المادة كاملة    
إن بيان معاني الألفاظ الشرعية إنما يؤخذ من الشرع، فهو الذي تكلم بها، وكلف الناس الإيمان بها، والخروج عن هذا المنهج أياً كان قصد صاحبه سيكون سبباً في مخالفة ما أراده الشرع من هذه الألفاظ. والناس في هذا طرفان ووسط، فطرف فرَّط وكان سبباً في جرأة الناس على الفسق بحجة أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وطرف أفرط فكفر المسلمين بمجرد فعل المعصية، والحق هو ما كان عليه السلف الصالح من أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
  1. مسألة الإيمان

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال المصنف رحمه الله: (وإذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً، فلا محذور فيه سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي بأن يقول: أنا مؤمن مسلم حقاً كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله!).
    ثم يقول: [فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي، وبهذا المعنى قالت المرجئة : لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله! وهذا باطل قطعاً].
    1. مرجئة الفقهاء

      قال: [الإمام أبو حنفية رضي الله تعالى عنه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع، وبقية الأئمة رحمهم الله نظروا إلى حقيقته في عرف الشارع؛ فإن الشارع ضم إلى التصديق أوصافاً وشرائط كما في الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك، فمن أدلة أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، قال تعالى مخبراً عن أخوة يوسف: (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ))[يوسف:17] أي بمصدق لنا، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك، ثم هذا المعنى اللغوي -وهو التصديق بالقلب- هو الواجب على العبد حقاً لله، وهو أن يصدق الرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا، هذا على أحد القولين كما تقدم؛ ولأنه ضد الكفر هو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب، فكذا ما يضادهما.
      وقوله: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106] يدل على أن القلب هو موضع الإيمان لا اللسان، ولأنه لو كان مركباً من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه، ولأن العمل قد عطف على الإيمان، والعطف يقتضي المغايرة، قال تعالى: ((آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) في مواضع من القرآن]
      اهـ.
      ما ذكره رحمه الله من أنه لا يجوز أن يقع البغي والعدوان والافتراق قد سبق شرحه، ولذلك ننتقل إلى الجملة التي تليها من المحذورات التي ذكرها رحمه الله وهي قوله: (وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم) أي: أنه لا يجوز أن يصبح خلاف المرجئة الفقهاء -الذي هو خلاف لفظي في هذه المسألة- ذريعة إلى الخلاف الحقيقي الذي هو خلاف المتكلمين الذين خالفوا أهل السنة والجماعة في هذا الأمر، ووقعوا في الإرجاء المذموم، وقد كتب المعلق على الطبعة التي حققها الدكتور عبد الله التركي و شعيب الأرناؤوط -ولا أتردد أن هذا من تعليق شعيب الأرناؤوط وليس من تعليق الدكتور عبد الله التركي -يقول: (الإرجاء المذموم الذي يعد بدعة هو قول من يقول: لا يضر مع الإيمان معصية، وأما من يقول بإرجاء أمر المؤمنين العصاة إلى الله ولا ينزلهم جنة ولا ناراً ولا يتبرأ منهم فهذا لا بدعة، ولا يذم قائله).
      وهذه القضية واضحة جداً، وهذا الرجل غفر الله لنا وله يبدو أنه حنفي المذهب، فيريد أن يدافع عن الحنفية بأي طريقة، لكن الحق أحق أن يتبع، ونحن نحب الإمام أبا حنيفة رحمه الله وندافع عنه وعن أي إنسان، ونحمل كلامه على أحسن المحامل، أما إذا كان الكلام خطأ فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يضيره ذلك إذا كان الرد بالدليل العلمي وبالأسلوب المقنع، فلا يضر أحداً أن يرد عليه، وإنما يكون الإثم والبغي والعدوان في الغلو والتجاوز والسباب والتهم وسوء الظن، وتحميل الكلام ما لا يحتمل ونحو ذلك مما هو خارج عن حد العدل الذي أمر الله تبارك وتعالى به، ونحن أولاً نناقش: هل فعلاً صار هذا الكلام ذريعة ًإلى بدع أهل الكلام المذموم؟ نقول: نعم أصبح كذلك؛ لأن المرجئة في الحقيقة هم جزء من الفرقة الكلامية كـالأشعرية الذين شيخهم في الكلام هو أبو الحسن الأشعري ، ويعتبرون علم الكلام هو علم التوحيد، لذلك يقولون: إنه أول من كتب في العقيدة، مع أن العقيدة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أول ما دعا إليه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأمر رسله إلى الأمم وإلى القبائل والبلدان أن يكون أول ما يدعون إليه هو العقيدة، فيأتي رجل في أول القرن الرابع ويكون هو أول من كتب في العقيدة! والقرون الثلاثة ماتت على ماذا؟ وهذا دليل واضح على أنهم يقصدون بالعقيدة غير ما نعتقده نحن، فعلم الكلام عندهم هو العقيدة، وجعلوا ما كانت عليه الثلاثة القرون المفضلة من الاعتقاد مجرد أخذ بالظواهر دون تمحيص ونقد عقلي، فالنقد العقلي المتميز الذي يأتي بالحجج والبراهين الجدلية عندهم هو ما وضع وأصل على يد أبي الحسن ومن جاء بعده.
    2. كيفية ظهور علم الكلام وأثره في الإرجاء

      وعلى هذا فأهل الكلام في نظر الأشاعرة هم أهل العقيدة، وقد قدر أهل الكلام الأشعرية في كتبهم مسألة الإرجاء، ووقعوا فيها، وكان ذلك نتيجة لجدل من تقدمهم من المرجئة من أهل الكوفة أو الفقهاء في إنكارهم أن الإيمان يزيد وينقص، أو يركب ويتبعض أو ما أشبه ذلك، ففتحوا الباب للمتكلمين الذين أتوا بأدلة جديدة وكان المرجئة الفقهاء يذكرون أدلة نقلية أو لغوية، أنه لو كان كذا لكان كذا، ولعطف الإيمان على العمل، ولأن الكفر هو التكذيب والإيمان هو التصديق وما أشبه ذلك ولا يتعدون.
      ولما دخل علم الكلام ونقل عن الفلسفة اليونانية جاء وأصل وقرر هذه المسألة تقريراً مختلفاً تماماً وذلك عن طريق ما يسمونه بعلم المنطق اليوناني، وهو لا يستحق أن يسمى علماً إلا تجوزاً ومجاراة وتنزلاً.
      وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا العلم لا يحتاج إليه الذكي، ولا يستفيد منه البليد، وهذا العلم نشأ في بلاد اليونان بسبب ظرفي ذاتي في تلك البلاد ولا تحتاجه الإنسانية جميعاً، وإنما لوجود طائفة ممن ينكرون حقائق الأشياء ويشكون في كل شيء، أو يوردون احتمال الشك على كل شيء، ويسمون السفسطائين أو أهل السفسطة، أي: الجدل والشك في أي شيء وإنكار الحقائق، فجاء أرسطو ومن معه كـفرفويوس وغيره فرتبوا وقعَّدوا هذه القواعد البدهية جداً ليردوا على هؤلاء ويثبتوا حقائق الأشياء، فقسموا التقسيمات المنطقية المعروفة: الجنس والنوع والفصل والخاصة، وجعلوها قواعد يستطيع الإنسان أن يصنع بها الحد الذي هو التعريف أو المميز، فهو علم أو قواعد وضعت في بيئة خاصة إن نفعت فإنها تنفع أولئك القوم، أو تنفع في الرد على من وضعت للرد عليه لا أكثر من ذلك، والمسلمون أخذوه مع أن هذا الأخذ لا يجوز؛ لأنه مخالف لأصول العقيدة، ولكنهم فعلوا ذلك في زمن المأمون الذي ظن أنه بإنشاء دار الحكمة قد بنى صرحاً حضارياً علمياً وثقافياً -كما يقال اليوم أيضاً-، فيأخذ عن اليونان هذه العلوم، ونشأ عنها ضلال كبير، ولم يقف الأمر عندما نشأ عن المنطق من إفساد للذوق العربي، ورحم الله الإمام الشافعي حيث قال فيما نقله عنه ابن رجب في كتابه: فضل علم السلف على علم الخلف: (ما فسد الناس أو ما فسدت عقولهم إلا عندما تركوا منطق العرب وأخذوا منطق أرسطو طاليس ) فمنطق العرب هو الفطرة السهلة الواضحة التي لا تحتاج إلى تعقيد ولا إلى تكلف، وتوصل المعلومة والرد عليها بأيسر طريق وأوجز بيان، فلما ترك المسلمون ذلك وانصرفوا عنه إلى ما قرره اليونان ظلوا وانحرفوا وفسدت عقولهم وفطرهم، فلم يتوقف الفساد عند هذا الحد وإنما ظهر من يقرر أنه أساس جميع العلوم، فـأبو حامد الغزالي في مقدمة كتابه المشهور: أصول الفقه وهو المستصفى يقول: إن من لم يتقن المنطق ويتعلمه فلا ثقة في علمه مهما تكلم، وقد رد عليه الإمام ابن الصلاح رحمه الله والنووي وغيرهما من العلماء الذين أنكروا ذلك، ولهذا جاء في منظومة المنطق السلم المنورق :
      ابن الصلاح والنووي حرما                        وقال قوم ينبغي أن يعلما
      ولكن الذي صار عليه أكثر الأمة اعتماد هذا العلم حتى أصبح مقدمة لأصول الفقه، فيرغمون طالب الأصول أن يتعلم المنطق ثم يتبعه بأصول الفقه، وحينها أصبح مفتاحاً لمفتاح الفقه، وهذا المنطق لا حاجة لدراسته، وقد كان سبباً في نقل الخلاف والجدل من شبهات نقلية أو عقلية كما يلاحظ في مسألة الإيمان إلى جدل منطقي يتكلم عن ماهية الإيمان، وكيف نعرف حقيقته، وكيف ننفيه من الأمور العرضية التي ليست من حقائقه وتتدرجت بهم الأمور حتى اعتبروا أن العمل هو عرض من الأعراض، أما ذات الإيمان فهو التصديق، فوصلوا إلى ما يريدون الوصول إليه من قول المرجئة الفقهاء لكن بطريقة أخرى وبأسلوب منطقي طويل ومعقد، وأصبحوا لا يستدلون بالنصوص، بل يستدلون بالقواعد المنطقية، فلا ريب أن ما قاله المرجئة الفقهاء أصبح فعلاً ذريعة لأهل الكلام المذموم.
      فتحقق أن الاستدلال في هذا المذهب انتقل من الاستدلال باللغة أو ببعض الأدلة النقلية الشرعية إلى استدلال منطقي بحت، والنتيجة واحدة، والذي أوصل هؤلاء إلى هذه النتيجة هم المرجئة الفقهاء ؛ لأنهم يظنون أنهم بهذا الترتيب العقلي يؤصلون منطقياً ما قرره أولئك نظرياً أو استدلالاً ببعض النقول.
    3. تحذير السلف من الإرجاء

      وعندما رد ابن تيمية على أهل الإرجاء ونحوهم وعلق الأرناؤوط بأن الإرجاء المذموم هو إرجاء آخر، وكأن هناك إرجاء غير مذموم.
      والرد عليه أن أعلم الناس وأفقههم وأعرفهم بالدين هم علماء القرون الثلاثة المفضلة وهم يمثلون حقيقة الأمة، بل ورد ذم الإرجاء عن بعض متأخري الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، وليس فقط عن التابعين الذين ورد عنهم الكثير، وقد نقل ذلك عن الأئمة ومنهم الإمام أحمد رحمه الله، وقد نقل ذلك عنه ابنه عبد الله في كتابه السنة ونقل بالأسانيد الصحيحة المتصلة عن كبار التابعين وبعضها عن الصحابة. ثم عن تابعي التابعين، ثم عمن بعدهم في ذم الإرجاء، وكذلك اللالكائي وغيره من الأئمة.
      فهؤلاء المرجئة المذمومون هم الذين نقرأ عنهم في كتب الجرح والتعديل عند قول: فلان كان يرجئ، أو كان فيه إرجاء، أو كان يرى الإرجاء وما أشبه ذلك، وهذا إرجاء مذموم بلا ريب؛ لأن من ذمه هؤلاء القوم فلاشك أنه مذموم؛ لأنهم أعلم الناس وأعرفهم بالدين والعقيدة، وبما يذم وما لا يذم، وبما يضل وما لا يضل ومن يعد مبتدعاً ومن لا يعد كذلك، وهؤلاء هم الحجة في هذه الأمة على من بعدهم من الأجيال، وقد جعلوا هذا الإرجاء بدعة مذمومة وكلامهم هو المعتبر.
    4. الرواية عن أهل البدع

      أما أن هؤلاء المرجئة تقبل روايتهم فهذا شيء آخر؛ لأننا لو تأملنا حقيقة ما يهدف إليه علم الرجال، وما أراده السلف الصالح من هذا العلم بالنسبة للأحاديث فإننا نجد أن الشرط الأساس الذي يجب أن يتوفر في الإنسان وعليه يقبل حديثه هو الصدق، أما ما يتعلق بغير ذلك كأن يكون مخطئاً أو متلبساً بشيء من البدع ولكنه يصدق فإنهم يأخذون حديثه ويردون بدعته، ولذلك فإن عمر بن حطان الخارجي الشاعر المشهور الذي رثى وأثنى على عبد الرحمن بن ملجم قد روى له البخاري رحمه الله، وغيره كثير من الأئمة الثقات كـمسلم وأحمد وأبو داود الذين يروون لمن تلبس بمثل هذه البدع.
      ومن تأمل الخوارج يعرف من حالهم أنهم لا يكذبون لأنهم يرون من يكذب كافراً، ولأن أحاديثهم محصت فوجدت صحيحة، فيؤخذ حديثهم وترد بدعتهم، هذا هو الأصل. أما البدع التي يكذب أهلها كـالرافضة فقد نص العلماء على أن الروافض أكذب الناس فلا تقبل روايتهم، ولذلك إذا قيل: فلان رافضي فإنه لا تقبل روايته، لكن إذا قيل: فلان كان يتهم بالإرجاء أو كان يميل إلى الخوارج ، فهذا يقبل إذا علم صدقه وضبطه وإتقانه، فالغرض هو التأكد من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا، وهذا يعلم بصدق الراوي وضبطه وإتقانه، وأما ما فيه من البدعة ولم يكن داعياً إليها وإنما وقع فيها فهذا لا يكاد يسلم منه أحد، بل ربما كان بعض مرجئة الفقهاء دعاة إلى بدعتهم، ومع ذلك يقبل بعض حديثهم، ولكن بشروط أخرى غير مسألة صحة عقيدته أو التلبس ببدعة.
      فإذاً: أهل الإرجاء عموماً مذمومون وإن قبل حديثهم فليس ذلك تزكية لعقيدتهم، فالبدعة بدعة ولا تقبل من أي أحد كان، ولكن استيفاء شروط قبول الرواية لا يقدح فيها ألا يكون متلبساً بهذه البدعة، وهذا هو الذي عليه عمل أئمة هذا الشأن.
      وهذا من باب العدل الإنصاف، فإننا لو تركنا رواية الصادق الثقة؛ لأنه أخطأ في مسألة فوافق فيها بعض أهل البدع، ولا يرى أنها من البدع، وما قامت عليه الحجة، ويرى أنه على الحق وعلى السنة لكان ذلك خطأ منا وظلماً وتعدياً، ولخسرنا شيئاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثبت وصح النقل به، فالعدل أن نأخذ ما ثبت، ولكن لا نأخذ من المبتدع بدعته؛ لأن البدع كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كل بدعة ضلالة )، ولكن ربما كان المبتدع معذوراً في خطئه، فنحن نأخذ صدقه، وأما خطؤه فأمره إلى الله إن كان معذوراً عند الله عز وجل عفا عنه، وإن كان غير ذلك فيجازيه الله بما أخطأ، ونحن علينا أن نبين ما أخطأ فيه من الوقوع في البدعة من جهة، ولا نرد الحق الذي جاء به إذا تأكدنا من صدقه وضبطه وإتقانه.
      ولهذا نجد علماء السنة كما في كتب الرجال لا تناقض لديهم بين أن يقولوا: إن فلاناً ثقة ويصححون حديثه، وبين أن ينسبوه إلى التلبس بشيء من هذه البدع، لكن بشرط لا تكون بدعته مغلظة، وألا يكون رأساً في الضلالة، وهذا من حسن ظنهم، لا سيما إذا كان المبتدع ذا علم وعبادة واجتهاد، أو قلد واتبع، وكل إنسان يمكن أن يقلد فإذا قلد يمكن أن يخطئ وأن يقع فيما لا يجوز أن يقع فيه مثله، لكن من علم الحق وبلغه نور الوحي واستضاء به لا يجوز له أن يقره على ذلك ولا أن يقلده، وأما هو في ذاته فربما كان معذوراً، إذ قد يخفى بعض الحق على بعض الناس وإن اجتهد في طلبه وتحراه، فكيف بمن لم يبلغه من الحق إلا ذلك وتربى ونشأ عليه.
    5. تسبب الإرجاء في انتشار المعاصي

      وقول المؤلف: (وإلى ظهور الفسق والمعاصي بأن يقول: أنا مؤمن مسلم حقاً كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله، فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي…) أي: ومما يؤدي إليه مذهب المرجئة الفقهاء أيضاً أن تكثر المعاصي والفجور والتحلل من الأوامر والنواهي، فيقول الرجل: إنه مؤمن كامل الإيمان؛ لأنه مصدق كما قرر العلماء مثلاً، والعمل ليس من الإيمان، وهذا قد وقع ولا يزال يقع، وهو من أسوأ ما تقع فيه الأمة اليوم، فتجد من الناس من يقول هذا وإن لم يتعلم كلام المرجئة ، ولا يعلم من هم المرجئة ، لكن الشيطان يعلمه ويلقنه، وإذا قلت له: اتق الله يا أخي! لماذا لا تلتزم بطاعة الله في صلاتك وأدبك ومظهرك وفي كل شيء؟ قال: يا أخي! الإيمان في القلب، وهذا هو كلام المرجئة ، يعني: أن العمل ليس من الإيمان، فهذا لسان حاله وإن لم يقله، فيقول: أنت ما اطلعت على قلبي فلا تناقشني في هذا، مع أنك عندما وعظته أو ذكرته ما اعترضت على ما في قلبه؛ لأنه لا يعلم ما في القلوب إلا الله عز وجل، والذين يتكلمون عما في القلوب والنيات بغير علم ولا برهان، هم من أكبر المغترين والكاذبين، فالنيات غيب لا يعلمها إلا الله، فأنت اعترضت عليه ظاهر حاله، فرد عليك بإحالتك إلى أمر باطن لا يمكن أن تطلع عليه أنت، فيلزمك أن تصدقه فيما يقول فتكون دعواه: أنا مؤمن والحمد لله، وأحب الله، وأحب النبي، وأنا كامل الإيمان، فلا خيار لك إلا أن تقبلها ولو كنت تعتقد أن الإيمان فقط هو ما في القلب، فلا بد أن تسمع منه وأن تصدقه.
      لكن عندما تقول له: يا أخي! الإيمان قول وعمل، فأين العمل؟ أنا أطالبك بالجزء المفقود، أما الذي في قلبك فإننا نرجو أن يكون كذلك، نحن نسألك عن الذي ظهر من الفجور والفسق وما أشبه ذلك مما قد يستند فيه صاحب الزيغ إلى مذهب المرجئة ، فتراه يقول: بعض العلماء يقولون كذا، أو أنا من الحنفية الفقهاء الذين يقولون: الإيمان في القلب، والعمل ليس شرطاً، وعليه فلو أن أحداً كان فعلاً من أهل الفجور والمعاصي ثم حضر إلى حلقة علمية أو درس في أكثر الكليات في العالم الإسلامي التي تقرر مذهب الإرجاء، فدرس هناك أن الإيمان هو ما في القلب، وأن العمل شرط كمال، فسيجد نفسه مطمئناً إلى ما يعمل، وإذا جاءه أحد وقال له: يا أخي لم لا تصلي؟ وذكره بآيات الله وأحاديث الوعيد، إذا به يتذكر ما قرأ ويقول: يا أخي! الإيمان في القلب وأنا مصدق في قلبي، والناس يبحثون دائماً عن مبرر، وقد لا يكون طالب علم، بل عامياً.
      فلو جاء خطيب يخطب أو يلقي محاضرات يكون فيها الرد على حسب أصول أهل السنة والجماعة فيقول: لا تسمعوا لهؤلاء المتطرفين الأصوليين الخوارج الذين يجعلون الدين قولاً وعملاً، والدين فقط هو الإيمان والإيمان، هو التصديق، فالرجل العامي وإن كان يعلم إهماله للصلاة وتقصيره في حق الله وأنه غير متمسك عندما يسمع هذا الكلام تهون عليه معاصيه، ويرى أن الذي يعفي لحيته أو يقصر ثوبه أو يلتزم بصلاة الجماعة ويؤدي النوافل متطرفاً، ويرى أنه هو المعتدل وغيره هم المتطرفون، وهكذا فإن تقرير هذه البدع لا بد أن يؤدي إلى ظهور الفسق ويعين عليه ويبرره ويفلسفه، حتى عند من لا يعتقده اعتقاداً، وهذا ليس في هذا العصر فقط، بل حدث ووقع في العصور الماضية.
  2. بدعة الخوارج وبدعة الإرجاء بين الغلو والتقصير

     المرفق    
    وإذا كان الغلاة الذين يرون أن مرتكب الكبيرة يكفر يقعون في الفسق والفجور والمعاصي، فما بالكم بالذين مذهبهم أن الإيمان هو ما في القلب؟
    إن الإنسان إذا انحرف عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادة والاتباع والاستقامة فإنه يمكن أن يضل ضلالاً بعيداً، فلا يبالي الله عز وجل في أي واد هلك، وهذه هي مصيبة الغلو أو التقصير، فتعجب إذا وجدت بعض الخوارج الذين يقولون: لابد من الالتزام الحرفي الدقيق بكل ما أنزل الله، وبكل ما جاء في القرآن، وبكل ما جاء في السنة، ومن خالف الله تعالى في أمر واحد من أوامره فقد كفر، لكن الخوارج أنفسهم لم يسلموا من هذا، بل آل بهم الحال إلى أن يقول بعضهم: إن سورة يوسف ليست من القرآن، وهذا كفر..
    والفرقة التي قالت هذا القول كفرت بلا شك، وخرجت من الدين، حيث أنكروا سورة يوسف؛ لأن فيها ذكر المرأة والعشق، فقالت: هذا لا يليق بكتاب الله، فانظروا إلى الغلو كيف يخرج صاحبه إلى الكفر والعياذ بالله، وإن كان في الأصل يريد تصحيح العقيدة، ويرى أنه على الحق أو يظهره، لكن ينقصه الاتباع، هذا في جانب الاعتقاد.
    1. مقولة المرجئة لا يعلم لها قائل معين

      إن القول المشهور للمرجئة أنه لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، وسبق أن بينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: (لا يعلم لها قائل معين، ولم يصرحوا هم بذلك في كتبهم) وهذا من الإنصاف والعدل، ونحن مع شدة عداوتنا وبغضنا للإرجاء وردنا على المرجئة إلا أننا لا نظلمهم، فهذه العبارة ينقلها أهل الفرق ومنهم الأشعرية الذين هم مرجئة ويقولون: تقول المرجئة كذا، لكن لم نجد أحداً قال بها، ولا نعلم لها قائلاً معيناً، فنقول: إن هذه العبارة كما وردت لا نعلم لها قائلاً معيناً، ولا يوردها أحد في كتابه إلا ويذمها، والمرجئة وإن كانوا ينكرون ذلك كـالأشعرية فإنهم يأتون بهذه العبارة ويذمونها، فربما تكون أحياناً وهماً، وربما أن يكونوا ظنوا أن المرجئ يقول هذا، وأرادوا القول أن الذي يقول كقولهم ليس بمرجئ، ثم بعد ذلك أصبح هذا القول وكأنه قول حقيقي يوجد في الواقع من يعتقد ذلك أو يتكلم به، وهذا باطل لا شك فيه، هذه هي الأمور التي رأى الشيخ أنه لا ينبغي أن تقع وهي كما يلي:
      أولاً: لا يجوز وقوع العدوان والافتراق بسبب ذلك.
      ثانياً: الحذر من أن يكون الإرجاء عند الفقهاء ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم.
      ثالثاً: أن يكون مؤدياً إلى ظهور الفسق والمعاصي.
    2. مثال موافقة المعتزلة للخوارج في مرتكب الكبيرة

      أما في جانب العمل فنأخذ مثالاً آخر، وهو الجاحظ المعروف بكتبه التي تملأ المكتبات، وقد كتبت عنه رسائل دكتوراه وماجستير، وعقدت ندوات أدبية عنه، وهو على مذهب المعتزلة ، ويقرر تكفير صاحب الكبيرة، وله رسالة يكفر فيها معاوية رضي الله تعالى عنه وعمرو بن العاص وأمثالهما، فهو على مذهب الخوارج الذين يكفرون الناس، والخوارج و المعتزلة يلتقون في الغلو في هذا الأمر، وإن كان المعتزلة قد يتورعون ولا يطلقون الكفر على مرتكب الكبيرة، بل يقولون هو في منزلة بين منزلتين، لكنهم يتفقون مع الخوارج على أنه خالد مخلد في النار، فهم وإن اختلفوا في الاسم فقد اتفقوا في الحكم، لكن بعضهم يصرح أن مرتكب الكبيرة كافر فعلاً مثل معاوية رضي الله تعالى عنه وغيره، ويسب أهل السنة والجماعة الذين لا يعتقدون تكفيره، فهذا الجاحظ كان فاسقاً ماجناً خليعاً في حياته، وكتبه تنطق بذلك، فلم يكن متمسكاً ولا مستقيماً على ما شرع الله، وهو الذي يقرر ويقعد ويؤصل أن الذي يرتكب الكبيرة يكون كافراً، وفيه من الكبائر ما فيه، ولو لم يكن فيه إلا ما حشا به كتبه -غير مسائل العقيدة الفاسدة- من أخبار الفجور والزنا والخمر وما أشبه ذلك دون تعقب وكأنه يقره.
      فالمقصود أنه إذا كان أهل الغلو والتشدد في التمسك والطاعة في نظرهم كـالخوارج و المعتزلة يقع منهم الانحلال، وتفشو المفاسد والمعاصي والذنوب فيهم، فكيف بمن يرى أن الإيمان هو ما في القلب فقط، فإن هذا يمكن أن يعمل أي شيء، فهو أجدر وأحرى وأولى أن يكون منه ذلك. ‏
  3. مدرسة ابن أبي العز الحنفي

     المرفق    
    يقول المؤلف رحمه الله: (وإن كان الأمر غير ذلك -أي: ما حصلت تلك الأمور- فيظل الخلاف لفظياً).
    ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى كلام الإمام أبي حنيفة رحمه الله ورضي الله عنه عن حقيقة الإيمان، وهنا يظهر في الإمام ابن أبي العز التالي:
    أولاً: اتباعه للحق وتجرده عن التعصب، وهذا أمر يشكر عليه؛ لأنه حنفي المذهب، وكان رئيساً للقضاة على المذهب الحنفي، ومع ذلك فإن هذا لم يجعل منه مقلداً متعصباً، وهو يشكر على هذا، ولا سيما في العصور المتأخرة التي ظهر فيها التعصب، ووصل الأمر إلى التقاتل وليس مجرد النقاش والردود.
    ثانياً: هو العدل والإنصاف، فإنه أنصف الإمام أبي حنيفة بعرض ما يرى أنه أدلة له، ثم أنصف أهل السنة ولو إلى حد ما في حدود ما يرى هو من عرض جوابهم عن هذه الشبهات، فقضية مثل هذه ليست قضية هينة، فقد كثر فيها الكلام من القرن الأول، بل جاء عن بعض الصحابة كلام فيها، فهي منذ القرن الأول منتشرة، وافترقت الأمة فيها، ورد بعضهم على بعض، ووصل الأمر إلى أن يكفر بعضهم بعضاً، ثم يأتي رجل ينتمي إلى المذهب الذين يتبنى العقيدة المخالفة ويدافع عنها، ويرى أنها من أهم أسس المذاهب، كما يرى المقلدون والمتعصبون للمذهب، ويأتي هذا الرجل الذي هذبته عقيدة السلف وهذبه اتباعه للسلف الصالح، فقد كان تلميذاً للحافظ ابن كثير رحمه الله، وابن كثير كان تلميذاً لـابن تيمية و ابن القيم .
    إذاً: فلا غرابة في هذه المدرسة السلفية التي نشأت في ذلك القرن المظلم، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى، وذلك في أوائل القرن الثامن بعد تدمير التتار لـبغداد ودخولهم البلاد، واندثار الكثير من العلم.
    ومن فضل الله تعالى أنه لا يمر بالأمة حقبة مظلمة إلا وينبلج النور بعدها، وتلك الفترة المظلمة قد انبلج فيها نور عظيم، وظهرت فيها مدرسة سلفية عظيمة كان فيها شيخ الإسلام ابن تيمية و المزي رحمهما الله، وخرج الحافظ ابن كثير و ابن القيم و الذهبي ، ثم ابن أبي العز ، ثم جمع كبير جددوا مذهب السلف ومنهجهم وعلمهم بعد أن كان يوجد في القرن الرابع والخامس العجب العجاب، حتى أن هناك من العلماء الذين هم حنابلة ويتبعون الإمام أحمد ، بل يتعصبون له، ومن وجد في كلامهم في العقيدة قليلاً من الانحراف، مثل القاضي أبي يعلى ، فالمقصود أنه قل أن يخلوا كلامهم في الجملة من كلام المعتزلة أو الرافضة الذين انتهجوا منهج المعتزلة رغم شدة عداوة الحنابلة للرافضة في كل العصور، فسبحان الله كيف خرجت هذه المدرسة الأصلية بميزان العدل، فظهر هذا الرجل الذي هو الإمام ابن أبي العز تلميذاً لتلك المدرسة الخيرة، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله النموذج والقدوة في هذا العدل.
    والذهبي رحمه الله كان كذلك من أكثر الناس تحرياً للعدل كما هو معلوم في سير أعلام النبلاء وغيره، وإذا خالف الذهبي بعض أئمة السلف أو خالف ابن تيمية رحمه الله في شيء فهو في ظنه أن من العدل أن يقال هذا وقد يكون مخطئاً، فقد يحسن الظن ببعض أهل البدع كما في كلامه في بشر المريسي مثلاً، ولكنه ما أراد بكلامه هذا إلا العدل والإنصاف، ولا حرج على الإنسان إذا أراد أن ينصف فأخطأ، إنما الحرج أن يبغي وأن يعتدي وأن يتحامل ولو أصاب؛ لأنه لا بد أن يكون الكلام بالعدل.
    والمقصود أن شيخ الإسلام رحمه الله قعد وأصل هذا المنهج في الإنصاف في كتابه: رفع الملام عن الأئمة الأعلام ، وذلك في عصور الظلام حيث كانت تتقاتل الأمة في خراسان وغيرها، ويذكرون في كتب الفقه أن الطعام إذا وقعت فيه نجاسة مثلاً فليطعمه لكلب أو لشافعي، وكذلك يقال عن لحنفي، ويقررون هذا الكلام من شدة عداوة البعض للبعض، في حين أن الرافضة وأهل الكلام وأهل الفلسفة وأمثالهم يتطاولون على الأمة ويهدمون دينها، كـالطوسي الذي تسميه الخوارج اليوم نصير الدين وهو نصير الكفر الطوسي وأمثاله ممن يسيطرون على عقول الأمة، وهؤلاء المقلدون يتعصب بعضهم على بعض، ويحارب بعضهم بعضاً، ويثيرون العوام بعضهم على بعض، وكانوا قد اقتتلوا في اليمن في مسألة فرعية بين الزيدية والشافعية، فالتعصب يورث الافتراق ويورث الاقتتال، فأتى شيخ الإسلام رحمه الله وكتب كتابه: رفع الملام عن الأئمة الأعلام ليبين أن الأئمة الأربعة معذورون حين اختلفوا، وهم في كل أحوالهم بين الأجر والأجرين، ويبين الأصول التي بسببها يقع الاختلاف، وأن بعضها الخلاف فيه سائغ وجائز إلى آخر ذلك فرحمه الله، فقد وضع أصولاً تربوية، واستنبط أحكاماً ومسائل علمية.
    ولذلك من الأمور المهمة جداً أن يجمع طالب العلم، وكذلك كل من أراد الحكم في أي مسألة بين أمرين:
    أما الأول: فهو العدل، وأما الثاني: فهو أن يقرأ ويجمع أطراف المسألة والأقوال فيها؛ لأن من كان لا يعرف إلا قولاً واحداً في هذا الأمر فخالفه أحد قال: هذا خطأ ومخالف وهذا لا يجوز، وهذا من الخطأ؛ لأنه لا بد أن يسمع الطرف الآخر وأن يقرأ في المسألة، فربما وجد أن الطرف الآخر أصح دليلاً، وأقوى حجة، وأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة، وهذا الكلام فيما يجوز الخلاف فيه من الأمور الاجتهادية لا الأمور العقدية؛ لأنها واضحة وهي إجماعية، ولكن هناك مسائل فرعية قد تندرج تحت أبواب العقيدة، وفي أمور الأحكام والفروع عامة.
    فإذا كنت لم تسمع إلا قولاً واحداً كما هو الآن من حال أكثر الذين يتطاولون على المخالف ويتهجمون؛ لأنهم لا يعلمون في المسالة إلا قولاً واحداً تعودوا عليه، ولا يريدون مخالفته، مع أن مثل هذا ينبغي أن يراجع المسألة ويعرض الأدلة من هاهنا وهاهنا، وأقل شيء أن يخرج بنتيجة أنها مسألة خلافية إن لم يجزم بأن الآخر على صواب، فإن تبين لك بعد هذا أن ما تقوله هو الحق فتكون قد ازددت علماً ومعرفةً ويقيناً أنك على الحق، وهذا أقوى لك.
    وهناك أمر آخر: وهو أنه إذا كان الطرف الآخر المخالف قد رآك عرضت أدلته من أقوى مصدر ذكرها، ثم رددت عليها واحداً واحداً بدون أي تحامل ولا تهجم فإنه سيميل إلى منهجك، وربما رجع عن رأيه إلى رأيك، لكن لو جئت وتهجمت عليه وأتيت بالكلام من غير مصادره الصحيحة، وقطعت منه مثلاً أو حرفت في كلامه وحملته ما لا يحتمل، فكيف تريد أن يقبل منك؟ فبمجرد أن يراك فسيقول: هذا محرف متطاول ومتحامل وباغ ومعتد، فيركل كلامك مع أنك قد تكون على القول الراجح، لكنك ما أحسنت عرض الأدلة.
  4. مدرسة الإمام ابن تيمية

     المرفق    
    لقد رأيت في كتب شيخ الإسلام رحمه الله شيئاً أعجب من هذا، وهو أن أهل البدع أي: من كان متمسكاً بها داعياً إليها، وليس الذي أخطأ فوقع في مسألة فرعية توافق بعض الأقوال البدعية وهو لا يشعر، فمن هو المعصوم الذي لا يقع في الخطأ؟ وهذا بخلاف أهل البدع الذين هم حملتها ودعاة إليها، كما في ردوده في الكتاب العظيم وهو منهاج السنة الذي رد فيه على الروافض و المعتزلة وأشباههم، ونقض فيه كلام الشيعة القدرية، و شيخ الإسلام عندما يورد لهم قولاً في كل كتبهم تقريباً أو كل أئمتهم وهم يعنون بهذا القول معنىً واضحاً محدداً عندهم، ولكنه يقول رحمه الله: (لا يخلو أن يكون مقصودهم كذا أو كذا) فيأتي بالغرض الذي هم يقصدونه فعلاً، وهو الاحتمال الأول هو الذي يريدونه ولم يذكروا غيره، ثم يذكر هو احتمالاً آخر ويقول: إن الكلام قد يحتمل كذا، ثم يرد عليهم في هذا، ويبين لهم الحق.
    وقد تقول أنت: رحم الله شيخ الإسلام لماذا يحتمل لهم الاحتمال الآخر وهم لم يقصدوه ولم يقولوه، فلم لا ننتظر حتى يقول المبتدع: أنا لم يكن قصدي هذا، ثم ترد عليه، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله أعدل من ذلك وأوسع علماً، فهو يفترض لو جاء أحد من أئمتهم لاحقاً، وهو صاحب عقل أوسع من عقولهم، وعنده مقدرة على تفتيح المسائل، ولديه سعة في النظر والاستدلال، وقال: أنتم تتحاملون على الشيعة مع أن الشيعة حين قالوا هذا إنما كان مقصودهم كذا، فمن الذي يرد عليه وقتها؟
    فـشيخ الإسلام يضع أمامك الاحتمالات كلها، ويبين الجواب على أي احتمال، فتجد فيه إنصافاً وعدلاً، ورداً جاهزاً، فمهما قال المبتدعة فالرد موجود والحمد لله، ولهذا إذا رأيت الآن أي بدعة ظهرت فنقب في كلام شيخ الإسلام فستجد الرد، فسبحان الله الذي أعطاه العلم والبركة فيه! ورزقه العدل والإنصاف والتحري للحق.
    1. الشهادة لابن تيمية بمناقشة احتمالات قبل وقوعها

      وأحكي لكم عن بعض الإخوة وقد كان رجلاً فاضلاً ومربياً وأستاذاً جامعياً، وكان فيه إعجاباً بـشيخ الإسلام مع أنه كان لا يعلم كلامه ولا قرأ كتبه، بل كان على عقيدة أخرى، ثم عرف العقيدة الصحيحة فأخذ يقرأ لـشيخ الإسلام بشغف ونهم وحب وإقبال، فلما ظهرت الحداثة قال: حتى الحداثة قد رد عليها شيخ الإسلام، وفعلاً له كلام حول هذا الموضوع، وقد قلت لمن سألني عن هذا: إنه صحيح، وهو موجود في الموضوع الفلاني عندما تكلم عن اللغة والاستدلال بها والاشتراك اللفظي، وغرض الباطنيين في اللغة والمتكلمين هو نفس مقصد الحداثيين، حتى البدع التي قد تتخيلون أنها بعيدة العلاقة بالعقيدة ولكنك تجد من كلام شيخ الإسلام -بإذن الله- ما يعينك على ردها بالإجمال أو بالتفصيل؛ لأنه رحمه الله كانت له عقلية كبرى ولو ضاق أفقه عن سماع الرأي المخالف، وأخذ يتهجم ويفترض سوء النية ويبدع كل من خالفه لمجرد أنه خالفه ما كانت له هذا المنزلة.
      فلا تنسوا العدل الذي أمر الله به عند مناقشة أي قول تعرضونه، فعندما تقرأ فإنه يجب أن توسع أفقك حتى مع النصارى فضلاً عن أهل البدع، فلو أنك تريد أن ترد على النصارى في قولهم بالأقانيم الثلاثة، وأخذت قول طائفة منهم وتركت الطوائف الأخرى التي لها رأي في هذا الباب، ألا تتوقع أن يعترضوا عليك، وأن يكتب كاتب منهم ويقول: لقد رددت علينا مع أننا في الفرقة الفلانية لنا رأي آخر؟
      كما لو جاء من يتهجم على الإسلام ويصفهم بأنهم قوم همج، ويقول: إني رأيتهم في الكويت وفي البحرين وفي بعض مناطق من السعودية في يوم عاشوراء يأخذون الخناجر والسكاكين ويضربون أنفسهم حتى ينزل الدم، ويحملون جنازة ويقولون هذه جنازة الحسين، وهذا غير لائق، فحينها ببساطة ترد عليه بأن هذا دين الشيعة وكلامهم، وليس كلام أهل السنة ، وكذلك عندما تتكلم عن رأي للكاثوليك فتوقع أن يقول البروتستانت : هذا كلام الكاثوليك، ونحن نكفر بابا روما ومن معه ولا نؤمن به، فإذا كنت تجادل فجادلنا فيما نؤمن به، فالذي يريد أن يتصدر لمنازلة الأعداء فلابد أن يكون مؤهلاً، والتأهيل ليس صعباً لكن من شروطه أن يكون الإنسان على درجة من الإنصاف والإقناع.
    2. الشهادة لابن تيمية من أعدائه بدقة نقله وأمانته

      ولكن مع ذلك فإن سامي النشار مثلاً يتهجم على شيخ الإسلام في كل مرة، بمناسبة وبغير مناسبة، حتى ينسبه إلى فرق لم يرد عليها أحد أكثر منه رحمه الله، أو ينسب إليه أقوالاً ما قالها، ولكنه اعترف في كتابه: نشأة الفكر الفلسفي ، أن ابن تيمية دقيق في النقل، وأنه لا ينقل كلام أحد إلا كما هو، فما استطاع أن ينكر ذلك.
      وهذه حقيقة فلو أنك أردت أن تطابق مثلاً بعض ما كتبه الإمام ابن عبد البر رحمه الله لتتأكد منه كأن لديك مخطوطتين تقابل بينهما، فخذ كلام شيخ الإسلام وقارنه مع ذلك الأصل ستجد أن الفروق لا تخرج كما لو كانت بين مخطوطتين أو بين كتاب منه نسختان.
      لكن هناك أئمة آخرون كـأبي حامد الغزالي وغيره وهم أئمة، ولا يتعمدون الكذب ولا نظن فيهم إلا الصدق، لكنك تجد النقل عندهم يختلف؛ لأنه قد ينقل بالمعنى.
      إذاً: لا بد من الدقة والأمانة في النقل فلا تأخذ أول الكلام وتدع آخره، ولا تأخذ الكلام مجرداً عن السياق الذي جاء فيه، وقد ذكرنا الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله في أول كتاب الإيمان، ورد على المرجئة عن أبي وائل عن عبد الله ، و شقيق بن سلمة هو تلميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال زبيد اليامي: سألت أبا وائل عن المرجئة فقال: حدثني عبد لله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ).
      ولو كان سئل أبو وائل عن الخوارج لأجابه بأنهم يقاتلون الأمة ويستحلون ذلك، لقالت الخوارج : نعم نحن كذلك؛ لأن أصحاب المعاصي كفار، والصحابة كفروا، فنحن نقاتل هذه الأمة على الكفر؛ لأن الذين تقاتلوا يوم الجمل ويوم صفين كانوا كفاراً؛ لأن (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، فيكون الحديث حجة لهم، يؤولونه على مذهبهم، وليس المقصود منه ذلك، لكن المرجئة هم الذين يحتاجون أن يعلموا خطر المعاصي، فيقال لهم: مجرد السب فسق، فإذا ارتقى إلى القتال صار كفراً، لكنه لا يُخرج من الملة؛ وما هذا الجواب عن المرجئة إلا لأن قضية الخروج من الملة عندهم لا ترد؛ لأنهم يحملون الكلام على عدة محامل بحيث لا يصل الإنسان عندهم إلى الخروج من الملة؛ لأنهم مرجئة ، أما الخوارج فيبحثون عن أي كلمة فسق فيجعلونها كفراً ويحتجون بالآية: (( إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ))[الكهف:50].
      فالعدل ألا تخرج الكلام عن سياقه، وأن تعلم لمن كان الكلام موجهاً، وما المراد منه، وإلا وقعت في شيء من الإخلال بالأمانة والعدل، فليتحر الإنسان العدل ما استطاع.
      وهنا وقفة تربوية لا بد منها في معرفة منهج شيخ الإسلام لمعرفة ما كان عليه من الإنصاف والعدل والتحري حين يقول: (فالإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع) وهنا لا بد لنا من وقفات قبل أن ندخل في تفصيل كلامه.
  5. قاعدة الرجوع إلى اللغة

     المرفق    
    الوقفة الأولى: الرجوع إلى اللغة كمبدأ من حيث الأصل لا بأس به، ولكن شيخ الإسلام هنا يريد أن يقول: النظر إلى حقيقة الإيمان لغة لابد له من قواعد، فما القاعدة في الرجوع إلى اللغة؟ أي: متى نرجع إلى اللغة، ومتى لا نرجع إليها؟ وما الفرق بين رجوع أهل السنة والجماعة إلى اللغة، ورجوع أهل البدع إلى اللغة؟ بغض النظر عن كون الإمام أبي حنيفة من هؤلاء أو من هؤلاء؛ لأننا الآن لا نريد أن ندخل في كلامه هو، بل نريد أولاً تقرير قاعدة الرجوع إلى اللغة، فنقول: كل لفظ يرجع إلى أصله، فإن كان من كلام الشارع فيعرف بما جاء في الكتاب والسنة، وإن كان مجرد كلام لأهل اللغة فنرجع فيه إلى كلام اللغويين، وإن كان كلاماً عرفياً فنرجع فيه إلى العرف، والعرف يختلف.
    فما ثبت تعريفه بالكتاب والسنة؛ فإننا لا نحتاج معه إلى الرجوع إلى لغة العرب؛ لأن الشارع إما أن يأتي بألفاظ جديدة، أو ينقل المعنى اللغوي إلى معنىً شرعي آخر، فنحن في مسائل العقيدة والدين التي أوضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلاها أجلى بيان لا نحتاج فيها للرجوع إلى أهل اللغة، وهذا لا يعني أننا لا نستأنس بكلامهم، أو نبين أقوالهم، لكن لا نرجع إليهم لنعرف الحق أو الصواب، بل الأصل أن نرجع إلى الكتاب والسنة وفهم السلف؛ لأن السلف يجمعون بين كون اللغة لغتهم، فهم أفصح الناس، وبين أن القرآن والسنة علمهم وعقيدتهم ودينهم، فهم أعرف الناس بذلك.
    1. العلة في عدم الاعتماد في الحقائق الشرعية على معناها اللغوي

      لا تؤخذ الحقائق الشرعية إلا من كلام الوحي، ولا نحتاج في بيان الحقائق الشرعية لا إلى أهل اللغة ولا إلى غيرهم من المتكلمين، فهم أبعد في معرفة مدلول كلام الشرع لسببين:
      الأول: أن بعض الكلام الذي يأتي به الشارع لا يكون موجوداً في لغة العرب، فالمفهوم نفسه لا يوجد له مثل في اللغة كالجهاد، فالجهاد كلمة شرعية، ومعناها الشرعي ليس له وجود عند العرب في الجاهلية، وكذا الزكاة، ولكن قد يقال: إنها نقلت من المعنى اللغوي، لكنها في لغة العرب تعني: الطهارة والنماء، ولا علاقة بين الطهارة والنماء وبين أن يخرج الرجل قسماً من المال مخصوص بنية مخصوصة في وقت مخصوص لفئة مخصوصة، وكذلك لفظ التيمم في اللغة هو مجرد القصد، لكن الشارع نقله إلى معنى آخر، فهذا يمكن أن يكون جديداً، وكذلك لفظ النفاق والغيبة، فهذه كلمات لما تكن معروفة عند العرب بهذا المعنى، وإن قيل: هي ألفاظ عربية من لغة العرب، فإن الشارع قد جاء لها بمعنى جديد لم تعرفه العرب من قبل.
      وكذلك فإن هناك معانٍ مشتركة، مثل الصلاة، فإنها أقرب ما تكون في المعنى إلى الدعاء؛ لأن الصلاة في لغة العرب هي الدعاء، والدعاء معروف عند العرب، فقد كانوا يدعون عند الكعبة وغيرها، فالصلاة هي الدعاء، فهذا اللفظ منقول إلى معنى شرعي آخر.
      وهناك ألفاظ جاهلية أماتها الإسلام بالكلية، فلا وجود لها الآن في لغة العرب والمسلمين، وهي لا تذكر إلا كتاريخ مثل: ما أبطله الإسلام من العبادات الجاهلية، فهذا لا وجود له معنىً، بل قد نسي المعنى عند أهل اللغة، ومثل ذلك ما كان يجعله العرب في الغنائم من المرباع والصفايا وغير ذلك من أمور الجاهلية، وكذلك الاستقسام وإن كان -والله المستعان- يفعله بعض المسلمين، لكنه لم ينس بالكلية مثل المرباع، وهو أن رأس القبيلة يأخذ الربع من الغنيمة، فهذا المعنى قد نسي حقيقة ولفظاً.
      والخلاصة: أن الشارع إما أن يأتي بمعنى جديد لكلمة لفظها في لغة العرب، فيأتي لها بمعنى جديد لم يعهده العرب من قبل، أو ينقله إلى معنى آخر مع وجود الصلة بين المعنيين، فالإيمان إن قلنا: إنه لفظ جديد كالجهاد والنفاق لم يرجع في معرفة معناه إلى أصل اللغة فهذا جواب، والجواب الآخر أن نقول: إن الإيمان له علاقة بالإيمان اللغوي وهو التصديق، ولكن التصديق نفسه في عرف الشارع يختلف عما يعنيه هؤلاء، بل حتى في لغة العرب يختلف معناه عما يظنه المرجئة ؛ لأن التصديق في عرف الشارع وفي كلام العرب يطلق على القول والعمل، والمهم هنا بيان أن التصديق قد يطلق على العمل قال صلى الله عليه وسلم: ( والفرج يصدق ذلك أو يكذبه )، وقال تعالى: (( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ))[الصافات:105].
      فإذاً: التصديق يطلق على العمل، ففي كلا الحالتين نستطيع أن نرد على هؤلاء المرجئة ونبين مخالفتهم للغة والشرع في بيان معنى الإيمان.
      والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    2. أثر اللغة ومتى يكون الرجوع إليها

      وإلا فالذي لا يتعلم اللغة العربية لا يفهم ولا يفقه العلم، وهذا لا شك فيه، ولكن متى نرجع إلى اللغة كأساس في معرفة الحق والصواب؟ أما تعلم اللغة باعتبارها وسيلة فهذا لا شك أنه من العلم النافع.
      ونبين هذا بمثال: لو أن هناك عالماً كبيراً من علماء اللغة وقرأ قول الله تبارك وتعالى: (( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ))[ص:75] وقوله: (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64] فهل يؤمن بها كما جاءت، أو يقول: نرجع إلى اللغة، ونرى ما قالته اللغة في معنى اليد؟
      والصواب أن نرجع إلى ما قاله السلف الصالح، وكيف فهموا هذه الآية، وكيف علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه معاني هذه الآيات؟ والقاعدة في هذا الإيمان بما صح في القرآن والسنة فلو قال شخص: نؤولها بالقدرة أو بالنعمة؛ لأن العرب تطلق اليد على القدرة والنعمة، ويأتي لك بشواهد وأشعار، نقول له: نعم، نحن لا نشك أن العرب تطلق اليد على القوة والقدرة والنعمة، لكنها تطلق أيضاً على اليد الحقيقية بالنسبة للإنسان، والتي هي صفة بالنسبة لله تبارك وتعالى حقيقةً، فنحن كيف نميز بين هذه المعاني الأربعة والخمسة والستة؟ هل نرجع إلى اللغة في هذا؟
      الجواب: لا. لأننا لا نحتاج إلى اللغة في مثل هذا الأمر، ولا يعني هذا أن لغة العرب لا تدل على تلك المعاني، والله تعالى يقول: (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64]، ويقول: (( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ))[ص:75] فهل يصح عندكم في اللغة تثنية المصدر؟ فتثنية كلمة القدرة لا تصح؛ لأن المصدر لا يثنى ولا يجمع، ولذا تجد في كتب الفقه أن العلماء اللغويون ينتقدون قول الفقهاء: كتاب البيوع؛ لأن الصحيح أن يقال: كتاب البيع؛ لأن كلمة البيع مصدر يشمل جميع البيوع، ولكن خرجها بعضهم بأن هذا باعتبار أنواعه لا المصدر في ذاته، فالفقيه يريد أن يقول: كتاب البيع الحلال، وبيع الغرر، وبيع الجهالة وبيع كذا، فهو باعتبار هذه الإضافة يجمع، فيجوز أن تقول: البيوع، وإلا فإن المصدر لا يثنى ولا يجمع، وصفة اليد في القرآن جاءت مثناة، إذاً: هي ليست مصدراً، فلا يصح أن يقال: معناها القدرة وغيرها.
      وكذلك في حديث النزول يقولون: ينزل الله، أي: رحمته وأمره، وفي الحديث: ( ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل ) وهو حديث صحيح متواتر، فنحن نقول: نحن لا نحتاج إلى هذا التأويل، وإن كان هذا التأويل قد يرد في لغة العرب، وقد يحل المضاف محل المضاف إليه أو ما أشبه ذلك.
      ثم نقول: ثانياً: لا يصح هذا؛ لأننا عقلاً نقول: إن رحمة الله تنزل كل حين، وأمر الله ينزل كل حين، لكن هو بذاته تبارك وتعالى لا ينزل في الثلث الأخير، ففرق بين هذا وبين هذا، فنحن نلزمهم حتى من جهة اللغة؛ لأنه -والحمد لله- لا تعارض بين الحق الذي جاء في الكتاب والسنة وبين اللغة، لكن نحن نقول: إننا نرجع في مسألة الإيمان إلى ما جاء جبريل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( أخبرني عن الإيمان ) فأجاب صلى الله عليه وسلم: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) وهذا الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان هو عن السؤال بـ(ما)، فهو جواب عن الماهية في قواعد المنطق، والماهية مشتقة من (ما هي) أو من (ما هو)، فماهية الإيمان أو حقيقته هي المسئول عنها، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب، فيأتي القاضي أبو بكر بن الباقلاني ويقول: (والإيمان هو التصديق؛ لأن العرب لا تستعمله إلا كذلك، ويقول: فلان يؤمن بالبعث أي يصدق به) وذكر أمثلة ليست من كلام العرب، بل من كلام الناس، ونحن نقول له: يا شيخ الأشعرية لا نحتاج إلى اللغة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جاءه جبريل وسأله عن الإيمان، فحيثما أردت أن تعرف حقيقته في العقيدة فقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أي: مع اقترانه بالإسلام، ولا تقل: الإيمان: هو التصديق بدلالة اللغة؛ لأن العرب تقول كذا، والناس يقولون كذا، بل من العجب أن في فتح الباري في شرح هذا الحديث الذي في صحيح البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه تجد أنهم يقولون: لماذا عدل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المعنى اللغوي إلى غيره؟
      وهذا التساؤل عجيب منهم، فمن الذي قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتصدر في المسجد للناس ويأتيه السائلون فيسألونه عن لغة العرب، وماذا قال امرؤ القيس ، وماذا قال فلان؟ وما معنى كذا في لغة العرب؟
      فالناس إنما يسألونه صلى الله عليه وسلم عن الدين الذي جاء به، ويجيبهم بالدين، ولهذا لما ذهب الرجل قال: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) فالكلام إنما هو عن الدين، فلماذا تذهبون إلى اللغة؟ لكن لو جاء رجل إلى أبي عبيدة أو إلى الأصمعي أو إلى الخليل بن أحمد وقال له ما الإيمان؟ فقال: التصديق، فنعم؛ لأنه يسأل عن المعنى في اللغة؟ لأن هؤلاء أئمة لغة، والذي يأتيهم إنما يسألهم عن اللغة؛ لأنه يرجع في كل فن إلى أهله، ولكن الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الكلام الموحى إليه من الله. ‏