المادة كاملة    
إن اتباع الأوامر الشرعية لا يكون إلا بعد معرفة معناها الشرعي العام، لا الأخذ بأدنى مسمياتها، ولا الاعتماد في معرفة معناها على مجرد اللغة؛ لأن الشرع قد جاء لبعض الألفاظ العربية بمعانٍ خاصة لها، ولا يعد عاملاً لها إلا من طبقها على المعنى الذي أراده الشرع، ومن عملها على الوجه الذي يفهمه من اللغة فإنه لا يصدق عليه شرعاً أنه قام بها؛ لأن المعنى الشرعي أعم من المعنى اللغوي.
  1. الألفاظ الشرعية ومدى تأثيرها على العمل

     المرفق    
    1. مجيء الشرع بمعاني جديدة لبعض الألفاظ العربية

      ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
      فإن شيخ الإسلام رحمه الله يرى أن الحج والصيام والزكاة وغيرها إنما هي كلمات معروفة في كلام العرب قيدها الشارع، فمثلاً الزكاة هي اسم لما تزكوا بها النفس أي: تطهر، وزكاة النفس زيادة خيرها وذهاب شرها، كما قال تعالى (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ))[الشمس:7]، وقال: (( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ))[الشمس:9].
      يقول: (والإحسان إلى الناس من أعظم ما تزكوا به النفس كما قال تعالى: (( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ))[التوبة:103] وكذلك ترك الفواحش كما قال تعالى: (( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ))[النور:21]) أي: ما طهر.
      إذاً: هذا في الاستعمال اللغوي.
      يقول المؤلف رحمه الله: (وأصل زكاتها) أي النفس (بالتوحيد وإخلاص الدين لله كما قال الله تعالى: (( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ))[فصلت:6-7]).
      قال العلماء: الزكاة هنا هي الطهارة، أي: لا يزكون أنفسهم ويطهرونها من الشرك ومن الخبث ومن الفواحش بالتوحيد والإيمان والطاعة، ويمكن أن يحمل على المعنى الشرعي فيقال: (( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ))[فصلت:6-7] أي: هم لا يؤدون زكاة أموالهم، وإن لم تكن في ذلك الزمان قد عينت وحددت مقاديرها، أي: لم تفرض الزكاة المعروفة، لكن في المال حق سوى الزكاة، وهذا أمر معلوم في الدين قبل أن تشرع الزكاة بأنصبتها ومقاديرها، بل في جميع الملل، وفي جميع الشرائع، ولا بد أن يطهر الإنسان نفسه وماله بإخراج شيء من ذلك.
      وقال تعالى: (( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ))[الماعون:1-3] فمن أعظم أعمال المشركين أنهم لا يتواصون بالصبر، ولا يتواصون بالمرحمة، ولا يعطفون ولا يشفقون على فقير أو يتيم أو جائع، ولا يصلون الرحم، وهذا من صفات الكفر، لكن قد يوجد فيهم بعض الخلال كما يوجد في بعض المؤمنين من لا يقوم بهذه الواجبات فيشبه بهذا حال الكافرين.
      وقال رحمه الله: (وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مقدار الواجب وسماها الزكاة المفروضة) فإذا أطلق اللفظ صار إلى الزكاة، وكذلك لفظ التيمم معناه القصد، وإن كان التيمم قد يأتي بمعنى آخر كما قال تعالى: (( فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ))[النساء:43].
      يقول: (فلفظ التيمم استعمل في معناه المعروف في اللغة، فإنه أمر بتيمم الصعيد، ثم أمر بمسح الوجوه والأيدي منه، فصار لفظ التيمم في عرف الفقهاء يدخل فيه هذا المسح) يعني في الآية: (( فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ))[النساء:43] وفيها أمران: أمر بالتيمم، وأمر بالمسح، والفقهاء يطلقون التيمم على المسح نفسه، فهم الذين نقلوا المعنى، وإلا فتيمموا في أصل اللغة أي: اقصدوا واطلبوا وتوجهوا إلى الصعيد الطاهر الطيب، ثم بعد ذلك امسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، والفقهاء سموا المسح المأمور به بعد تيمم التراب: تيمماً.
      ويقول رحمه الله: (لفظ الإيمان) وهنا الشاهد (أمر به مقيداً بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله).
      وهذا كما في قوله تعالى: (( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ))[البقرة:285] فهو مقيد حتى ولو لم يذكر إلا الإيمان بالله، فيدخل فيه الإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، فهو إيمان مقيد.
      وقال رحمه الله: (وكذلك لفظ الإسلام ليس على إطلاقه في اللغة، والإسلام إذا جاء في القرآن وفي السنة فهو مقيد بالاستسلام لله تبارك وتعالى والانقياد له كما قال الله تعالى: (( فَلَهُ أَسْلِمُوا ))[الحج:34]، وقال: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ))[النساء:125] فهو مقيد بمعنى خاص، والكفر في القرآن كذلك له معنى شرعي مقيد بمعنى شرعي، وهو ضد الإيمان ونقيضه) أي: أن بعض الألفاظ لم تكن لها نفس المعاني الشرعية في لغة العرب.
      يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (والنفاق قد قيل إن العرب لم تكن تكلمت به، لكنه مأخوذ من كلامهم) فالشيخ يرى أن هناك كلمات لها أصل في لغة العرب، لكنها استعملت استعمالاً جديداً، فالكل مقيد في المعنى حتى النفاق، وذلك هو مراده في قوله رحمه الله: (النفاق لم تكن العرب تكلمت به، لكنه مأخوذ من كلامهم؛ فإن نفق يشبه خرج، ومنه نفقت الدابة إذا ماتت، ومنه نافقاء اليربوع) والنافقاء مكان فيه عدة أبواب يخرج منها اليربوع، بحثت عنه من هاهنا خرج من هاهنا، هذا يسمى نافقاء، فيصعب أن يقبض عليه، ويصعب على المصطاد أن يصطاده أو يقبض عليه؛ لكثرة المخارج، هذا أقرب شيء يصور العلاقة بين النفاق في اللغة والنفاق في الشرع، فالمنافقون ينطقون بكلمة الكفر، ويهمون أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يدبروا مؤامرة ضده، وإذا جيء بهم وسئلوا أجابوا: ما فعلنا، إنما كنا نخوض ونلعب، ولو قيل لهم: لماذا لا تجاهدون قالوا: نخاف الفتنة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ))[التوبة:49] متعللين بقولهم: إننا نخاف الفتنة عند رؤية بنات بني الأصفر، وإذا قيل لهم: تعالوا للجهاد. قالوا: لا تنفروا في الحر، فهم كاليربوع، إن لم يخرج من هنا، خرج من هنا، إن بحثت عنه من هنا خرج من هنا، فلا تستطيع أن تعرف لهم منهجاً، فمثلهم يجيد كيف يتخلص وأن يراوغ وأن يخادع، يظنون أنهم يخدعون الله والذين آمنوا، ولكنهم في الحقيقة لا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، ولا يحيق مكرهم وخداعهم إلا بهم.
      قال رحمه الله: (والنفق في الأرض) أي: المخرج فيها (قال تعالى: (( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ))[الأنعام:35] فالمنافق هو الذي خرج من الإيمان باطناً بعد دخوله فيه ظاهراً) وهذه العلاقة اللغوية يجعلها الشيخ قيداً للنفاق بأنه نفاق في الإيمان، فالنفاق في القرآن والسنة وكلام السلف: هو ما له علاقة بالإيمان، وأما في غير الشرع فيقول الشيخ رحمه الله: (ومن الناس من يسمي من خرج عن طاعة الملك منافقاً عليه) أي: أن هذا اصطلاح هؤلاء الناس أن الذي يخرج عن الطاعة فإنه يكون منافقاً؛ لأنه يتظاهر بها وهو ليس كذلك.
      ثم يقول رحمه الله: (لكن النفاق الذي في القرآن هو النفاق على الرسول) والناس اليوم إذا سمعوا رجلاً تكلم فأثنى على ذي السلطان أو ما أشبه ذلك ثم إذا خرج قال غير ذلك قالوا: هذا منافق، وجاء هذا من كلام الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، أنهم قالوا:كنا نعد هذا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق، لكن المنافق الحقيقي الذي جاء في كلام الشارع فهو الذي يكون منافقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطاب الله ورسوله للناس يكون بهذه الأسماء كخطاب الناس بغيرها.
    2. مدى صحة فعل الأوامر الشرعية بالإثبات بأدنى مسمياتها

      ويقول رحمه الله: (وكذلك الإيمان والإسلام، وقد كان معنى ذلك عندهم من أظهر الأمور) فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كان من أظهر وأجلى الأمور عندهم معرفة الإيمان، ومعرفة الإسلام، ومعرفة الكفر، ومعرفة النفاق، وهذا أهم ما يتعلمونه، وأول ما يعرفونه وأوجب ما يعلمونه غيرهم، وكانت واضحة وجلية عندهم، وحديث جبريل العظيم المشهور الذي عرف النبي صلى الله عليه وسلم فيه مراتب الدين من الإسلام والإيمان والإحسان فيه حكمة عظيمة جليلة ذكرها الشيخ وأشار إليها بقوله: (وإنما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وهم يسمعون وقال: ( هذا جبريل يعلمكم دينكم ) ليبين لهم كمال هذه الأسماء وحقائقها التي ينبغي أن تقصد؛ لئلا يقتصروا على أدنى مسمياتها) فالنبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه في حجة الوداع قول الله تبارك وتعالى: (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ))[المائدة:3]، وكان ذلك في آخر عمره صلى الله عليه وسلم عندما قفل راجعاً من حجة الوداع، بعد أن أكمل الله تعالى له الدين، وعاش بعد ذلك بضعاً وثمانين ليلة، ثم جاءه جبريل عليه السلام بعد عودته من حجة الوداع إلى المدينة في هيئته الذي وصفها بها عمر رضي الله عنه بقوله: ( بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد ) فأوصاف الصحابة رضي الله عنهم في منتهى البلاغة، شديد بياض الثياب، أي: ليست ثياباً عادية كما قد يلبس بعض الناس، فكأنه من شدة بياض ثيابه خرج من أنظف مكان؛ لأنه لا يرى عليه أثر السفر، وشديد سواد الشعر، مع أن الناس عندما يركبون الدواب ولو لمسافات قليلة فإنهم قد يعرقون ويتلطخ الشعر بالغبار، وهذا فيه دلالة على أنه خرج لتوه، حيث لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعلم من أين قدم هذا الراكب، ولا يعرفه أحد، بدليل أن بعضهم ينظر إلى بعض ولا يعرفه منهم أحد، ثم جلس الجلسة المعروفة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ في السؤال والجواب، وهذا كما جاء بطريق صحيح كان في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه من حجة الوداع، ولذلك فهو أتم مما جاء في الأحاديث الأخر التي تذكر أن أركان الدين ثلاثة، كحديث: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم… ) وقد قيل: إن من أسباب ذلك أن هذا كان قبل فرضية الركنين الآخرين، أو لأن القتال إنما يكون على الشعائر الظاهرة، فأما الصوم فعبادة خفية، وأما الحج ففي العمر مرة.
      والمراد أن هذا الحديث ذكر فيه ثلاثة أركان، وحديث وفد عبد القيس ذكرت فيه أربعة أركان قال: ( أتدرون ما الإيمان بالله؟ الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان ) ولم يذكر الحج؛ لأنه لم يكن قد شرع حينها، ثم يأتي حديث جبريل، فيذكر الأركان الخمسة للإسلام، وأما الإيمان فإنه كذلك لم يذكر الأركان الستة في حديث قبل ذلك.
      ولذا يقول الشيخ في إيضاحه: (الحكمة أن هذا جاء بعد أن اكتمل الدين وبعد أن عرف الناس الدين؛ ليقول لهم: هذا هو كماله وحقيقته، فلا تقتصروا منه على أدنى مسمياته)، فهو ليس ركنين أو ثلاثة أو أربعة، قد اكتمل الإسلام لهذه الأركان الخمسة والإيمان بهذه الأركان الستة، والإحسان تحقيق ذلك ظاهراً وباطناً بالمراقبة، بأن تعبد الله كأنك تراه في كل هذه الأعمال.
      ثم يقول المؤلف رحمه الله: (وهذا كما في الحديث) يعني عندما قال: (أتاكم يعلمكم دينكم- أي: إن جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم الذي به تعرفون حقيقته الكاملة التي لا نقص فيها بعد أن أكمله الله تبارك وتعالى) وهذا مثل الحديث الآخر الذي بين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الحقائق الدينية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( ليس المسكين هذا الطواف الذي ترده اللقمة، واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه ).
      والمسكين قد يطلق على هذا الذي يطوف ولا يجد شيئاً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ينفي عنه المسكنة، أي: ليس هو المسكين في الحقيقة، بل الذي ينطبق عليه الوصف تماماً هو ذلك الذي لا يسأل الناس، ولا يتفطن له المعطون فيعطونه، فهذا الطواف ترده التمرة والتمرتان، والقمة واللقمتان، بخلاف ذاك الذي لا يسأل، ولا يتفطن إليه، فهو يعيش المسكنة على حقيقتها، فلا يجد شيئاً، فهذا هو الذي ينبه النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى أن يتفطنوا له، وكل ما أمركم الله تبارك وتعالى به أو حثكم عليه من إطعام المسكين فاعلموا أن المراد به هو هذا المسكين الذي تنطبق عليه حقيقة المسكنة.
      ويقول رحمه الله: (وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام هو الخمس ) ) وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ) كأنه قال صلى الله عليه وسلم: الإسلام هو الخمسة الأركان وليس ما دون ذلك، فلا تظنوا أنه شهادة أن لا إله إلا الله فقط، لا تظنوا أن الإسلام هو أن تشهدوا وتصلوا فقط، أو تصوموا ولا تزكوا أو العكس، ولا تظنوا أنه الإتيان بأركانه الأربعة دون الحج عند الاستطاعة، بل الإسلام هو مجموع هذه المباني أو الأركان الخمسة.
      يقول المؤلف رحمه الله: (يريد أن هذا كله واجب داخل في الإسلام، فليس للإنسان أن يكتفي بالإقرار بالشهادتين، وكذلك الإيمان يجب أن يكون على هذا الوجه المفصل، لا يكتفي فيه بالإيمان المجمل) أي: فالإيمان حينما قال: ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر ) يشمل هذا كله، فلو أن قائلاً قال: آمنت بالخمسة الأركان، ولكن لا أؤمن بالقدر، فإنه لا يكون مؤمناً، وهذا سبب ورود الحديث كما تعلمون، وهو أن القدرية لما ظهروا جاء بعض التابعين يسأل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فحدثهم بما حدثه به أبوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن القدر، وأعلن براءته من القدرية.
      إذاً: الإيمان لا يكون إلا باكتمال هذه الأمور، فمن أخل بشيء منها فقد أخل بركن من أركان الإيمان، وعندما عرف النبي الإيمان والإسلام في حديث جبريل فقد عرفهما بأكمل وأعلى مقاماتهما ودرجاتهما؛ لئلا يتوهم متوهم أنه يمكن أن يكتفي بما قد يطلق عليه أدنى الاسم.
  2. حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة

     المرفق    
    يأتي المؤلف رحمه الله هنا يبين ما يتعلق بحقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة فيقول: (أولاً: بالنسبة للشهادتين اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر) ظاهراً وباطناً، ولا صحة ولا اعتبار لقول من يقول إنه إذا آمن بقلبه ولم ينطق فإنه يكون عاصياً فقط بترك النطق، ولكنه يكون مؤمناً عند الله، فهذا لا اعتبار له، وإن قال به علماء كبار كـأبي حامد الغزالي وأمثاله؛ لأن هذا هو قول المرجئة ، ولم يقبل الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم من أحد إلا أن يقر بلسانه بهذا الدين، أي: لا بد من الإقرار وتفصيل هذا الإقرار هو الشهادتان.
    واصل المؤلف رحمه الله بقوله: (وأما الأعمال الأربعة) أي: بقية الأعمال كمن أتى بالشهادتين ولكن لم يأت ببقية الأعمال فيقول رحمه الله: (فاختلفوا) أي الفقهاء (في تكفير تاركها ونحن أهل السنة إذا قلنا: إنه لا يكفر بالذنب فإنما نريد به المعاصي كالشرب والزنا) يعني: لا يقول أحد: إن تارك الصلاة غير كافر، بدليل أن المسلمين مجمعون على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر، وشيخ الإسلام رحمه الله يرد على هذا بأنه غير صحيح؛ لأن المقصود بمرتكب الكبيرة هو العاصي أي: الذي أتى منهياً عنه، وليس الذي ترك ركناً مأموراً به، وهذا الذي يدل عليه الحديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) هذه الأصول الثلاثة هي أصول الكبائر، وهي فعل للمحظور، وليس تركاً للمأمور، فالله تعالى حرم الزنا وحرم السرقة، وحرم شرب الخمر، فمن ارتكبها وهو من أهل الصلاة فهو من أهل الكبائر، لكن هذا لا يعني أن تارك الأركان يدخل في جملة أهل الكبائر.
    ويقول رحمه الله: (وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور) ثم ذكر أقوال السلف في هذا، وأن بعضهم عدى حكم التكفير إلى بقية الأركان، أما الصلاة فقد أجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على تكفير تاركها مستدلين بمنطوق الأحاديث: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) وقوله صلى الله عليه وسلم: ( بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة ). وقد بينا فيما سبق أن الكفر إذا عرف باللام فإنه يراد به الكفر الأكبر، وهذه قاعدة مطردة، بخلاف ما في قوله في حديث عبد الله بن مسعود : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في الخطبة: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) فلو أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً ) لقلنا أنه ينهانا عن الارتداد عن الدين، لكنه بين ذلك صلى الله عليه وسلم فقال: ( يضرب بعضكم رقاب بعض ) فعلم أنه ليس المقصود الكفر الأكبر، وإنما لأن التقاتل من عمل الكفار؛ لأن الأصل أن المسلمين يقاتلون الكفار، فإذا قاتل المسلم أخاه المسلم فقد عمل عمل الكفار، فهو كفر مقيد.
    ونذكر هنا بعض الأقوال كما ذكرها شيخ الإسلام ، وليس مقصودنا أن نرجح في هذه المسألة قولاً على قول بقدر قصدنا أن نبين أن السلف فهموا أن الإيمان يشمل العمل، وأنه لا بد من الإتيان بهذه الأركان، وأن بعضهم كفر من لم يأت بها، يقول الحكم بن عتيبة : [ من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر، ومن ترك الحج متعمداً فقد كفر، ومن ترك صوم رمضان متعمداً، فقد كفر ] فالزكاة لو تركها الإنسان أو أهملها ولم يشأ أن يدفعها، فجاء الوالي وأخذها منه فإن هذا الرجل من أهل الكبائر، لكن المراد هنا من لم يعقد قلبه على أن يؤديها، وكذلك الذي يأتي عليه شهر رمضان ولم ينو بقلبه ولم يعزم على الصوم فإنه يكون تاركاً لركن من أركان الإسلام متعمداً، فهذا الذي كفره هؤلاء العلماء، وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: [ من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر بالله، ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر بالله، ومن ترك صوم رمضان متعمداً فقد كفر بالله أعني الكفر الأكبر ] وقال الضحاك رحمه الله: [ لا ترفع الصلاة إلا بالزكاة ] وقال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: [ من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له ] رواهما أسد بن موسى .
    وقال عبد الله بن عمرو : [ من شرب الخمر ممسياً أي: ليلاً أصبح مشركاً، ومن شربه مصبحاً أمسى مشركاً) فقيل لـإبراهيم النخعي كيف يشرب الخمر فيمسي أو يصبح مشركاً قال: لأنه يترك الصلاة ] أي: يسهر إلى آخر الليل، فيشرب الخمر فينام فلا يستيقظ إلا قريب الظهر، فيذهب الوقت وهو لم يصل الفجر.
    قال ابن تيمية رحمه الله: (قال أبو عبد الله الأخنس في كتابه: من شرب المسكر فقد تعرض لترك الصلاة، ومن ترك الصلاة فقد خرج من الإيمان) وفي طريق صحيح من طرق حديث جبريل عليه السلام أنه بعد كل مرة يسأله مثلاً يقول: ( أخبرني عن الإيمان؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فيقول: فإذا فعلتُ ذلك فأنا مؤمن؟ فيقول: نعم )، وكذلك في الإسلام يقول: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ ) رواه الإمام أحمد رحمه الله في كتاب الإيمان وقال: (هذا رد على المرجئة ؛ لأنه قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن، فمفهوم ذلك أنه لو لم يفعل لما كان مؤمناً، ولما كان مسلماً). ‏
    1. العلاقة بين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي للإيمان

      يذكر شيخ الإسلام رحمه الله كلاماً مهماً، وله فائدة وأهمية، وهو أن الإيمان في حقيقته الشرعية أشمل منه في مفهومه اللغوي، وذلك حين قال: (والمقصود أن من نفى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم اسم الإيمان أو الإسلام فلا بد أن يكون قد ترك بعض الواجبات فيه وإن بقي بعضها، ولهذا كان الصحابة والسلف يقولون إنه يكون في العبد إيمان ونفاق) أي: لا يخلوا حال من ترك شيئاً من الواجبات من أمرين: إما أن يكفر كما هو الحال في تارك الصلاة، وإما أن يكون لديه إيمان من جهة، ولديه تقصير ومعصية وتفريط ونفاق من جهة أخرى، فلا يستحق اسم الإيمان الكامل المطلق مع وجود هذه الكبيرة وارتكابه لهذا الذنب.
      ثم يبين هذا رحمه الله إذ يقول: (فعلى هذا فقوله تعالى للأعراب: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14] هذا نفي حقيقة دخول الإيمان في قلوبهم، وذلك لا يمنع أن يكون معهم شعبة منه، كما نفاه عن الزاني، والسارق، ومن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومن لا يأمن جاره بوائقه وغير ذلك مما تقدم، فإن في القرآن والحديث ممن نفي عنه الإيمان لترك بعض الواجبات شيء كثير) أي: كقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، وقوله: ( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه ).
      ونفي الإيمان هنا كان بسبب ترك واجب أو ارتكاب محرم، فهذا دليل على أن العمل من الإيمان لا ينفصل عنه.
      ويقول رحمه الله: (وحينئذٍ نقول: من قال من السلف أسلمنا أي: استسلمنا خوف السيف، وقول من قال: هو الإسلام الجميع صحيح) فالإمام البخاري رحمه الله يذهب في الإسلام والإيمان إلى أنهما مترادفان، ولذلك يرى رحمه الله في قوله تعالى: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14] أن معنى أسلمنا: استسلمنا، ولذلك بوب باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام، فجعل الأعراب فقط مستسلمين في الظاهر، لكن لم يسلموا على الحقيقة، وقول أكثر العلماء بخلاف ذلك، وإن كان هذا القول قد نصره محمد بن نصر المروزي رحمه الله في كتابه المشهور تعظيم قدر الصلاة ، والراجح هو قول الأكثر هو أنهما غير مترادفين، وأن الإسلام درجة، والإيمان درجة أعلى، ولهذا يقول الشيخ رحمه الله: (وهذا القول يمكن الجمع بينهما، فإن هذا إنما أراد الدخول في الإسلام، والإسلام الظاهر يدخل فيه المنافقون، فيدخل فيه من كان في قلبه إيمان ونفاق) فمن قال: إنه الاستسلام أي: أن في قلبه إيماناً ونفاقاً، فيدخل في جملة من انقاد ظاهراً وإن لم ينقد على الحقيقة، فالحقيقة عنده هي ألا يكون في قلبه شيء من النفاق.
      ويقول رحمه الله: (وقد علم أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، بخلاف المنافق المحض الذي قلبه أسود كله، فهذا يكون في الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يخشون النفاق على أنفسهم ولم يخافوا التكذيب لله ورسوله) فما كان يخشاه الصحابة إنما هو النفاق لا أنهم يكذبون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فحاشاهم من ذلك، ثم يقول: (فإن المؤمن يعلم من نفسه أنه لا يكذب الله ورسوله يقيناً، وهذا مستند من قال: أنا مؤمن حقاً) أي: أن من قال: أنا مؤمن حقاً مراده أنه لا يمكن أن يكذب الله ورسوله (لكن الإيمان ليس مجرد التصديق، بل لا بد من أعمال قلبية تستلزم أعمالاً ظاهرة) فحقيقة الإيمان هي أعمال قلبية تستلزم أعمالاً ظاهرة، والأعراب عندما قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرهم على أن يقولوا: أسلمنا لا بد أن هناك شعبة من الإيمان في قلوبهم، وهي التصديق، فهم لم يكذبوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد صدقوا بما جاءهم من الدين الحق، وأذعنوا وانقادوا في الظاهر، لكن الإيمان الذي هو الدرجة التي بها وبتحققها ينتفي الشك والريب والنفاق من القلب فهذا لم يصلوا إليه، ولو كان قصد الأعراب أن يقولوا: نحن آمنا. أي: نحن لم نعد كافرين، بل دخلنا في الإسلام لأقروا عليه، لكن الأعراب إنما كان كلامهم في معرض الفخر والتزكية لأنفسهم، وهذا يرجعنا إلى مسألة الاستثناء، فهناك من يقول: أنا مؤمن حقاً، والبعض لا يستثني، وبالنظر إلى هذه الاعتبارات فالذي يقول من السلف: أنا مؤمن لا أستثني؛ يقصد أنه غير مكذب، فهو واثق أنه مقر ومصدق ومؤمن، ولا يحتاج إلى أن يستثني، والذي يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ينظر إلى جانب آخر، وهو أنه قد يكون مزكياً لنفسه، وهو لم يبلغ درجة الإيمان الكاملة العظمى، ولو كان من أهلها فرضاً فهو لا يريد أن يظهر ذلك فيقع في الرياء وتزكية النفس، وقد قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ))[النساء:49] فتبين بهذا أن الإيمان قول وعمل، وأنه أشمل من مجرد التصديق الذي تدعيه المرجئة، وتستند في هذه الدعوى إلى اللغة، حتى من كان في أدنى مراتب الناس إيماناً كالأعراب الذين بين الله تبارك وتعالى حالهم فلا بد أن يكون لديهم قدر من العمل، وهو الانقياد الظاهر مع شيء من الإيمان الباطن، ولولا ذلك لم يكونوا مسلمين، فضلاً عن أن يكونوا مؤمنين، ولا بد أن لديهم شعبة من الإيمان بها خرجوا عن حد الكفر والنفاق الأكبر الذي يخلد صاحبه في النار -والعياذ بالله- فظهر من مجموع هذا كله بطلان قول المرجئة أن التصديق لا يكون إلا باللسان، وإن الأعمال ليست داخلة في الإيمان، ولذلك فالشيخ رحمه الله يفصل في هذا فيقول: (ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أن: ( من سرته حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن ) فهذا يحب الحسنة ويفرح بها) ويحب الطاعة، ويتألم للمعصية، ويسوءه فعلها، فليس الأمر كما يزعم الخوارج ولا كما يزعم المرجئة ؛ ولو كان ما يزعمه الخوارج صحيحاً لكان إذا ارتكب المرء السيئة كفر، ولو كان الحال كما تزعم المرجئة لكان إذا ارتكب السيئة لم يستاء لفعلها، والحق وسط بين هذين، فالمؤمن يمكن أن يقع منه فعل المعصية، وإذا فعلها يسوءه ذلك ويندم، فهو لم يخرج من الملة، لكنه لا ينظر إلى نفسه على أنه كامل الإيمان، بل يتمنى أنه لم يفعل هذه السيئة، والحسنة تسره وتفرحه، فهذا الحب الذي فعل به السيئة والمعصية يغلبه حب آخر، وهو حب الطاعة وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن غلبه حب الشهوة دفعه إلى أن يفعل المحرمات، وهو أحرى أن يمرض قلبه، ثم يصبح مطبوعاً عليه والعياذ بالله، وإن غلب عليه الندم والألم للمعصية والذنب وتاب فإنه يتحول إلى قلب أبيض أجرد كالسراج المضيء.
    2. الرابط بين عمل القلب وعمل الجوارح وأثر ذلك في الإيمان

      إذاً: هناك ارتباط بين عمل القلب وعمل الجوارح، فالزاني حين يزني -والعياذ بالله- إنما يزني -كما يقول الشيخ رحمه الله- لحب نفسه لذلك الفعل، فالدافع له هو تحقيق رغبة نفسية شهوانية، فلو قام بقلبه خشية الله التي يقهر بها هذه الشهوة لم يفعل ما فعل، كما في قصة يوسف عليه السلام: (( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ))[يوسف:24] ولهذا يقول الشيخ رحمه الله: (فمن كان مخلصاً لله حق الإخلاص لم يزن، وإنما يزني لخلوه من ذلك) فالأعمال مرتبطة بحقيقة القلب.
      ثم يقول: (وهذا هو الإيمان الذي ينزع منه) أي: إذا واقع الفاحشة -والعياذ بالله- ينزع منه الإيمان.
      ثم يقول: (لم ينزع منه نفس التصديق) أي: وليس الذي ينزع منه هو قول القلب، ولو كان قصد النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) قول القلب لكان الزاني كافراً، لكن المقصود هو عمل القلب، فقول القلب متوفر لديه، وهو الإقرار، فلو لم يقر بقلبه لكفر، ولكن عمل القلب كخشية الله تبارك وتعالى والخوف من وعيده، والحذر واستعظام هذه الفاحشة، وما يشعر به كل مؤمن قد يضعف فيقع المؤمن في شيء من هذا، وقد قال تعالى: (( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ))[الأنعام:15] فهذا دائماً لابد أن يكون في ذهن المؤمن كلما دعي إلى معصية فليقل: (( إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ))[الأنعام:15] ولذلك لا يفعل المؤمن هذا، فإن فعل فهو في غفلة من عمل القلب، وكل من يعصي الله سبحانه وتعالى فإنما يعصي الله وهو جاهل، ويبين هذا قوله تعالى: (( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ))[النساء:17] وليس المقصود أنه لا يعلم أنها حرام، بل كل من عصى الله فهو جاهل بالله، وجاهل بعظمة الله وبوعيده، وجاهل بحقه الله وقدره تبارك وتعالى، وليس هذا قيداً يعني: أن الله سبحان وتعالى إنما يتوب عن الجاهل وأما غيره فلا؛ لأن كل عاصٍ جاهل، والله تعالى يتوب على كل من تاب، وإن كان فعل ذلك عالماً عارفاً عامداً، ولكن من فعله متعمداً كان جاهلاً، فهذا الجهل هو أساس وقوع الناس في المعاصي وارتكابهم للمحرمات، ولذلك لما ذكر الله سبحانه وتعالى آية الأمانة قال: (( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ))[الأحزاب:72] وعلل ذلك بقوله: (( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ))[الأحزاب:72] والظلم هو التعدي والتجاوز ووضع الشيء في غير موضعه، والجهل هو فقدان البصيرة في الأمر، وعاقبته، وكلاهما في الإنسان، فهو قد يضع الشيء في غير موضعه فيتجاوز حده، ويخرج عن طوره، ويتعدى حدود الله، ويقع فيما نهى الله عنه، فهو ظلوم جهول، لا بصيرة لديه بالعواقب إلا إذا حفظه الله وعصمه، ولذلك فإن الله تعالى قد جعل للعبد حداً معيناً لا يجوز له أن يطلق لنفسه عنان الطمع والحرص على الدنيا والشره بهذا المقدار؛ لأنه إذا أطلق لنفسه العنان فلن يقف عند حد، فلا بد أن تضع نفسك عند حد معين، واحرص على ما ينفعك، ولا تنس نصيبك من الدنيا على أحد القولين، لكن أن يصل بك الأمر إلى الشح والتقتير والحرص المضيع الذي يلهيك عن ذكر الله وإقام الصلاة فلا يجوز ذلك، حتى في الأمور الجسدية، فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل النوم إجبارياً لكان بعض الناس كالتجار مثلاً وأصحاب المناصب -كدليل على ظلم الإنسان وجهله- لن ينام أبداً، ولو قيل له: لو نمت لتقوى بدنك، وإن لم تنم ضعف وأنت بالخيار فإنه لا ينام، لكن الله تعالى من رحمته وحكمته وعلمه بهذا الظلوم الجهول لم يوكله إلى ظلمه وجهله، بل جعل له حدوداً معينة، فإذا أتعب وأجهد احتاج أن ينام، وحتى الشهوة الجنسية فيجب على الإنسان أن يعتدل فيها، ولو أن أحداً فرط في الحلال فلا بد أن يتعب، وهكذا الأكل قد جعل الله سبحانه وتعالى حدوداً لولا هذه الحدود في خلقة الإنسان وفي حياته لما وقف عند شيء، لأن الطمع لا حد له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ) ولهذا عندما رسم النبي صلى الله عليه وسلم مربعاً، وجعل خطاً خارجاً منه، وجعل سهاماً مثلها صلى الله عليه وسلم بقوله: ( هذا الإنسان وهذا أجله ) فالأجل هو المربع المحيط به، والخط النافذ هو أمله، والسهام هي العوارض، فالإنسان أمله بعيد، لكن الأجل يحول دون ذلك، ولا يوجد أحد مات وقد حقق كل آماله، ولذا تجد الشخص قبل أن يموت بيوم يتمنى أن لو كان صحيحاً ليفعل كذا وكذا، سواء من الطاعات أو من المحرمات، وقد يتمنى أن لو حج واعتمر وتصدق، فالأمل أبعد بكثير من الأجل، وفي دائرة الحياة قبل بلوغ الأجل تأتيه العوارض، فيوماً يمرض ويوماً يتعب ويوماً يصاب بغم وهكذا، فيا عجباً للإنسان حالته! ومع ذلك فهو يضيع كدحه ونصبه وعمله في غير طلب الراحة العظمى وراحة الأبد، وهي العمل لنيل الجنة عند الله تبارك وتعالى.
    3. إظهار بعض الحق إذا كان يؤدي إلى باطل

      إن عمل القلب هو الأساس في الإيمان، وهو الذي يحرك الإنسان لفعل الطاعة، أو يزجره عن فعل ما حرم الله تبارك وتعالى، فهذه هي حقيقة الإيمان فكيف يخرج عمل القلب أو عمل الجوارح عن الإيمان، ولهذا نبهنا كما في أول كلام الشيخ رحمه الله أن هذا القول كان مدعاة لظهور وانتشار الفسق والمعاصي؛ لأن الناس تتجرأ عليها، وليس من الحكمة أن يذكر بعض ما يستفيد منه أهل الباطل وإن كان حقاً، فمن كان في بيئة تبرج وسفور وانحلال وأخذ مثلاً كتاب الحجاب لأحد المشايخ الذين لا يرون وجوب تغطية الوجه -وهو رأي مرجوح بل شاذ- وهو يقرر فيه أن هذا هو الحق ويذكر آيات وأحاديث، فإن هذا ليس من الحكمة وإن كنت ترى فرضاً أنه هو الراجح.
      نفرض أنك ترجح أن ترك الصلاة لا يخرج من الملة، فهل تقوله في أمة تخلت عن صلاتها وتركت دينها أو تأتي بأحاديث الوعيد وما يشبهها؟
      فنقول: إن قول المرجئة هذا حتى لو كان صواباً في ذاته، أو رأى بعضهم أنه الصواب فإنه أدنى إلى ظهور الفسق وانتشار المعاصي وهذا كافٍ في نهي الإنسان عن نشره، فكيف وهو في الحقيقة غير صواب ولا صحيح، ولا بد للإنسان أن يعمل بقلبه، وأن يكون بجوارحه عاملاً مجاهداً كما ذكر الله تبارك وتعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ))[الحجرات:15] فهؤلاء هم الذين صدقوا في دعوى الإيمان، أما من زعم أنه آمن فإنه لا يصدق إلا إذا أتى على ذلك ببينة.
    4. فعل المأمورات واجتناب المحظورات من جهة الأفضلية

      فإن قيل: لماذا أوردنا حديث: ( لا يزني الزاني حين يزني ) نقول: إن هذا الحديث جاء في أمور محرمة في منهي عنه، وهناك قاعدة عظيمة يجب أن لا تخفى عليكم وهي: أيهما أعظم وأفضل في الدين فعل المأمورات أم ترك المحرمات؟
      الجواب أن فعل المأمورات هو الأساس، ولو أن عبداً فعل المأمورات وأتى بالصلوات الخمس، وأقام الأركان الخمسة للإسلام، لكنه قارف بعض الكبائر فإنه لا يزال مؤمناً، ومن الكبائر الزنا والسرقة وشرب الخمر فلو قال أحد: إن أهل السنة مجمعون ومتفقون على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر، فالمقصود بمرتكب الكبيرة هو من فعل هذه الأعمال وما دونها، وليس المقصود من ترك الصلاة أو أحد الأركان، ومن أجل ذلك نبهنا إلى هذا، فإذا كان الزجر والوعيد القوي في قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) جاء في حق من فعل هذه الكبيرة وارتكب هذا المحظور فإنه يكون في حق تارك الصلاة أشد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة ) وهذا أعظم من قوله : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ثم إن الزنا ليس كالصلاة، أي: فعل الزنا ليس كترك الصلاة؛ لأن فعل الزنا -والعياذ بالله- هو شهوة يدعوا إليها الشيطان والنفس، والمغريات، وهي تلم بالإنسان أحياناً، أما الصلاة فهي فريضة تجب كما قال الله تعالى: (( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ))[النساء:103] فتجب خمس مرات في اليوم، في أوقات معينة لا بد أن يأتي بها فيها، وأن تفعلها وأنت منشرح وراضٍ غير كسلان إلى غير ذلك، فهذه العبادة عملها متكرر يومياً كالزاد اليومي الذي لا بد لك منه لتعيش، بخلاف فعل الزاني فإن الإنسان يغلب عليه، ولذلك أكثر من يزني -والعياذ بالله- إنما يقع منه في أوقات معينة من حياته كسن الشباب مثلاً، لكن أن يستديم أحد ترك الصلاة فهذا لا إيمان له، فهو بعمله هذا يدلل على أنه لا إيمان له أصلاً.
      وهكذا الخمر فإن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عندما زجر عن الخمر ربطها بالصلاة؛ لأن شارب الخمر سيترك هذا العمل والواجب اليومي المتكرر الذي لا بد منه, والذي به يجدد الإنسان إيمانه ويزيده وينميه، فإنه إذا شرب الخمر أدى به ذلك إلى تركها، فشرب الخمر بريد ووسيلة إلى الكفر والخروج من الدين -والعياذ بالله- والخمر أم الخبائث؛ لأن من شرب الخمر أدمن، وإذا أدمن أصبح مستديماً لترك الطاعات، وهذا ليس وقوعاً في إحدى المحرمات، بل أدى به ذلك إلى استدامة ترك الطاعات، فخرج بذلك عن مجرد أنه صاحب كبيرة -والعياذ بالله- فالخمر إدمان وليس مجرد فعل كالزنا أو السرقة.
      والسارق كذلك إذا استمرأ السرقة أصبحت إدماناً؛ والإدمان أنواع، وإن كان أعلاه وأظهره هو إدمان الخمر أو المخدرات أو التدخين، بل حتى أكل الإنسان المال الحرام يصبح عنده إدماناً، فبعض الناس لو أعطي ملايين من الحلال فإنه لا يجد لها طعماً إلا أن يرتشي -والعياذ بالله- ولا بد أن يرتشي لا بد أن يأخذ من مشروع من المشروعات شيئاً، وأن يقتطع شيئاً لأحد الموظفين، مع أنه جاء له من الحلال الشيء الكثير، وفي هذه الحالة يخرج الإنسان عن مجرد الوقوع في المعصية إلى استدامة ترك الطاعة، فيصبح لا يلتزم بشيء من حق الله ولا من حقوق العباد، بخلاف ما إذا كان يسرق، فإنه قد يسرق في الشهر مرة، أو في الأسبوع مرة، أو في السنة مرة، وقد يسرق أحياناً، لكن الاستدامة أمر آخر، فهذا يرجع كله إلى أعمال القلوب، وضرورة تصحيح النية، وتجريد القلب لله تبارك وتعالى باليقين والإخلاص والصدق والمحبة والرضا والانقياد والإذعان والتسليم أما ما يتفرع عن ذلك من أحكام المخالفين لهؤلاء، وخلاف الفقهاء في ذلك فهذا قد تقدم بعضه، وبعضه إن شاء الله قد يأتي، أو هو معلوم واضح، إنما المقصود أن نعلم حقيقة ارتباط الأعمال البدنية بالأعمال القلبية، وأن الإيمان لا يكون إلا بتحقيق أعمال القلوب التي تستلزم تحقيق أعمال الجوارح ولابد.
      والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.