المادة كاملة    
احتوت هذه المادة على الكلام في زيادة الإيمان، سواء من جهة الإجمال والتفصيل، أو من جهة التصديق والعمل والوجوب، وأن الناس متفاوتون في الإيمان.
  1. الكلام في زيادة الإيمان إجمالاً وتفصيلاً

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال المصنف رحمه الله: [وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل، فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله.
    وأما الزيادة بالعمل والتصديق، المستلزم لعمل القلب والجوارح فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه، فالعلم الذي يعمل به، صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس المخبر كالمعاين )، وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبر وإن جزم بصدق المخبر فقد لا يتصور المخبر به نفسه، كما يتصوره إذا عاينه، كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد: (( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ))[البقرة:260].
    وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة مثلاً، يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه مالا يجب على غيره إلا مجملاً، وهذا يجب عليه في الإيمان المفصل.
    وكذلك الرجل أول ما يسلم، إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان.
    ولا شك أن من قام بقلبه التصديق الجازم الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة، لا تقع معه معصية، ولولا ما حصل له من الشهوة والشبهة أو إحداهما لما عصى، بل يشتغل قلبه ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية، فيغيب عنه التصديق والوعيد فيعصي، ولهذا -والله أعلم- قال صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) الحديث. فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنى، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، ثم يعاوده، فإن المتقين كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))[الأعراف:201]. قال ليث عن مجاهد : هو الرجل يهم بالذنب، فيذكر الله فيدعه، والشهوة والغضب مبدأ السيئات، فإذا أبصر رجع، ثم قال تعالى: (( وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ))[الأعراف:202]، أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا الإنس تقصر عن السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم، فإذا لم يبصر يبقى قلبه في عمى، والشيطان يمده في غيه، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب، فذلك النور والإبصار، وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه، وهذا كما أن الإنسان يغمض عينيه فلا يرى، وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب بما يغشاه من رين الذنوب لا يبصر الحق، وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر، وجاء هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا زنى العبد نزع منه الإيمان، فإذا تاب أعيد إليه )]
    .
    1. تفاوت الناس في الإيمان

      بعد أن بين وأوضح الشارح رحمه الله تفاوت الناس والمؤمنين في نور لا إله إلا الله وقيامه بقلوبهم؛ ليدلل بذلك على إبطال من غلى ممن ادعى أو انتسب إلى المرجئة الفقهاء وقال: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل والأنبياء والصالحين، فبعد أن ذكر هذا وقرره بالأدلة التي شرحتها وسبق بيانها، وذكر أيضاً أمراً عقلياً لا جدال فيه ولا نزاع بين العلماء وهو الإيجاب والتحريم، إذ إن بعض الأمور الإيجاب والتحريم فيها أقوى من بعض، فذكر ما يدل على ذلك، وهو موضوع أو أصل ثالث، وهو زيادة الإيمان من جهة الإجمال ومن جهة التفصيل، فإنه لا يعقل أن يكون الإيمان شيئاً واحداً لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاوت أهله فيه، مع أن هذا الإيمان من الثابت أنه يزيد بحسب الإجمال وبحسب التفصيل، فيقول رحمه الله: (وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل، فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله) وهذا جانب، والجانب الآخر: (ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله)، وبالتالي فالنظرة من جهتين: من جهة الأمة في جملتها، ومن جهة كل فرد من أفراد هذه الأمة، فأما من جهة المؤمنين عموماً، فإنا نعلم أن الله تبارك وتعالى أنزل هذا الدين شيئاً فشيئاً، وأنزل القرآن منجماً، وشرعت الفرائض بعضها قبل بعض، فشرع الله تبارك وتعالى الصلاة في مكة ، ثم شرعت الزكاة بالتفصيل والصيام في السنة الثانية في المدينة ، ثم شرع الحج بعد ذلك في السنة الخامسة أو السادسة، والجهاد لم يكن واجباً في مكة ولا في أول الأمر أيضاً في المدينة ، وهكذا الأحكام، فهذه أمور معلومة أن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الفرائض بهذه التدرج الذي له فيه حكم عظيمة، ومنها: أن تأسيس الأعمال والعبادات والطاعات إنما يبنى في الأصل على التوحيد، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى ولطفه بهذه الأمة وبالأمم جميعاً أن يبعث الرسل في أول الأمر بدعوة الناس إلى التوحيد، فإذا أذعنوا وانقادوا سهل عليهم قبول الفرائض والأعمال والعبادات والحدود، لكن لو أنهم في أول الأمر كلفوا بالإيمان بذلك كله لشق عليهم ولكبر ولعظم، ثم إنه لا ينفعهم لو أنهم اجتهدوا في بعض الأعمال ولم يكونوا قد حققوا أصل الدين وهو الإيمان والتوحيد، فلذلك يكون المطلوب والمدعو إليه في أول الأمر هو توحيد الله تبارك وتعالى، والإيمان به كما جاءت دعوة الرسل جميعاً، كما قال الله تبارك وتعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ))[الأنبياء:25]، وكما قال عز وجل: (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ))[النحل:36] وفيما قصه الله تبارك وتعالى عن رسله الكرام: نوح وهود وصالح ثم من بعدهم شعيب وموسى ولوط وأمثالهم، كل ذلك يظهر هذا الأمر بجلاء، فعندما تكون الدعوة في مرحلة الدعوة إلى التوحيد، أو في مرحلة الاقتصار على التوحيد فقط، فإن الناس مطالبون بالإيمان به لا أحكامه، فإذا أنزلت هذه الشرائع وهذه الأحكام -وبعضها عظيم؛ لأنها أركان من أركان الدين- فلا يكون العبد مؤمناً إلا بها، كالإيمان مثلاً بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك، فهذه عندما تأتي فلا شك أن الإيمان قد زادت واجباته وزادت شعبه، ويجب على الناس الذين خوطبوا في أول الأمر بالإيمان العام أو المجمل أو بأصله -وهو التوحيد- بعد نزول الشرائع أن يؤمنوا بالصلاة وأن يؤمنوا بالزكاة وهكذا، ولذلك فإن بعض الصحابة رضي الله عنهم الذين توفوا قبل نزول الصلاة، كان الله تبارك وتعالى قد أوجب عليهم التوحيد فقط، فلما نزلت الصلاة وقبل أن تفرض الزكاة كان المطلوب منهم ذلك مع التوحيد والإيمان العام وأصل الدين، ثم بعد ذلك لما شرعت الزكاة والصيام وقبل أن يفرض الحج كانوا مطالبين بهذه الأركان، والحج لم يكونوا مطالبين بأن يؤمنوا به، وهكذا فلا شك أن الإيمان يزيد وينقص ويتفاوت أهله فيه بحسب هذه الأمور، وغرض الشارح رحمه الله أن يقول: إن الإيمان لا شك أنه يتفاوت، فمن آمن بهذه فقد آمن بما لم يؤمن به من كان قبله، يعني بالنسبة للأمة في مجموعها، فالأمة آمنت بعد نزول الشرائع بأكثر مما كانت تؤمن به قبل نزول الشرائع.
      أما الفرد في ذاته فيرجع إلى البلاغ؛ لأنه قد يكون الفرد في ذاته فرد واحد قد يكون في السنة العاشرة للهجرة لكن ما بلغه من الدين إلا الشيء القليل، وقد يكون قبل ذلك، لكن بلغه كثير من أحكامه وتفصيلاته، فبالنسبة للفرد ننظر إلى ما بلغه، ولذلك الشيخ رحمه الله مثل بـالنجاشي ؛ لأنه آمن وأسلم وما بلغه من الدين إلا ما بلغه من الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا عنده، مع أنه قد شرعت أمور كثيرة ما بلغته، بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم لما رجعوا من الحبشة وجدوا أن شرائع قد شرعت، وأن أحداثاً قد وقعت، وأن أموراً ما عرفوها ولا علموا عنها، لكن لم يكلفهم الله تبارك وتعالى بها، والنجاشي بقي على ما بلغه وهو أصل الدين والإيمان، وإثبات وحدانية الله تبارك وتعالى، وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعبودية عيسى عليه السلام لله؛ لأنه من أهل الكتاب، فكان من الضروري أن يذعن، وقد أذعن وأعلن بأن عيسى عبد الله ورسوله كما جاء في سورة مريم عندما قرئت عليه، وبالتالي فـالنجاشي لا يمكن أن يقاس حاله وما آمن به من الإيمان العام أو المجمل -الذي هو أصل الدين- بحال من كان معاشراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة النبوية ، ويسمع الذكر والوحي، ويتلقاه كما كان الكثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وسائر أهل المدينة .
      فإذاً هذان الأمران: الأمة في مجموعها، والفرد في مجموعة، يتبين لنا أن الإيمان يتفاوت.
      وهاهنا تنبيه، وهو رفع لشيء من اللبس قد يقع فيه بعض الناس، وربما وقع فيه البعض، وهو أن هذا لا يقتضي أن التكاليف أو أن الأوامر أثقل، أي: أنه بعد أن شرعت الفرائض أصبحت الأوامر أثقل وأشق هكذا بإطلاق، بل إنه في أول الأمر الذين لم يكونوا قد طولبوا ولا أمروا إلا بالتوحيد وحده تحملوا من المشاق والمتاعب والآلام الشيء الكثير جداً، وأن من دخلوا في الإسلام بعد الهجرة مثلاً أو بعد الفتوحات التي فتحها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، كالفتح العظيم الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ))[الفتح:1]، وهو صلح الحديبية الذي نزلت فيه هذه السورة، وبعد صلح الحديبية دخل أناس الإسلام وقد جاءت كثير من الشرائع فالتزموها وعملوا بها، لكن ما تحملوا وما لاقوا من المشاق مثلما لاقى من أسلم في مكة ، نعم الشرائع أكثر، والفروع أكثر، ولكن المشقة هنالك أعظم، والسبب في ذلك أن الذي كان يشق عليهم ويطالبون به في أول الإسلام في مكة هو التجرد من الآلهة والبراءة منها، رغم أنها عبادة الآباء والأجداد، وكانوا أيضاً في قلة والمشركون كثرة، وكان الفرد في غربة حتى ولو لم يؤذ، والآن لو أن إنساناً في أمريكا مثلاً أسلم فلا يؤذى غالباً، لكن أول ما يبدأ بالتدين يجد مشقة في التجرد مما كان عليه في تغيير القيم والموازين والمفاهيم التي عاش عليها، ودرج ونشأ عليها هذا المجتمع، مع أن الحكومة لا تؤذيه غالباً، لكن الضغط العائلي عليه من الأم والأب والزوجة والأبناء، فهي لا تقارن أو تقاس بمجرد كثرة التفاصيل، بل ربما إلى الآن لم يعلم كثيراً من الأحكام، لكن تلك المعاناة والغربة وانتقال الإنسان من دين إلى دين، ومن مفاهيم وآراء وموازين ومعايير إلى قيم جديدة وأحكام شرعية ربانية أو أحوال وأوضاع جديدة، فهذه فيها المشقة والصعوبة، وبالتالي فالنقلة ليست هينة، وبمقدار صدق هذه النقلة وقوتها يكون الإيمان في الحقيقة، ويكون الإنسان أسبق في الخير من غيره، فالمقصود أن هذا لا يقتضي الأفضلية أو كثرة المشقة، وإنما هو يبين ويوضح حكمة الله سبحانه وتعالى في التدرج، ونزول هذا الدين وهذا القرآن منجماً، أي: بحسب الحوادث، لا كما طالب المشركون بأن ينزل عليهم جملة واحدة، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى في التعليل لذلك: (( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ))[الفرقان:32-33]؛ لأن الحكمة في هذا واضحة.
  2. الكلام في زيادة الإيمان من جهة العمل والتصديق

     المرفق    
    قال رحمه الله: (وأما الزيادة بالعمل والتصديق)، إذاً هذه قضية أخرى، أي: أن الإيمان يتفاوت أهله فيه، فيزيد عند البعض في حين أنه يقل عند البعض بسبب العمل والتصديق والامتثال والتنفيذ، يقول: (وأما الزيادة بالعمل والتصديق، المستلزم لعمل القلب والجوارح فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه) فكيف نعرف أن هذا أكثر تصديقاً وإيماناً من ذاك؟ حتى لو فرض أن الإيمان هو التصديق كما يقول مرجئة الفقهاء فهل كل تصديق مماثل لأي تصديق؟! وهل التصديق جنس متماثل -كما يقولون- حقيقة أو ماهية مشتركة؟ لا، فهذه نظرية فلسفية خطأ، والصحيح والحق أن التصديق الذي يستلزم العمل ويستتبع من صاحبه العمل، ويثمر الامتثال والانقياد والإذعان لما أمر الله تبارك وتعالى به أو نهى عنه، فيقوم صاحبه بأداء الفرائض وترك المحرمات، وربما تجاوز ذلك إلى أداء المستحبات وترك المكروهات، فإن هذا أعظم بلا ريب من ذلك لم يدعوه إيمانه أو تصديقه إلى مثل هذه الدرجة من الإلتزام والعمل، سواء كان عمل القلب أو عمل الجوارح، فهذا دليل على تفاوت التصديق في قلوب أهله، وإلا لما تفاوتت أعمالهم وطاعاتهم وحسناتهم وسيئاتهم، والأمة تتفاوت في هذا تفاوتاً عظيماً، سواء من آمن في هذه اللحظة أو في غيرها، فقد يؤمن مثلاً في هذه اللحظة مجموعة من الناس، ولكن هذا مستعد أن يجاهد وأن يدعو وأن يتمسك وأن يذعن في أموره كلها، والآخر دونه بقليل، وآخر دونه بقليل، وآخر وسط، وآخر ليس لديه إلا حد أدنى يحتاج إلى زيادة في الدعوة والخير، فهذا كله موجود، ولذلك تفاوت الأفراد مثل ما بين السماء والأرض، لكن في الجملة العامة للأمة هم ثلاثة أقسام بحسب الانقياد والإذعان لما أنزل الله تبارك وتعالى من الإيمان وما ادعوه، أي: المنتسبين إلى الإيمان والمتسمون باسمه، والثلاثة الأقسام هي: الظالم، والمقتصد، والسابق بالخيرات، قال تعالى: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ))[فاطر:32]، هذا أدنى الدرجات (( وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ))[فاطر:32] فالظالم لنفسه متوعد وداخل في الوعيد، والمقتصد هو الذي يأتي بالواجبات ويترك المحرمات، وهذا في الحقيقة لا يعني أنهم ثلاث ماهيات كما يسميها المناطقة و الفلاسفة ، أي: ثلاثة أناس: أناس ظالمون، وأناس مقتصدون يأتون بالواجبات ويتركون المحرمات، وأناس سابقون بالخيرات بإذن الله، وإنما أصحاب الوعيد الظالمون لأنفسهم متفاوتون في ذلك، فمن كان من أهل الزنى ويؤدي الصلاة مثلاً، فهو ليس كالذي يزني ويشرب الخمر، وهذا أخف ممن يزني ويشرب الخمر ويتهاون في أداء الصلاة، وأسوأ من ذلك الذي يزيد على هذا، فقد يكون عاقاً للوالدين مؤذياً للجيران مغتاباً للمسلمين، وأسوأ منه أن يكون ممن يكره المؤمنين ويحب الكافرين ويوالي الفاجرين والعياذ بالله، وهكذا فقد يكون ظلمه إلى حد يفحش جداً، وقد يكون ظالماً لنفسه بارتكابه فاحشة واحدة، وهذا في حدود درجة: (( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ))[فاطر:32].
    أيضاً المقتصدون ليسوا على تماثل تام، بل منهم من فعل الواجبات وترك المحرمات، لكن استطاع أن يأتي من الواجبات الشيء الكثير مما لم يجب على غيره ولم يفعله سواه، وترك أيضاً من المحرمات ما لم يتعرض له غيره ولم يجب عليه تركه وهكذا، ثم السابقون في الخيرات هم درجة عليا، ولا شك في تفاوتهم، وأعظم الناس إيماناً بعد الأنبياء، أو أفضلهم إيماناً في هذه الأمة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومع ذلك هم متفاوتون في الإيمان، فإيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه أعلاهم، وهو أفضل من عمر رضي الله تعالى عنه، وعمر أعظم إيماناً من بقية الأمة، والخلفاء الأربعة الراشدون أعظم من بقية العشرة، والعشرة أفضل من أهل بدر ، وأهل بدر أفضل من أهل الحديبية ، وأهل الحديبية أفضل ممن بعدهم وهكذا، حتى هذه الأمة المصطفاة المجتباة السابقة في الخيرات -هم أفضل هذه الأمم وخير الناس- فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) فهم أيضاً درجات، وظهر هذا كذلك في التابعين، فالتابعون رضوان الله عنهم درجات، فمنهم من أهل الطبقة الأولى في الإيمان والعلم والدعوة كما كان سعيد بن المسيب رضي الله عنه والحسن البصري و إبراهيم التيمي و إبراهيم النخعي و علقمة تلميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، و مجاهد و عكرمة و عطاء و أويس وغيرهم، ثم تابعي التابعين درجات وهكذا، وهؤلاء خلاصة وصفوة الصحابة، ومقدمة التابعين، ومقدمة أتباع التابعين، هؤلاء الثلاثة القرون هم السابقون من هذه الأمة، ومع ذلك يتفاوتون في أفرادهم كما يتفاوتون في طبقاتهم، يعني: رأس طبقة التابعين لا يقارن بالأدنى من طبقة الصحابة، فالكل سابقون، لكن التفاوت بينهم حاصل وحق ولا ينكره إلا مكابر.
    إذاً على هذا كيف يأتي مدعٍ أو زاعم من أي طائفة ويقول: إن إيماني كإيمان جبريل وميكائيل؟! إن هذا من فاحش القول، ومن كذب وباطل الادعاء، ويستشهد الشيخ رحمه الله على هذا بأنه ما دام أن الإيمان إذا استلزم العمل والامتثال فهو أفضل من الذي لا يستلزمه، يقول: (فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به) وهذا حق؛ لأن العلم إذا كان لوجه والذي يتقرب به إلى الله فلا بد وأن يثمر العمل، فبقدر ما يثمر من العمل ويستلزم ويستدعي من العمل، دليل على قوة هذا اليقين والتصديق في قلب صاحبه، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم بقدره، بل ربما نجد أن الإنسان نفسه تتفاوت أحواله، فمرة يسمع الآية فيخشع قلبه، وتنطلق بالعمل بها جوارحه، ويلتزمها ويمتثلها، وأحياناً يسمع نفس الآية فلا يتحرك فيه إلا القليل مما كان قد تحرك عندما سمعها من قبل، والآية هي الآية، والقلب هو القلب، والإنسان هو الإنسان، لكن كان ذلك في حالة خمول وضعف وطائفة من الشيطان كما سيأتي، ورين من الذنوب، فلم توقع الأثر الذي أوقعته في حالة الصفاء ولمة الملك والبعد عن طيف الشيطان ونزغه.
  3. أمثلة على حديث: (ليس المخبر كالمعاين)

     المرفق    
    1. المثال الأول: إلقاء موسى عليه السلام للألواح

      قال الشيخ رحمه الله: (ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس المخبر كالمعاين )، وبين ذلك، فقال: وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوها ألقاها) فالله تبارك وتعالى أخبر موسى عليه السلام فقال: (( فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ))[طه:85]، فأخبره الله تعالى بعد أن أنزل عليه الألواح، وهذه الألواح هي كتاب الله: التوراة الذي خطه الله له بيده -كما في الحديث المتفق عليه- عندما حاجه آدم عليه السلام به ( قال آدم: أنت موسى الذي كلمه الله، وكتب له التوراة بيده. فقال: (( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ))[الأعراف:145] )، وكان هذا في غاية التكريم لموسى عليه السلام، أي: أن ينزل عليه وأن يعطى هذه الألواح وهذا الفرقان، والله عز وجل اختار موسى عليه السلام واصطفاه لذلك، وأناب موسى عنه أخاه هارون ليكون قائماً مقامه في بني إسرائيل، وذهب موسى إلى ميقات ربه ليتلقى هذا الفرقان، وهذه المكرمة العظيمة من الله تبارك وتعالى، فأخبره الله تعالى بأنه قد فتن قومه من بعده، وأنهم قد اتبعوا هذا الدجال الأفاك السامري الذي جعله الله تبارك وتعالى فتنة، والله يفتن الأمم بما يشاء، والدجال الأكبر يأتي في آخر الزمان، لكن في كل أمة وفي كل حين وفي كل عصر دجاجلة أقل، فهذا كان دجال بني إسرائيل الذي افتتنوا به، وبالتالي فماذا نتوقع أن يكون الأثر في نفس موسى عندما يرجع إلى قومه فيجدهم على خير مما كانوا عليه، فيبلغهم دين الله وكتابه، فيزدادوا إيماناً، ويظن أنهم في غاية الشوق عندما يرجع إليهم بالنور والوحي والهدى والخير؟
      إن ربه تبارك وتعالى عندما أخبره بذلك -وهو حق، وكلامه حق، وقوله حق- لا بد أن يألم، وأن يحزن، وأن يغضب، وأن يأسف، وأن يأسى على هذه الأمة العتية العصية العنيدة التي تأبى إلا الاعوجاج، وترفض الاستقامة في كل مرحلة، وهم في ظل حكم الفراعنة، وهم بعد التيه بعد الخروج، وهم في هذه الحالة دائماً، وهكذا قدر الله تعالى عليها، فلا بد أن يقع لديه هذا الأثر، ولذلك لما وصل ورآهم يعبدون العجل كيف كان وقع الأمر عليه؟ وماذا فعل؟ ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
      ولذلك اشتد عليه الغضب فجاء من جهتين: من جهة الألواح، وهي أعز ما لدى موسى عليه السلام، وهي من الأهمية بمكان، ومن جهة أخيه هارون عليه السلام الذي سأل الله سبحانه وتعالى أن يشدد به أزره، وأن يشركه في أمره، وأن يجعله وزيراً له ومبلغاً وداعية معه، وهو أفضل الأمة بعده، وهو الذي جاهد بني إسرائيل على ألا يعبدوا العجل، وكل ذلك لم يشفع، بل أخذ يجره موسى عليه السلام، وغضب عليه وألم، وكأنه يحمله المسئولية في هذا الذي قد وقع، وبالتالي فظهر أثر الغضب في الكتاب ومع الرسول الذي هو هارون، ولا شك أن الإنسان يألم عندما يرى الناس ينحرفون ويضلون، وخاصة إذا كان الهدى بين أيديهم والحق أمامهم، فيكون الألم أكثر وأعظم، والشاهد أنه كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ليس الخبر كالمعاينة ) أو: ( ليس المخبر كالمعاين )، ثم ذكر قصة موسى عليه السلام، وأنه غضب وألقى الألواح لما عاين وليس لما أخبر؛ لأن النفس البشرية ركب فيها ذلك، وهكذا النفس البشرية عندما تعاين يكون الوقع والتأثير عليها أشد، وإن كان المخبر أوثق وأصدق، فالمخبر في هذه الحالة هو الله تبارك وتعالى، ولا شك في خبره، ولا شك أن موسى عليه السلام قد أيقن وصدق به تمام الصدق، لكنه لما عاين وأيقن ورأى وأبصر وسمع ازداد الأمر عنده، وازداد الغضب والألم والأسى لديه، ولو أن موسى عليه السلام فوجئ وما أخبر، فكيف يكون الغضب؟ إن الإنسان إذا بلِّغ بشيء يخف عليه إذا رآه، وإن كان أيضاً إذا رآه أشد مما كان في حالة الإخبار فقط، لكن من حكمة الله ولطفه، وهو يعلم عز وجل أن عبده ورسوله موسى عليه السلام شديد وقوي، والله سبحانه وتعالى جعله بهذه القوة ليواجه أعتى طواغيت الأرض، فهو قوي مع نفسه كما حصل في قصته مع الخضر، وقوي مع فرعون، وقوي مع من يستصرخه على عدوه، وقوي في مواقفه، فحصلت منه هذه القوة والشدة في هذا الموقف، مع أنه قد أخبر، فكيف لو لم يخبر؟! إن هذا يدل على أن الخبر ليس كالمعاينة، وليس المخبر كالمعاين كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله والحاكم وسنده صحيح.
      يقول الشيخ: (وليس ذلك لشك موسى في خبر الله) أي: ليس إلقاؤه الألواح عندما رآهم يعبدون غير الله لشك في خبر الله، فلم يغضب عندما أخبر، يقول: (لكن المخبر وإن جزم بصدق المخبر فقد لا يتصور المخبر به في نفسه، كما يتصوره إذا عاينه).
      إذاً: الشاهد من قصة موسى عليه السلام: أن العبد إذا آمن وبلغه عن الله تبارك وتعالى خبر أو أمر أو نهى، فإنه وإن صدق به في قلبه، فهو ليس كمن امتثل ذلك الأمر والتزمه وعمل به، فإن ذلك يرى ما لا يرى الآخر، إذ إن كل إنسان من المؤمنين يصدق أو يؤمن أو ينقاد أو يلتزم لخبر الله يجد في نفسه من آثار العمل إذا التزم بصدق وإخلاص ويقين أعظم مما لو كان الإلتزام أقل، فكيف لو لم يعمل وإنما اكتفى بمجرد قول القلب؟ أي: أنه صدق بما جاء عن الله، أو ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يعمل، فإن أثر ذلك عليه أقل بكثير، فإذا عمل، وعمل باستجماع لشروط العمل من الخشوع والإخلاص واليقين وغير ذلك؛ فإن الأثر يظهر أكبر فأكبر، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه، وهذا هو المثال الأول الذي ذكره الشارح رحمه الله.
    2. المثال الثاني: طلب إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى

      وأما المثال الثاني: فهو قوله: (كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ))[البقرة:260])، فالسؤال من الله عز وجل؛ لأن هذا أمر يؤمن به عباد الله جميعاً، والخليل إبراهيم عليه السلام الذي جعله الله تبارك وتعالى إماماً للناس في الإيمان، وجعله قدوة للعالمين، وجعل من بعده من الأنبياء تبعاً له، وأفضلهم وأعظمهم وأعمهم رسالة ودعوة هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى له: (( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ))[النحل:123]، وهذا إمام المؤمنين الموحدين يسأله ربه عز وجل: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)؟ وفي هذا السؤال نوع إنكار، (قَالَ: بَلَى) أي: مؤمن موقن لا شك في قدرتك، وفي أنك كما ذكرت: (( وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ))[البقرة:260] هذه مرحلة عليا من اليقين، وليس اطمئنان القلب بمجرد تصديق الخبر، فغير الخليل عليه السلام يطمئن قلبه بأن يعلم أن الخبر حق وأنه صدق، وهذا يكفي، وربما بعض الناس يكون على الدرجة الدنيا من ذلك، فإذا علم أن المخبر صادق اطمأن قلبه نوع اطمئنان لكن (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) في كلام الخليل أمر آخر؛ لأن كل إنسان اطمئنانه ويقينه وإخلاصه بحسبه وبدرجة قلبه، وإبراهيم الخليل عليه السلام في الذروة وفي الدرجة العليا من اليقين، فهو يريد أن يصل إلى قمة عالية شاهقة من اليقين لا يرقى إليها بعد ذلك أدنى احتمال أن يتطرق إليه شك في ذلك، وهذا سؤال من إبراهيم عليه السلام لربه عز وجل رغبة منه في أن يصل إلى هذه الذروة العليا من اليقين بخبر الله، وبما وعد به الله تبارك وتعالى، وخاصة في هذا الأمر؛ لأن الناس أكثر ما ينكرون ويجحدون البعث، فقال تعالى: (( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ))[التغابن:7]، وقال: (( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ))[النحل:38]، فسبحان الله العظيم كيف تصل بهم الجرأة على الله عز وجل أن يقسموا الأيمان المغلظة لا يبعث الله من يموت؟! إن أكثر الخلق الذين لا يعرفون الله عز وجل، أو الذين لم يدخل اليقين في قلوبهم، يصعب عليهم إما كلية أو بشيء مع الشك: الإيمان والإقرار بالبعث بعد الموت، وهذه القضية أهم القضايا التي يأتي الحديث عنها في القرآن مع المشركين بعد الإقرار بوحدانية الله تبارك وتعالى، لكن جميع الرسل قد دعوا إليها وقرروها، فلهذا لما يقول الله تبارك وتعالى: (( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ))[النحل:38]، علل ذلك في الآية التي بعدها فقال: (( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ))[النحل:39]، فأول شيء أنه مستحيل أن لا يكون هناك بعث بعد الموت والناس مختلفون، فالرسل مع أممهم، والمؤمنون مع الكافرين، والظلمة مع الأبرياء، فلو لم يكن هناك يوم آخر لما بين الله تبارك وتعالى هذا الاختلاف، ولما حكم بين العباد، ولو كانت الأمور فقط في حدود هذه الدنيا لكان هناك شعور بأن خالق هذا الكون الحكيم العليم سبحانه وتعالى الذي أتقن كل شيء صنعه، والذي جعل هذا الكون يسير في دقة محكمة عجيبة جداً في الليل والنهار، وحركة الكواكب، وحركة الإنسان، وحركة الأعضاء، كل شيء في دقة عجيبة محكمة، ثم نأتي في جانب أفعال العباد، وما يقع بينهم من اختلاف، فلا نرى هذه الحكمة، إذ نرى الظالم الجبار الغاشم المتجبر المتغطرس يقتل في عباد الله، ويفني ويظلم ويسرق ويعمر الدهر الطويل، ثم يموت، ويموت قبله كثير من المظلومين والمسحوقين والمكلومين، فهل انتهى الأمر؟ لا يمكن هذا، إذاً لا بد من هذا لبيان الاختلاف والحكم بينهم، ثم أمر آخر: (( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ))[النحل:39]، فلو كان الأمر كذلك، أي: لو لم يقم الله تعالى القيامة، ولم يبعث الخلق، وقد جاءت رسله تقول للناس: إن قيامة ستقوم، وإن حساباً لابد منه، وإن بعثاً وجزاءاً سيكون، فيكون عدم ذلك تصديقاً للكافرين الذين أنكروا، فيكذبهم تبارك وتعالى، ويصدق ما أخبرت به أنبياؤه ورسله من قبل، والشاهد أن قصة إحياء الموتى أو الإيمان بالبعث -وهي قضية عظيمة جداً- التي قرنها الله تبارك وتعالى كثيراً بالإيمان به في القرآن، من أعظم أمور الاعتقاد، فإذا كمل يقين الإنسان واعتقاده بالبعث بعد الموت كملت بقية الأمور وهانت، فإبراهيم الخليل عليه السلام لما سأل الله تبارك وتعالى ذلك، إنما سأله ليكمل إيمانه بهذه القضية التي هي أصل كل القضايا في عالم الإيمان بالغيب الذي لم يأت، قال: (( بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ))[البقرة:260] فإذا كان قلب الخليل ازداد اطمئناناً، أي: اطمأن وأيقن بعد أن رأى ما أمره الله تبارك وتعالى أن يفعله، ثم رأى كيف أحياها الله عز وجل، فكان أكثر منه قبل ذلك وهو يسأل الله، فما بالك بمن هو دون الخليل عليه السلام؟! وهكذا فالناس تتفاوت أحوالهم، فهو عندما رأى ازداد إيمانه أكثر مما كان عليه في حالة الخبر، وكذلك الإنسان إذا عمل عين العمل الذي أمر به، كان أكثر إيماناً وأقوى منه في حالة أنه مخبر ومصدق به، فلو أخبرك إنسان أن الله تبارك وتعالى أوجب عليك الحج، أو أوجب عليك الصيام مثلاً، وآمنت بذلك وأيقنت، فإن الإيمان في هذه الحالة ليس مثل أن يأتي شهر رمضان فتصوم، وتذهب إلى البلد الحرام وتعتكف وتقوم، وإنما الإيمان في هذه الحالة يفرق كثيراً جداً عن حالة الإيمان في أول الأمر، وربما نحن لا ندرك هذا كثيراً، ولكن ينبغي أن يكون ذلك، ولا بد أن قدراً منه موجود، لكن إذا أردتم المثال الأوضح فانظروا إلى من يسلم ويؤمن حديثاً، واقرءوا ما يكتبون، أو إن جالستموهم فاسمعوا ما يقولون، إنهم يقولون شيء عجيب جداً، بينما نحن نسمع الأذان -والحمد لله- منذ أن خلقنا، وربما لا يؤثر فينا، إذا قال القائل: الله أكبر الله أكبر، لكن بعضهم يقول: أنا كنت أسمع هذا الصوت فيشد أعصابي، وأتوقف عن العمل، ولا أفهم ما يقول، ويقول للذين معه: ماذا يقول؟ فيترجم له ويقول: إن الله تعالى أكبر وأعظم من كل شيء، وبعد ذلك يخبره أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يدعوه إلى الصلاة، فيقول: ما هي الصلاة؟ فيقال له: الصلاة كذا كذا، ويتكرر هذا فيبدأ يفكر، فإذا أسلم وجاء يخبرك بأن أول ما كان يشدهم -كما حدثني كثير منهم- أحياناً في التلفزيون في القناة الثانية أو الأولى: رؤية الكعبة والناس يصلون، ويتحدث كثير منهم أن هذا المنظر قد أثر فيه تأثيراً عجيباً جداً، وبعض من أسلم قريباً يقول: إنا كنا نجلس قبل أن نسلم مجموعة أمام التلفزيون ننظر في الطواف وصلاة التراويح في رمضان، مع أن هذا الموقف عندنا أمر عادي؛ لأننا ألفناه، لكن بالنسبة للذي لم يؤمن ولم يطمئن قلبه بالإيمان يعتبر شيئاً مثل الخيال، كذلك من رأى المحرمين ثم أسلم وذهب بنفسه فرأى البيت عجب أكثر، وبعضهم يكاد يذهل، وبعضهم يقول للذين معه: لا أريد أن أخرج، دعوني أبقى ساعات طويلة أتأمل في هذه الكعبة، وأتأمل في هؤلاء الناس، وأسمع القرآن، وأسمع الأذان.
      إذاً: الشاهد أن هذه حقيقة: ( ليس الخبر كالمعاينة )، وهي تظهر بتفاوت بين الناس، فبعضهم أشد ظهوراً عنده من بعض بحسب حاله وقوة الإحساس لديه، ولهذا الصحابة رضي الله عنهم كانت الحاسة عندهم قوية، وكان لديهم الشعور بأن هذه الآية تخاطب أعماق القلب، وهذا الحديث عندما يقوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الموعظة التي يقولها، ومواعظ الصحابة، ومواعظ كبار التابعين، تجد كل هذا عبارات لو قلناها نحن أو قرأها أخ منا فلربما لا نتأثر بها، لكنها كانت تحفر في أعماق قلوبهم، وهي نفس الكلمات والعبارات، وهذا لأن القضية عندهم ليست بكثرة الكلام ولا بترتيب العبادات، وإنما الملقي يلقي بيقين وإيمان، وأعماق قلبه التي لا يمكن أن تخضع لحساباتنا، أو لما ينظر إليه الآن من الإرسال والاستقبال المعروف في حياتنا، فهذه خارج نطاق التفكير البشري أصلاً، لكن الله سبحانه وتعالى جعلها سراً مودعاً بين القلوب، فهذا يخاطب بذلك الخطاب والآخر يستمع، فإذا سمع وعى قلبه، والقصص في هذا كثيرة، ومنها: ذلك الرجل الذي جاء من البادية إلى المسجد في عهد السلف، فأراد أن يتعلم دينه وأن يسمع عن هذا الدين وعن هذا القرآن، ويعرف أمر الله سبحانه وتعالى، فجلس في حلقة من المسجد واستمع إلى قارئ يقرأ: (( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ))[الزلزلة:1] هذه السورة كم نقرأها؟ وكم نسمعها؟ إننا نحتاج إلى مجلدات حتى نعيها، بينما هو يسمع قوله تعالى: (( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ))[الزلزلة:7-8]، قال: حسبي موعظة، فهو سمع الإيمان بالبعث، وما يقع عند قيام الساعة من الزلزلة والرهب والذعر والأهوال، وعلم أنه إن عمل مثقال ذرة من الخير رآها، وإن عمل مثقال ذرة من الشر رآها، إذاً ماذا بقي؟ كفى بها موعظة، وتحول إلى عابد من العباد، وهكذا فالقصد هو أن نحرك وأن نحيي هذه القلوب لتكون كتلك القلوب، فإذا أُخبرنا عن الله وعن دين الله وعن أمر الله وعن أي أمر من أمور الغيب، أو من أشراط الساعة، أو مما يقع في هذه الدنيا قبل قيام الساعة، أو عما يكون في البرزخ من الحساب والنعيم أو العذاب، أو عما يكون يوم القيامة، فإنه يجب علينا أن نستيقن ذلك، وأن يتحول ذلك إلى عمل يظهر أثره على جوارحنا، وحينئذٍ نرى أننا بقدر ما نتمثل وبما نعمل يزداد إيماننا، ويزداد علمنا وشعورنا بما أخبرنا به، وهذه هي القضية الثالثة، فالأولى: كانت في التفاوت في القوة والضعف، والثانية: في الإجمال والتفصيل، والثالثة: في الامتثال في العمل.
  4. الكلام في زيادة الإيمان من جهة الوجوب المفصل أو المجمل

     المرفق    
    المسألة الرابعة: هي من جهة الوجوب المفصل أو المجمل، فقد يظن البعض أن فيها تكراراً لما تقدم، وهذه في الحقيقة ليس فيها تكراراً، وإن كان قد يشتبه الأمر في ذلك؛ لأنه في الفقرة السابقة قبل الأخيرة -وهي ما يتعلق بزيادة الإيمان إجمالاً وتفصيلاً- كان يتكلم عن وجوب الإيمان من جهة الأمة عموماً، أو من جهة الفرد، وهنا يتكلم من زاوية أخرى، وهي من جهة الفرد الذي يجب عليه ما لا يجب على غيره، لا من جهة أن الفرد قد يبلغه ما لا يبلغ غيره، فهنا يقول: شخصٌ بلغه الحج وأن الله تعالى قد شرع الحج، لكن يقول: (وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة مثلاً، يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره إلا مجملاً، وهذا يجب عليه في الإيمان المفصل) أي: من أراد الحج وهو من أهل الاستطاعة فإنه يجب عليه أن يعلم ما لا يعلمه الذي لم يوجب الله تعالى عليه الحج، فيجب عليه من جهة أنه مؤمن، لكن في واقع حاله لا يستطيع الحج، وبالتالي فلا يجب عليه، فهو مؤمن بإيجاب ذلك، مؤمن بأن الحج ركن من أركان الإسلام، وأن هذا لو كان يستطيع الزاد والراحلة لفعل ذلك، ففي قلبه حصل الإيمان عملياً، والوجوب ساقط عنه؛ لأنه لا يجد الزاد والراحلة، لكن الذي يجد ذلك يجب عليه ما لا يجب على الآخر، بأن يتعلم كيفية الإحرام وأركان الحج وشروطه الحج وواجباته.. إلخ، فيزداد عنده الإيمان بالحج أكثر مما عند ذلك من حيث الوجوب، وإلا فقد يتعلم الأحكام من لا يستطيع ذلك، وهذا أمر آخر، نحن لكن نتكلم عن الإنسان الذي يستطيع العمل، فيجب عليه أن يعلم ليعمل وفق العلم، وإلا كان والعياذ بالله من الضالين الذي يعبدون الله على جهل، إذاً الذي لا يجد الزاد والراحلة لا يجب عليه أن يعرف الأحكام والتفصيلات؛ لأنه لم يحج من حيث الوجوب، وليس الكلام عن العلماء أو طلاب العلم أو المفتين، إنما عن العامي من المسلمين الذي ليس لديه الاستطاعة، كما لا يجب عليه مثلاً أن يعرف تفصيل أحكام زكاة الذهب، وهو لا يجد شيئاً من الذهب أو أحكام زكاة بهيمة الأنعام وهو ليس من أهل الرعي وهكذا، وإنما المقصود في ذلك أن الإنسان عندما يتعلم ويعرف تفصيل ما أمر الله تبارك وتعالى به؛ فإنه يكون لديه أكثر مما عند الآخر، ويكون آمن بأكثر مما آمن به ذلك، وهذا يجب عليه هذا العلم؛ لأنه يريد أن يعمل، وذاك لا يجب عليه لأنه غير مطالب بالعمل، فإذاً يحصل التفاوت بين الناس في هذه الحالة، فحصل عند هذا ما ليس عند ذاك، وهذا دليل على أن دعوة التماثل وعدم التفاوت ليست صحيحة كما يزعم أولئك الزاعمون، فإذاً هذا يجب عليه الإيمان المفصل وذاك يجب عليه الإيمان المجمل، ثم لو تأملنا لوجدنا أن هذا العاجز عن الحج قد يكون مستطيعاً لقراءة القرآن وحفظه وتعليمه، فيجب عليه تفصيل ذلك، أي: أن يكون ملماً بأحكام التجويد والتلاوة وأحكام الإمامة مثلاً، بينما الآخر لا يجيد هذا الفن أو هذا العلم؛ لأنه ليس من أهله، وإنما وجب عليه ما يتعلق بالحج، فيكون هذا قد أخذ بشعبة وذاك قد أخذ بشعبة وهكذا، إذاً لا بد من الإقرار بتفاوت الناس وتفاضلهم وتنوعهم في حقيقة الإيمان، والقول بأن الإيمان شيء واحد، وأن الناس فيه سواء بإطلاق ينافي مقتضى هذه الأدلة الواضحة الجلية.
    يقول الشيخ رحمه الله: (وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساوى الناس فيما أمروا به من الإيمان) أي: لا يمكن أن يتساوى من أسلم في هذه اللحظة، ومن هو مسلم من قبل، ويعرف دين الله تبارك وتعالى وأحكامه فيما يجب عليه وما يطالب به، فالذي أسلم حديثاً يجب عليه في أول الأمر الإيمان المجمل، وهذه سنة الله، إذ نحن لا نستطيع أن ندخل في قلبه الإيمان مفصلاً كاملاً، إنما لا بد من التدرج معه، والواقع الآن أن أكثر من يدخل في الإسلام ليس من العرب، وهؤلاء أصلاً يصعب عليهم أن يعرفوا كثيراً من الأمور إلا عن طريق الترجمة، والترجمة لا تكون إلا في أمور محدودة، فالعربي إذا أسلم يستطيع أن يحفظ الفاتحة مثلاً في ساعة أو نصف ساعة أو أقل من ذلك حسب المقدرة، وعند ذلك يصلي بها، لكن الذي أسلم حديثاً وهو من الهند أو أمريكا أو اليابان ، لا يمكن أن يتعامل معه إلا بحسب واقعه، إذاً أولاً يلزمه أن يؤمن بالله ويقر بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماناً مجملاً، ثم إذا جاء وقت الصلاة يقال له: الصلوات كذا وكذا، ويجب عليك أن تؤمن وتصلي، فيصلي بعد أن يغتسل ويتوضأ، لكن كيف يصلي هذا؟ وكم يفهم من الصلاة؟
    إن أكثر ما يؤديه الحركات الظاهرة وراء الإمام، ولا يلزم بشيء غير ذلك؛ لأنه لا يستطيع إلى شيء غير ذلك، وبعد ذلك يحفظ بعض الفاتحة مثلاً ليصلي بها، ثم إذا أتقن الفاتحة صلى بها، وبعد ذلك إذا حفظ سورة صلى بها وهكذا، فهو لا يطالب إلا بقدر ما يستطيع، وبحسب ما بلغه وما مكنه الله سبحانه وتعالى منه لأداء هذه الفريضة، فريضةً فريضةً، ثم تأتي الأمور الأخرى تبعاً، كالكلام في علاقاته الزوجية والأسرية وأحكامه المالية وغير ذلك، مع أنه ربما يكون حتى تلك اللحظة ما يزال متعلقاً بالخمر، وما يزال يظن أن الزنا لا بأس به مثلاً مع الرضى؛ لأن بعضهم قد يقول: الزنى الحرام هو الاغتصاب، لكن مع الرضى لا شيء فيه مثلاً، فالناس أحوالهم وأمورهم عجيبة، وهكذا يتدرج معه في كل مرة ليتعلم من أحكام الدين ويزداد في إيمانه، حتى يستيقن، إذاً من كان حاله هكذا أولاً هو يزداد شيئاً فشيئاً، ثم هو في المرحلة الأولى ليس كمن يعلم الكثير، ويقيم الكثير من أحكام الإسلام والدين، فيجب على هذا ما لا يجب على ذاك، وهذا أيضاً دليل على التفاوت في الوجوب، وفيما افترض الله تبارك وتعالى، وفي العمل، لكن هذا لا يقتضي التفاوت في الأجر، وهنا نكون قد رجعنا إلى الحالة الأولى التي ذكرناها من أنه قد يؤجر هذا الذي أسلم حديثاً على قراءة الفاتحة وهو يتعتع فيها ولا يستطيع أن يقيم حروفها، أعظم من أجر ذلك المتقن البارع المجود الذي يقرأها بحسب عمل القلب؛ لأن هذا لا يجب عليه الآن إلا هذا، وقد قام بأقصى ما يجب عليه، وبالتالي فيأخذ أقصى ما يثيب الله تبارك وتعالى به العباد على مثل هذا العمل، فلننظر إلى عدل الله تبارك وتعالى وفضله ورحمته، وإلى موافقة عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان للفطر السليمة، وللعقول القويمة، ولأحوال الناس التي لا يشك فيها عاقل، ومجافاة ومخالفة ومجانبة عقيدة من خالفهم من أهل الكلام أو الفرق الضالة لهذه الحقائق الواقعية البدهية فوق مجانبتها ومخالفتها لنصوص الوحي الكتاب والسنة، ولا شك أن من خالف الوحي، وخالف ما جاء في الكتاب والسنة، سيخالف العقل والواقع والفطرة، ولا شك أن مذهب أهل السنة والجماعة موافق للعقل وللفطرة وللواقع المشاهد؛ لأنه مأخوذ عن الوحي الذي لا يقع فيه الخطأ ولا الضلال ولا النقص ولا التقصير بأي حال من الأحوال.
  5. تفاوت مقدار الإيمان عند المؤمنين من جهة وقوع المعصية

     المرفق    
    وبقيت قضية أخرى من جهة وقوع المعصية شاهد آخر على أن أهل الإيمان يتفاوتون فيه، وأن الأمر يرجع إلى قوة الإيمان وضعفه، فالمؤمنون منهم من وفقه الله تبارك وتعالى، فابتعد عن سلوك طريق أهل المعاصي، وغاية ما يقع منه أن يخالف الأولى، أو أن يغفل عن بعض ما لا ينبغي لمثله أن يفوته، إذ البشر حالهم جميعاً هو الضعف والتقصير، وكل بني آدم خطاء، ولا بد أن يمس الطائف من الشيطان الإنسان؛ لأن هذا العدو متربص مترصد يتحين الغرة، فمتى ألقى الجندي سلاحه أو درعه أو خرج من حصنه وهو يشعر أو لا يشعر داهمه العدو؛ لأنه متربص يجري من ابن آدم مجري الدم، قال تعالى: : (( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ))[فاطر:6]، فهذا حاله والعياذ بالله، وكل إنسان يقع منه الغفلة والتقصير ولكن الناس درجات وأهل الإيمان والاستقامة تقع منهم لماماً وخلاف الأولى، أو تقع أخطاء أو تقصير منهم ثم يستدركون، ولهذا لما قال بعض السلف: جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت. فبلغت الآخر فقال: والله إن هذا لعجب، أو قد استقامت؟! فهو ما تعجب من أنه جاهد نفسه أربعين سنة، لكن تعجب من أنها استقامت، فكيف هذا الشيء؟ إن هذا من فضل الله، وكرامة عظيمة فعلاً أنك جاهدتها حتى أصبحت إذا رأت أمراً من عند الله أو سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تفعله امتثلت وانقادت وأذعنت، وإذا رأت أو عرض لها ما يجب أن تجتنبه اجتنبته وانقادت، وهذا درجة عالية وعظيمة جداً، وتستحق من أوتيها الشكر العظيم لله تبارك وتعالى كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو القدوة في هذا: ( أفلا أكون عبداً شكوراً )، وتستحق أن تغبط من الذين لم ينالوا هذه الدرجة، فيقول: نحن ما زلنا نجاهد، أما ذاك بعد أربعين سنة فشيء عظيم جداً أنه حصل على هذا، وهكذا حال المقربين والسابقين، لكن ليس هذا هو المقصود هنا، وإنما المقصود أن التفاوت حق، لكن الذي يظهر التفاوت فيهم بوضوح هم الذين يرتكبون بعض المحرمات، فيقعون فيما حرم الله، ويقصرون في أداء بعض الواجبات، فهؤلاء الذين حالهم هذا وقعت منهم المعصية؛ لأن الإيمان الذي في القلب ضعف عن مقاومة الشبهة أو الشهوة، وهما -كما ذكرنا- الأمران الخطيران الملازمان لضعف الإيمان، أو سبباه: إما شهوة، وإما شبهة، فالشبهة تعرض على أمور الإيمان والاعتقاد والتصديق واليقين بما أخبر الله، فتدخل فيها الخلل كالشك والوهم والريب، والشهوة تدخل على الأعمال والجوانب العملية فتدعو صاحبها إلى التقصير والإخلال والضعف، ولذلك لو رأى الإنسان ما حرم الله بعينه، ثم ذهب يصلي فإن صلاته لا تكون كما لو كان قد رأى أو سمع أمراً مما يزيد الإيمان؛ لأن هذا الجرح يؤثر في قوة القلب بقدر قوته، فمثلاً الجندي إذا ذهب إلى المعركة، فإن أخذ ما يتزود به ويقويه على الحرب ذهب وهو أقوى مما كان، وإن عرض له من ضربه فجرحه، فهو بقدر قوة هذا الجرح، فيكون ضعفه في ميدان الأداء والعمل، وكذلك الإنسان، ولهذا عندما يطالب الدعاة والمصلحون والمربون بما أمر الله تعالى به من حفظ السمع والبصر والجوارح، قال تعالى: (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ))[الإسراء:36]، ويطالبون بما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إزالة كل دواعي الفساد؛ لأنهم حقاً يريدون أن تصح قلوب الناس وتقوى على الطاعة، ولا يمكن أن يعرضوا للناس ما يغرس في قلوبهم الشبهات ويقذف في قلوبهم الشهوات؛ لأنها توهنهم وتضعفهم وتخذلهم، والقلب بحسب ما يمده، وهذه مواد تمد القلب مثل الينابيع التي تنبع، أو مصاب تصب في القلب، فإذا صب النظر حراماً، وصبت الأذن أيضاً حراماً وشهوات وشبهات، فمن أين تجد النقاوة والطهارة في هذا القلب؟ ومن أين تصل إليه؟ ولذلك فإن التربية الحكيمة القويمة، وخاصة هذا الدين الحق الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يدع وسيلة أو ذريعة من ذرائع الشبهات أو الشهوات إلا سدها، فلا يقول أحد: إن الحرام إنما هو الزنى، ولا بأس بالنظر أو الكلام أو المخاطبة أو الضحك، لكن لا يفعل الفاحشة أبداً، إن هذا غير صحيح، إذ إن كل ما يؤدي إلى الزنى فقد سدت ذرائعه، حتى لو كانت أحياناً ليست حكماً عاماً، فمثلاً: الحكم العام أن الأخ والأخت من الرضاعة كالإخوة من النسب، لكن لو علم عن إنسان أنه فاسق، وأنه لا يبالي أن يفعل الحرام مع أخته من الرضاعة والعياذ بالله، فإنه لا يجوز له أن يجتمع بها؛ لأن سد الذريعة أصل يغلب ويقوى على الأصل الذي هو كأنهم أخوة؛ لأن الغرض أصلاً من إنزال هذا الدين، ومن إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم هو أن تزكى وأن تصلح هذه القلوب، فكل الأحكام إنما جاءت لأجل ذلك، فما يسد الذرائع إلى عدم هذه التزكية أو إلى ضعفها هذا أصل عظيم يقدم في كل الأمور ويراعيه المربون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يراعيه، وكذلك كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكل من يدعو إلى الله على حكمة وبصيرة لا بد أن يراعي ذلك مهما كان الأمر، فتجد أنه يبعدك عما قد يثير فيك الشبهة أو الشهوة؛ لأنه يريد أن يزكي القلب، وأن يبقى هذا القلب قوياً على فعل الطاعة، وعلى امتثال ما أمر الله تبارك وتعالى به من الواجبات، فإذا وهن الإنسان أو ضعف ثقلت عليه الطاعة، ولذلك لو جلس الإنسان في درس بعد صلاة العشاء قال الله قال رسوله، وتذكر الجنة والنار، وتذكر أحوال المؤمنين والكافرين، وما ذكر الله تعالى عن هذا، ثم نام، فإنه يقوى للقيام لصلاة الفجر أو قبلها بمنتهى النشاط، لكن لو جلس في سهرة غيبة ونميمة أو نظر فيما حرم الله من مسلسلات وأفلام وقذارة وأشياء من هذا القبيل، فإن صلاة الفجر تثقل عليه جداً، وهذا أمر ملموس لا ينكره العصاة ولا الطائعون، وهذا يعود إلى تأثير ذلك على القلب من شهوة أو شبهة.
    يقول الشيخ رحمه الله: (ولا شك أن من قام بقلبه التصديق الجازم -الذي هو الإيمان الحق -الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة، لا تقع منه معصية -أي: لا يعصي لقوة إيمانه- ولولا ما حصل له من الشهوة أو الشبهة أو إحداهما لما عصى) أي: إذا عصى عرف ضعف ما في قلبه، قال رحمه الله: (بل يشتغل قلبه في ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية، فيغيب عنه التصديق والوعيد فيعصي، ولهذا -والله أعلم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) الحديث، فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنى، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، ثم يعاوده)، أي: إيمانه بحرمة الزنى، ونحن نريد أن نربط هذا بأصل الموضوع؛ لأننا قلنا:إن الإيمان عند أهل السنة والجماعة : قول وعمل، والقول قولان: قول القلب، وقول اللسان، والعمل عملان: عمل القلب، وعمل الجوارح، ونريد أن نطبق هذا على حالة هذا الرجل -كما جاء في الحديث- الذي قارف الفاحشة والعياذ بالله، فما الذي ذهب؟ وما الذي بقي عنده؟ هذه أربعة: قولان وعملان، حتى نثبت للشارح رحمه الله وللماتن وللحنفية ولغيرهم أن مذهب أهل السنة والجماعة ينطبق عليه الحق، وينطبق على الحق تماماً، فهذا الرجل ذهب عنه فعل الجوارح؛ لأنه ماذا تفعل جوارحه في حال فعل الفاحشة؟ إنها تفعل ما حرم الله، إذاً لا عمل الجارحة عندنا؛ لأن الجوارح مشغولة بالمعصية في هذه الحالة، فهو حين يزني أو يسرق أو يشرب الخمر يذهب عنه عمل القلب، والدليل على ذهاب عمل القلب: أن نفس فعل المعصية، أو تحرك الجوارح وعملها بالمعصية هو دليل جلي على أن عمل القلب مفقود؛ لأن الجوارح تتحرك بناءً على عمل القلب؛ لأنه كما مثلنا بقول أبي هريرة رضي الله عنه: [ القلب ملك والأعضاء جنوده ]. وهذا يقرب المسألة، فهو -القلب- بحسب الأمر يشتغل، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ) أبلغ من قول أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأن الارتباط بين الملك والجنود ليس قوياً، فقد يعصونه، وقد يخالفونه، وقد يضمرون خلاف ما يعملون، لكن الجسد الواحد قلباً وقالباً أقوى من ذلك، أقوى حتى من أن نقول: إن القائد الذي يقود السيارة إن حركها يمين يعملون أو شمال فهو الذي يحرك، ولذلك المفترض أن يكون القائد جزءاً من السيارة لا ينفصل عنها، وكذلك علاقة القلب بالجوارح أقوى من علاقة السائق أو القائد بالسيارة، فالقلب هو الذي يوجهها، والقلب لو أنه مؤمن وموقن بتحريم الزنى ما جعل الجوارح تفعل هذه الفاحشة، بمعنى: أن العمل عمل القلب، فإذاً عمل القلب مفقود في حال وقوعه في الفاحشة كما جاء في الحديث، وبالتالي فقد عمل الجوارح وعمل القلب، فما الذي بقي لديه؟ لو قلنا: ما بقي شيء. أصبحنا على مذهب الخوارج والعياذ بالله، ونحن لسنا كذلك، بل نضللهم ونبدعهم ونعتقد بطلان مذهبهم، ولا نرى أن مرتكب الكبيرة يخرج من الملة، لكن بقي عنده ما نسيه الخوارج ولم يتفطنوا له وهو قول القلب، وهو اعتقاده بأن الزنى حرام، ولذلك لو زنى وهو يعتقد أن الزنى حلال، أو شرب الخمر وهو يعتقد أن شربه حلال، فقد خرج من دائرة الإسلام بالكلية، وهذا لا ينطبق عليه الحديث؛ لأن الحديث ليس في المستحل، وبعض من أول هذه الأحاديث قال: إنها في المستحل، قال: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) فيقال: هذا التأويل مردود؛ لأن المستحل يكفر وإن لم يفعل، كالذي يستحل الربا وليس عنده بنك أو قرش واحد، والعجيب أن بعض الصحفيين يكتب: الربا لا بد منه، ونحن في عصر التطور والحضارة والاقتصاد العالمي الواحد، فهذا يكفر والعياذ بالله، لأن الدعوة إلى إحلال الربا كفر وإن لم يفعل، كذلك من قال: لا بد من فتح العلاقات بين الجنسين والاختلاط والحرية الكاملة، وأنه ليس هناك شيء اسمه: حرام وفواحش، لكن حالة ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) حالة العمل، فيعتقد بقلبه أنه حرام، لكن غلبته شهوته فوقع في هذه الفاحشة أو أي كبيرة، فإذاً هذا الذي حاله يكون عنده الإقرار بالقلب ولو سئل باللسان يقر، ولو أنكر باللسان ما أصبح مؤمناً، لكن لو قال: الخمر حرام، وفي قلبه يعتقد أنه حرام وهو يشرب الخمر، فهذا مرتكب لكبيرة، ولو قال: إنها حلال، فإنه يكفر، ولو قال: إنها حرام، ولم يشربها صار مؤمناً غير مرتكب لكبيرة، إذاً فهذه الثلاث المراتب أو الدرجات المقصود بكلام الشيخ هنا، فيقول: (فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنى وإن بقي أصل التصديق في قلبه، ثم يعاوده) والعبارة فيها ملحظ، وهو أن الشيخ رحمه الله على مذهب الحنفية من أن الإيمان هو التصديق، ونحن نقول: الإيمان أوسع وأعظم وأشمل من ذلك، فالعبد حين يزني لا نقول: يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنى، بالزنا إنما نقول: يغيب عنه عمل القلب، وهو زجر الجوارح عنه، أي: أن التصديق أو الإقرار ليس هو عمل القلب الوحيد، بحيث أننا نقول: إنه غاب التصديق، ولكن بقي أصل التصديق، إذاً التصديق غاب جزء منه، وجزء منه بقي، صحيح أن التصديق يتفاوت ولا شك في هذا، لكن نحن نأخذ ما هو أوضح من ذلك فنقول: إن حجز ومنع الجوارح وزجرها، واليقين والتصديق بالوعد والوعيد، وما يترتب على من فعل ذلك، أو من يترك ذلك لله، كالرجل الذي قام وتركها لله من الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة، يعني الإيمان بهذا، أي: بالوعد والوعيد هو عمل القلب الذي يحرك الجوارح فلا تفعل، فالذي يزني غابت عنه هذه الأمور وبقي عنده أصل التصديق والإقرار بأن هذا حرام، وبقي عنده قول القلب، فانظر كيف على مذهب أهل السنة والجماعة تكون الأمور أسهل وأوضح، حتى في الفهم نقول: ذهب عنه عمل القلب وبقي لديه قول القلب الذي هو إقراره وتصديقه، والتصديق في هذه الحالة تصديق خاص، وهو كما نقول اليقين خاص بمعنى: أن الله حرم لا بمعنى اليقين الكامل، يقول: (وإن بقي أصل التصديق في قلبه ثم يعاوده) أي: يعاوده ما فقده وما غاب عنه وهو عمل القلب، وعلى هذا جاءت الآية في قول الله تعالى في سورة الأعراف: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))[الأعراف:201] فهكذا حال المؤمنين، إذ لم ينف الله تبارك وتعالى عن المتقين أن يمسهم طائف فيقول: إن المتقين لا يمسهم طائف من الشيطان، لا، لكن قال: (( إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا ))[الأعراف:201]، إذاً هناك معركة، فعندما تغفل أو تضعف يأتيك العدو، فيكون الأمر المقاومة بقدر الإيمان، والإيمان القوي يجعل صاحبه يتذكر فإذا هو مبصر، وهذا يؤيد ما ذكره الشيخ في آخر كلامه من أن الكفر عمى، وأن ارتكاب المعصية إغماض، أي: أغمض عينيه فارتكب ما حرم الله، لكن عندما تذكر فتح عينيه فإذا هو مبصر، ورأى أن هذا حرام، وكأنه لما فتح عينيه رأى الجنة والنار، ورأى الوعد والوعيد، ورأى مقت الله تبارك وتعالى، واستشعر الحياء من الله، والخوف من الله، واستغفر الله وقال: كيف وقعت فيما وقعت فيه؟ ولهذا يبادر المسلم إلى التوبة؛ لأنه يرى ذنبه كالجبل يكاد أن يقع عليه، إذاً تذكروا أي: استيقظوا فإذا هم مبصرون بعد أن كانوا مغمضين، وكأنه ما رأى، ولكن الإبصار موجود، والعين موجودة، والنظر موجود، أما الكافر فهو أعمى: (( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ))[الإسراء:72]، فهو أعمى، ويحتاج إلى أن يمن الله عليه ببصر، لكن هذا المبصر لم يحجزه الله تبارك وتعالى، ولم يعصمه من الإغماض والنعاس لغفلة، وإنما أعطاه هذه الميزة، وهو أنه كلما غفل أو نعس داهمه العدو أفاق فأبصر وقاوم هذا العدو: (تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) كما قال الليث عن مجاهد تلميذ عبد الله بن عباس رضي الله عنه: [ هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه، يقول: (والشهوة والغضب مبدأ السيئات) ] إذاً مبدأ السيئات جميعاً: الشهوة والغضب، ولهذا ذكر الله تبارك وتعالى في سورة الفرقان ما يدل على ذلك.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.