المادة كاملة    
إن من المعلوم أن عقيدة أهل السنة والجماعة الدعوة إلى الاعتصام ونبذ الفرقة والشقاق، والتحذير من البغي والعدوان، سواء بين أهل السنة والجماعة أنفسهم، أو ما بين أهل السنة وغيرهم، وهم في ذلك لا يقرون أحداً على باطل ولا يجتمعون عليه، بل يتعاملون مع الجميع بإنصاف.
  1. بيان تفسير قوله تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف ...)

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))[الأعراف:201]، وهذه الآية الكريمة ورد فيها قراءتان ثابتتان مشهورتان، فقرئ: (طَائِفٌ)، و(طيف) بالياء، فمن ناحية اللغة فالمعنى متقاربان، فالطيف أو الطائف بمعنى واحد، وأكثر ما ورد في كلام وشعر العرب: الطيف، ويعنون به الخيال والخاطر، ويستعمله الشعراء المتأخرون أو المحدثون بمعنى الخيال أو الصورة، وألف بعضهم في ذلك كتباً عن طيف الخيال، وهو أن يتخيل الإنسان بلاده ومحبوبه، أو ما يخطر في باله، ويسمون ذلك: طيف الخيال، وهذا كله من ناحية اللغة بمعنى واحد، والمقصود أنه يلم به لمة من الشيطان، فهي طيف أو طائف.
    قال البارودي :
    وقد تعوض طيف من سميرة زائر            وما الطيف إلا ما تريد الخواطر
    فالشعراء يكثرون من ذكر الطيف والحديث عنه؛ لأنه في الحقيقة كما قال البارودي : ما تريد الخواطر، وإن كان بعد ذلك عبر عنه كأنه آتٍ فيقول:
    طوى صدفة الظلماء والليل ضارب            بأركانه والنجم بالأفق غائب
    فيالك من طيف ألم ودونه            محيط من البحر الجنوبي زاخر
    فهو نفي إلى سيرلانكا ، وأخذ يتذكر أهله في مصر ، ويتصور أن هذا الطيف قطع الأميال والمسافات من مصر إلى هنالك، وهو الذي تخيل أو رآهم في خياله.
    ولمة الشيطان أو طيفه في الحقيقة له ارتباط بالمعنى اللغوي من جهة أن العبد يتهيأ ويستعد نفسياً لاستقبال ما يأتيه من الشيطان في قلبه، وكأنها إرسال واستقبال، والقلب الذي ليس لديه استعداد لاستقبال ما يقذف الشيطان، لا يستطيع الشيطان أن يقذف فيه، أو أن يلم فيه بشيء من هذه الأمور، وهو القلب المحصن بذكر الله تبارك وتعالى، من استعاذة من الشيطان وأذكار الصباح والمساء وما أشبه ذلك، فإذا حاول الشيطان أن يعرض له فإنما يكون عبوراً خاطفاً لا يؤثر فيه بشيء، وفرق بين الهاجس أو الخاطر وبين ما يصبح هماً أو عزيمة وإرادة مما هو في معصية الله تبارك وتعالى فيقول الله تبارك وتعالى، في حال المتقين، وحال ما يقابلهم من الفجار وأولياء الشيطان: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))[الأعراف:201] فلم ينف عنهم المس، ولم يقل: إن الشيطان لا يلم بهم، أو لا يصيبهم بشيء؛ لأن هذا واقع، لكن دواؤه عاجل وقريب، فمجرد أن يشعروا بذلك تذكروا وعد الله، وتذكروا وعيد الله وثوابه وعقابه، وما أمر به وما نهى عنه، وتذكروا ما يجب على المؤمن الذي أعطاه الله اليقين والإيمان والتقوى، فتذكروا ما من شأنه أن يذهب عنهم هذا الطيف أو الطائف، وعندما يتذكرون قال: (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) أي: كأنما قد عشي بصره أو وضعت عليه غشاوة أو نام أو غفل أو نعس، وعندما أفاق تذكر وأبصر وعلم أن هذا عدوه الذي حذره الله تبارك وتعالى منه: (( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ))[فاطر:6]، وحزبه: أولياؤه وأتباعه الذين مآلهم إلى العذاب والعياذ بالله تبارك وتعالى، وبالتالي فيجب على المؤمن التقي أن يتخذه عدواً، وهذا حال المؤمنين المتقين، وقد نقل عن مجاهد أنه قال: [هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه].
  2. الشهوة والغضب مبدأ السيئات

     المرفق    
    ذكر الله في سورة الفرقان صفات عباد الرحمن، إذ وصفهم الله تبارك وتعالى وصفاً عظيماً جامعاً لاجتناب الذنوب الأصول الثلاثة الذنوب والكبائر والموبقات، أو الأسباب الثلاثة التي يقع بها الفساد والانحراف والموبقات والذنوب في القلوب وفي العالم كله، فقال: (( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ))[الفرقان:68] والثاني والثالث: (( وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ))[الفرقان:68]، فأما الشرك بالله فلا يخفى على أحد من المؤمنين خطره وضرره وعظيم زجر الله تعالى ووعيده عليه: (( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ))[المائدة:72]، فهو أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب، وأوبق الموبقات، وأساس كل شر وانحراف وضلال، وكل انحراف وشر وشرك وفساد وبغي وظلم وعدوان دون الشرك، فهو أخف وأهون وأرجى أو أقرب بأن يغفر بمشيئة الله تبارك وتعالى، أو ينجو صاحبه من النار ما لم يشرك، وإن بقي فيها ما بقي، فيخرج منها كما بينا في مواضعه، والمقصود أن الشرك أكبر الجرائم والموبقات، ودافعه هو أن الإنسان يدعو غير الله، وسببه هو أن بعض الناس يقول كما قال المشركون: (( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ))[الزمر:3] ويحسب أن عند غير الله من ولي أو كاهن أو حتى شجرة أو حجر أو أي شيء أن عنده من الخير والنفع ومن دفع الشر أو الضر عنه ما يمكن أن يفعل به ذلك، ومن هنا يدعوه، فنفى الله تبارك وتعالى عن عباد الرحمن -وهم الخيار المصطفون- أن يكون فيهم هذا الأمر.
    ثم نفى عنهم الأمرين الآخرين، وهما ما يدل عليه قول الشيخ لما قال: (الشهوة والغضب مبدأ السيئات). فنفى أن يكون لديهم هذان العملان اللذان يدلان على غاية ومنتهى ما يصل إليه العبد إذا تملكته الشهوة أو الغضب، وهما شر ما يتخلق به الإنسان، وشر ما يتخلق به العبد بعد الكفر، أي: أن يكون ذا غضب أو ذا شهوة، إذ إن غاية الغضب هي القتل أو الظلم؛ لأنه إذا غضب العبد فإنه قد يبطش، قد يضرب، قد يظلم، قد يصل به ذلك إلى أكبر جرم وهو القتل لأفراد أو أمم أو جماعات والعياذ بالله، فهذه الجريمة ومقدماتها وما يتفرع عنها ناشئة عن المبدأ الأول الذي هو القوة الغضبية، والشيطان أحرص ما يكون على الغضب، ولهذا أمر الله تعالى العبد إذا غضب أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال: (( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ))[الأعراف:200]، ويظهر في وجه وفي شكل وفي طبع الغاضب من احمرار العينين والوجنتين، وهيئته ما يدل على أن الشيطان قد تملكه والعياذ بالله، وقد جاء ذلك في الأحاديث النبوية، والمقصود حالة الغضب تدفع صاحبها إلى ارتكاب أنواع وألوان من المعاصي غايتها القتل، وكثير من الناس إذا طلق أو ضرب أو قال ما لا يليق يعتذر بالغضب، ولا يدل ذلك على أن الغضب عذر وأن صاحبه يعذر، لكن يدل على أن مما تعارف عليه الناس أن الغضبان إذا غضب وتملكه هذا الأمر، فإنه يفقد عقله وصوابه ويتصرف بما لا يليق أن يفعله مثله.
    وأما الشهوة؛ فإن أقوى شهوة فطرية غريزة جعلها الله تبارك وتعالى في الإنسان، ومن أجلها أن يرتكب ما يرتكب، وأن يفعل ما يفعل، هي شهوة النساء، ولهذا قال: (وَلا يَزْنُون) ومقدمات ذلك كثيرة، من النظر والقبلة أو الكلام الذي فيه خضوع بالقول أو ما أشبه ذلك، كل هذا مما يمهد، وهو من الإثم بحسبه، فإن كان زناه بالأذن أو العين أو باللمس فزناه بحسبه، أي: بحسب ما فعل، ثم بعد ذلك الفرج يكذب ذلك أو يصدقه فيقع في الفاحشة الموبقة والعياذ بالله، وقد يعصمه الله تعالى ويحفظه، فهذا معنى قول الشيخ: (والشهوة والغضب مبدأ السيئات)، فإذا أبصر رجع. فيعود إليه إيمانه ويقينه ومعرفته بالله تبارك وتعالى، ويذهب عنه ما كان الشيطان قد زينه له مما هو غائب عن إحدى المبدأين، أو عن إحدى القوتين: إما القوة الغضبية وإما القوة الشهوانية.
  3. تفسير قوله تعالى: (وإخوانهم يمدونهم في الغي...)

     المرفق    
    قال المصنف: (ثم قال تعالى: (( وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ))[الأعراف:202] أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون). ووضح ذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (فقال: [لا الأنس تقصر عن السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم]) أي: إخوانهم إخوان الشياطين، وهل للشياطين إخوان؟ الله تبارك وتعالى سماهم إخواناً، وسماهم أولياء، فهم إخوان كما في قوله تعالى: (( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ))[الإسراء:27]، وأولياء كما في قوله تعالى: (( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ))[الأنعام:121]، فالأولياء كثير، والشياطين يمدون إخوانهم وأولياءهم في الغي وهو الضلال والغواية والعمى، ثم لا يقصرون، فهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [ لا الأنس يقصرون عن السيئات ولا الشياطين تمسك عنهم ]. والأصل في هذا أن الإمداد يكون من الشياطين، فإذا أمدت الشياطين إخوانهم وأولياءهم من أصحاب المعاصي والفجور الذين يتقبلون منهم، والذين لديهم استعداد واستقبال للطائف والإرسال، وما يبثه الشيطان عليهم، فإنهم يزدادون غياً فلا يقصرون، أي: لا ينزجرون ولا يرتدعون ولا يتراجعون عما هم فيه، لكن كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وجعل ذلك من الطرفين، فهؤلاء يستمرون في إمدادهم بالشر، وأولئك يتمادون في قبوله وفي غيهم الذي تدفعهم إليه الشياطين، والشياطين كما قال الله تبارك وتعالى: (( أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ))[مريم:83]، أي: تزعجهم إزعاجاً، وهذا من عجيب حكمة الله سبحانه وتعالى، فإن الذين يتعلقون بالشياطين تركوا عبادة الله وطاعته، ولم يكن لديهم التهيؤ والاستعداد لاستقبال ما يلقي إليهم الملك. ولو كانوا يذكرون الله تبارك وتعالى، ويحبون بيوت الله وحلق الذكر وأولياء الله وأهل الخير لكانت الملائكة هي التي تلقي إليهم الطمأنينة والسكينة والراحة، لكن هؤلاء بإعراضهم وعنادهم وكفرهم يسلط عليهم أولياؤهم الشياطين تؤزهم أزاً، أي: تزعجهم إزعاجاً، ولذلك هذا الإزعاج والأز يتعب البعض ويجهدهم وينهكهم في أمورٍ وقضايا كثيرة، ويأتي آخر الليل وهو في غاية الهم، لكن يريد الشيطان منه أن يهيئه لذنب أو لجريمة أو لفاحشة، فيقوم وينهض من فراشه أشد مما لو كان أحد طلبة العلم الأخيار الصالحين عانى مثل ذلك التعب، ثم جاء وقلت له: قم، أو جاءه ما يدعوه إلى أن يقوم أو أن يهب أو أن يتحرك أو أن ينشط، لأخذته العلل وقال: أنا متعب، لنؤجل ذلك إلى غد، أما الشياطين -فسبحان الله- فيحركون أولياءهم ويعملون ويدأبون ويواصلون طوال الليل والنهار؛ لأن الشياطين تؤزهم ولا تدعهم يرتاحون أو يهدئون أو يطمئنون، وهذا جزاء من غفل عن ذكر الله، قال تعالى: (( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ))[الزخرف:36]، أي: من عشي وعمي وأعرض وترك ذكر الله تعالى، فإنه يأتيه البديل وهو الشيطان، ويكون بهذه المثابة وهذه الحالة، ومن أبى أن يكون عبداً لله، وأن يستخدم جوارحه وهمه وإرادته وفكره وأعماله في طاعة الله، وما يقرب من الجنة، ورضوان الله تبارك وتعالى، فإنه يعاقب بأن يكون هذا العمل وهذه الإرادة وهذا الفكر وهذا الهم وهذا البذل وهذه التضحيات وهذا التعاون وهذه الجهود مما يقرب إلى النار وإلى غضب الله تبارك وتعالى، وهو عبادة للشيطان في نهاية الأمر، وهذه هي حقيقة العبادة للشيطان، وليس شرطاً أن كلاً من عباد الشيطان أو من أهل الكفر والفجور يسجدون ويركعون للشيطان، لكن هم بهذه الحال عبيده وعباده، ولهذا كما قال الخليل عليه السلام لأبيه: (( يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ))[مريم:44]، فهذا هو المقصود، وكما أخذ الله تبارك وتعالى العهد على بني آدم: (( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ))[يس:60]، أي: من أطاعه فقد سخره له وتملك قلبه، وقد أصبح عبداً له، وبالتالي فإذا حصلت هذه الحالة يقول الشيخ: (فإذا لم يبصر يبقى قلبه في عمى، والشيطان يمده في غيه)، ولنفترض الحالة التي يريد الشيخ رحمه الله أن يبينها لنا، والدالة على تفاوت أهل الإيمان فيهم، يقول: هذا ما ذكره الله تبارك وتعالى في حق المتقين الذين: (( إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))[الأعراف:201] لكن آخر ما أبصر، بمعنى: أنه ما تذكر، فنتيجة لذلك يبقى قلبه في عمى، (والشيطان يمده في غيه، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب) فهو إلى الآن لا يزال موقناً بأن الله حرم هذا، وأنه عبد لله عز وجل، وأن الواجب عليه أن يمتثل ما أمر الله تعالى به، فهو ما كذب ولا خرج عن حد الامتثال بقلبه، وإنما هو مصدق بقلبه مقر، لكنه من جهة العمل فهذا حاله وشأنه، يقول: فذلك النور والإبصار، وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه، وهذا دليل كما قلنا بتقسيم أهل السنة والجماعة الفطري البدهي السهل من أن أعمال القلب لم تعد فيه، وما ذكره الشيخ من النور القلبي والإبصار والخشية والخوف هذه من أعمال القلب، إذاً فأعمال القلب لم تبق لديه، لكن الباقي لديه هو قول القلب، أي: إقراره بقلبه أن الله حرم هذا، وأن هذا اتباع وطاعة للشيطان، قال: وكما أن الإنسان يغمض عينيه فلا يرى، وإن لم يكن أعمى. أي: أن حالة التلبس بالمعاصي، وطاعة الشيطان فيها، كحال الذي يغمض عينيه أو يتغافل أو ينام أو لا يريد أن يرى، مع أنه ليس بأعمى.
    فإذاً لو تخيلنا أمامنا حفراً عظيمة، والصراط المنجي واحد: (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ))[الأنعام:153]، فهذا الطريق القويم الواحد إذا خرج عنه العبد فإن هنالك طرقاً وحفراً كلها تؤدي إلى النار والعياذ بالله.
    1. أنواع طرق الضلالة

      والعابرون لهذه الطرق نوعان:
      أحدهما: كافر أو أعمى، ومن كان في هذه أعمى -أي: عن ذكر الله تبارك وتعالى والإيمان به- فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً عن صراط الله الذي على متن جهنم، فيسقط في النار والعياذ بالله، قال تعالى: (( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ))[طه:124-125]، أي: يا رب وعدت أن تبعث الناس كما كانوا، فلم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً؟ فيذكره الله تبارك وتعالى بأن هذا العمى الحسي في هذا اليوم نتيجة إعراضه عن آيات الله ونسيانها، فكذلك اليوم تنسى، فلا تعطى ما تبصر به الصراط المستقيم.
      الثاني: ليس بأعمى أو ليس بكافر، لكنه أغمض عينيه وسار في هذا الطريق المظلم، فاختار أن يدخل في الظلام وترك النور، ومن دخل في الظلام الشديد الحالك -حتى لو أنه قد أوتي الإبصار بالعين أو بالحس- فإن ذلك لا ينفعه؛ لأنه أعرض عن النور أو الطريق الذي فيه النور، ومن يعرض عنه إلى الطريق المظلم لا بد أن يقع، وهذا حال صاحب الذنب ومرتكب الكبيرة، قال رحمه الله: (وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب بما يغشاه من رين الذنوب لا يبصر الحق). والران هو الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: (( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ))[المطففين:14]، وهو النكت السود التي كل ما فعل العبد ذنباً نكتت فيه نكتة، فيجتمع فلا يبصر الحق، قال: (وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر). أي: لا يرى الحق ولا يرى ما أمامه، فيقع في حفرة إلى أخرى، ولو شاء لفتح عينيه ولتذكر فأبصر، ولهذا نرى التائبين من المؤمنين من يتوب عن قريب، ومنهم من يتوب بعد أشهر، ومنهم من يتوب بعد سنوات من عرضك للحق عليه وإيضاحه له، ومنهم إلى قريب الموت، فلا يتوب إلا عند الموت، ومنهم من يموت غير تائب والعياذ بالله؛ وبالتالي فتتفاوت أحوال الناس في هذا الشأن، فهو ليس بأعمى، لكنه لم يتذكر ليبصر، يقول: (وجاء هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا زنى العبد نزع منه الإيمان فإن تاب أعيد إليه ) )، هذا الذي فسر به عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه الحديث الآخر الصحيح: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، وهو كما ذكر الشيخ هنا وذكر الحافظ رحمه الله أنه جاء مرفوعاً، وهو حسن أو صحيح، وقد علق عليه الشيخ ناصر رحمه الله بشيء فقال: صحيح، والحافظ أيضاً، وهذا الحديث الذي هو مشهور وموقوف عن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً ثبت أنه صحيح مرفوع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فهو يفسر الحالة: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، أي: أنه إذا زنى العبد نزع منه الإيمان، فإن تاب أعيد إليه، ولذلك يجب على الإنسان أن يبادر بالتوبة مهما أصاب وارتكب من الذنوب، وذكره للزنا إنما هو مثال أو شاهد، وإلا فكل ذنب يذنبه العبد فهو سبيل أو ربما كان مدخلاً لئن لا يتوب أو يعمى بالكلية والعياذ بالله، والواجب عليه أن يتذكر فيبصر فيعود إليه نور الإيمان في قلبه، وتعود إليه الاستقامة على الطريق الذي هو سائر عليه.
  4. ضوابط الفرقة والاجتماع

     المرفق    
    بعد أن انتهى الشيخ رحمه الله من الأدلة وعرضها أخذ في بيان ما وقع فيه الطرفان من عدوان، أي: المتبعين لـأهل السنة والجماعة ومذهب السلف، والمتبعين للمرجئة الفقهاء أو للإمام أبي حنيفة رحمه الله، يقول الشيخ رحمه الله: [وإذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً فلا محذور فيه] ونحن قد قررنا أنه ليس لفظياً بإطلاق، بل لا بد من التفصيل، لكن الشيخ يقول: إذا كان كذلك فلا محذور فيه، ولا شك أنه إذا كان لفظياً من جميع الوجوه فإنه لا محذور فيه وإذا كان لفظياً من وجه حقيقياً من وجه فإن المحذور يكون فيما هو حقيقي، وبالتالي لا يجوز أن يخالف فيه.
    1. الاجتماع في الحق

      وأما الآخر فلا بد من التفصيل فيه أيضاً، فينكر عليهم ما هو حقيقي، ويقروا على ما وافقوا فيه أهل السنة والجماعة ؛ لأن الحق هو الأصل، والحق يجب أن يكون أحب إلى المؤمن من كل أحد، ولأن أي اجتماع لا يكون على الحق فهو شر يجب الحذر منه، والله تبارك وتعالى عندما أمر الأمة بأن تعتصم وأن تتوحد وألا تتفرق لم يجعل الأمر مطلقاً، وإنما قال: (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ))[آل عمران:103]، فلا بد من وضوح وبيان ما يتوحدوا عليه وما يجتمعوا عليه وما لا يتفرقوا عليه، وهو القرآن والهدى والسنة وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح، وأما إذا كان باطلاً أو خطأ فإن الاجتماع عليه لا يجوز.
    2. الاجتماع عند وجود مفسدتين

      فإن قال قائل: إذا كان الأمر فيه مفسدة ومصلحة، وأجمعت الأمة على ارتكاب أخف الضررين أو أدنى المفسدتين، فتكون قد أجمعت على ما هو مفسدة في الحقيقة، لكنها أدنى المفسدتين، أي: أصغر من غيرها، فإنها في هذه الحالة لا تكون مجتمعة على باطل وضلال وخطأ؛ لأن الذي جمعها قاعدة شرعية، وهي: ارتكاب أخف الضررين، والنظر في المصالح والمفاسد، وبالتالي لم يخرج الأمر عن كون الاجتماع لا يجوز إلا على الحق، ولا يجوز الاجتماع على الباطل المحض، وأمثلة المصالح والمفاسد عظيمة جداً، من أوضحها: حديث الرجل الأعرابي الذي بال في المسجد، إذ إن بوله في المسجد مفسدة لا يستطيع أحد أن يماري في ذلك، لكن نحن أمام مفسدتين: إما أن يظل بوله في حدود المكان الذي بال فيه، وإما أن يزجر وينهر فيقوم فتتنجس ثيابه وبقعة واسعة من المسجد، وعند ذلك بدلاً من أن يكون ذنوباً من ماء يكفي لإزالة النجاسة، نحتاج إلى عشرة وربما إلى مائة ذنوب لتطهير المكان، وربما لا نحصر النجاسة ولا نعلم أين هي، فنحن أمام مفسدتين لا بد من أن ترتكب المفسدة الأخف، وهذا من الحق كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ( لا تزرموه، وتركه حتى قضى بوله )، ثم رش موضع النجاسة بالماء فطهر، ولم يبق بعد ذلك شيء، فزالت المفسدة، والمقصود أن الأمة في طريق دعوتها وعملها قد تبتلى بحالات أوقعت المفسدة من فرقة أو بدعة أو ضلال أو ما أشبه ذلك، والحل أن تتعامل معها بحيث تحصر ولا تنتشر ولا تتسع ولا تمتد، فإذا رأيت أن أمراً معيناً يكون من شأنه أن تحد ولا تنتشر فاعمله وإن بقيت في موضع معين حتى يهيئ الله أن تزال، فهذا يكون من الحق، إذاً فالشاهد أن الاجتماع يكون على الحق، قال تعالى: (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ))[آل عمران:103]، فيجب أن يكون الاجتماع على دين الله، وأن يكون الاعتصام بحبل الله.
    3. حكم الاجتماع بإقرار الباطل وأثره

      يقول الشيخ رحمه الله: [فلا محذور فيه، سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك] إذاً نقول للشيخ: إذا كان الافتراق فيما هو حقيقي من أوجه الخلاف فهذا لا بد منه، فهل يجوز لـأهل السنة والجماعة أن يتنازلوا عن رأيهم، أو يتراجعوا عنه ويوافقوا مرجئة الفقهاء أو غيرهم على أمر يعلمون أنه حق، وموافق للنصوص، ويوافقون غيرهم فيما يعلمون أنه باطل، وأنه مخالف للنصوص الشرعية؟ لا يجوز أن يتنازل عنه كلية، وأن يترك الحق ويهمل ويغفل ويجتمعا على الباطل، وهذا الذي ذم الله تبارك وتعالى عليه أهل الكتاب، وواقع تاريخهم كذلك ولم يؤد إلى اجتماعهم، بل إلى فرقتهم، رغم أنهم كانوا يعقدون المجامع الدينية أو المقدسة، ويجتهدون أن يتفقوا على رأي واحد، وإذا كان مجمعاً محدوداً فإنه بحسب الطائفة أو المكان أو الإقليم، فإن كان مجمعاً عاماً سموه: الأراضي أو العالمي أو المسكوني نسبة إلى المسكونة، وهي مجمع أرضي يشملها كلها، ويقرون القرارات، ويحرصون على أن يجتمعوا ويتفقوا عليها، لكن الذي يحصل أنهم يتفرقون ويزدادون فرقة بعد كل مجمع تقريباً؛ لأنه ليس من سنة الله أن يترك الإنسان ما يرى أنه حق لمجرد الاجتماع، والمقصود في ذلك الدين والاعتقاد وما فيه نص، وليس المقصود مجرد الآراء والاجتهادات، إذ إنه ينبغي للمؤمن إذا كان مجرد رأي يقابل رأياً ألا ينازع بمجرد رأيه، فإذا رأى أن الأكثرية رأت رأياً فإنه يوافقهم في الأمور الاجتهادية، إذ ليس فيها نص، والأمر كله محض اجتهاد، وليس اجتهاد الأقلية بأولى من اجتهاد الأكثرية، وإنما القضية لها تفصيلها.
    4. الفرقة التي يحذر منها وبيان أثرها

      يقول رحمه الله: ولكن المقصود هنا أن الافتراق شر -ولا شك في ذلك- ولا بد من الحرص على الاجتماع، ومن أصول هذا الدين أن يجتمع المؤمنون به وألا يتفرقوا، ولهذا حذرهم الله تبارك وتعالى: (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ))[آل عمران:105]، وقال عز وجل: (( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ))[الأنعام:159]، فهؤلاء أهل الكتاب وأكثر الأمم في الدنيا هذا حالهم، إذ إنهم فرقوا دينهم وأصبحوا كما ذكر الله تبارك وتعالى شيعاً وأحزاباً، وكل حزب بما لديهم فرحون، وأصبحوا طوائف وأمماً كل أمة تلعن أختها وتضللها وتكفرها وتبدعها، وهذا من أعظم أسباب الفشل والوهن وضياع ودمار الأمة أياً كانت ومهما كانت قوتها.
      فإذا تفرقت فاعلم أن ذلك بداية ضياعها ودمارها، وهذه سنة الله كما تشهد لها الآيات والأحاديث، ويشهد لها الواقع، فمثلاً ما كان يسمى بـالاتحاد السوفيتي عندما كان مكوناً من عدة جمهوريات وأعراق وعنصريات ومذاهب دينية مختلفة، فبدأ فيه التفكك ولم يبق له وجود، وانتهى ما يسمى الاتحاد السوفيتي ، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يحل بـأمريكا مثل ذلك وأعظم إنه سميع مجيب، وعليه إذا بدأ التفرق في أمة فلا شك أنه بداية لنهايتها ولزوالها بإذن الله تبارك وتعالى.
      وأما هذه الأمة فهي مأمورة بأن تعتصم بحبل الله جميعاً ولا تتفرق، وهذا مما رضيه الله تبارك وتعالى لها، جاء في الحديث الصحيح: (وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تتفرقوا)، وهذه إحدى الثلاث التي رضيها الله تبارك وتعالى لنا، وهي مطلوبة ولا بد منها، ومهما كان المسلمون أمة واحدة ويداً واحدةً كان ذلك أجدر أن ينالوا ما وعدهم الله تبارك وتعالى به من المجد والعزة والتمكين، وكان ذلك أخوف وأوقع في قلوب أعدائهم، ولذا يحرص أعداؤهم على بذر الفرقة والشقاق فيما بينهم، سواء الفرقة العقدية الدينية أو غيرها، ولهذا كثير من الفرق قديماً وحديثاً تنشأ أو تؤيد من قبل أعداء الله، كالطائفة القاديانية التي أنشأها الإنجليز ويؤيدونها إلى الآن، وكثير من الفرق التي في أمريكا ، والباطنية أيضاً التي وراءها اليهود بأيادٍ خفية، مع أن الباطنيين القدامى لهم أصول وجذور يهودية كما هو موضح في كتب التاريخ، فهناك حقائق تاريخية أن أعداء الإسلام حريصون كل الحرص على بذر الفرقة بين المسلمين.
    5. حصول الفرقة في عهد الصحابة وسببها

      فهؤلاء اليهود والمنافقون كانوا كذلك في المدينة ، وذاك المهاجر عندما قال: يا للمهاجرين! والأنصاري قال: يا للأنصار! وسبب ذلك الوقيعة والدس من المنافقين الذين كانوا في المدينة، والذين أرادوا الفرقة بأفضل أمة، بل ما في أمم الدنيا أفضل وأشرف وأطهر من المهاجرين والأنصار، وهل هناك حواريون وأتباع أفضل من هؤلاء الحواريين والأتباع والأصحاب؟لا، ومع ذلك نزغ الشيطان بينهم، فقال هؤلاء: يا للمهاجرين! وقال أولئك: يا للأنصار! مع أنهما وصفان شرعيان، ولم يقل قائلهم: يا لقريش! يا للأوس! ويا للخزرج! وكانت جاهلية واضحة وعنصرية قبلية، وإنما تنادوا باسم الإيمان وباسم شرعي ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه، ومع ذلك قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) فجعلها النبي الكريم دعوى جاهلية مع أنها أسماء شرعية، ولذلك التفرقة إن حملت اسماً أو لافتة شرعية فهي من دعوى الجاهلية، ولا يقول قائل: إن المسألة ترجع إلى حسن النية، إذ لا يوجد أحد أفضل وأحسن وأطهر نيةً من الصحابة أبداً، فهم إن تنادوا فهم يتنادون للحق لا للباطل أبداً.
    6. عمل أهل البدع في الفرقة بين المسلمين واعتمادمهم على حسن النية

      ثم إن كثيراً من الفرق ومنها الخوارج -أوضح مثالاً على ذلك- لم يتهمها أحد من العلماء، ولا حتى في الأحاديث التي وصفهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء النية، وإنما اتهمهم بالغلو؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وعبادتكم إلى عبادتهم)، أي: أنهم مجتهدون في العبادة، حتى أنه أصبح علم يقال على كل من خرج: خارجي، وكان بعض السلف يسمي أهل الأهواء خوارج كما روى اللالكائي رحمه الله، وكل أهل الأهواء يمكن أن يسموا خوارج ؛ لأنهم خرجوا عن الجماعة، والجماعة هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهؤلاء الخوارج لم يكونوا سيئي النية بالدين كما كانت السبئية و الروافض الأولون ومن شابههم مثلاً، إنما كان عن حسن نية أو عن اجتهاد يرون أنه الصواب، لكنهم لما خرجوا عن الجماعة وفرقوا صفوف المسلمين وقع البلاء، واستحقوا الوعيد والعقوبة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسم فرقة ويصفها بكامل أوصافها كما حدث ذلك في الخوارج ، مع أنه روي بعض الأحاديث في القدرية وفي المرجئة ، لكن الغالب والظاهر أنه لم يصح شيء منها كما بين ذلك ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه الموضوعات وغيره في كتب الموضوعات والعلل، والمقصود أن الخوارج لا يمكن لأحد أن يتهمهم بسوء النية، ولهذا لا نسمح لمن يفرق صفوف أهل السنة والجماعة المجتمعين على الحق، وعلى الكتاب والسنة، والساعين إليه الراغبين فيه، وإن أخطأ من أخطأ وقصر من قصر مثلاً، فلا يسمح لأحد بتفريق صفوفهم ولو كان حسن النية، إذ إن حسن نيته له، لكن سوء عمله على الأمة، فخلاصة هذه الأمة هم أهل السنة والجماعة المتبعون للسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، فإذا وقع الشقاق بينهم، وتعادوا أو تهاجروا ضاع هذا الدين، وضاعت هذه الأمة، لكن ما دام أن كل أحد يريد الحق والخير، ويريد الكتاب والسنة، ويريد أن يصل باجتهاده إلى ما يرضي الله عز وجل، فمهما خالفك في الاجتهاد، ولو ظللت أنت وهو تبحثان المسألة شهوراً أو دهوراً، فلا يجوز لك أن تفرق صف المسلمين، وأن تخرجه عن أهل السنة ، وأن ترميه بالابتداع والضلال؛ لأن هذا من البغي والعدوان الذي ذكره الشيخ هنا، والله سبحانه وتعالى يقول: (( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ))[النحل:90].
      يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: هذه أجمع آية في كتاب الله فيما يتعلق بالحلال والحرام والخلف، لا فيما يتعلق بأصول الاعتقاد والخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه سن أن تكون نهاية الخطبة بدل ما كان يتلفظ به من قبله، فقد كانت كل طائفة تبغض الأخرى أو تحذر منها أو بل ربما لعنتها، فجعلت هذه الآية الجامعة المانعة: (( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ))[النحل:90].
    7. موقف المسلم عند وقوع الفتنة

      وليس من صفات المؤمنين أبداً أن يقعوا في هذا، أما النزاع والاختلاف فهو أمر طبيعي جبلي، ومحال أن يتفق الناس على أمر واحد وإن كانوا جميعاً يريدون غرضاً أو هدفاً واحداً، حتى أهل الحق الذين يريدون الحق الموافق للكتاب والسنة، ويريدون رضوان الله والجنة، فلا نتوقع أو نفترض أنهم لا بد أن يتفقوا جميعاً على أمر واحد لا سيما في الفتن، إذ إن الفتن شأنها عظيم، فهي كظلمات تموج موج البحر كما في الصحيحين من حديث حذيفة ، فكم من العقول يمكن أن تثبت أمام فتن مظلمة مدلهمة تموج كموج البحر؟! لا بد أن يقع الخلاف وتتشعب الآراء، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم لما وقعت الفتنة تقاتلوا، مع أنهم كانوا جماعة واحدة وأمة واحدة، لكن لما قتل عثمان رضي الله عنه وقعت الفتنة وحصل الاضطراب، فهؤلاء خرجوا إلى الكوفة ، وأولئك ذهبوا إلى مكة ، وآخرون أتوا من هناك، وصار كل واحد له رأي وحل وسبيل ومخرج من هذه الفتنة أو هذا البلاء، فحصل ما حصل، وغشيهم ما غشيهم من المشكلات، فأدى ذلك أن أدخل أهل الإفساد والإيقاع بينهم حتى حصل القتال بينهم في يوم الجمل ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم وقع أشد منه في يوم صفين ، هذا وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي إن شاء الله عندما نتحدث عن الجماعة -وهو أصل عظيم- كيف قال سعيد بن المسيب رحمه الله عن الفتنة الأولى والثانية والثالثة، إذ إن كل فتنة كانت أشد مما قبلها، فوقعت الفتنة الأولى فلم تبق من أهل بدر أحداً، ثم وقعت الثانية فلم تبق من أهل الحديبية أحداً، ثم وقعت الثالثة ولم تنته وللناس طباخ، أي: عقل، وكلما تأتي فتنة تقضي على طائفة عظيمة من الأمة وتشتتها.
      وكل ما ذكرنا ليس لأن الأطراف في الفتنة من الصحابة، حاشاهم من أن يكونوا سيئي النية، بل كانوا مجتهدين، والخلاف طبيعي أن يقع، وليس أيضاً من كان دونهم كان سيء النية، ولكن يقع سوء النية ويدخل المفسدون والمرجفون عندما يقع الشقاق والفرقة، فتدخل فيه الحشرات السامة، لكن قبل ذلك لا يجدون مدخلاً يدخلون به، لكن لأن سنته سبحانه وتعالى أن الخلاف يقع، وأنه قد يقع ممن هو حسن النية، فإذا تمادت الأمة فيه، ولم تثبت وتصبر على الفتنة كما فعل بعض الصحابة رضي الله تعالى عليهم، إذ وجد أن المخرج هو أن يعتزل الناس كليةً، فاعتزل الفتنة الأولى سعد بن أبي وقاص و أبو هريرة و أبو بكرة و عبد الله بن عمر و عبد الله بن مغفل وغيرهم، و سلمة بن الأكوع رضي الله عنه خرج من المدينة ولم يعد إليها إلا قبل وفاته، كرامة من الله تعالى له أن يموت في أرض الهجرة، مع أن بعضهم ما استطاع إلا أن يخرج؛ لأنها فتنة، فنقول: إن ما يقع الآن في كل زمان وفي كل مكان أعظم مما كان في عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ لأنه كلما يأتي زمان تشتد الفتن والخطوب أكثر فأكثر، لكن ذلك بفضل الله تعالى لا يعني أن لا يقوم من هو قائم لله بحجة، وأن لا تكون في الأرض طائفة منصورة تجتمع على الحق، وإنما المشكلة -كما ذكرنا- وأصل الموضوع أن يوجد الخلاف، وأن تبذر الفرقة بين الطائفة المنصورة، بين أهل السنة والجماعة، فهذه هي المصيبة الكبرى، وهذا هو الخطب الذي دونه كل الخطوب، مع أن الأمر دائر بين أمرين: إما أن يكون فيها نص، أو لا يكون، فإن كان فيها نص، فإما أن يكون قطعياً، وإما أن يكون ظنياً في دلالته، فإن كان النص قطعي الدلالة، فيجب على الجميع الالتزام به، ولا يكون من أهل السنة والجماعة من لا يلتزم به في هذه الحالة، وإن كان ظني الدلالة فلا يجوز لأحد أن يحمل الناس على اجتهاده، بل يجوز لكل أن يفهم فهمه واجتهاده الخاص به، وأما إن كان الأمر مما لا نص فيه مطلقاً فكما قال الله تبارك وتعالى: (( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ))[الشورى:38]، فعلى أهل السنة أن يجتمعوا وأن يتشاوروا، وما خرجوا به من رأي فهو الحق إن شاء الله، وكما جاء في حديث ضعيف سنده، لكن معناه صحيح والواقع يؤكده بما له من شواهد: ( عليكم بالجماعة؛ فإنما تكرهونه في الجماعة خير مما تحمدونه في الفرقة )، أي: ماذا نتوقع في الفرقة؟ إن بعض الناس يتصور أن في الفرقة خيراً ما، كأن يتصور أن فيها بياناً للحق مثلاً أو إيضاحاً أو كفاً لباطل أو لبدعة أو لكذا، فهذا الذي يكرهه في الحق في الجماعة خير مما يحمده في الفرقة؛ لأن وقوع الفرقة ومرارتها وألمها وما يلزم عنها، يضيع وينسي تلك الثمرة التي رجوتها وسعيت إليها بالفرقة بين أهل الحق وبين أهل الإيمان وأهل السنة ، فعندما تقع الفرقة وتقارن بين ثمرة الافتراق، وبين هذا المصاب وهذا الخطب وهذا الخلل، يجد كل عاقل أنه لا يساوي تلك الفرقة، ويتمنى أن الفرقة لم تكن، وهذا أحرص ما يحرص عليه الشيطان وهو التحريش بين المؤمنين والإيقاع بنيهم كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
    8. معاملة الناس بالعدل والإنصاف مع التمسك بالحق

      فإذاً كلام الشيخ رحمه الله فيما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق، بسبب ذلك نحمله على المحمل الصحيح، ونوجهه الوجهة الصحيحة، ولا يؤخذ بإطلاقه، فلو يؤخذ على إطلاقه من أن الخلاف لفظي، وأنه لا بد أن تكف كل طائفة عما لديها من الحق، أو ما لديها من قول، حتى لا يقع هذا المحذور، والعدوان والظلم والبغي ليس من صفات المؤمنين، بل حتى مع الكافرين، والعدوان بمعنى الظلم لا بمعنى الاقتتال، والذي هو البغي والظلم والخروج عن العدل وعن الصراط المستقيم وما شرعه الله تبارك وتعالى، فهذا لا يكون، ولو وقع حتى مع الكافرين وجب على المؤمنين أن يرجعوا عنه، وإن لم يعدل المسلمون فمن يعدل كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن أهل الفرق إذا اختلفوا فيما بينهم يرجعون إلى أهل السنة والجماعة ليحكموا بينهم بالعدل، إذ لا يعدل إلا هم، فأهل الإسلام هم أهل العدل بين الملل، وأهل السنة هم أهل العدل بين الفرق، فإن ترك أهل السنة العدل وبغوا وتجاوزوا وحملوا الكلام ما لم يحتمل، وغلوا في رأيهم، وخرجوا عما لا يجوز أو تجاوزوا، فهي المأساة الكبرى؛ لأن المعيار ضاع، والله سبحانه وتعالى عندما قال: (( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ))[الرحمن:7-9] فهذا التكرار في هذه الآيات العظيمة ليدل أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض وجعل قوامها بالحق وبالعدل، وقد وضع الميزان والمعيار الصحيح في كل الأمور فقال: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) فيجب أن يكون الوزن بالقسط، وهذا أمر الله تبارك وتعالى، لكن هل هذا فقط فيما يوزن أو يكال كما في قوله تعالى: (( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ))[المطففين:1]؟ لا، ولهذا قال في الآية الأخرى: (( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ))[الأنعام:152] فالوزن يكون في القول، ويكون في العمل، وفي وزن الأمم، وفي وزن الفرق، وفي وزن الرجال، فلو جاء أحد وقال: إن اليهود يقولون: إن الله ثالث ثلاثة! فهل نقول: إن كلامك صحيح؟ لا؛ لأننا لا نقر بهذا، وليس عدلاً وليس حقاً -وإن كان اليهود كفاراً لا شك في كفرهم، وإن لم يكفروا بهذا يكفروا بغيره- أن ننسب إليهم ما لم يقولوا، ولا نتأول عليهم أبداً، وإذا قالوا قولاً يحتمل أن يكون حقاً أو يراد به الباطل، قلنا: قولكم هذا يحتمل كذا ويحتمل كذا.
  5. تحذير المسلمين من تبرير أقوال أهل البدع

     المرفق    
    والشكل الآخر الذي ينشأ بينهم كما ذكر الشارح رحمه الله هو [أن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي بأن يقول: أنا مسلم حقاً كامل الإيمان والإسلام، ولي من أولياء الله] إلى آخر كلامه، والمحذور والمحظور الآخر الذي ينشأ لا يكون من أهل السنة ، ولا يقع ممن هو على منهج السلف في الإيمان، إنما يقع من الطرف الآخر من مرجئة الفقهاء والحنفية؛ لأنه ليس من مذهب أهل السنة والجماعة القول بقول أهل الكلام أو القول بالإرجاء، فـالمرجئة هم غلاة، والذي يكون مذهبه أو كلامه ذريعة إلى قول ومذهب أهل الكلام، وأهل الإرجاء هم من الطائفتين، ولذلك هم الذين يقولون: أنا مؤمن كامل الإيمان، فهذا خاص بهم، فالشيخ كأنه في أول الأمر حذر من خطأ مشترك يقع بين الطائفتين وهو البغي والعدوان، ثم في النهاية ذكر هذا الذي هو خاص بأهل الإرجاء، قد يقول قائل: وهل وقع من أهل السنة والجماعة بغي وعدوان على المرجئة الحنفية أو غيرهم؟
    1. معنى العصمة في المنهج والأمة

      وهل المعصوم هم الأفراد؟ إن الأمة في جملتها معصومة من الاجتماع على ضلالة، أما الأفراد فيمكن أن يقع منهم، وأما منهج أهل السنة والجماعة فمعصوم والحمد لله، فهم لا يجتمعون على ضلالة، أما الأفراد غير معصومين، فيكون من أهل السنة والجماعة من يرتكب كبيرة، لكن لو قال قائل: يقول الله في سورة الحجرات: (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ))[الحجرات:9] فإن هذه الآية أول ما وقعت بين الصحابة أنفسهم، وهل في أهل السنة والجماعة من هو أفضل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا، ومع ذلك وقع منهم الاقتتال والبغي والظلم والعدوان عند وقوع الفتنة فيما بينهم، لكن في مجموعهم لم يخرجوا عن الحق، إذ إن كلهم يريدون الحق، لكن يوجد منهم من يبغي أو يظلم، كما أن منهم من يزني أو يسرق، أو قد يفعل ما هو محرم، وقد فعل ذلك الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما هو معلوم، فوجد فيهم من زنى، ووجد فيهم من سرق، ووجد فيهم من شرب الخمر، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عليهم الحدود، وكلهم من أهل السنة بلا ريب، وكلهم من الجماعة بلا ريب، ولذلك يجب على أهل السنة والجماعة أن يتفطنوا إلى هذه القاعدة، فإن معنى كون هذا الأخ من أهل السنة والجماعة أو حريص على أهل السنة محارب للبدعة لا يعني أنه لا يظلم؛ لأنه ربما يظلم وربما يبغي وربما يتجاوز، والواجب أن نزن كلامه بميزان العدل، ولا يقر إن تجاوز أو بغى أو خرج في موقف أوفي كلام معين، حتى لو كان هذا الكلام ليس موجهاً إلى أحد من أهل السنة ، أو حتى إلى أحد من أهل الكفر أو أهل البدعة، وإنما ننصحه أن ينضبط في حدود الحق والعدل ولا يتجاوز ذلك ولا يخرج عنه، وهذا من النصح الواجب على كل مسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الصحابة على ذلك، وهو الواجب على جميع المسلمين، فقال عليه الصلاة والسلام: ( الدين النصيحة ).
  6. إنصاف شيخ الإسلام لإعدائه

     المرفق    
    وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الجواب الصحيح وفي منهاج السنة يأتي بمثال عجيب جداً، حتى أحياناً إني والله أقرأ الموضوع وأقول: رحم الله شيخ الإسلام ما أظن خطر على بال النصارى هذا المعنى الحق، أو ما أظن خطر على بال الشيعة هذا المعنى الحق، ولكن غاية الإنصاف يقول: إن كانوا يريدون كذا وكذا، ثم يأتي بالمعنى الباطل ويبينه، فهو من سعة عقله وتفكيره يجد أن هذا القول يحتمل مثلاً عدة احتمالات، بينما الذين قالوا به من أهل الضلال لا يعنون به إلا معنى واحداً، لكن وما يدريك أن يأتي فيهم ذو عقل وذو فكر ولو بعد حين فيقول: ابن تيمية متحامل، إنما كان قصد قومي كذا، ويأتي بمعنى غير مذموم، فيكون شيخ الإسلام رد على ما رأى هو، فيكون قد استقصى رحمه الله الوجوه العجيبة المحتملة وردها وبينها جميعاً، ويأتي المنصف فيقرأ ويشهد أن هذا حق، وأن هؤلاء لا يريدون إلا الحق، وليس أحد أحب إليه الحق والعدل والإنصاف من أهل السنة ، ولهذا لا يخافون من أي مناظر، ولذلك لو جاء واحد وكان معه الحق، فتقول: الحمد لله، الآن نرجع عما كنا نقوله ونقرره بمقتضى الدليل الذي جاء به، وهذا أحب إلينا من أن نلقى الله على باطل، ولا نتعبد بباطل ولا بخطأ ولا ببدعة، فأيما حق جزئي وجد عند أي طائفة من أهل البدع، أو عند أي أمة من أمم الأرض، وأيما شيء من الحق أو الحكمة فهو ضالتنا، ونحن أولى الناس به، ونحن نحرص ونبحث عنه ولا ندعه أبداً، لكن صاحب الهوى يخاف أن بنيانه الذي بناه إذا زحزح منه لبنة يقع به؛ لأنه على شفا جرف هار فينهار به فينتهي كل شيء، ولهذا يقفلون أبواب السماع كما فعل قوم نوح، وكما يفعل كثير من أهل الغي والباطل الذين لا يريدون أن يسمعوا الحق، ولا يريدون أن يتقبلوا الحق ممن يعرضه عليهم، ونحن مع هذا العدل والإنصاف والعمل بما أمر الله تعالى به لا نقر الاجتماع على الضلال، ولا حتى على الخطأ الاجتهادي، بل نحرص أن نجمع الأمة، ونجتهد في ذلك وندين الله تعالى به، حتى تجتمع الأمة على الكتاب والسنة، وعلى القول الراجح الصحيح في الأمور الاجتهادية العملية، وهذه هي القضية الأولى، أي: ما ينشأ من الخلاف هو العدوان.
  7. أثر العدل والإنصاف وحسن الخلق

     المرفق    
    إذاً: أهل السنة قد يخطئون ويقع منهم مخالفات وتجاوزات واجتهادات، سواء طائفة منهم أو أفراداً، لكن لا يخرجهم ذلك عن دائرة السنة والجماعة، ولا عن دائرة اتباع السلف، ولا يجعلهم يرمون ويقذفون بما لا يليق بهم، إذ لا يصح ولا يجوز أن يكون البغي أو الظلم أو الخطأ سبباً لبغي أو ظلم من الطرف الآخر؛ لأنه إذا عولج البغي ببغي أكبر منه، والظلم بظلم أكبر منه، فسدت الأحوال وتفرقت الأمة، أما إذا عولج الظلم بالعدل والإنصاف والنصح للجميع؛ فإن الأمة تجتمع بإذن الله، ويعلم من كان في قلبه خير وهدىً وحق، أن هذا الذي وزن الأمور بالميزان الحق والعدل، أنه حقاً قد أنصفه وأنصف منه فيقبل منه، وهذه تندرج تحت أصل عظيم من أصول الدعوة يغفل عنه الكثير، ألا وهو العدل في المعاملة وحسن الخلق، وهذا أحد أسباب إسلام كثير من الأمم الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا أصحابه ورأوا أخلاقهم، فمثلاً أهل الشام وأهل العراق وغيرهم ممن فتحت بلادهم ودخلها الصحابة الكرام وأسلموا جميعاً، هل أن كلاً منهم ناظر أو حاج الصحابة، أو سمع الأدلة والبراهين ثم آمن؟! إن هذا عملياً غير صحيح وغير واقع؛ لأن الذي يناظر أو يجادل أو يفكر إنما هم أصحاب الفكر والعلم من أهل هذه الأديان، لكن عامة الناس إنما ينظرون إلى الأخلاق والمعاملة فقط، وسيرة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم تشهد لهم أنهم أتباع نبي لا أتباع دجال أو ظالم أو فاجر، ومن يسمع عن أخلاقهم يؤمن ويفتح لهم مدينته، ومن يرى أخلاقهم يتعجب، وهذا أقوى من مجرد الاقتناع العقلي، إذ إن الاقتناع العقلي قد لا يؤدي إلى العمل الإيجابي، وكثير الآن من المستشرقين والمفكرين من أعداء الإسلام مقتنعون عقلياً أن الإسلام حق، وأن الدين حق، لكنهم لم يؤمنوا ويذعنوا، أما الاقتناع النفسي فإنه لا يستطيع الإنسان أن يوقفه أبداً، بل قد نطق به رستم لما جاءه بعض الأعراب يشكون إليه ما فعل جنده قبل معركة القادسية ، والفرس إنما جاءوا ليصدوا جيش الإسلام حتى لا يحتل هذه المنطقة، فـرستم بعقله ودهائه قال لهؤلاء: أو قد فعل بكم العرب مثل ذلك؟ وكأنه يريد أن يسمع أركان جيشه، فقالوا: والله ما اعتدوا على أحدٍ قط، ولا نهبوا مالاً قط، ولا فعلوا شيئاً من ذلك؛ لأنه مستحيل أن يفعل المسلمون مثل ذلك، فهم إنما جاءوا ليقاتلوا في سبيل الله، وما زال الأمر في مفاوضات ومداولات، وهؤلاء ليسوا ممن يحارب، ثم قال: ينصرون بعدلهم وتهزمون بظلمكم وبغيكم. إذاً: فالعدل مركب في كل النفوس، ولهذا مهما كثرت الجرائم والدمار والقتل؛ فإنه لا بد أن يظهر القادة والزعماء والكتاب والمفكرون والإعلاميون بأنهم يريدون الحق والعدل والإنصاف وحقوق الإنسان إلى آخر ما يريدون، حتى كبار المجرمين لا بد أن يقولوا ويعلنوا ذلك؛ لأن قلوب العالم كلها مفطورة على محبة من يعدل وبغض وكراهية من يظلم، وأكثر المسلمين اليوم ما فتنوا بالحضارات الغربية من أجل الدبابات والصناعات، وإنما افتتنوا بأن لديها عدلاً وأخلاقاً وصدقاً ووفاءً بالوعد، وعدم غش وحسد وكذب إلى آخر ما هو متداول بين العامة الجهلة من المسلمين، ونحن من العدل ألا ننكرها جميعاً، لكن ليست كما يصفون ويظنون، إذ إن معها أضعاف أضعافها من الشرور والبلايا والطوام، فيرون هذه الأخلاق فيقولون: هذا الغرب، ولهذا لو قلت في مجلس خبرين: فالأول: أنه في أمريكا ضرب شخص ثم أمسكوا بهذا المضروب وسجنوه وتركوا الضارب! فأكثر الناس لا يصدق، بل قد يقول: غير معقول أن يحدث هذا في أمريكا ، لا بد أن يكون لهم مدافع، لا بد أن يكون لهم كذا؛ لأنه في ذهن الناس منتشر أن هناك عدلاً ونظاماً، لكن لو قلت: قد حدث ذلك في مدينة عربية، فإنه قد يقول البعض: ممكن أن يكون صحيحاً ولا يستغربوا؛ لأن المشهور المستفيض عند الناس أن الظلم يمكن أن يقع بين هؤلاء ومنهم، لكن لا يمكن أن يقع بين أولئك، إن هذا الأساس الأخلاقي هو الذي جعل الأمة تتدمر في التعامل وفي نظرتها إلى الغرب، فكانت هذه النتيجة التي لا بد أن تقع؛ لأن ما فطر الله تبارك وتعالى عليه النفوس من محبة العدل وكراهية الظلم أمر مجمع عليه، وهو يحرك كل القلوب وكل الفطر، ومهما كان الإنسان باغياً أو فاجراً فإنه يحترم العادل المنصف ويكره الظالم، ولذلك لما جاء الرجل يشتكي إلى هشام بن عبد الملك فقال: كان لي أرض أقطعنيها أبوك عبد الملك ، وأقرني عليها أخوك الوليد ، ثم أقرني عليها أخوك سليمان ، ثم نزعها مني عمر رحمه الله، فقال: أعد ما تقول، فأعاد عليه ما قال، وكل واحد باسمه مجرداً، وإذا ذكر عمر قال: رحمه الله، فكان الذي أخذ الأرض منه قال فيه: رحمه الله، والذي أعطاه الأرض لا يرحم عليه؛ لأن النفوس في أعماقها مفطورة على العدل ومحبة أهل العدل وأهل الخير وأهل الإنصاف، حتى وإن كان في الظاهر أساء أو أخطأ.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.