المادة كاملة    
أهل السنة والجماعة يعتبرون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، وأن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأن نور الإيمان في القلوب درجات، وأن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بما في القلوب.
  1. الاختلاف بين أبي حنيفة وسائر الأئمة فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلاف صوري

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فقد قال المصنف رحمه الله تعالى: (والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد، والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً.
    ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل، لكن هذا المطلوب من العباد: هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع.
    وقد أجمعوا على أنه لو صدَّق وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً، فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق و عمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام! وهذا غلو منه، فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده).
    المقصود أن عبارة الشارح رحمه الله هنا، وهي منقولة عن شيخ الإسلام في بعض مواضع من كتاب الإيمان قد أوقعت في اللبس وفي الإيهام، خاصة أن المصنف يقول: إن الاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين اختلاف صوري، فهذا ما يقرره الشيخ الشارح رحمه الله، ويعلل ذلك فيقول: (فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزءاً من الإيمان)، والأعمال عند أهل السنة والجماعة أجزاء من الإيمان ويطلق الإيمان، حقيقة على كل شعبة من شعب الإيمان، وعلى كل عمل من أعمال الطاعات، فتسمى الصلاة إيماناً، ويسمى الأمر بالمعروف إيماناً، ويسمى إكرام الضيف إيماناً، ويسمى قيام ليلة القدر إيماناً، ويسمى إطعام الطعام إيماناً، ويسمى إماطة الأذى عن الطريق أيضاً شعبة من الإيمان وهكذا.
    قال المصنف رحمه الله: (كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب -هو مذهب الحنفية- أو جزءاً من الإيمان هو مذهب أهل السنة والجماعة عامة- مع الاتفاق -بين الطرفين- على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، نزاع لفظي لا يترتب عليه فساد اعتقاد) فهنا جعل المصنف الخلاف لفظياً؛ لأنه نظر إلى الحكم على مرتكب الكبيرة في الآخرة، وإذا كان فقط النظر إلى أن مرتكب الكبيرة في الآخرة عند الله على ما يعتقد أهل السنة والجماعة و المرجئة الفقهاء أنه تحت المشيئة، فالخلاف فعلاً لفظي أو صوري، لكن ليس هذا هو الجانب الوحيد الذي ينظر إليه، وإنما كان النظر إلى هذا الجانب وحده، أي: الحكم على مرتكب الكبيرة، وكونه لا يخلد في النار، وأن أكثر المتكلمين في هذه المسألة يتكلمون فقط في هذا الموضوع، وكأنها هي القضية وحدها، وما ذلك إلا بسبب ظهور مذهب الخوارج وما أحدث من بلبلة في الأمة، فـالخوارج من جهة، والمعتزلة من جهة، فثارت المشكلة وصارت بلبلة، فالبعض ينظر إلى القضية من زاوية واحدة، ويرى أن المهم عنده هو أن لا يحكم على مرتكب الكبيرة بالكفر والخروج من الملة والخلود في النار، لكن كونها كما قال: جزءاً من الإيمان، أو لازماً للإيمان، فيرى أنها لا تهم، وهذه نظرة بعض الناس، لكن ينبغي أن ينظر إلى الأمر من جميع زواياه ومن جميع جوانبه، فيقال: هل يعتبر مرتكب الكبيرة كامل الإيمان؟ نحن لا نعتبره كامل الإيمان، لكن الحنفية يعتبرونه كامل الإيمان، وهذا خلاف حقيقي، أيضاً في الاستثناء، وفي الزيادة والنقص، وفي اسمه، أي: هل يطلق على مرتكب الكبيرة اسم المدح فيقال له: مؤمن ويسكت، أم لا بد أن يقيد؟ إذا قيل: مؤمن، فالمقصود به: مسلم غير كافر، وليس هو الثناء والمدح الذي وصف الله به أوليائه المؤمنين في قوله تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، وقوله: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ))[الحجرات:15] وآيات كثيرة.
    يقول: (لا يترتب عليه فساد اعتقاد) أي: لا يطلق على أحد القائلين بهذا أنه موافق لمذهب الخوارج أو مذهب المعتزلة ، وهذا قصده، وهو صحيح بالنسبة لحكمه في الآخرة، إذ إنه لا يطلق عليه أنه كأحد المذهبين.
    1. بيان وجه القائلين بتكفير تارك الصلاة

      يقول: (والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى) أي: الذين يرون تكفير تارك الصلاة لا يكفرونه لمجرد أنه تارك للعمل حتى يكونوا كـالخوارج ، وإنما ضموا إلى هذا الأصل المقرر هنا -أن تارك الصلاة مرتكب كبيرة- أدلة خاصة فيها التصريح بأن تارك الصلاة كافر كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر )، وقد سبق أن تحدثنا في هذا الموضوع كاملاً، وذكرنا الأدلة عليه، والمصنف رحمه الله تعالى يقول: ليست القضية إذاً مجرد ترك للعمل، أي: لولا الأدلة الأخرى الخاصة بتكفير تارك الصلاة لكان تارك الصلاة مجرد مرتكب لكبيرة من الكبائر، وبالتالي فلا يكفر بذلك، هذا ما قرره المصنف هنا، وفي الحقيقة أن أهل السنة والجماعة يرون أن ترك الصلاة كفر بإجماع الصحابة، وقد ثبت نقل الإجماع نقلاً صحيحاً عن الصحابة رضي الله عنهم من أكثر من طريق، وسبب ذلك أنها ليست كأي عمل من الأعمال، إذ إن من ترك الصلاة لم يقبل منه أي عمل سواها، وتارك الصلاة هو تارك لركن العمل، فهل تقبل منه زكاة وهو لا يصلي؟ وهل يقبل منه صيام وهو لا يصلي؟ وهل يقبل منه حج وهو لا يصلي؟ فإذا كانت الأركان لا تقبل فكيف ببقية الأعمال التي هي واجبات؟! فلذلك تارك الصلاة هو تارك لجنس ولركن العمل، ومن هنا فإنه لا يكون مؤمناً أبداً، لكن المقصود هو الترك المستديم، فمن كان يصلي مرة ويدع مرة أو يوماً أو أسبوعاً، فهذا حكمه حكم المنافق الذي يدخل في الإيمان تارة ويخرج منه أخرى، فإذا صلّى فقد أسلم حقيقة، وإذا ترك فقد كفر، وفي ظاهر الحال يُعامل الناس على الظاهر، فهذا يكون في ظاهره مسلم، لكنه في الحقيقة لو مات وهو في حالة الترك فإنه يموت على الكفر والعياذ بالله، وهذا من أسوأ أنواع سوء الخاتمة.
    2. الفرق بين تارك الصلاة ومرتكب إحدى الكبائر فيما يتعلق بالإيمان

      يقول: (وما دام الأمر كذلك؛ فإنه ليس كل من نفي عنه الإيمان يكون كافراً، فتارك الصلاة له أدلة خاصة، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً)، وهذا الكلام لا بد أن يلاحظ عليه، وأول ما يجب أن يلاحظ عليه: الفرق بين تارك الصلاة ومرتكب إحدى هذه الكبائر، والسبب هو: أن تارك الصلاة تارك لركن وجنس العمل، أما أن يزني العبد أو يشرب الخمر أو ينتهب النهبة كما جاء في الحديث، فهذا يمكن أن يقع وهو مؤد لأركان الإسلام الخمسة، كما أنه لا شك أيضاً أن فعل جنس المأمورات أفضل من ترك جنس المنهيات، والأصل هو المأمورات والفرائض، وهذا فرق آخر بين تارك الصلاة وبين من يزني أو يشرب الخمر وما أشبه ذلك.
      وأمر آخر: أن تارك الصلاة جاء التصريح بكفره، وأما هذا فغاية ما ورد فيه نفي الإيمان عنه، وفرق بين من يصرح الشارع بكفره، وبين من ينفي عنه الإيمان؛ لأن التصريح بالكفر لا يحتمل إلا أن يكون قد خرج من الملة، أما أن ينفي عنه الإيمان فيمكن أن يكون له تفسير آخر، ومن ذلك: أن هذا الحديث تصل الأقوال فيه إلى خمسة عشر قولاً، وهو حديث رواه أكثر دواوين الإسلام إن لم يكن كل كتب السنة تقريباً، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة حين ينتهبها وهو مؤمن )، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في تفسيره لهذا الحديث: [إن الإيمان يرتفع عنه حتى يصير كالظلة وهو في حالته هذه].
      والفرق بين السارق والمنتهب: أن السارق يأخذ المال خفية من حرز، إلى آخر ما يشترطه الفقهاء في ذلك، أما المنتهب فهو الذي يأخذه علانية واختطافاً، حتى إن الناس يرفعون إليه أبصارهم، فيرونه وهو يأخذ مال أخيه ولا يبالي، بل قد يهرب وينكر أنه أخذه، والمقصود أن هذه الكبائر حكمها واحد، وهو أن العبد حين يفعل ذلك لا يكون مؤمناً، ولا يعني هذا أن الإيمان يسلب منه بالكلية في كل الأحوال، فهذا أيضاً مما يفرق به بين من يفعل هذه الكبائر ومن يترك الصلاة، فإذاً أهل السنة والجماعة عامة من جهة، والحنفية من جهة لا يرون تكفير مرتكب الكبيرة ولا تخليده في النار، فهم يخالفون الخوارج ويخالفون المعتزلة ، ومتفقون في الآخرة أن أمره إلى الله، فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، لكن هذا لا يعني بحال من الأحوال إطلاق القول بأن الخلاف لفظي أو صوري؛ لأن للخلاف جوانب أخرى يظهر بها أنه حقيقي، وهذه قضية مهمة.
    3. اتفاق أهل السنة عموماً والأحناف على أن الله أراد من العباد القول والعمل

      والقضية الأخرى ينتقل الشارح رحمه الله ليزيد الأمر وضوحاً في وجهة نظره، فيقول: (ولا خلاف بين أهل السنة عموماً -أي أن الحنفية وغيرهم- أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل)، أي أن العبارة التي تنقل عن المرجئة وهما قولهم: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، أن هذه العبارة كما ذكر شيخ الإسلام لم تثبت عن قائل معين منهم، وإنما تنقل في كتب الفرق هكذا، فيقول الشيخ: هذه العبارة لا يقرها ولا يؤمن بها مرجئة الفقهاء أو المرجئة الحنفية ، بل هم يعتقدون أن المعاصي تضر، وأن الله سبحانه وتعالى أراد منا الإيمان والعمل، أو أراد منا الإقرار والعمل أو التصديق والقول والعمل، وبالتالي فهو يقول: هذا قدر أيضاً مشترك بين أهل السنة جميعاً، أحناف وغير أحناف: وهو أن الله سبحانه وتعالى أراد منا القول والعمل، فلو جاء قائل وقال: إن الله ما أراد العمل، وإنما أراد منا التصديق فقط والإقرار، لكان هذا خارجاً عن أقوال أهل السنة ، فيكون الخلاف مع هذا خلافاً حقيقياً، أما أولئك فالخلاف صوري أو لفظي لاتفاقهما أن العمل مطلوب، إذاً فيم اختلفوا؟ يقول: (وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل، لكن هذا المطلوب من العباد -وهو العمل-: هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له؟)، فالحنفية لا يرون أن الإيمان يشمل الأمرين، وإنما يشمل عندهم جانب القول الذي هو الاعتقاد والإقرار باللسان، أما عمل الجوارح فلا يشمله، وكأن الأمر هين، وبالتالي فكلاهما يقول: إن الله تبارك وتعالى أراد منا العمل، وطلب منا أن نعمل، وإنما الفرق أن الحنفية يقولون: إن عمل الجوارح لا يدخل ولا يشمله اسم الإيمان، وإنما هو لازم أو ثمرة له، لكن الله تعالى أمر به وطلبه، ويجازي عليه إن كان إحساناً فإحساناً، وإن كان تقصيراً فيجازي عليه بالعقوبة.
      إذاً من هذا الكلام نستطيع أن نقول: إن الشارح يحترز من قول المتأخرين من الأشعرية والماتريدية الذين يقولون: إن الإيمان بالزكاة والصلاة والأعمال الأخرى يعني الإقرار بوجوبها والإذعان النفسي والانقياد النفسي لأدائها وليس فعلها، فالشارح رحمه الله هنا يحترز فيقول: ليس هذا مذهب الحنفية، فلو أن أحداً قال: إن الله تعالى إنما طلب منا وأراد منا أن نقر بوجوب الصلاة وبوجوب الزكاة وجميع الواجبات، وأن نقر بتحريم جميع المحرمات، وهذا هو الإيمان المطلوب الذي يكفي، فنقول: لا، إذ إن الخلاف هنا حقيقي، وليس هذا هو المقصود، لكن وجد من المتأخرين من توهم ذلك، حتى أصبح يفسر أركان الإيمان وأركان الإسلام الخمسة بأنها مجرد الإذعان القلبي لأداء الفرائض، وليس أن تفعل هذه الفرائض، ولذلك في رواية صحيحة عند ابن مندة في حديث جبريل الطويل: قال: ( أخبرني عن الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ) ، ثم قال: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم ) ، ومثله في الإيمان عندما سئل عنه، قال: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم ).
      إذاً فـ حقيقة الإيمان المطلوب شرعاً: هو الامتثال بالفعل، أي: تشهد وتصلي وتصوم وتزكي وتحج.. إلخ أما مجرد اعتقاد أن هذه واجبات فلا يكفي، ولا يكون الإنسان به مسلماً ولا مؤمناً، ثم نقول: إن المتأخرين من الحنفية يرون أن ترك الأعمال مؤثر، فهم يقولون: إن الله تبارك وتعالى طلب منا العمل كما طلب منا القول، وهذا صحيح، لكن الخلاف مع متقدميهم في كونهم يخرجون الأعمال، ويجعلون الإيمان هو القول فقط، وهذا خلاف حقيقي بينهم وبين أهل السنة والجماعة، ولذلك يقول: (هل يشمله اسم الإيمان -أي هل هذا هو المطلوب من العباد- أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع).
      إذاً من قال بتسمية الأعمال إيماناً مجازاً فالخلاف معه حقيقي ولا يكون لفظياً، فمن قال: أنا أسمي هذه الشعبة من شعب الإيمان، كقيام رمضان، أو قيام ليلة القدر، أو إكرام الضيف، وغير ذلك من التراجم الكثيرة التي جعلها الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، من قال: إنها إيمان على الحقيقة فقد قال بما صرحت به الأحاديث، وأما من قال: إن إطلاق الإيمان عليها مجرد مجاز، فالخلاف معه حقيقي وليس خلافاً هيناً؛ لأن إطلاق المجاز فيه ما فيه، وله مباحث أخرى في رده ونقضه، ولابد له من دليل، وغايته أن يكون ظناً، أي: أن يكون هذا من إطلاق الظن، ومن تفسير كلام ونصوص الوحي بمجرد الظن، فلماذا يعدل عن الاسم الصريح الواضح الثابت في الحديث إلى أن يقال: إنه مجاز بمجرد ظن واحتمال، فيكون الخلاف على هذا حقيقياً.
      وأيضاً مما يقوله الشيخ وهو امتداد للكلام السابق ليؤكد أن الخلاف هين: (وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، مستحق للوعيد)، وهنا يريد أن يأتي بمواضع الاتفاق بين عامة أهل السنة وبين الحنفية، فيقول: كلاهما متفقان على أن من صدق بقلبه وأقر بلسانه وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد.
      إذاً فهناك فرق كبير بين الطائفتين، ويكون هذا الذي لم يأت إلا بإقرار القلب واللسان عند أهل السنة والجماعة كافراً، لأنه ترك العمل بالكلية، وترك جنس العمل، وتارك جنس العمل لا يكون مؤمناً، وهو مستحق للوعيد، أي: وعيد الكفار، والحنفية يقولون: هو مستحق للوعيد، أي: وعيد العصاة، وفرق بين القولين، فمجرد أنه يجمعنا القول بأنه مستحق للوعيد لا يكفي؛ لأن المهم هو جنس الوعيد، إذاً لا شك أن تارك العمل بالكلية عند أهل السنة والجماعة هو تارك للإيمان فيكون كافراً، ويكون وعيده وعيد الكفار، أما عند الحنفية فإنه إنما ترك اللوازم، أو ترك ثمرات الإيمان، ويكون مستحقاً للوعيد، ووعيده وعيد العصاة، وهذا وحده دليل على أن الفرق حقيقي أيضاً وليس صورياً كما يريد الشارح أن يقرره رحمه الله.
    4. غلو طائفة من الحنفية في باب الإيمان والرد عليها

      ثم أخذ يبين أن طائفة غلت من الحنفية، وأنها لا اعتبار لكلامها، فيقول: (لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً، فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق و عمر رضي الله عنهما، بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكائيل عليهم السلام! وهذا غلو منه).
      فالمصنف رحمه الله تعالى يقول: ليس كل الحنفية يعتقدون هذا، إذ هو غلو ونحن لا نقره، بل نحن معاشر الحنفية نرده ونرفضه.
      إذاً: من الغلو أن نقول: ما دام أن الإيمان شيء واحد وأنا مؤمن، فإذاً إيماني كإيمان جبريل أو ميكائيل أو غيره، وهذا كما في كتاب العالم والمتعلم المنسوب للإمام أبي حنيفة ولذلك ينبغي أن يسأله المتعلم: لماذا لا نكون سواء في الأجر ما دمنا آمنا بما آمنوا به؟!
      فهذا الكلام يرده ويرفضه الشيخ رحمه الله تعالى ويقول: لا يجوز لأحد أن يقول بأن إيمانه كإيمان جبريل، أو كإيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولهذا عندما يقرأ أحد في أي كتاب من كتب العقيدة أقوال الأئمة في ذم المرجئة؛ فإنه يدخل فيهم: مرجئة الفقهاء الحنفية، ومن الأدلة على ذلك أنهم يذكرون أن الإمام البخاري رحمه الله في ترجمة ابن أبي مليكة نقل عنه أنه قال: [أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق، ما منهم أحد يقول إيماني كإيمان جبريل وميكائيل] والمقصود أن هذه الكلمة غلو، وقد أصبحت كأنها علم، فمن قال: إن إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، فهو مذموم عند السلف، ولا يمكن أن يقول ذلك أحد منهم، ولذلك نجد ذم هؤلاء في كتب العقيدة، كـالشريعة مثلاً للآجري ، و الإيمان لـأبي عبيد، أو الإيمان لـابن أبي شيبة، أو السنة لـعبد الله بن الإمام أحمد أو اللالكائي وتذكر هذه العبارة على أنها من أوضح ما يدل على فساد مذهبهم، وهي قول بعضهم: إن إيماني كإيمان جبريل! فهم بنوا ذلك على النظرية الفلسفية، وإن لم يبينوا عنها في أول الأمر، لكن المتأخرين وضحوها، أي قال: إنني آمنت بمثل ما آمنوا به، وصدقوا بمثل ما صدقنا، كما قال المصنف: (كأنه أصل الإيمان، وأهله في أصله سواء) أي: كأن أصل الإيمان واحد وما عدا ذلك زيادة، وهذه الشبهة التي أوقعتهم في هذا، واشتد نكير السلف الصالح رضوان الله عليهم على هؤلاء القوم، وعظموا هذه البدعة، وما كانت المسألة مجرد قول أو قدح أو ذم، بل إنهم ردوا شهادتهم بها، والقاضي المعروف شريك بن عبد الله رحمه الله جاء إليه رجل من كبار أئمتهم ليشهد فقال: لا أقبل شهادته، فقالوا: لم؟ قال: لا أقبل شهادة من يقول: إن الصلاة ليست من الإيمان، بل إنهم هجروهم أيضاً، وبالتالي ليست المسألة مجرد أنهم ذموا المذهب، وإنما حتى الأفراد عاملوهم بالهجر وبترك الكلام معهم وترك مجادلتهم وترك قبول شهادتهم وغير ذلك؛ لأن هذا الكلام خطير، والقول به يستتبع أموراً لا يقرها من عرف حقيقة الإيمان، ولهذا المصنف رحمه الله يقول: (وهذا غلو منه)، أي: من هؤلاء القائلين، ثم وضح ذلك بقوله: (فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر) فهو ما أجابهم بأجوبة نقلية نصية، وإنما ذكر لهم مثالاً عقلياً، فقال: فإن الكفر مع الإيمان، أي: الكفر بالنسبة للإيمان كالعمى بالنسبة للبصر، فالناس يتفاوتون فيه، يقول: (ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه) ونسب التفاوت عند الأطباء معروفة، فمن الناس من يأخذ النسبة كاملة، ومنهم من يكون أقل، فالتفاوت موجود، فيقول: لا بد أن الإيمان كذلك، قال: (فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده) فهذا أمر معروف عند الناس، فمنهم ضعيف البصر جداً، ومنهم من هو أقل ضعفاً، لكن لا يكاد يرى إلا الواضحات، ومنهم من لا يقرأ إلا الخط الثخين، وآخر لا يقرؤه إلا بزجاجة، وقد كانوا قبل النظارات يستخدمون الزجاج ليكبر الخط، ومنهم من يرى عن قرب أكثر، ومنهم عن بعد، والمقصود أن تفاوت أهل البصر في الإبصار حقيقة واضحة، فكذلك الإيمان يتفاوت أهله فيه، والكفر هو الظلام، فكما أن بعض الناس لا يرى شيئاً مطلقاً، أي: يعيش في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، فكذلك هذا الكافر المطبق عليه كفره والعياذ بالله، ويوجد من هو أقل، أي: الذي خرج من حدود الكفر، ولكنه رانت على بصيرته الذنوب والمعاصي والشبهات والشهوات، فهو لا يكاد يرى إلا بصيصاً قليلاً، ومنهم من هو أحد منه، ومنهم من هو أكثر إلى أن يصبح ممن يرى أصغر أو أدق الأشياء بما اكتمل من إيمانه.
  2. تفاوت نور الإيمان في القلوب

     المرفق    
    يقول المصنف رحمه الله: (ولهذا -والله أعلم- قال الشيخ رحمه الله: (وأهله في أصله سواء) ) والمقصود بهذا التفاوت مع إقرار الأصل، وهو أن الخلاف قليل وهين، أي أن: الذي لا يغلو هذا الغلو فلا يقول: إيماني كإيمان جبريل، فالشيخ يرى أن هذا لا بأس به، وأن الخلاف بينه وبين أهل السنة قليل هين، لكن الذي يقول ذلك غال، ومن أجل ذلك كانت عبارة الطحاوي رحمه الله: (وأهله في أصله سواء)، فهو ما قال: وأهله فيه سواء، ولو كان قال هكذا لجاء من يقول: إن إيماني كإيمان جبريل، والطحاوي معنا في ذلك، لكنه ما قال: وأهله فيه سواء، وإنما قال: (وأهله في أصله سواء)، يقول: (يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه).
    ونحن نقول: إن هذه العبارة لنا عليها ملاحظ، وحتى تستقيم العبارة إما أن نقول: وأهله فيه سواء. فتستقيم العبارة على مذهبه؛ لأنه يرى أن أهل الإيمان في الإيمان سواء، وأما أن تكون: وأهله في أصله سواء، ويتفاضلون بالخشية والتقى. فتصير العبارة فيها اضطراب، وأما العبارة التي لو صحت ستستقيم وستوافق مذهب أهل السنة والجماعة ، فهي أن نقول: كان عليه رحمه الله أن يقول: وأهله يتفاضلون فيه، أي: أثبت الزيادة والنقصان وعليه يكون قد وافق أهل السنة والجماعة .
    إذاً فعليه أن يقول: الإيمان قول وعمل وأهله يتفاضلون فيه، فإذا قال ذلك أصبح على عقيدة أهل السنة والجماعة ، أما بقاؤها هكذا فلا.
    يقول الشيخ -هذه عبارات عظيمة جداً وقد مرت-: (بل تفاوت نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيه إلا الله تعالى) أي: لا يمكن أن يكون الناس في الإيمان سواء أبداً؛ لأن الإيمان هو نور لا إله إلا الله في القلوب.
    ثم قال: (فمن الناس من نورها في قلبه كالشمس) وهؤلاء هم الذين بلغوا حقيقة الإيمان، أي: الملائكة والأنبياء والمرسلون، وأبو بكر و عمر رضي الله عنهما وهكذا، وقوله: (كالشمس) لا تعني المساواة من كل وجه؛ فإن شمساً أقوى من شمس، لكن المقصود أنهم أهل الدرجة الكاملة العليا في هذا.
    قال: (ومنهم من نورها في قلبه كالكواكب الدري) أي: أقل من الشمس، ولكنه أقوى من سائر الكواكب.
    قال: (وآخر كالمشعل العظيم) أي: كالمشعل من مشاعل الدنيا، لكن ذاك كوكب دري في السماء عامة.
    قال: (وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف) فتتفاوت أنوار لا إله إلا الله وحقيقة الإيمان في قلوب أهله.
    قال: (ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار) وهذا يكون عند الصراط عندما تكون الحالة التي تفرق بين المؤمنين والمنافقين، فيقول المنافقون: انظرونا -أمهلونا- نقتبس من نوركم! الآن تسألون المؤمنين الإمهال والإنظار من النور، ألم نكن معكم في الدنيا سواء في المساجد أو في الجهاد؟ وبالتالي فالمنافقون الأولون خير من منافقي آخر الزمان والعياذ بالله؛ لأن المنافقين الأوائل كانوا يشاركون في الجهاد والإنفاق! فما قال الله عنهم إنهم لا يتصدقون عليكم، وإنما قال: (( وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ))[التوبة:54]، ولم يقل: لا يصلون، وإنما قال: (( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى ))[النساء:142]، ولم يقل: إنهم لا يخرجون، وإن كان منهم من يتخلف، لكن قال: (( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ))[التوبة:47]، فهم قد يخرجوا، لكن لو خرجوا فهذا حالهم، إذاً كل هذه الأعمال كان المنافقون يشاركون فيها المؤمنين، فلما جاء الفصل من الله تبارك وتعالى بين الحق والباطل، بين النور والظلام، فإذا بالمنافقين في ظلام مطبق دامس لا يستطيعون أن يروا طريقاً، والمؤمنون يسعى نورهم بين أيديهم وعن أيمانهم، وهذا النور يتفاوت أهله فيه، ويتفاوتون في جواز الصراط وعبوره بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم كالريح الشديدة، ومنهم كالخيل وكأشد ما يكون الإنسان جرياً، ومنهم من يمشي، ومنهم من يتعثر، ومنهم من يسقط. ‏
    1. أثر نور كلمة التوحيد في القلب على الشبهات والشهوات

      يقول المصنف: (هذا بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم، أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته) إذاً كلمة (لا إله إلا الله) ليست قولاً باللسان، وإلا لكان كل من قالها نجا، وليس الأمر ألفاظاً وعبارات تقال، حتى عند أول قولها، فمن الناس من يقولها عن إيمان و يقين وإخلاص وصدق يبلغ بها درجات عليا في الإيمان، ومنهم من يقولها وهو متعوذ بها من القتل على ضعف من الإيمان وهو كاره، كما جاء في الحديث لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي: ( أسلم؟ قال: أجدني كارهاً )، أي: لا يطمئن أن يؤمن، فقال: ( أسلم ولو كارهاً ) أي: أرغم نفسك، ففرق بين من يرغم نفسه ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وليس مستيقناً بها، وبين من يقولها عن يقين وإخلاص وصدق، واللفظ واحد، لكن التفاوت عظيم، وبالنسبة لنورها وحقيقتها في قلب هذا القائل، فكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته، ولذلك أقوى الناس في هذا الصحابة رضي الله عنهم، إذ ما صمدت أمامهم شهوة ولا شبهة رضي الله عنهم، بل كانت حياتهم ودعوتهم وجهادهم لله سبحانه وتعالى على أعلى الدرجات، والتنافس على أداء ما أمر الله واجتناب ما حرم الله، والتسابق والمسارعة في مرضاة الله؛ لأن عندهم هذا النور وهذا اليقين وهذا الإيمان، أما من جاء بعدهم فكثير منهم يرضى بالحد الأدنى أو الأقل، فهو مؤمن مسلم يؤدي الفرائض -مثلاً- ويرى أن هذا يكفيه، ولهذا قد يضعف أمام الشهوة أو الشبهة والعياذ بالله، وآفة القلوب في هذين: إما شهوة وإما شبهة، فالشبهة تعمي صاحبها عن الحق فيعتقد خلاف الحق فيقع في البدع، وربما أفضت به إلى الشرك والكفر والعياذ بالله، والشهوة تعمي صاحبها عن الطاعة والاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى، وربما أفضت به إلى أن يستحل ما حرم الله أيضاً فيخرج من دين الله والعياذ بالله، والمعافى من عافاه الله، فسلم من داء الشبهات والشهوات؛ ولذا يقول المصنف: (بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده، فسماء إيمانه قد حرست بالرجوم من كل سارق) أي: يشبه إيمانه مثل السماء المحروسة التي فيها رجوم للشياطين من كل جانب، فأينما جاءت الشهوة أو الشبهة من الشيطان أتبعها شهاب ثاقب يقضي عليها، أي: يطلق عليها من أنوار هذا الإيمان ما يقضي عليها، وليست القضية أن الإنسان لا يتعرض لشبهة أو لشهوة، لكنه إذا تعرض لها فإن هذه الأنوار تقضي عليها، وإلا فلا بد أن يتعرض الإنسان للشهوة أو الشبهة، ولا بد أن يبتلى، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى ليميز الخبيث من الطيب، وليظهر الصادق من الكاذب، قال تعالى: (( فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ))[العنكبوت:3]، وفي آية أخرى: (( وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ))[العنكبوت:11]، فلا بد من ذلك، وهذا من حكمة الله، أن يظهر ذلك بهذه الامتحانات والابتلاءات، فالمؤمن كلما جاءت شهوة أو شبهة قذفها بهذا الشهاب الثاقب فقضى عليها -والحمد لله- فيزداد إيمانه، ويكون حاله قبل ورود الشهوة أو الشبهة أقل، ويصبح حاله بعد ورودها وردها أقوى منه قبل ذلك، وأما ضعيف الإيمان والعياذ بالله فإن الشهوة أو الشبهة إما أن يختطفه شيطانها وإما أن يضعف إيمانه، وإذا طمع فيك عدو الله من أول مرة فإنه يكاد أن يدركك، ولهذا يجب على الإنسان أن يتحصن دائماً بالله من شره بالأذكار وبالاستقامة؛ لأن هذا العدو كعدوك من الإنس بل أشد، فمن الناس من لا يمكن أن يأتيه الشيطان من جهة الصلاة -مثلاً- فيقول له: أهمل الصلاة، بل ما يكاد المؤذن يؤذن إلا وقد استعد لها، وخرج وذهب إلى المسجد، لكن وجد عنده الضعف من ناحية المال، فقد يتهاون في أخذ الحرام من ربا أو شبهة أو غيرها، فيطمع عدو الله فيه، ويعلم أنه من هاهنا يمكن أن يصيب مقتلاً فيهلكه، فيبدأ معه قليلاً قليلاً، وقد يصمد الإنسان أمام الأموال، لكنه يضعف أمام شهوة النساء والعياذ بالله فيفتن، فتجده لو عرضت عليه الدنيا كلها كما قال بعض السلف لأمن على نفسه، لكن لا آمن من عجوز شمطاء بنت ثمانين عاماً، أي: يخاف على نفسه من جهة النساء، أما الأموال فمهما كثرت، سواء كانت رشاوى أو ما يسمونها فوائد فهي حرام لا يأخذها، لكن هناك نقطة ضعف يأتيه الشيطان دائماً منها، وبعض الناس ضعفه من جهة الصداقة والعلاقة، فوحده ما شاء الله ومع المؤمنين ما شاء الله، لكن إذا خالط ضعاف الإيمان لم يستطع أن يقاومهم، ولا يستطيع أن يعادي أولئك، بل ربما داهنهم وجاراهم وماشاهم في بعض الأمور، فيأتيه الشيطان من هذا فيسلط عليه أولياءه؛ لأنه يعلم أنه من هاهنا يمكن أن يهلك، ومن هاهنا يمكن أن يؤتى، وهكذا فلا يأمن الإنسان من ورود الشبهة أو الشهوة، ومن هنا كان حرص السلف الصالح رضوان الله عليهم على تقوية إيمانهم، فيقوي إيمانه دائماً؛ لأنه عرضة للضعف، فإذا جاء لم يجد محلاً قابلاً، بل وجد الرد والرفض.
    2. ما يترتب على معرفة تفاوت نور لا إله إلا الله في القلوب

      يقول المصنف: (ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى ) -والحديث متفق عليه- وقوله: ( لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله ) )، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس.
      يقول المصنف: إذا عرفنا أن المهم والفارق هو تفاوت نور لا إله إلا الله في القلوب، عرفنا بذلك معنى كثير من هذه الأحاديث التي أشكلت على بعض الناس، كيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )؟ هذا ليس لأي أحدٍ، وليس أي قائل لـ: لا إله إلا الله أن ينال ذلك، إنما هناك شرط عظيم لتقبل وهو أن يقولها خالصاً لوجه الله، فإذا نظرنا -مثلاً- إلى حديث: ( من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة )، وحديث: ( إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله )، لعلمنا أن حديث: (إن الله حرم على النار) أقوى وأرجى؛ لأن الوعد بدخول الجنة قد يكون بعد دخول النار، لكن حرم على النار، أي: أنه لا يدخل النار بإذن الله تعالى.
      إذاً هناك تفاوت بين أصحاب هذا الوعد، فمن وصل حاله إلى أن الله تبارك وتعالى يحرم عليه دخول النار، فهذا معناه أن نور لا إله إلا الله في قلبه أقوى من كل شهوة ومن كل شبهة، فهو في الدرجة العليا التي بها استحق ذلك، فقوله: (خالصاً) قيد ثقيل عظيم، فهل كل من قال: لا إله إلا الله يقولها خالصاً؟ لا، إذاً ما أدراك أنك حققت ذلك، أو ما أدرى من يقول: إن هذه مجرد أحاديث رجاء؟ نعم هي رجاء لكنها مقيدة بهذه القيود العظيمة، فالرجاء إنما يكون لمن يستحقه، ولذلك فبعض الناس أشكل عليه فهم هذه الأحاديث، ولذلك قال المصنف رحمه الله: (حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي)، ولذلك لنا وقفة هنا لا بد أن نقفها، وهي أنا كثيراً ما نجد مثل هذه العبارات، وربما تلتبس أو يساء فهمها، وهي أن يقال: إن ما افترض الله سبحانه وتعالى، أو ما ذكره الله سبحانه وتعالى، أو ما وعد الله به عباده من الخير، مثل: ( ومن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة )، إن هذا كان قبل نزول الأوامر والفرائض، فبعض السلف أجابوا بهذا وهو منقول في كثير من كتبهم، فماذا يقصد السلف بذلك؟ إن كان المقصود أن رجلاً ترك الصلاة، ثم يقول لك: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنا من أهل الإسلام، فقال له رجل: إن هذا كان قبل نزول الفرائض، أي: قبل أن تشرع الصلاة لم يكن مطلوباً من الخلق أن يصلوا، وإنما كان المطلوب فقط هو التوحيد والإيمان بالله سبحانه وتعالى، فنقول: نعم مثل هذا يأتي في كلام السلف، لكن لا يصح أن يفهم أيضاً خطأ أن الإيمان قبل نزول الأوامر والنواهي كان هيناً سهلاً خفيفاً -فهذه قد تفهم- فيكون معنى ذلك: أن أول ما نزل الإيمان أن يقول الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله ويؤمن بالله، فكان سهلاً جداً، ثم في كل مرة تنزل الأوامر وتنزل النواهي، فيثقل ويقيد حتى أصبح فيما بعد ثقيلاً، وفي الحقيقة لو نظرنا إلى الواقع فإن الأمر ليس كذلك، بل ربما كان نزول بعض الفرائض فيما بعد، ولذلك لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- إلى المدينة واستقر فيها نزلت أوامر كثيرة جداً، وهي أخف على المسلمين مما كانوا مطالبين به قبل نزول هذه الأوامر بالنسبة لدعوتهم هم، وإنما خفت عليهم الأوامر لما رسخ التوحيد واستقر في قلوبهم، وأصبحت خفيفة مهما يكلفون به فإنه مقبول، ولكن الصعوبة في أول الإسلام، أول ما يؤمر به الإنسان أن يسب الآلهة التي عاش عليها الآباء والأجداد، وأن يتخلى عما كان عليه الآباء والأجداد، وأن يعتقد كفر ذلك، وأن ينسلخ من تلك العادات والتقاليد والوثنيات والعبادات، فهذه تكاليف ثقيلة وعظيمة جداً، ولهذا من حقق التوحيد في أول الأمر هم السابقون الأولون، حتى لو مات بعضهم قبل نزول بعض أو كثير من الفرائض فهم في الحقيقة أهل الإيمان الصادق القوي؛ لأن الإيمان كان أثقل وأصعب وأشق ما يكون، أما بعد أن ضرب الإسلام بجرانه في الأرض، وأصبح للمسلمين دار هجرة، فالإنسان يشهد أن لا إله إلا الله، ويترك الأصنام ولا يضره، فهذا وإن نزلت عليهم الفرائض والعبادات، فإنهم أقل في الفضل والأجر من أولئك، فالجيل الأول وإن كانت الفرائض لم تكن قد نزلت أو بعض منها أو كثير منها، لكن كانت الفريضة أشق، ولذلك -حقاً- من قال منهم: لا إله إلا الله، فهم أول وأولى من يدخل في مثل هذا، بأن يحرم الله تبارك وتعالى عليهم النار، ويجعلهم من أهل الجنة؛ لأنهم قالوها وهي أشق ما يمكن أن تقولها النفس، إذ إن فيهما مخالفة لما عليه الألفة والعادة، والمجتمع والعرف والموازين والآباء والأجداد، كل هذه يلقيها الإنسان عندما يقول: لا إله إلا الله، ويعلن أنه مع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع القلة المؤمنة التي معه، وأنه تخلى عن كل ما تعلمه إياه في الجاهلية من أديان وعادات وخرافات وضلالات وبدع، وهذا أمر عظيم وليس هيناً، ومن هنا فإن من آمن بهذا الإيمان -قبل نزول الفرائض- فإيمانه أعظم وأجره عند الله تبارك وتعالى أكبر؛ لأنه عانى مثل هذا، ولذلك المسألة ليست أن هذه الأحاديث منسوخة، ولا أنها كانت قبل نزول الفرائض، أو أن المقصود بها أن تؤول فيقال: إن هذا فقط في العصاة؛ فإنهم لا بد أن يدخلوا الجنة وإن عذبوا، فنقول: ليس هذا ولا ذاك، وإنما في الحقيقة أن هذا بحسب تفاوت نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها، ففرق بين قائل وقائل.
      وهاهنا أمثلة عملية عدة، ومنها: الصلاة، أليس المسلمون يصفون -مثلاً- في المساجد ويصلون خلف إمام واحد؟ فهل صلاتهم واحدة؟ إن بعضهم تكتب له كلها، وبعضهم عشرها، وبعضهم لا يكتب له منها شيء والعياذ بالله، مع أن الجميع في الحركة الظاهرة سواء، لكن الفارق هو ما قام بقلب هذا من الخشوع والإخلاص والرغبة فيما عند الله تبارك وتعالى، وما ضعف عند الآخر أو خلا منه قلبه فأصبح يؤديها رياءً ونفاقاً، وهو غافل لاه ساه عن حقيقتها، وهكذا في كل الأعمال، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سبق درهم ألف درهم )، فكيف يسبق درهم ألف درهم في النفقة؟ أليس الإنسان عندما يدفع ألف درهم، ويعف بها طائفة كبيرة من الفقراء، أو عندما يدفع ألف درهم لجيش من جيوش المسلمين، أليس أنفع من أن يعطي درهماً لأسرة فقيرة، أو لهذا الجيش؟ إذاً ما المقصود بهذا؟ ليس المقصود نفع هذا الألف أو نفع الدرهم، إنما المقصود أثر ذلك على فاعله، وأجره الذي يناله ومنزلته عند الله، فهذا الدرهم إذا أنفقه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويرجو الغنى وليس لديه غيره، وربما كان قوت أهله تلك الليلة، فكان فعلاً كما قال الله تعالى: (( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ))[آل عمران:92]، أي: أعطى الدرهم بنفس تختلف كثيراً عن رجل لديه مائة ألف درهم، ورأى مجموعة من الناس فقيل له: إن هذه المجموعة من الناس فقراء، فقال: هذه ألف درهم، فهو لم يبالي بالألف كثيراً، ففرق بين قلب هذا وقلب ذاك، أو جاءه الموت وعنده هذه الآف فقال: تصدقوا عني بألف درهم، ففرق عندما تتصدق وأنت صحيح شحيح، وعندما تتصدق عند الموت وهكذا، إذاً الأعمال ليست بالكثرة وبما يراه الناس في الظاهر، وإنما بالحقائق القلبية الإيمانية التي تجعل عمل هذا أفضل عند الله تبارك وتعالى من عمل كثيرٍ، أو أضعاف ممن قد يماثله في مظهره الخارجي مثلاً.
  3. تفاضل الناس في الإيمان وأثر ذلك على العمل

     المرفق    
    وتكملة لذلك يقول الشيخ رحمه الله: [والشارع صلوات الله عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط] أي: لم يجعل هذا الوعد حاصلاً بمجرد قول اللسان.
    ثم قال: [فإن هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛ فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار]، قال الله تبارك وتعالى: (( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ))[النساء:145]، وهذا لا يقتضي أنهم تحت الجاحدين الكافرين، وإنما المقصود أنهم معهم، إذ إن الله تعالى جامع الكافرين والمنافقين في جهنم جميعاً، وليس المقصود بالضرورة أن يكون المنافقون في الدرك الأسفل، أي: أشد عذاباً من بقية الكفار، وإنما المقصود أنهم في أشد دركات العذاب كما لو كانوا كفاراً خلصاً بألسنتهم؛ لأن قلوبهم لم تؤمن، ولذا فالمقصود أنه لو كان الأمر بمجرد قول: لا إله إلا الله لما كان هذا حال المنافقين، فهم يقولونها باللسان، لكن لما كان هذا قولاً باللسان فقط وما في القلوب يكذبه، ولم يخلصوا دينهم لله عز وجل، فإن ذلك لم ينفعهم، فكان هذا حالهم وجزاؤهم ومصيرهم.
    يقول: [فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب]، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم )، فالأساس كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: ( التقوى هاهنا، التقوى هاهنا )، أي: الأساس هو عمل القلب وإيمانه، وبهذا تفوق الصحابة رضوان الله عليهم وسادوا على كل الأمة بما وقر في قلوبهم من حقائق الإيمان، وليس بمجرد الأعمال الظاهرة؛ فإنهم كانوا يصلون الصلاة كما يصلي التابعون، بل ربما كان بعض التابعين يقوم من الليل أكثر من بعضهم، وربما فتح بعض التابعين من البلاد أكثر مما فتح بعض الصحابة وهكذا، فلو أن الأمر بالمقادير الظاهرة فقط لوجدنا أن كثيراً من التابعين ومن بعدهم لديهم كمية من العمل أكثر من بعض الصحابة، لكن لأن الأمر بأعمال القلوب كان درجة الصحابة أفضل، بل نفس الصحابة رضي الله عنهم يتفاضلون بذلك، فمن أنفق منهم قبل الفتح وجاهد أعظم درجة، ولذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يخاطب صحابة متأخرين في حق صحابة سابقين متقدمين، أما من بعدهم فهم أولى وأحق بلا ريب، أي: الناس من بعدهم لا يجوز أن يسبوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أعظم وهو أولى وآكد في حقهم، لكن المقصود تفاوت أولئك كما بين الله سبحانه وتعالى في سورة الحديد.
    قال المصنف رحمه الله: [وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها].
    يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله )، بعض الناس يقول: حرم النار التي هي نار الكفار، أما نار العصاة فلم يحرمها، ويقول بعضهم: معنى ذلك مثال حديث: ( من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة )، أي دخلها بعد أن يعذب، ويخرجون منها؛ لأنهم وجدوا أنه لا يمكن أن يكون مجرد قول: لا إله إلا الله باللسان كافياً في أن يترتب هذا الأجر العظيم عليه، فلا بد أن نؤول ذلك، لتعارض فهمهم لهذه الأحاديث، وعلى هذا الفهم يحمل ما ثبت وصح في آيات وأحاديث الوعيد، كقوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ))[النساء:10]، فكيف يكون هذا جزاؤه وعقوبته وهو يقول: لا إله إلا الله؟ إذاً نقول: إن النار المحرمة هي نار الكافر، أو أنه يعذب ثم يخرج، فهذه بعض التأويلات، ورغم أنه فرق بين نار الكفار ونار العصاة، وفرق بين من يدخل النار ابتداءً ثم يخرج منها، وبين من لا يدخلها مطلقاً، لكن مع ذلك فالصحيح أن هذه الأحاديث لها أهلها، وهم من كانت هذه حاله ودرجته، ووجود الحالات الأخرى لا ينفي هذه الحالة، بل هي الأساس، أما تلك فإنها تؤخذ وتفهم من الجمع بين نصوص الوعد ونصوص الوعيد، لكن هذه الأحاديث لها أهلها، ولها حالات خاصة معينة، ولذلك حديث البطاقة قلنا فيه: ليس كل واحد يمكن أن تغلب بطاقته وترجح بالسجلات، وإنما هذه حالة خاصة، وليس المقصود بالضرورة أن يكون رجلاً واحداً، لكن المقصود أن هذه الحالة على خلاف الأصل، إذ الأصل في أهل التوحيد قلة الذنوب والمعاصي؛ لأن الذي حقق شهادة أن لا إله إلا الله يفترض أن يكون أبعد الناس عن المعاصي والذنوب، فلهذا ما يحتاج أن يكون لديه بطاقة، وإنما يكون لديه سجلات معها شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة والزكاة والإحسان والصدقة والبر وأعمال الخير العظيمة الأخرى، لكن الحالة التي هي خلاف الأصل والمعهود أن رجلاً يحقق التوحيد خالصاً في قلبه لله عز وجل، ومع ذلك ربما يكون أخذ من مال هذا، واعتدى على هذا، وفرط في ذلك الذنب، وارتكب هذه الموبقة، فهذه الحالة -التي هي على خلاف الأصل- لما يأتي صاحبها ويرى هذه السجلات ييأس فيقال له: إنك لا تظلم اليوم شيئاً، إن لدينا بطاقة لك، فيقول: يا رب! وما تغني البطاقة مع هذه السجلات؟ فهو يرى أنه ليس له شيء ولا يستحق مكافأة، ولكن لا يثقل مع اسم الله شيء سبحانه وتعالى؛ لأن شهادة أن لا إله إلا الله مكتوبة في هذه البطاقة، فترجح بتلك السجلات، فيفاجأ الرجل بذلك، فهذه حالة بخلاف الأصل والمعهود، وهو خلاف ما يمكن أن يتوقع أن بطاقة ترجح بهذا، إذاً هذا دليل على أن هذه الأحاديث وهذه النصوص هي في حالات خاصة، وليست بالضرورة أن تجعل عامة في كل من قال: لا إله إلا الله، أو يقال: لا بد أن تؤول.
    يقول الشارح رحمه الله: [ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار]، أي: أن كل موحد له بطاقة، والذي ليس له بطاقة ليس من أهل التوحيد والإيمان مطلقاً، ولكن كثيراً منهم يدخل النار وما استطاعت بطاقته أن تثقل فترجح بتلك السجلات.
    ثم قال رحمه الله: [وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته وهو بتلك الحال أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت]، فهذا إنسان من صدق توبته -وتوجهه إلى قرية الخير- وتقواه وشدة خوفه أن يرجع إلى ما كان عليه في قرية السوء والمعاصي والذنوب، حتى وهو يعالج سكرات الموت ينوء بصدره ويحركه ويزحف ولو قليلاً إلى قرية التوبة والرحمة والأمن والإيمان، ولهذا حكم الله سبحانه وتعالى بأن يكون لملائكة الرحمة، فهي التي تتولاه، مع أن ملائكة العذاب قالت: قتل مائة نفس، وإلى الآن ما عمل شيئاً يكافئ تلك الجرائم، فهو قتل في الأصل تسعة وتسعين وأكمل المائة بالمفتي الجاهل، إذ إنه قال له: لا أجد لك توبة، فقال ما دام ليس لي توبة، إذاً فما الفرق بين المائة والألف، فأكمل به المائة وانصرف، وهكذا الإنسان دائماً لا يفتي إلا بعلم، لكن لما وجد العالم العابد أرشده إلى أرض التوبة، وهذا من أفضل أنواع الإرشاد وأساليب الدعوة، إذ إنك لا تكتفي أن تقول له: هذا حرام، بل تدله على طريق ينجو به، فقال له: اذهب إلى تلك القرية، ووصفها له، أما تلك فهي قرية سوء، فأدركه الموت وهو في هذه الحال، فلما علم الله تعالى هذه الحقائق في قلبه؛ لأنه ليس مجرد مسافر عابر، بل ذاهب برغبة وصدق وإخلاص لله عز وجل، وهذا مثل قوله تعالى: (( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ))[النساء:100] إنها حكمة الله عز وجل، فلو كان الإنسان لا ينال الأجر إلا بأن يعمل ويحقق العمل لكان شيئاً صعباً، لكن على الإنسان أن يبذل الجهد، فخرج من بيته ناوياً الهجرة، ولو أدركه الموت ولم يصل إلى المهاجر إليه فقد وقع أجره على الله، وهذا مثل حديث الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم تبوك : ( إن بـالمدينة أقواماً، ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيراً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر ) ومن أقام على عذر كمن راح، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على عباده المؤمنين.
    قال: [وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان -بغي بني إسرائيل- حين نزعت موقها وسقت الكلب من الركية، فغفر لها]، سبحان الله هذه المرأة عجيب أمرها! وتعلمون ما توعد الله تبارك وتعالى به أهل الزنا والعياذ بالله: (( وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ))[الفرقان:68] فالزنا: (( فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ))[الإسراء:32] فهذه امرأة ترتكب هذه الفاحشة، وهي تعلم أن الله حرمها، غفر لها بأمر لا يخطر على بال كثير من الناس، لكن اقترنت به حقائق إيمانية قلبية جعلته يكفر هذه الذنوب وهذه الموبقات، لأن المحسن إليه كان كلباً، فليس هناك احتمال للرياء؛ لأن الفقير من الناس -ولو كان من يكون، ما دام من البشر- يمكن أن يذهب فيقول للناس: جزى الله فلاناً كل خير، فقد أعطاني وتصدق علي، لكن من يحسن إلى من لا يتكلم ولا ينطق فهذا لا شك أنه يكون أبعد عن الرياء، ثم إنها نظرت إليه ووجدته في هذه الحالة يلهث من العطش، فلم تجد ما تحمل له الماء فيه، فنزعت موقها، أي خفها، ونزلت إلى البئر، ولما ملأته صعدت ووضعت الموق في فمها، ولذلك فمن الصعب على الإنسان أن يضع الخف في الفم، لكنها في ذلك الوقت تريد عملاً خالصاً لله، فهي ما نظرت وقالت: من أجل كلب أضع الموق في فمي! لا، فاقترن بهذا العمل وهو عمل من الناحية البدنية قليل محدود، اقترن به من الناحية القلبية إخلاص وصدق في المعاملة مع الله سبحانه وتعالى، وبعد عن احتمال رياء أو سمعة، ثم سقته فشكر الله لها ذلك، وغفر لها الموبقات والفواحش التي توعد عليها بما توعد.
  4. تفاضل الناس في العقل والإيجاب والتحريم في الشرع

     المرفق    
    يقول: [وهكذا العقل أيضاً، فإنه يقبل التفاضل -العقل والحكمة والبيان وكل ما هو من هذه المعاني- وأهله في أصله سواء، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين، وبعضهم أعقل من بعض] نقول: حتى هذا العقل -في الحقيقة- هل أهله في أصله سواء؟ فرق بين أن نقول: إنه غير مجنون، وبين أن نقول: إن أهله في أصله سواء، إذ ليسوا سواء، فمنهم من يكون في طفولته أعقل من كثير ممن قد بلغ أو كبر أو غير ذلك، كما تجد عند بعض الناس من العقل والتمييز أشياء لا تجدها عند من هو أكبر منه بسنوات مثلاً، إذاً ليس الناس في أصله سواء، بل الناس متفاوتون في العقل وفي الحكمة وفي الإيمان وفي الإخلاص وفي التقوى وفي العلم وفي كل هذه المعاني.
    يقول: (وكذلك الإيجاب والتحريم، فيكون إيجاب دون إيجاب، وتحريم دون تحريم، هذا هو الصحيح، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب) أي: حتى في الإيجاب والتحريم، لا شك أن إيجاب التوحيد أعظم عند الله تبارك وتعالى من إيجاب الطاعات العملية مثلاً، وأن تحريم الشرك أعظم وأشد من تحريم المعاصي والموبقات مثلاً، وهكذا فكما يكون الأمر في العقل يكون أيضاً في الإيجاب في التحريم.
    ثم يقول: (وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل، فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله)، وأما الزيادة بالعمل والتصديق فلها حكم آخر.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.