: إما من جهة القياس، وإما من جهة التأويل، فالقياس: أن يقيس أو يلحق فرعاً بأصل ويكون غير ملحق به، فيقول مثلاً: هذا الشيء حلال قياساً على كذا، وهذا الشيء حرام قياساً على كذا، فربما يكون القياس فاسداً باطلاً حين تكون العلة غير جامعة، والخطأ في مقدمات القياس يجعل النتيجة خطأ.
      وأما الخطأ في التأويل فكأن يقول: عندي دليل على كذا، ثم يأتيك بآية أو حديث ويتأولها على شيء، وهي لم تنزل في هذا الشيء، وليس المقصود بها ما أراد، بل ربما عارض بذلك التأويل بعض القرآن؛ لأنه تأويل على غير المراد، وأعظم شاهد على هذا مسائل الأسماء والصفات، ومسألة أسماء الله وصفاته تمثل جانباً عظيماً من جوانب التوحيد؛ لأنه يتعلق بمعرفة الله، يقولون: إن الله تعالى يقول: (( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ))[الإخلاص:4]، ويقول: (( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ))[مريم:65]، ويقول: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ))[الشورى:11]، فقالوا: نحن لا نثبت له تعالى اليد، ولا نثبت له العين، ولا نثبت له السمع ولا البصر والنزول؛ لأنه ليس كمثله شيء فيتأولون الآية على غير ما أنزلت لأجله، وهكذا فأكثر ما يخطئ الناس فيه هو من جهة القياس بأن يلحقوا في الشيء ما ليس ملحقاً به، وما لا يصح أن يلحق به، أو من جهة التأويل بأن يتأولوا الدليل على غير ما هو عليه.
  2. المعتزلة وأخطاؤهم في الاستدلال

     المرفق    
    يقول: (ولهذا تجد المعتزلة و المرجئة و الرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم) وصدق رحمه الله، والكلام هنا في استدلال المرجئة باللغة، لكن القاعدة العامة أن كل أهل البدع كذلك، خذ مثلاً أي كتاب من كتب المعتزلة كـالمغني للقاضي عبد الجبار أو شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار وهو أهم كتبهم، خذ كذلك الأهم من كتب الرافضة كـمنهاج الكرامة ، وخذ أي كتاب من كتب أهل التصوف أو أهل البدع ستجد أنهم يفسرون النصوص على رأيهم ومعقولهم، ويدرسون المصطلحات الشرعية برأيهم ومعقولهم كما يزعمون.
    فـالمعتزلة في آيات القدر في تفسير الكشاف يؤولونها، وعند تفسير قوله تعالى: (( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ))[النساء:79] وغيرها من الآيات التي ضلوا وتخبطوا فيها، يقول صاحب الكشاف: (تفسير الآية بما يوافق أهل السنة والجماعة يخالف أصلاً عظيماً من أصولنا وهو العدل والتوحيد)، وكذلك في مسألة الصفات تعارض المعتزلة كلام الله بالأصل الذي وضعته، ويفسرونه بمعقولهم، ويقولون: لا بد أن تفهم النصوص من خلال الأصول التي وضعوها هم، فهم يضعون الأصل ثم يحاكمون كتاب الله إلى أصلهم، ويفسرون كلام الله بمقتضاه، ولهذا لا يجد طالب العلم إشكالاً بمعرفة كتب البدعة من السنة أصلاً.
    فلو فتحت أي كتاب من كتب التفسير ووجدته يأتي بالآية فيفسرها بما ثبت في صحيح البخاري ، وبما روى الإمام أحمد في المسند مثلاً، وبما قال ابن عباس رضي الله عنه، وبما قاله العلماء المشهود لهم بالعلم بالتفسير تعلم أن هذا هو التفسير بالمأثور، كما هو الحال في تفاسير أهل السنة ، فتطمئن إليها وترتاح لها، لكن إذا وجدته يتكلم في المقدمات المنطقية والعقلانية ويتفلسف بأصول المعتزلة وغيرهم تعلم أنه من تفسير أهل البدع، نعوذ بالله في ذلك؛ لأنه يقول إما برأي معقول أو ما تؤله من اللغة.
    ومن ذلك القول بأن الإيمان في اللغة هو التصديق، واليد في اللغة هي: النعمة، والنزول في لغة العرب كما يعلمه الناس هو التحرك بجسم والانتقال من حيز إلى حيز آخر، وهذا لا يليق بالله، وجوابه: من قال لك: إن نزول الله سبحانه وتعالى يستلزم هذه اللوازم؟ فينفي أو يؤول أو يعطل بناءً على ما افترضه هؤلاء.
    يقول رحمه الله: (ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين كما ذكرنا، فلا يعتمدون على السنة ولا يوجد في كلامهم وفي كتبهم شيء من السنة) ومن العجيب أنك لو ذهبت إلى الشروح الكبيرة في علم الكلام كشرح المقاصد أو غيره ووجدت حديثاً على قلة ما تجد فيه من الأحاديث ستجد أنه غالباً يفهم فهماً خاطئاً إن كان الحديث صحيحاً، وأحياناً يكون الحديث غير صحيح واستدلالهم به غير صحيح أيضاً، وهذا من جهلهم بالسنة، لكن انظر لكلامهم في المعقولات، فستجد صفحات طويلة ونقولات عن فلان وفلان، وينقلون الافتراضات والاحتجاجات، فتبحروا وتوسعوا وأتعبوا العقول فيما لا ينفع، وأعرضوا عن مصدر الخير والهدى، وهو الوحي المعصوم، ولهذا يقول قائلهم في النهاية:
    نهاية إقدام العقول عقال            وغاية سعي العالمين ضلال
    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا            سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
    هذه هي الثمرة والخلاصة (قيل وقال)، ويقول بعضهم سائلاً لآخر: ألك يقين؟ أتجد اليقين؟ قال: نعم، فأخذ يبكي ويقول: والله إني أبحث عنه إلى أن أجده -يغبطه لأن لديه يقيناً- إني لأعرف المسألة في الليل فيطلع علي الفجر وأنا أقول: قال هذا، ورد هذا، وهذا احتمال ولكنه مردود من وجه، ولم يستفد شيئاً، والله تعالى ما ألجأهم إلى هذا، بل أنزل إليهم النور المبين والصراط المستقيم الذي يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، كما قالت الجن لما سمعوه، قال تعالى: (( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ))[الأحقاف:29] سمعوا القرآن فولوا إلى قومهم منذرين، وبينوا أنه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فلا يضطر متبعه إلى تعب العقل في أمور مثل هذه، لكن المبتدعة لما شغلوا بما كفوا مئونته عما ينبغي أن يعملوا فيه عقولهم حصل لهم ما حصل.
    إن الحضارة العربية قامت على العكس مما كان عند المسلمين؛ لأن دينها باطل، فرفضت دينها، ورفضت علم الكلام الذي قامت عليه الكنيسة الكاثوليكية، اشتغلت عقول الناس بالماديات وكفروا بالدين، ولم يطمئنوا إلى عالم الغيب الذي جاء في دينهم؛ لأنه كله باطل، فانصرفوا عن الدين إلى الدنيا والماديات، فلما اشتغلوا بالماديات أبدعوا وأنتجوا؛ لأن فيها مجالاً للعقل ومجالاً للنظر والتجربة، وهكذا حتى وصلوا إلى ما هم عليه في النواحي المادية، لكن بعض المسلمين أتعبوا العقول أكثر منهم، فالعقول الكبيرة منهم اجتهدت في موضوع الصفات والوحي والغيب وتركوا العلم التجريبي، وإن كان موجوداً غيرهم، بل هم الذين علموا الغرب المنهج التجريبي، لكن الأغلب انصرفوا إلى العلم؛ وهذا ناشئ من تعظيم المسلمين لعلم الغيب، ويعظمون المعرفة لله التي هي أسمى ما عند البشر، هذا من حيث الأصل، ولكنهم لما ضلوا الطريق الصحيح في هذه المعرفة تاهت عقولهم وضاعت جهودهم، أما الغرب فلأنه انقطع بالكلية عن الدين، وحاربت الكنيسة العلم، فوجدت الفجوة بين العلم وبين الدين، فانصرف العلماء عندهم إلى الدنيا المحضة، وهكذا بدأت حركة النهضة، وكمثال فـجاليلو صنع المنظار المقرب، وبدأ يرى الكواكب بشكل أكبر، والمسلمون كان عندهم مراصد؛ لكن أكبر مرصد في العالم الإسلامي كان يقوم عليه نصير الكفر الطوسي الذي لم يستفد من هذا المرصد شيء؛ لأنه كان يرصد بناءً على عقيدة وثنية فلسفية منافية للإسلام، أما جاليلو فكان يرصد للغربيين وهو مجرد عن أي شيء عن عالم الغيب، وينظر إلى المادة في ذاتها، ويأتي من بعده ويزيد عليه، حتى أصبحت الحضارة الغربية بالقوة التي استطاعوا أن يكونوا بها أقوى الأمم تحكماً في العالم، فالمقصود أن المبتدعة أعملوا العقول في غير ما خلقت له؛ لأنهم لا يعتمدون على الكتاب ولا على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون على العقل واللغة، ولا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديثة وآثار السلف، وخذ أي كتاب من كتب المعتزلة أو الروافض فلن تجده يقول: قال الطبري ، أو قال مالك ، مع أنهم يقولون: نحن مالكية أو شافعية، فأين كلام أئمتهم من المالكية أو الشافعية؟!
  3. المنهجية في اعتبار مصادر العقيدة

     المرفق    
    إلا من ضلوا عن الكتاب والسنة تجدهم يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعها رءوسهم؛ لأنهم افتقدوا مصادر العلم والحقيقة، حتى في الحقائق التاريخية فضلاً عن الحقائق الغيبية، مع أنه لا يصح أن تعد كتب اللغة والأدب وكتب علم الكلام مصدراً، خاصة بما يتعلق بكتب الأدب، فإنها تؤخذ أحياناً من مصادر تاريخية.
    فإذا أراد أحد أن يأخذ سيرة هارون الرشيد ، فضلاً عن سيرة الصحابة والتابعين، فلا يعتمد على كتاب الأغاني ، فإذا كان هذا لا يصح في حق رجل وفرد من الأمة فكيف يجوز أن تؤخذ الحقائق الإيمانية والغيبية عن هذه الكتب؟ والمعتزلة إذا أراد أحدهم أن يتكلم قال: قال القاضي أي: عبد الجبار ، والأشاعرة يقولون: قال القاضي أي: الباقلاني ، فيأخذ عن كتب الكلام، وإذا جاء إلى اللغة قال: هذا مجاز، أحال على أساس البلاغة الذي مؤلفه الزمخشري ، أو يقول: قال الجاحظ ، والجاحظ من رؤساء المعتزلة ، فلا يصح أن نستدل على الحق والعلم في المسألة بكلام رأس من رءوس البدعة.
    ولا يصح الأخذ من كتب الأدب التي قد يظن أنها محايدة أو أن الغرض منها هو مجر الشعر والأخبار ككتاب الأغاني ، فإن أبا الفرج الأصبهاني مؤلفه رافضي في عقيدته كما هو واضح من عقيدته وكتبه وكلامه، ولابد من النظر في أسانيده، فإذا كنا لا نقبل أسانيد الإمام الطبري رحمه الله في التاريخ إلا بعد أن نمحص الرجال واحداً واحداً، فكيف برجال الأغاني ، ولو لم يكن من الرجال الكذابين إلا أبو الفرج نفسه لكفى ذلك في أن لا يقبل كلامه، حتى لو كان الإسناد متصلاً إلى صاحب القضية؛ لأنه قد يكذب على الثقات. فإذاً: كيف يعتمد عليه؟!
    ولقد وصل الحال ببعضهم إلى أن جرد كتب العقيدة وكتب التاريخ من الأدلة الشرعية، بل أصبح أحياناً الكلام عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤخذ إلا من كلام الإخباريين وكُتَّاب السير، بينما تجد أن هذه القضية من قضايا السيرة وردت في القرآن أو ثبتت في صحيح البخاري بشكل قاطع لا يحتاج معه إلى رأي آخر، وبعضهم قد يقول نحن لسنا بمحدثين، إنما نحن مؤرخون أو أدباء، أو من أهل الكلام.
    والأشد من ذلك أن عدم معرفة المصادر الأساسية التي يعتمد عليها أصبحت ظاهرة معروفة لدى كثير من الناس، فنتج عن ذلك الخطأ الكثير، بل ربما لا يعرف الرجل منهم أن هذه القضية فيها حديث صحيح في البخاري ، وفيها كلام لبعض المؤرخين، فيقوم بعقد مقارنة ليرجح ويقارن بين هذا وهذا، وربما رجح ما ذكره فلان من غير سند على ما هو ثابت في صحيح البخاري ، وهذا دليل على الخلل في المنهج في مصدر الاستمداد والتلقي، وتبعاً لذلك فإنه لا يستبعد حصول أي خطأ؛ لأنه إذا كان الذي يعتمد على القرآن وعلى السنة وعلى كلام السلف قد يخطئ في بعض الاستنتاج والقياس والتأويل، فكيف بالذي لم يعتمد عليها أصلاً، وإنما اعتمد على مصادر يكون الحق فيها قليلاً أو لا حق فيها مطلقاً؟
    وهذه هي طريقة الملاحدة الذين هم أغلظ من أهل البدع، فهم إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة.
  4. الانهزامية في المناهج التعليمية الحديثة

     المرفق    
    ومع الأسف فإن المناهج التعليمية حالياً على طريقة الملاحدة ، ففي علم النفس مثلاً أول ما يتكلمون فيه هو علم النفس عند اليونان والرومان، وماذا قال سقراط و أرسطو …إلخ، فأين كلام رب العالمين الذي خلق سقراط و أرسطو ، وخلق قبلهم آدم وعلم هذه النفوس، وهو سبحانه وتعالى الذي أودع فيها الخصائص، والذي أنزل الدين هديً؟ فلماذا تعرضون عنه وتفتتحون كتبكم بكلام الفلاسفة ثم تنتقلون بعد ذلك إلى رأي المسلمين، وبعضهم اليوم إذا أرادوا أن يتكلموا عن رأي المسلمين أخذوا كلام من تتلمذ وتربى على كلام اليونان أيضاً، كـابن سينا والطبيب الرازي و الغزالي الذي يخلط الفلسفة مع الباطنية مع التصوف، ولا يرجعون إلى الكتاب ولا إلى السنة ولا إلى كلام العلماء، فأصبحت مناهج التعليم في أكثر الجامعات في العالم الإسلامي وأكثر المناهج تعتمد طريقة الملاحدة ، وإذا انتقلوا إلى العصر الحديث أخذوا كلام فلاسفة الغرب ، مثل جان جاك روسوا وغيره، فيقولون: ثم بعد ذلك تطور علم النفس أو علم الاجتماع وظهر فوركان ، ثم بعد ذلك ظهر فرويد، فأصبح علم النفس علماً ماركسياً ورأسمالياً.. إلخ. والكل فلاسفة ملاحدة لا حجة في أقوالهم، وهذا ما يدرس في كلية الإدارة، وفي كلية الاقتصاد، وفي أقسام العلوم الاجتماعية عموماً، والمسماة بالدراسات الإنسانية كما يسميها الغرب، ونحن أخذنا نفس الاسم، فنعيش تجربتهم مع أن ثقافتنا غير ثقافتهم، وهم يسمونها دراسات أو علوم إنسانية. ‏
    1. أنواع العلوم الغربية

      العلوم عند الغرب نوعان:
      النوع الأول: علم اللاهوت، وهذا مختص بالأحبار وعلماء الدين الذين يتكلمون عن الصلب، وعن التثليث، وعن الفداء، وعن قضايا العقيدة النصرانية ، كطبيعة المسيح وطبيعة أمه وطبيعة روح القدس، وما يتعلق بذلك، ويحتجون بحجج منطقية وعقلية وفق علم الكلام الغربي النصراني، وهو علم عظيم عندهم، ولا يزال له وزنه، وله جامعات وأقسام في كل من الجامعات الأمريكية والجامعات البريطانية؛ بل أول ما أنشأت جامعات أكسفورد وكابردج وهارفرد أنشأت كجامعات دينية لاهوتية في الأصل، وإلى الآن لا تزال تدرس هذه العلوم.
      النوع الثاني من العلوم: العلوم الإنسانية التي مصدرها اجتهاد الإنسان والنظر الإنساني لا الوحي، ولا تتعلق بالكون، فما يتعلق بالكون يسمونه العلوم الطبيعية، وما يتعلق بالإنسان يسمونه العلوم الإنسانية، وكلا النوعين الطبيعية والإنسانية هي علوم إنسانية من جهة أن مصدرها هو الإنسان، وليس للوحي علاقة فيها، فلا توضع كلمة من علم اللاهوت في الجغرافيا ولا في الفيزياء؛ لأنه لا علاقة بينهما بخلاف كتب الكلام عندنا فهي تمزج الحقائق الدينية بالطبيعية وبالرياضية، لكن العلم عندهم منفصل تماماً، والحضارة الغربية قامت على أساس بعث وإحياء الدراسات الإنسانية، ومن هنا استمرت هذه التسمية وتشعبت وتوسعت حتى أصبح في الأدب أدبان: أدب لاهوتي وأدب إنساني، وفي الفن أدبان: فن لاهوتي، وفن إنساني، والأدب اللاهوتي: هو الأدب الذي تتكلم القصة أو القصيدة فيه عن الصلب، وعن حياة المسيح عليه السلام، وعن حياة القديسين، والفن الديني اللاهوتي يرسمون فيه المسيح ويصورونه، ويصورون الأنبياء والقديسين، ويصورون مريم العذراء والصلبان وينحتونها في الكنائس.
      وأصبح الفن الإسلامي اليوم هو تصوير النساء العاريات وهن يغنين أو يفعلن أي شيء ليس له علاقة في نظرهم بالدين، كتصوير ومناظر مؤثرة، أو شعر في الطبيعة، أو في الحب والرثاء والمدح.
      فالشعر الإنساني ليس له علاقة بالشعر الكهنوتي في الثقافة الغربية، ونحن أصبحنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) فقد دخلت علينا طريقة الملاحدة وطريقة الفلاسفة في كل العلوم الإنسانية التي تدرس، وفي كل النظريات في الإدارة والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والأخلاق وما يتعلق بها، وتدرس هذه العلوم من خلال الفلاسفة ابتداءً باليونان والرومان، وانتهاءً بالنظريات الحديثة، والدين لا يذكر في هذه العلوم، وإن ذكر فتذكر آراء قومٍ اتبعوا كلام أولئك الفلاسفة ، ففصلت هذه العلوم عن الدين، ولو أن طالباً في كلية الآداب، أو في كلية العلوم الإنسانية يدرس ماهية الروح، ويدرس في نفس الوقت مادة في الثقافة الإسلامية أو في العقيدة، فإنه يدرس الروح في هذا القسم، كما جاءت في القرآن والسنة من النفس، والفرق بينها وبين الروح بالدليل الشرعي، ثم بعد ساعة أو ساعتين يذهب إلى قسم العلوم الإنسانية ويدرس كلام الملاحدة ، فأقل متوقع أن تحدث الازدواجية في عقله؛ لأنه يدرس هنا كلاماً وهنا كلاماً عكسه، فيقرأ في الفقه أن الربا حرام، ثم يذهب يقرأ في النظريات الاقتصادية الفائدة والنظام البنكي، وكيف تقوم الأعمال البنكية وكيف تتطور.. إلخ.
    2. أثر منهجية الدراسة الغربية على عقيدة المسلم

      إن الازدواجيات تحدث عند دراستنا بعض ما هو من الشرع؛ لأننا ندرسها على طريقة ومنهج الملاحدة والفلاسفة والعياذ بالله.
      فالمبتدعة إنما يأخذون ما في كتب الفلاسفة وكتب الأدب واللغة، وأما كتب القرآن والحديث والآثار فلا يلتفتون إليها، بل يعرضون عن نصوص الأنبياء؛ لأنها عندهم لا تفيد العلم، أو يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم، ويقولون أن ما جاء به الدين لا يفيد العلم، ولا يورث واليقين، بل يقولون: هذا كلام ديني، وأحياناً قد يذكرونه على سبيل استيفاء المعلومة، فيقولون: هذا رأي الدين، ثم يأتون بكلام آخر باعتبار أنه رأي العلم والنظريات الحديثة، وعندما يقرأ الإنسان ذلك يشعر أن العلم أفضل وأوسع وأعلم من الدين!! وهذا ربما يصح بالنسبة لدينهم؛ لأن دينهم محرف وباطل، فلا يجوز أن نأتي فنقلدهم ونجعل مصدرنا هو التخبط والهوى والظن التي يسمونها نظريات، ونعرض عن طريقة الكتاب والسنة، كمنهج الفلاسفة .
      أما أهل البدع فإنهم يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم غير معتمدين على المحكم من كتاب الله، والصريح من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فهمه السلف الصالح من الآيات والأحاديث، ولذلك نجدهم في موضوع الأسماء والصفات يقولون: إن آيات الصفات وأحاديثها عندما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم كان المسلمون على الفطرة، ولم تكن عقولهم قد تبحرت وتوسعت في النظر وطريقة الاستدلال، وكانوا يسلمون إذا سمعوا آيةً أو حديثاً ولا يجادلون فيه، وكانوا مشتغلين بالجهاد وبالفتوحات وبالعبادة، وكان المناظر المجادل لهم قليلاً، ولكن لما ظهرت البدع في القرن الثالث توسعت العقول، وترجمت كتب الفلسفة، وزادت طرق الاستدلال، والنظر العقلي فتح ميدانه ومجاله، والمجادلون كثروا، وتركت الأمة الجهاد فأصبح لا بد من الاشتغال بهذه النصوص ورد الشبه التي تحوم حولها للدفاع عن الإسلام، وعلى هذا قالوا: منهج السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم؛ لأنهم يرون أنهم بتلك التأويلات والبحوث الكلامية والفلسفية واللغوية والتأصيلات والتقعيدات حللوا عقداً كما قال الشاعر:
      يحللون بزعمٍ منهم عقداً             وبالذي وضعوه زادت العقد
      لولا التنافس في الدنيا لمـا كتبت            كتب المقالات لا المغني ولا العمد
      أي: المغني من كتب المعتزلة ، والعمد من كتب الأشاعرة ، وقوله: يحللون بزعمٍ منهم عقداً، أي: كأن يأتي ويقول: الناس اختلفوا في القدر، وهل الأعمال بإرادة العبد أم بإرادة الله، ثم يريد حل المشكلة، فيكتب كلاماً، ولكن زادت العقد بما كتبه ووضعه، فمن يقرأ ما كتبوه وفيه شيء من الجهل والشك يزداد ضياعاً وضلالاً وتيهاً، وقد ذكرنا كلام الإمام أحمد وغيره في إنكار هذا، وإذا تدبرت حجتهم وجدت دعاوى لا يقوم عليها دليل.
  5. مراتب العبادات

     المرفق    
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ومما يسأل عنه أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس، فلماذا كانت أركان الإسلام هذه الخمس؟ وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيام العبد بها يتم إسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده) والذي قال هذا الكلام ذكره في فتح الباري في كتاب الإيمان في شرح حديث جبريل، لكن شيخ الإسلام رحمه الله لم يقره وأظن -والله أعلم- أن شيخ الإسلام تعمد أن لا يذكر اسمه لفضله ومكانته، وما أراد أن يخطئه، وهذا من تأدبه رحمه الله.
    ثم قال: (والتحقيق ليس الجواب هذا بسديد).
    فالسؤال أنه لماذا ذكرت هذه الخمسة الأركان في حديث جبريل وحدها؟ فكأنه يقول لماذا كانت هي أعظم الشعائر، فعندما يجاب بأنه ذكرها؛ لأنها أعظم الشعائر وأظهرها كانت الإجابة هي نفس السؤال ولا جديد في هذا الجواب، والسؤال لا يزال وارداً، وهو أن يقال: لم كانت هذه هي أعظم الشعائر، مع وجود شعائر غيرها، فلِمَ لم يذكرها؟ فكأن هذا الجواب غير كافٍ ولا شافٍ.
    ثم بين الشيخ أن التحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً، لأنه في آخر حديث جبريل قال: ( أتاكم يعلمكم دينكم )، فالمقصود به هو الدين، والدين هو استسلام العبد لربه مطلقاً، فهو الذي تجب له العبادة.
    1. الواجب العيني والكفائي

      إن العبادات المذكورة في حديث جبريل عليه السلام فيها أمران: عبادة محضة على الأعيان، لكن ما الفرق بين العبادة المحضة وغير المحضة؟ العبادة المحضة تكون بالنية، فالأعمال التي لا تصح إلا بنية التقرب والتعبد مطلقاً، أما الأعمال الأخرى التي قد تدخل فيها النية، وقد ترد وقد لا ترد، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، فمن السلف من كان يحتسب المباح، كما قال معاذ لما قابل أبا موسى رضي الله تعالى عنهما: [ إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ] فمن الناس من يحتسب القومة والأكلة والشربة والنوم مع أهله، وكل شيء يحتسبه الإنسان فهو في الميزان لا يخسر شيئاً من حياته: (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الأنعام:162] فكل حركاته وكل سكناته جعلها عبادة بالنية والاحتساب والتقرب إلى الله، والتزود من الخير، والاستعانة على الطاعة.
      ومن الناس من يؤدي العبادة المحضة فقط لا ينوي فيكون قد خسر شيئاً عظيماً، فالمقصود أن العبادة المحضة المقصود منها نية القربة إلى الله تبارك وتعالى، ولو فعلها بدون ذلك لم ينل الأجر، ولم تبرأ الذمة، كما أن حقوق العباد لا تبرأ بها الذمة إلا أن تفي بما عليك، عندها تبرأ ذمتك، ويمكن أن تجعل هذه الأفعال عبادة، وذلك بأن تحرص على أن تقضي الدين، وتنوي بقضاء الدين أن تتخلص من أمرٍ عظيم جاء فيه الوعيد، وتتذكر أن المرء يكون عمله معلقاً بدينه، فأنت باجتهادك في تحقيق هذا المطلب أو الغرض الشرعي تكون قد جعلته عبادة، فأبرأت الذمة من جهة، وأجرت من جهة أخرى، ولكن إن لم تكن نويت في العبادات المحضة لم تبرأ الذمة، فلو أن أحداً تحرك كحركات المصلي الراكع أو الساجد ولم ينو الصلاة لا تبرأ ذمته هنا.
      وأما العبادات التي تجب على الأعيان فخرج بها العبادات التي لا تجب على الأعيان، ولهذا فيجب على كل من كان قادراً عليها أن يعبد الله بها مخلصاً له الدين، وهذا ما لا يتوفر إلا في الأركان الخمسة، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب معينة لمقاصد معينة، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل قد تكون فرضاً على الكفاية مثل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يتبع ذلك من إمارة وحكم وفتيا وإقراء وتحديث، فكل هذه لا تجب على أعيان الخلق، وإنما تجب على أهلها، ومعنى الكفاية أنها لا تجب على كل شخص، بل من كان من أهلها القائمين بها وجبت عليه عيناً، وذلك مثل الفتيا فهي تجب على أهل العلم وجوباً عينياً، لكن بالنسبة لمن لم يكن من أهل الفتوى لا تجب عليه وكذلك القضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتعلق بفعل العامة لا يجب إلا في حدود ما يستطيع الإنسان عليه، والإقراء والتحديث كذلك إنما يتعلق الوجوب بأهله، فلو تخلى عنه أهله لأثموا؛ وهذا هو فرض العين.
      وأما ما يجب الكفاية، فمعناه أنه لا يجب على كل أحد؛ لأنه إما أن يجب بسبب حقٍ للآدميين يختص بالمكلف مثل بر الوالدين وحقوق العباد كرد الدين المغصوب، والودائع، والإنصاف من الأعراض والدماء والأموال، فهذه إذا فرغوا منها سقطت، ومنها ما يجب على شخص في حالٍ دون حال، كتعلم حقوق الزوجة فإنه لا يجب على الأعزب بل يجب على الزوج لئلا يخل بحق الزوج، وكذلك تعلم حقوق الجار لا يجب على من لا جار له، أو على جارٍ أخل بشرط من شروط الحقوق مثلاً، ويدخل في هذا ما كان له أسباب ومصالح خاصة، كحقوق صلة الأرحام والأولاد والشركاء والجيران وحقوق الفقراء على الأغنياء، ومعرفة أن في المال حقاً سوى الزكاة، مما يتعلق بالصدقة على الفقراء لا في الزكاة الواجبة، لأنها من الأركان الخمسة فهي من الفروض التي افترضها الله تعالى على أعيان العباد بشروطها، فالصوم بشرطه، والزكاة بشرطها من توفر النصاب وحولان الحول على ما يشترط عليه الحول وغير ذلك، وهذه الأعمال من الواجبات العملية، والإيمان قول وعمل، وأعظم أمور الإيمان هي هذه الأركان الخمسة.
      يقول الشيخ رحمه الله: (فما يجب على بعض الخلق من أداء الشهادة والفتيا والقضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد كل ذلك يجب بأسباب عارضة على بعض الناس دون بعض؛ لجلب منافع ودفع مضار) يعني: مرتبطة بمصالح متغيرة متجددة وليست عبادة كالصلاة لا بد أن تؤديها وأينما كنت.
      فهذه المضار والمنافع لو حصلت دون فعل الإنسان لم تجب، كأن يكون عندنا كفار نريد أن نحاربهم فأهلكهم الله وانسحبوا، فلا يجب الجهاد على الكفاية ولا على الأعيان، بل يصبح تطوعاً، وكذلك تعلم أداء الشهادة والقضاء قد لا نحتاجها كثيراً؛ لأنه قد يوجد أناس لم يذهبوا إلى المحكمة في حياتهم كلها، والشهادة إنما يحتاج إليها إن كانت واجبة عليك، وهكذا، فهي تجب أحياناً ولمصالح وأسباب لو لم توجد لما احتيج إلى أدائها، ولما كانت واجبة.
      ويقول رحمه الله: (فما كانت مشتركاً فهو واجب على الكفاية، وما كان مختصاً فإنما يجب على زيد دون عمرو، ولا يشترك الناس في وجوب عمل بعينه على كل أحدٍ قادر إلا في هذه الأركان الخمسة) أي: فصوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة واجبات عينية.
  6. سمو نظام الزكاة على نظام الضريبة

     المرفق    
    وقد يقال: الزكاة حق مالي له أسباب ومصالح، يجيب الشيخ بقوله: (والزكاة وإن كانت حقاً مالياً فإنها واجبة لله، والأصناف الثمانية مصارفها، ولهذا تجب فيها النية). إذاً: لو أخذت ضريبة كما في القوانين الوضعية فلا تعد عبادة، ولا أجر لصاحبها ولا لمن أخذها، بل قد يكون ذلك وزراً إذا نذر إليه من جهة أنها جعلت مغرماً، أي ضريبة تخصم تعطى، فقد تجردت عن النية والتقرب، ولهذا تجد بعض الناس لا يصلي ولا يزكي ولا يصوم، وكل ما في الأمر أنه عندما يعمل السجل التجاري يضع رأس ماله مائة ألف فعلم أن مصلحة الزكاة والدخل تأخذ 2.5% وتوجد من الاستمارات لهذا نوعان: إن كانت تتعلق بالمسلمين سموها زكاة، وإن كانت تتعلق بشركات غربية سموها ضريبة الدخل، والخصم واحد، والمصدر واحد، والطريقة واحدة، فأين القربة في هذا؟ فتجد منهم من يأتيك ويشتكي ويقول: يا أخي أنا في شهر كذا كان الرصيد عندي صفر، أي: قد أصبحت مديناً أو انقطع الحول، ومع ذلك في آخر السنة تبقى النسبة 2.5% مستمرة، ويأتيك آخر ويقول: إن فلاناً رأس ماله عشرة ملايين، ولكنه مقيداً في السجل مائة ألف، وتأخذوا عليه 2.5% فقط، ولا يؤدي الزكاة الباقية، ونجد الإجحاف هنا وهنا؛ لأن الزكاة لم تعد تقرباً -نسأل الله العفو والعافية- ولذلك لا ينفع صاحبها إن أدى شيئاً، وأيضاً من أخذها لا يستفيد ولا ينتفع بها، ولم يعد ينظر إليها كحق لله لهذا الاعتبار. والأصل أن الفقير المحتاج يجب أن يعلم أن له حقاً في مال الأغنياء، فلا نلجئه للذل ولا للخضوع، بل يذهب إلى الغني ويقول له: اعطني من حق الله الذي عندك، فأنا فقير وأنت عندك مال، لكن بهذه الطريقة نجده يذهب للضمان الاجتماعي ويقدم هناك ويثبت أنه فقير، فأصبح الفقير في ذلة والغني يستخدم الحيلة لتقليل الواجب عليه. ويقول رحمه الله: (ولهذا وجبت فيها النية ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه، ولم تطلب من الكفار)؛ لأنه يشترط فيها النية، والنية لا تنفع الكافر الذي لم يخلص أصل الدين لله تبارك وتعالى. ويقول رحمه الله: (وما يجب حقاً لله تعالى كالكفارات) أي: ليست فرض عين، بل على من تجب عليه الكفارة فقط؛ لأنها وجبت بأسباب من العبد، وفيها شوب العقوبات، وكذلك كفارات الحج. وقال أيضاً: (وأما الزكاة فإنها تجب حقاً لله في ماله، ولهذا يقال: ليس في المال حق سوى الزكاة، أي: ليس فيه حق يجب بسبب المال سوى الزكاة، وإلا ففيه واجبات لغير سبب المال). والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.