المادة كاملة    
إن مداخل الشيطان على الإنسان كثيرة، وأعظمها خطراً ما كان المدخل الشيطاني يبرره صاحبه باسم الدين، فقد دخل الشيطان على من قال بإخراج العمل من مسمى الإيمان مدخلاً أسقط به أصحاب الفجور واجبات شرعية، مدعين تصديق قلوبهم، مع أن السلف الصالح قد قرروا أن التصديق القلبي لا بد له من مستلزمات تظهر على الجوارح، ليشارك الظاهر الباطن في تحقيق العبودية لله تعالى، وعلى هذا الفهم كان نهج القرون المفضلة، الذين يجب اتباع فهمهم للنصوص، لمعرفة مرادها، وقربهم من نور الوحي.
  1. الرد على من جعل الإيمان مرادفاً للتصديق

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    يقول ابن تيمية رحمه الله: (الرابع: إن من الناس من يقول: الإيمان أصله في اللغة من الأمن الذي هو ضد الخوف) أي: أن المرجئ منازع في دعوى أن الإيمان في اللغة هو التصديق، ومنازع أيضاً بوجود من قال من أهل اللغة والمعرفة أن الإيمان من الأمن وليس من التصديق، فيكون ضده الخوف، والدليل عليه أنه إذا قالت العرب: آمن فلان أي: دخل في الأمن، كما يقال: أنجد. أي: دخل نجداً، وأشأم. دخل الشام ، فإذاً آمن دخل الأمن.
    وقال رحمه الله: (وأنشدوا) ولم يذكر الشاهد، فإما أن شيخ الإسلام رحمه الله ترك الموضوع بياضاً حتى يراجع كتب اللغة أو أنه كتبه فطمس أو سقط من الورقة، والغالب أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يكمل الشاهد حتى يبحث عنه، وعليه فإن الإيمان له معنىً آخر في اللغة غير معنى التصديق.
  2. الرد على من إخراج العمل من اسم الإيمان

     المرفق    
    إن المقدمة الثانية هي مقدمة خطيرة، وجوابها مهم جداً، وهي: أن التصديق لا يكون إلا باللسان والقلب، فالإيمان كذلك، والعمل غير داخل فيه.
    ويقول رحمه الله: (وأما المقدمة الثانية فيقال: إنه إذا فرض أنه مرادف للتصديق) أي: وسلمنا بالمقدمة الأولى جدلاً (فقولهم إن التصديق لا يكون إلا بالقلب واللسان) أي: وحدهما فقط (عنه جوابان: أحدهما: المنع) أي: أن ننفي ذلك ونقول: ليس صحيحاً أن التصديق لا يكون بالأعمال، بل يكون بالقلب والقول والعمل.
    ثم يقول رحمه الله: (بل الأفعال تسمى تصديقاً، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) ) فقوله صلى الله عليه وسلم: ( والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) دليل ممن هو أفصح من نطق بالضاد لغة، ودليل من جهة الشرع؛ لأن رسول الله هو المبلغ عن الله وهو أعلم الناس بدين الله، وقد جعل العمل من التصديق.
    وقال رحمه الله: (وكذلك قال أهل اللغة، وطوائف من السلف والخلف) أي أن هذا أقر به أهل اللغة أيضاً فيما نقلوه من كلام العرب، وأقر طوائف من السلف والخلف.
    وقال رحمه الله: (قال الجوهري) والجوهري من أصدق وأوثق أهل اللغة؛ لأنه نشأ بين الأعراب فلم يتعلم اللغة تعلماً، وإنما عاش بين الأعراب الذين لم تفسد فطرتهم، ولم يختلطوا بالعجم، فأخذ اللغة عنهم مشافهة وتلقيناً.
    (والصديق مثل الفسيق، أي: الدائم التصديق، ويكون الذي يصدق قوله بالعمل) أي: فكلما قال قولاً صدقه بالعمل، فلا بد أن ينال درجة الصديقية؛ لأن أكثر الخلق كما هو مشاهد وعملهم دون قولهم بدرجات ومراتب متفاوتة، أما الذي لا يقول قولاً إلا عمله فصدق قوله عمله، فهذا هو الصديق في اللغة، وكذلك في الشرع فإن الصديق هو الذي يفي بما التزم به من ذكر وعبادة وعهد مع الله تبارك وتعالى. ‏
    1. مداخل الشيطان

      وقال رحمه الله: (وقال الحسن البصري : [ ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ]) وهذه كلمة عظيمة، وليست حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من كلام الحسن رضي الله عنه، وقد كان من أبلغ الناس وأبينهم وأفصحهم وأقربهم شبهاً في كلامه بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من فضل الله عليه.
      يقول الشيخ رحمه الله: (وهذا -يعني هذا القول- مشهور عن الحسن يروى عنه من غير وجه، كما رواه عباس الدوري : حدثنا حجاج حدثنا أبو عبيدة الناجي عن الحسن قال: [ ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال -ثم وضح ذلك- من قال حسناً وعمل غير صالح رد الله عليه قوله -لأنه بعلمه كذب قوله- ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل ] ذلك بأن الله يقول: (( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ))[فاطر:10]).
      والضمير في (يرفعه) يعود إلى الكلم، فالعمل الصالح يرفع القول الذي هو الكلم، وفي الآية وجهاً آخر، وهو أن يكون الضمير راجعاً إلى الله وإن لم يكن مذكوراً، فإنه جائز وهو كثير في كلام العرب؛ لأن الخطاب والسياق واضح في ذلك، فيكون معنى الكلام، إليه أي: إلى الله يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.
      إذاً: ما هو الفرق بين الكلم الطيب وبين العمل؟
      الجواب: أن القول يصعد إلى الله، والعمل الصالح يرتفع ويرفع معه القول، فالأصل هو العمل، والإنسان إذا أحسن العمل فإنه يرفع القول معه إلى الله تبارك وتعالى، فلو وجد كلام طيب بلا عمل لم يرتفع؛ لأنه لن يرتفع ولا يصعد إلا بالعمل.
      قال رحمه الله: (ورواه ابن بطة من الوجهين، وقوله: ليس الإيمان بالتمني، يعني بالكلام) وهذا يذكر ببحث سبق في موانع إنفاذ الوعيد عند قوله تعالى: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123] والقاعدة أن كل من عمل سوءاً فإنه يلاقي جزاءه، أما الأماني مثل: (( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ))[آل عمران:24] ونحو: (( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ))[المائدة:18] فهذه أماني لا يقبلها الله تبارك وتعالى، وكذلك إذا قال المسلمون: نحن أهل الحنيفية السمحة، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن الأمة الأخيرة ونحن الطائفة المنصورة ، فهذه تظل أمانٍ ما لم يصدقها ويؤكدها العمل، فالإيمان ليس بالتحلي؛ لأن التحلي سهل جداً؛ لأنه مجرد حلية ظاهرة، وكون الإيمان يصبح حلية ظاهرة سهل، ولهذا نحن نطالب المسلمين بالسنة الظاهرة، والواجبات الظاهرة، وبشعب الإيمان الظاهرة؛ لأنها أسهل من الباطنة، وإذا طالبت أحداً بها قال لك: إن الأمر بسيط، أو قلت له: اعف لحيتك، فيجيب: هذه ليست مشكلة، أو اقصر ثوبك ولا تجعله مسبلاً، فيقول هذه بسيطة، ولذلك فالشيء الظاهر لا شك أنه أسهل من الباطن، والمؤمن مطالب به، فكون اليقين موجوداً في قلبك، وكذلك الإذعان والتسليم والخشوع والرغبة والرهبة، فهذه ليست أموراً هينة، وإعفاء اللحية لا يستدعي إلا ألا تحلق، نعم قد يؤذى المرء بنبز أو كلام أو شيء من ذلك، لكن لن يكون الجهد فيه كمثل جهدك في أن تجعل قلبك يمتلأ بما ذكرنا من الأعمال القلبية، وأما الثوب فلا حرج عليك أن تجعله فوق الكعبين ولا يضرك ذلك، وإن أوذيت فإن تعبك سيكون أقل من تعبك لتكون محققاً لأعمال القلب.
      فالتحلي أيسر من تحقيق الإيمان، فإذا فرط العبد في التحلي فهو لما كان أعظم أشد تفريطاً، وهذا هو الأصل بصرف النظر عن الحالات العارضة، فالأصل أن الإنسان يستطيع أن يتمسك بالهدي الظاهر والعمل الظاهر، ولهذا لم يشق على المنافقين أن يقولوا: نحن مؤمنون مسلمون، وأن يحضروا الصلوات، وإن كانوا لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، وربما ينفقون الصدقات وإن كانوا لا ينفقون إلا وهم كارهون.
      وأنت ترى الناس في المسجد تقول: هؤلاء مسلمون ولا تقول غير ذلك، وتراهم يتصدقون فتقول: هؤلاء أهل الخير، فيدخلون أنفسهم في أهل الإيمان بالأعمال الظاهرة؛ لأنهم بهذا تسلم أموالهم ودماؤهم من سيف المسلمين، لكن أن يؤمنوا حقاً بالله تبارك وتعالى فهذا يحتاج منهم إلى الإخلاص والإنابة والتوبة وقطع الشهوات والرغبات، وإلى التخلي عن الحسد الذي في قلوبهم على المؤمنين، كما كان عبد الله بن أبي ؛ لأنه كما قال الصحابة رضي الله عنهم: ( أرفق به يا رسول الله، والله لقد قدمت وهم ينظمون له الخرز ليتوجوه ) ولذلك فقد حقد وحسد رسول الله؛ لأنه كان سبباً في فوات الملك والتتويج به -نسأل الله العفو والعافية-، وفتنته رفض الحق بسبب الملك لا يستطيع أن يقاومها كل أحد، ولذلك كان الكبراء في كل زمان ومكان هم أول وأكثر من يرفض الدعوة إلى الله، وكان الضعفاء في كل زمان ومكان هم السابقين إلى الإيمان بها.
      ثم قال رحمه الله: (التحلي أن يجعله حليةً ظاهرةً، فيظهره من غير حقيقة من قلبه، ومعناه ليس هو ما يظهر من القول، ولا من الحلية الظاهرة) ولكن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، والدعاوي لا بد لها من بينات، ولذلك تجد من مداخل الشيطان على أهل الخير والإيمان أن يغرهم بأعمالهم، فيوسوس لهم بأنكم أنتم المؤمنون وغيركم كفار، أنتم أهل السنة ، فمهما أهملتم وقصرتم في العبادات فعندكم أهم شيء وهي العقيدة والسنة، إنكم والحمد لله أهلها، وأما أهل البدع فلا خير فيهم ولو تعبدوا واجتهدوا، وهذا صحيح لا شك فيه، فأهل البدع مهما تعبدوا إذا كانت بدعتهم مغلظة كـالخوارج وأمثالهم فإنه لا يقبل منهم العمل، لكن فرق بين أن تعرف خطر البدعة ونعمة السنة، وبين أن تجعل هذا حجة للتراخي والإهمال والتفريط، فربما جاء الشيطان للشباب من هذا الباب، فيقول: أنا من أهل السنة و الطائفة المنصورة و الفرقة الناجية ، الحمد لله أنني لست من المعتزلة ولا من الرافضة ، فهذه الدعوى لا تكفي، بل لابد لكل قول من حقيقة تحققه، وإلا فالأعمال قد تكذب هذا القول، كمن يقول: أنا من أتباع منهج السلف الصالح، وهذا قول عظيم يقتضي واجبات كثيرة عظيمة، وتكاليف وأعباء جسام لابد منها في العقيدة، وفي الأمر بالمعروف وفي النهي عن المنكر، والصبر على الأخلاق، والورع، والزهد، والإعراض عن الدنيا كما نجده واضحاً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح، أما أن يتحلى الإنسان مجرد تحل بالإيمان وبالانتساب إلى المنهج الذي لا يقبل الله تعالى منهجاً غيره، فإن ذلك لا ينفعه حتى يعمل، ولو كانت الدعاوى تنفع الناس لنفعت الذين ادعوا الإيمان من الأعراب في قوله تعالى: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا ))[الحجرات:14] ولو أقروا على هذا القول لخيل إليهم أنه ليس بينهم وبين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كبير فرق، فليست المسألة دعاوى أو شعارات أو لافتات مجرد نسبة، بل هذا لا بد من تحقيق ذلك قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، خلقاً وعبادة ودعوة، في كل أمر وكل شأن.
      إن مما زهد أهل البدع وأهل الغفلة في الدين وفي منهج الحق ما يرون من تقصير أو خلل في سلوك أهله، فنسأل الله تعالى ألا يجعلنا فتنة للذين كفروا، ولا فتنة لأهل البدع والأهواء، فيرون من أعمالنا وأخلاقنا ما يصدهم عن أن يكونوا على ما نحن عليه من المنهج الحق.
      إن الحسن رحمه الله قال هذه الكلمة العظيمة، وشيخ الإسلام إنما شرحها ليؤكد هذا المعنى، ولم تكن مجرد استطراد فيقول رحمه الله: (فالعمل يصدق أن في القلب إيماناً، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيماناً؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر ولا بد، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم) فاللازم هو العمل الظاهر إذا انتفى دل على انتفاء الملزوم وهو العمل الباطن، ولذلك تستطيع أن تتفرس في الوجوه فتتوقع ما في القلب، وذلك أنه إذا حدث منكر من المنكرات ونظرت في وجوه الناس -ولم يتكلم أحد- فالذي لا ينكر هذا المنكر بقلبه تراه إن لم يكن مسروراً فهو لا مبالاة عنده بما حدث، أما الذي ينكر بقلبه فيظهر منه لازم إيمان القلب على الجوارح، فترى على وجهه الغضب والتمعر والانزعاج ولو لم ينطق، ولذلك كان الإنكار بالقلب من درجات الإنكار، ولا يصح أن يفهم أحد أن الإنكار بالقلب معناه أن تعلم أن هذا منكر، فإن كثيراً من الناس يعلم أن هذا منكر ولا يبالي، بل الإنكار القلبي يتعدى مجرد العلم إلى انفعال في القلب ضد هذا المنكر، ويظهر هذا الأثر ولا بد على الجوارح وإن لم يقل الإنسان بلسانه، ولذلك كان مرتبة من مراتب الإنكار، وإن كان في أقل المراتب.
    2. دلائل ومستلزمات التصديق عند السلف

      ويقول رحمه الله: (وقد روى محمد بن نصر المروزي بإسناده أن عبد الملك بن مروان كتب إلى سعيد بن جبير يسأله عن هذه المسائل) لأن عبد الملك بن مروان ظهرت في أيامه المشكلات بين المرجئة وبين الخوارج وغيرهم، فكتب إلى هذا العالم وهو من أعظم علماء الأمة في أيامه، وهو سعيد بن جبير يسأله عن الإيمان ونحوه من الكلمات التي إذا استعملت مطلقة أو مفردة، أو ذكرت في آية وكانت مفردة هل تشمل كل الأعمال، وهل إذا اقترنت بغيرها فهي بحسب ما يقيدها؟ فكتب إليه الجواب: (سألت عن الإيمان، فالإيمان هو التصديق أن يصدق العبد بالله -هنا الشاهد إذ عرفه بأنه التصديق، لكن أي تصديق؟ وملائكته، وما أنزل الله من كتاب، وما أرسل من رسول وباليوم الآخر، وسألت عن التصديق -أي إن أردت أن أشرح لك التصديق- فالتصديق أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن) فالتصديق هو العمل (وما ضعف عن شيء منه وفرط فيه) أي: فإن لم يعمل بكل شعبة من شعب الإيمان بأن ضعف عن بعض الشعب وفرط فيها قال: (يعلم أنه ذنب ويستغفر الله ويتوب)، وذلك يعني ألا يكون مصراً، فالمؤمن مع كل شعبة من شعب الإيمان لا يخلو إما أن يعملها ويأتي بها فينال أجرها، وإما أن يقر بأنه مذنب ويستغفر الله تعالى ويتوب، فهو بين الطاعة والتوبة، بين الامتثال والاستغفار، أما أن يعصي الله أو يذنب ولا يتوب ولا يستغفر ولا يبالي، فليس هذا من صفات المؤمن الصادق.
      ثم قال: (فذلك هو التصديق، وتسأل عن الدين فالدين هو العبادة، فإنك لن تجد رجلاً من أهل الدين ترك عبادة أهل دين، ثم لا يدخل في دين آخر إلا صار لا دين له).
      أي: أن الدين هو العبادة بدليل إنك لا ترى رجلاً ترك عبادة أهل دين، بأن كان يهودياً فترك اليهود وشعائرهم وأعمالهم التعبدية كلها، ثم لم يدخل في دين النصارى فيكون نصرانياً، أو يدخل في دين الإسلام دين الله الحق بل بقي هكذا فإنه يكون بلا دين، وإن كان في الاسم أو المولد يهودياً، وهذا قد كثر في هذه الأيام، فأكثر أهل الأديان في هذا الزمن المادي الموبوء بالضلالات والفلسفات والبدع والفجور تجدهم يعيشون عيشة بهيمية واحدة، ثم إذا سألت عن الدين ترى من يقول: هو يهودي، وآخر يقول: هو مسلم، وآخر هو نصراني، فهؤلاء لا دين لهم في الحقيقة؛ لأن الدين هو العبادة، فمن لم يتعبد بما يدين به فلا دين له.
      قال: (وتسأل عن العبادة فالعبادة هي الطاعة، ذلك أنه من أطاع الله فيما أمره به وفيما نهاه عنه فقد آثر عبادة الله، ومن أطاع الشيطان في دينه وعمله فقد عبد الشيطان، ألا ترى أن الله قال للذين فرطوا: (( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ))[يس:60]).
      ومعنى العبادة هنا الطاعة والاتباع، قال: (وإنما كانت عبادتهم الشيطان أنهم أطاعوه في دينهم) أي: تدينوا بما أمرهم به الشيطان، وهو العدو المبين، وتركوا ما أمرهم الله تبارك وتعالى أن يتدينوا به، فلما أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن جعل ذلك عبادة منهم للشيطان، فالشاهد أنه رضي الله عنه فسر التصديق بأنه العمل، وقال: التصديق أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن.
      فإذاً: كلام التابعين رضي الله عنهم يصدق ويؤكد كلام أهل اللغة، وكل هذا كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح يدل على أن التصديق يكون بالعمل.
      وهناك أيضاً آثاراً أخرى دالة على ذلك كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (قال أسد بن موسى حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثنا حسان بن عطية قال: الإيمان في كتاب الله صار إلى العمل) أي: يئول إلى العمل ويرجع إليه، فلو تتبعت الإيمان من القرآن إلى أين ينتهي تجد أنه ينتهي إلى أن تعمل وتنقاد بجوارحك، ومثل لذلك (قال الله تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ))[الأنفال:2] قال: ثم صيرهم إلى العمل فقال: (( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ))[الأنفال:3-4]) فبين أن الإيمان لا بد أن يتبعه العمل، فإذا ذكروا الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وعلى ربهم يتوكلون، وهذه كلها عبادات قلبية: الوجل، وزيادة الإيمان، والتوكل، ثم قال: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) فأتبع ذلك بعمل الجوارح، وأتبعه بعد الصلاة بالزكاة والإنفاق العام، بالزكاة المفروضة وبكل ما ينفقه العبد مما رزق الله لوجه الله، ثم بين: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فمن يقول: أنا مؤمن حقاً ولم يعمل هذه الأعمال يكون قد افترى وكذب.
    3. بدعة الامتحان في العقائد

      سأل رجل الحسن البصري رحمه الله قال: يا أبا سعيد أنت مؤمن؟ وهذا كان حين كثر الخلاف في هذه المسألة وتشعب حتى أصبح الإنسان يمتحن ليرى ماذا يقول، وهذا من سوء الأدب، وهذه ظاهرة تتكرر في كل زمان ومكان إلا ما رحم الله، فتجد من الناس من يكثر الأسئلة ويمتحن بها الناس، ولهذا يقول الشعبي رحمه الله: [ لو أن القرآن نزل في زماننا هذا لكان عامته يسألونك ] أي لكان أكثر شيء في القرآن يسألونك يسألونك، لكنها في القرآن في بضعة مواضع فقط؛ لأن الناس في هذا الزمان يسألون عن ما ينفعهم وما لا ينفعهم، وتجد طالباً للعلم لا يفقه كثيراً من أمور الدين، ولا من أحكام الصلاة، ولا من قضايا العقيدة المهمة فسمع الناس مثلاً يتكلمون في مسألة فيأتي ليستفيد ثم يقول: بلغني أن الشيخ فلاناً له رأي في هذا، وهكذا، ثم يفاضل بين هذا وهذا، فلا يستفيد شيئاً ولا يتعلم، ولذلك لا تسأل إلا عن الأساسيات التي تهمك جداً، ولا تخض في أمور أعمق، وتفاضل بين هذا وهذا؛ لأن هذا من حب الاستطلاع والطفل وسوء الأدب مع المسئول من العلماء، وما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعون يعملون هذا، فهذا الرجل الذي يسأل الحسن يريد أن يعلم هل هو مع الخوارج أم مع المرجئة ؛ لأنه إن سكت قالوا: سكت فهو من أهل البدع، لا يريد أن يقول الحق، وإن قال كذا بعد أن يستنطقه في كل مرة فهم شيئاً آخر وهذه بلوى ابتلي بها كثير من الشباب في هذه الأيام، فأصبح يستنطق ويسأل ويبحث عن كلام الناس، وما يرى الناس في فلان وفي القضية الفلانية، وهو يحتاج إلى أمر من أمور دينه الضرورية له التي لا يعلمها، وهذه بلوى عظيمة نعوذ بالله من هذه الفتنة.
      جاء الرجل قال: [يا أبا سعيد أأنت مؤمن؟ قال له: إن كنت تريد الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ))[الأنفال:2] فلست منهم، وإن كنت تريد الذين قال الله تعالى فيهم: (( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ))[التوبة:102] فأرجو أن أكون منهم].
      فنراه لم يخرج نفسه من الدين ولم يقل من الكلام ما فيه احتمالات، ولا قال: أنا مؤمن حقاً فزكى نفسه، وهذا من تواضعه رحمه الله، لكن حتى يعلم غيره من الذين خلطوا، فالقرآن بين مراتب الناس، فمنهم السابقون الأولون، ومنهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ومنهم مرجون لأمر الله، ومنهم الذين مردوا على النفاق فلا خير فيهم -نسأل الله العفو والعافية.
      قال: (سمعت الأوزاعي يقول: [قال تعالى: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ))[التوبة:11] والإيمان بالله باللسان، والتصديق به العمل]) والأوزاعي رحمه الله له كلام عظيم سيأتي، وكان إمام أهل الشام في زمانه، وفتنة الإرجاء والخروج وهذه الضلالات إنما نشأت في العراق ، فـالأوزاعي يقول كما روى اللالكائي: (وقد كان أهل الشام في عافية من هذه الفتنة -يعني الإرجاء- حتى قدم بها بعض أهل العراق) فعندما قدموا كان لا بد أن يبين العالم الحق في هذا، فأكثر رحمه الله من بيان حقيقة الإيمان وأنه لا بد فيه من العمل، ومما ذكره هذه الآية، وهي قول الله تبارك وتعالى: ((فَإِنْ تَابُوا))[التوبة:11] يعني: المشركين الذين ذكرهم في أول سورة براءة (فَإِنْ تَابُوا) أي: آمنوا وأقلعوا عن الكفر، والتوبة هنا من الكفر والشرك ((وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ))[التوبة:11].
    4. أساسيات الدين

      إن ديننا هو الإيمان والصلاة والزكاة، وهذه أساسيات الدين الثلاثة التي إن لم يأت بها العبد فلا عصمة لدمه ولا ماله كما في الحديث: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله )، أما الصيام فعبادة خفية، وأما الحج فيجب في العمر مرة، لكن هذه الثلاث هي الأصل، لأنها تدل على ما بعدها فديننا هو هذا، ومن انقص منه شيئاً فهو لم يأت به، فلو قال رجل: أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن لا أصلي لم يكن قد دخل في هذا الدين، ولا أخوة له في الدين، ولو قال: أشهد وأصلي، ولكن لا أزكي لم تثبت له الأخوة في الدين، لأنها تثبت بهذه الأمور، فقرن الإقرار والتصديق الذي هو معنى: (تابوا)، أي: أقروا بشهادة الحق ونطقوا بكلمة الإخلاص، وعملوا العمل وهو الصلاة والزكاة.
      وقال رحمه الله: (وقال معمر عن الزهري : [ كنا نقول: الإسلام بالإقرار، والإيمان بالعمل ]) أي: كانوا يفسرون أيام التابعين الإسلام بالإقرار، والإيمان بالعمل، وهو كما في حديث جبريل درجةٌ أعلى.
      يقول: (والإيمان قول وعمل، وهما قرينان لا ينفع أحدهم إلا بالآخر) فلا ينفع قول بلا عمل، ولا عمل بلا قول.
      ثم قال: (وما من أحد إلا يوزن قوله وعمله، فإن كان عمله أوزن من قوله صعد إلى الله، وإن كان كلامه أوزن من عمله لم يصعد إلى الله)، وهذا يذكرنا بالآية المتقدمة: (( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ))[فاطر:10].
      (ورواه أبو عمر الطلمنكي بإسناده المعروف).
    5. ترابط القول والعمل والنية

      قال رحمه الله: (وقال معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق الفزاري عن الأوزاعي قال: [لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل]) نقل الشيخ كل هذه الآثار ليؤكد أن ما زعموه من أن التصديق لا يكون إلا بالقلب واللسان التي هي المقدمة الثانية خطأ، وهنا كلمة عظيمة، وهو قوله: (لا يستقيم الإيمان إلا بالقول) فمن قال: آمنت وعرفت وصدقت ولم ينطق بكلمة الشهادة، ويعلن إذعانه وانقياده فهذه مجرد معرفة ليست إيماناً، فلا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل.
      قوله: (ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة) اختلفت عبارات العلماء والمراد واحد، وهو أن الإخلاص لا بد منه، والنية لا بد منها قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات ) وهذا عموم مطلق ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) فإذا لم تكن نيته خالصة وعمله موافقاً للسنة فلا ينفعه قول ولا عمل.
      [وكان ممن مضى من سلفنا -هذا من كلام الأوزاعي - لا يفرقون بين الإيمان والعمل] فـالأوزاعي يقول أن هؤلاء الذين قدموا بالبدعة من العراق قد خالفوا من أخذنا عنه هذا العلم من سلفنا الأئمة الأجلاء من الصدر الأول الذين لم يكونوا يفرقون بين الإيمان والعمل بل العمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وهذه كلمة عظيمة جداً، أما أن العمل من الإيمان فأمرٌ واضح وجلي، وأما أن الإيمان من العمل، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ( أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله ) فهذا من هذا، وذاك من هذا.
      ثم يقول: [وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها] فالإيمان اسم جامع يجمع الدين ويشمل المراتب الثلاثة كلها، ككلمة الدين، والإيمان الذي نتحدث عنه ونقصده ليس الإيمان الذي هو المرتبة التي هي أعلى من الإسلام، لكننا نعني الإيمان بمعنى الدين كما بينه صلى الله عليه وسلم في حديث: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) فالإيمان هو الدين، كما في آية الحجرات قال تعالى: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14] ادعوا فرد عليهم بقوله: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ))[الحجرات:15] وذلك مثل أبي بكر و عمر والصحابة إذ حالهم أنهم آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا، بل دخل الإيمان قلوبهم ولم يخالطه شك، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله في بدر و أحد والخندق و حنين وغير ذلك (( أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ))[الحجرات:15] يعني: هؤلاء صادقون إذا قالوا نحن المؤمنون، مع أنهم رضي الله عنهم لم يكونوا يزكون أنفسهم، وهم أزكى الخلق عند الله بعد الأنبياء، ثم يقول تعالى: (( قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ ))[الحجرات:16] فالدين هو الإيمان ويشمل هذه المعاني، كما قال الإمام الأوزاعي رحمه الله يقول: [ فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق بعمله فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها ] فلابد أن تجتمع هذه الأمور الثلاثة ما في القلب، وما في اللسان، وما في الجوارح.
      ثم قال: [ ومن قال بلسانه، ولم يعرف بقلبه، ولم يصدق بعمله ] أي: اكتفى من الإيمان بالقول فقط كان في الآخرة من الخاسرين.
      قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وهذا معروف عن غير واحد من السلف والخلف أنهم يجعلون العمل مصدقاً للقول) أي: أن ما ذكرناه آنفاً ليست إلا نماذج وأمثلة، وإلا فهذا كلام عام معروف عند العلماء عن السلف.
      قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ورووا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم) وهذا المروي في الحقيقة غير ثابت، قال: (كما رواه معاذ بن أسد حدثنا الفضيل بن عياض عن الليث بن أبي سليمالليث هذا ضعيف- عن مجاهد أن أبا ذر رضي الله عنه: ( سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: الإيمان الإقرار والتصديق بالعمل، ثم تلا: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ... ))[البقرة:177] إلى قوله: (( وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[البقرة:177] ) ).
      قال: (قلت حديث أبي ذر هذا مروي من غير وجه) وكثير من كتب الإيمان تروي ذلك، وممن رواه الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره عند تفسير هذه الآية، وذكره البخاري وغيره، ولكن الحديث ليس ثابت الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
      يقول شيخ الإسلام: (فإن كان هذا اللفظ هو لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا كلام، وإن كانوا رووه بالمعنى دل على أنه من المعروف في لغتهم أنه يقال: صدق قوله بعمله) وهذا رواه عبد الرزاق وغيره عن الحسن ، فإذا كان الكلام من كلام أبي ذر ، أو من كلام الحسن ، أو من كلام مجاهد فالمقصود متحقق، وهو أن السلف يفسرون هذا بهذا، ويجعلون الإيمان هو العمل ويفسرونه به.
      أما الجواب الثاني بأنه إذا كان أصل الإيمان التصديق فنجيب عنه بجوابين:
      الجواب الأول: أن ننفي أن الإيمان هو التصديق وأنهما مترادفان، ثم نجعل رد المقدمة الثانية من وجهين:
      الوجه الأول: هو ما ذكرناه آنفاً وهو أن نقول: هب أن الإيمان هو التصديق، فالتصديق يكون بالقلب واللسان والعمل كما هو كلام السلف.
      الجواب الآخر: أنه لو فرضنا إنه مرادف أو أنه مأخوذ منه فقد رده المؤلف بقوله: (فهو تصديق مخصوص) ليس كما هو في أصل اللغة، وأخذ رحمه الله يمثل على ذلك ببقية العبادات كالصلاة والصوم والحج والزكاة وغير ذلك، من حيث معناها في اللغة.
  3. أحوال استخدام الشارع لألفاظ اللغة

     المرفق    
    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (وبسبب الكلام في مسألة الإيمان تنازع الناس: هل في اللغة أسماء شرعية نقلها الشارع فسماها في اللغة، أو أنها باقية في الشرع على ما كانت عليه في اللغة؟ لكن الشرع زاد في أحكامها لا في معنى الأسماء) إلى أن يقول: (وذهبت طائفة ثالثة إلى أن الشارع تصرف فيها) هذا كما تقدم، فتكون الحقائق لغوية وشرعية وعرفية، الأسماء ثلاثة أنواع: إما شرعية، وإما لغوية، وإما عرفية أي: في عرف الناس، فلدينا أحد الاحتمالات الثلاثة: إما أن الشرع نقلها عما كانت عليه في اللغة، أو أنه غيرها، أو أنه استعملها استعمالاً جديداً، يقول الشيخ: (والتحقيق أن الشارع لم ينقلها ولم يغيرها) فالذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله أن مثل هذه الأسماء أن الشارع لم ينقلها عن معناها اللغوي نقلاً كاملاً، ولم يغيرها فتصبح مجرد حقيقة شرعية أو لفظ شرعي (ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة) يعني: هذه الأسماء كلها في اللغة مطلقة، ولكن يأتي الشرع فيقيدها، فمثلاً: الصلاة في اللغة مطلق الدعاء، فمن دعا بيديه وقال: يا رب فقد صلى، ومن صلَى صلاة كاملة فقد صلى في اللغة، ولذلك جاء حديث أبي رضي الله عنه عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله: ( كم أجعل لك من صلاتي؟ ربعها، ثلثها، نصفها، ثلثيها، قال: إذاً أجعل لك صلاتي كلها )، يعني يكون ذكره كله الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكتفي بها عن أي ذكر وأي دعاء، فإذا أراد أن يدعوا صلَى على النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذاً تكفي همك، ويغفر لك ذنبك ).
    إذاً: الصلاة هنا بمعنى الدعاء في الشرع، وعندما نقول الصلاة في كتب الفقه فالمراد: دعاء مقيد، وهي: أقوال وأفعال معينة تبتدئ بالتكبير وتختتم بالتسليم على الهيئة الشرعية التي جاءت، فلم يغير أصل المعنى، وإنما قيد إطلاقه، هكذا يرى شيخ الإسلام رحمه الله.
    مثال ثانٍ: فسق في اللغة بمعنى خرج، وعصى وتمرد، وهو في الشرع خروج مقيد، إذ الفاسق شرعاً هو الذي خرج عن أمر الله وعن طاعته، فارتكب محرماً، أو أتى كبيرة، أو ترك واجباً.
    مثال ثالث: الحج في اللغة: القصد، يقال: حججت إلى فلان يعني: قصدته، ولكنه قيد في الشرع بأن يكون قصد البيت الحرام لأداء النسك المعروف في الشرع، فقيد إطلاقه ولم يتغير معناه، بل أضيفت إليه قيود جعلته قصداً خاصاً لا عاماً، وكذا الصوم في اللغة: مطلق الإمساك، وفي الشرع: إمساك عن أمور معلومة في وقت معلوم، وكذلك الزكاة في اللغة: مطلق النماء أو الخير أو البركة، وفي الشرع: هي ما قدره الشارع في المال.
    نأتي إلى النفاق والجهاد والغيبة قد يقول البعض: هذه أسماء لم يكن لها عند العرب معنى، أي: أن هذا المعنى الشرعي أحدث، ومعناها في لغة العرب كان معنى آخر تماماً -كما تقدم- فكان العرب إذا قالوا: النافقاء يعنون به، بيت اليربوع الذي يأتي ثلاثة أبواب من هنا وهنا وهنا، فلا تدري من أين يخرج عليك، فكان الرجل إذا مشى يدخل من هنا ويخرج من هناك ويذهب، فالمنافق والعياذ بالله هذا حاله، يدخل في متاهات، فإن أردت أن تنظر إليه من هنا أو تمسك به من هنا خرج من هناك، فلا تقبض منه شيئاً، فهناك قدر مشترك بينهما في السلوك، وكذلك الجهاد هو القتال بنية التقرب إلى الله، فمتى عرف العرب ذلك؟ الجواب: أنهم لا يعرفون إلا السلب والنهب، وكل واحد يفخر بأنه سبى ونهب وساق قطيعاً من الإبل من عدو أو غيره، يقول:
    وأحياناً على بكرٍ أخينا            إذا لم نجد إلا أخانا
    أي: إذا لم تجد القبيلة إلا أختها هجمت عليها، فساقوا الإبل، وسبوا النساء، وقيدوا الأسرى، وهكذا حياتهم.
    إذاً: كيف يعرف هؤلاء معنى الجهاد؟ إنهم لا يعرفونه كما هو حال العالم اليوم إلا من رحم الله، لقد وجد نهب ودماء وقتال، ولا نعرف شيئاً من هذه الأعمال يراد به وجه الله عز وجل، وكذلك الغيبة معناها الهجاء عند العرب، وهو نوع من أنواع الشعر لا بد منه، وكانوا يتفاخرون أن هذا الشاعر له في المديح كذا وكذا، وقد مدح هرم بن سنان وغيره، وله في الفخر كذا مع قبيلته، وله في الغزل والنسيب كذا عن عبلة و ليلى وفلانة وفلانة، وله في الهجاء كذا، إذ لا بد أن يهجوا أحد، أما مجالسهم فهذا يتحدث في هذا، فمتى عرفوا أنك إذا ذكرت أخاك بما يكره فقد فعلت كبيرة؟ إن كثيراً من المسلمين الآن لا يعرفون هذا، بل كثير من طلاب العلم يعرفون هذا الحديث، ولكنهم لا يقدرونه حق قدره، فكيف كان العرب في الجاهلية يعرفونه؟ ولهذا لم يشبهه الله تعالى في القرآن إلا بأكل لحم الأخ ميتاً، فهل يوجد في الدنيا من يأكل لحم أخيه ميتاً، ويرضى ذلك؟
    الجواب: لا. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ) وهذا يبين حرمة الدماء والأموال، وبعض الناس ربما يقول: أنا لم أقتل ولم آخذ مالاً، ولو أخذ ريالاً حراماً استعاذ بالله، ولكنه يجلس للقيل والقال والغيبة، فيقال له: الورع أن تترك كل حرام، فالذي حرم الدم والقتل قد حرم النفس وحرم العرض معها، فلماذا تنال من عرض أخيك، وهذا مما تهاون فيه المسلمون، ليس فقط المسلمون، بل الدعاة وطلبة العلم أصبح مألوفاً أن يتكلم في هذا بعلم وبغير علم، بل ربما يستدعي الغيبة، فيجلس ويقول: ما رأيك في فلان فيستخرج الغيبة والعياذ بالله.
    ولفظ (أخاك) في الحديث: لا يدخل فيه الكفار، ولا أهل البدع الذين خرجوا عن السنة والجماعة والعياذ بالله، ولا يدخل فيه العاصي الفاجر الذي جاهر الله تبارك وتعالى بمعصيته؛ لأنه معلن بفجوره، وذكرك أخاك بما يكره أن تقول: فلان فعل كذا، وهو لو كان جالساً لكره ذلك، ولو بلغه ذلك لكرهه ولم يرضاه ولم يقبله، فلم يجز الشرع الغيبة وهي الكلام في أخيك بما يكره إلا في مواضع مقيدة تقييداً شديداً بما لا بد منه، مثل: عموم الاستشارة والاستنصاح؛ كأن جاءت امرأة أو وليها وقال: ما رأيك في فلان، هل أزوجه ابنتي؟ فلا يقال هنا: الغيبة حرام؛ لأنه إن تورعت ولم تذكر الرجل بسوء فإنك تكون قد ظلمت الفتاة وخنت في النصيحة، لكن عليك أن تتأكد مما تقول ولا تقول مباشرة: لا خير فيه، بل تأكد فربما قد لا تحتاج أن تغتابه، فإذا تبين لك أنه خاطب جازم، وإنما بقي فقط المشاورة فتقول: أعلم فيه كذا وكذا، ولا تكتمها؛ لأنك ستظلم هؤلاء.
    وهكذا ولو استنصحك رجل في شركة أو معاملة مع رجل كأن سألك: جاء رجل وقال: أعطني مائة ألف استثمرها، فإن كان صادقاً فانصحه بما تقتضيه حق النصيحة الذي هو من أعظم الحقوق، لأن ( الدين النصيحة )، ولهذا فإن ( النبي صلى الله عليه وسلم بايع جرير بن عبد الله البجلي على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، حتى بلغه أن فرساً له بيعت بثمان مائة درهم، وهو يرى أنه لا يستحق إلا أربعمائة، فذهب ليسأل عن الرجل حتى لقيه، فقال له: إنك اشتريت الفرس وإنه لا يساوي إلا أربعمائة درهم، فعجب الرجل وقال: والله إني لأرى أني لو دفعت فيه أكثر فلا بأس، فأنا راغب فيه، فقال: ولكني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم ).
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.