المادة كاملة    
الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في باب الإيمان خلاف حقيقي لا لفظي وصوري كما هو مقرر عند بعض أهل العلم، ولذلك أدلة ظاهرة من أهمها ما يتعلق بزيادة الإيمان ونقصانه وحكم مرتكب الكبيرة والمقصود بالإيمان ومعناه وأن للإيمان أصلاً وقدراً لابد منه.
  1. حقيقة الاختلاف بين أبي حنيفة وسائر الأئمة فيما يقع عليه اسم الإيمان

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال رحمه الله تعالى: (والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد، والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً.
    ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل، لكن هذا المطلوب من العبادة: هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع).
    ثم يقول: [وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاصٍ لله ورسوله، مستحق الوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً، فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنه عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكائيل عليهم السلام! وهذا غلو منه، فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الرفيع إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده.
    ولهذا -والله أعلم- قال الشيخ رحمه الله: (وأهله في أصله سواء) يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه، بل تفاوت نور: لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس من نورها في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، وآخر كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف، ولها تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم، أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته، بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوةً ولا شبهة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده، فسماء إيمانه قد خرست بالنجوم من كل سارق، ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )، وقوله: ( لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله ) وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، ونحو ذلك..]
    .
    1. محاولة ابن أبي العز تقريب الخلاف بين السلف وبين الإمام أبي حنيفة

      ابتدأ الشارح رحمه الله تعالى بمحاولة تقريب الخلاف بين السلف وبين الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وانتهى ببيان أن بعض المنتسبين للإمام أبي حنيفة أو المرجئة الفقهاء قد غلوا، وجعلوا الإيمان متساوياً لا متفاضلاً، وأخذ يطيل في الرد عليهم وبيان أن الإيمان يتفاضل، وعبارة الإمام الطحاوي رحمه الله هي المشكلة، وإن كانت أيضاً محاولة الشارح عليها ملاحظات، لكن المشكل هو في كلام الإمام رحمه الله حيث قال: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء) حيث جعل أهل الإيمان في أصله سواء، ثم جعل التفاوت بينهم في الخشية والتقوى، وسنبدأ ببيان ما نسبوا إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، مع أن الظن بالإمام أبي حنيفة رحمه الله وقدامى المرجئة الفقهاء أنهم لا يخرجون أعمال القلب من الإيمان، مثل: الخشية والتقوى والرغبة والرهبة واليقين والإخلاص والصبر والصدق والتوكل وغير ذلك؛ ولهذا نجد أن الشارح رحمه الله يميل إلى هذا، فجاءت هذه المحاولة منه لإنكار قول من غلا في قوله: إن الإيمان لا يتفاضل ولا يتفاوت؛ ليقرر بذلك أن المذهبين متقاربان، وأن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: إن العمل مطلوب وواجب ولا بد منه، وأن تارك ما فرضه الله مستحق للوعيد، وأنه في الآخرة تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى، كما يقول بقية أهل السنة والجماعة ، وعلى هذا فما يقوله الإمام في شأن تفاضل أو تفاوت أهل الإيمان فيه لا يمكن إلا أن يكون قريباً من ذلك، لكن هذه المحاولة لا يقر بها متأخروا المرجئة ، بل هم يقولون: إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله على مذهبهم في أن الإيمان هو مجرد ما في القلب، وأن الإقرار -فضلاً عن بقية الأعمال- إنما هو شرط أو ركن زائد أو ما أشبه ذلك كما تقدم من نقولهم، وسنأتي بنص من كلامهم الذي نسبوه إلى الإمام أبي حنيفة ، لأنا لا نستطيع أن نجزم بأنه للإمام، بل في إمكاننا أن نجزم أن الإمام أبا حنيفة لم يقل هذا الكلام.
    2. مدى صحة نسبة الكتاب إلى الإمام أبي حنيفة

      وهذا الكلام ليس لرجل من الحنفية المحدثين، فالإمام الطحاوي رحمه الله إمام محدث، وكل محدث يعز ويصعب عليه أن يخالف مذهب أهل السنة والجماعة ، ويطرح الأحاديث والآثار في ذلك، ولهذا لم ينقل عن الإمام هذا الغلو من محدث، وإنما نقل من متكلم ومؤول، وهو أبو بكر بن فورك ، صاحب كتاب: بيان مشكل الحديث ، وهو الذي أول كل أحاديث الصفات؛ ولذلك في فتح الباري كثيراً ما نجد في كتاب التوحيد أو في غيره أنه ينقل تأويله عنه في حديث من أحاديث الصفات، وربما ينقل عن القاضي عياض ، ويكون القاضي عياض قد نقل عنه، فهو من أقدم من كتب في هذا؛ لأنه متوفي سنة ثلاث بعد الأربعمائة، فأول كل أحاديث الصفات، فهو من الأشعرية الغالين، ولما جاء في موضوع الإيمان أيضاً لم يكتف بأن انتصر لمذهب الأشعرية، بل إنه ألف هذا الكتاب المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة ، لكن هل هو الذي نسبه إليه أم غيره؟ الله أعلم، لكن كتاب: العالم والمتعلم منسوب إلى الإمام أبي حنيفة ، وكأن متعلماً يحاور ويسأل الإمام والإمام يجيبه ويخبره ويبين له عقيدته في هذا الشأن، وعبارة الكتاب عبارة متأخرة، إذ إن فيها منطق فلسفة يشعر بأن هذا الكلام لم يكن من كلام السلف، لا الإمام ولا من كان في عصره، وهذا الكتاب إلى الآن هو مخطوط إلا أن يكون قد طبع دون علم مني، لكن آخر عهدي به أنه مخطوط، ولا حاجة أن يطبع، ولا فائدة في خروجه؛ لأنه غير ثابت النسبة إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله، لكن نحن ننقل منه فقط ما يقررون به كلام الإمام، ثم بعد ذلك نبين الرد عليه، ونبين ما في كلام الشارح والماتن رحمهما الله؛ لأنهما اتبعا الإمام أبا حنيفة .
    3. نقل ما جاء في الكتاب المنسوب إلى أبي حنيفة ونقد ما فيه

      يقول هذا الكتاب: قال المتعلم -بعد ما تكلم على الإيمان وتعريف الإيمان، وأن الناس فيه سواء- أخبرني من أين ينبغي لنا أن نقول: إن إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل، وقد نعلم أنهم كانوا أطوع لله منا؟ فنلاحظ أن الشارح هنا جعل هذا الكلام كلام أهل الغلو، وهذا ابن فورك ينسبه إلى نفس الإمام، وهنا يتضح التناقض، فالمتعلم يقول له: كيف نستطيع أن نقول: إن إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل، مع أنهم أطوع لله منا، أي: بعمل القلب أو عمل الجوارح؟ قال العالم: قد علمنا أنهم كانوا أطوع لله منا، وقد حدثنا أن الإيمان غير العمل.
      إذاً: هو سلم بمقدمتين، المقدمة الأولى: أنهم أطوع لله منا، والمقدمة الثانية: أن الإيمان غير العمل، أي: أن الأعمال غير داخلة في الإيمان، ثم يقول: فإيماننا مثل إيمانهم؛ لأنا صدقنا من وحدانية الرب وربوبيته وقدرته بما جاء من عنده بمثل ما أقرت به الملائكة وصدقت به الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فمن هاهنا زعمنا أن إيماننا مثل إيمان الملائكة؛ لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الملائكة مما عاينته الملائكة من عجائب الله تعالى ولم نعاينه.
      إذاً: على كلام هذا الكتاب يقول: ما دمنا قد آمنا بمثل ما آمنت به الملائكة مما أخبر الله تعالى وآمن به الأنبياء، إذاً: يحق لنا أن نقول: إن إيماننا مثل إيمانهم! وحينما يشرح هذا الكلام بالطريقة المنطقية يقول: لأن تصديق القلب هو الإيمان، ونحن مصدقون بما صدقت به الملائكة، فيقول: قد قررنا أن الإيمان ليس العمل، وإنما هو مجرد التصديق بالقلب، فإذا اعتقد أي نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين صدق الله في أخباره، واعتقدنا صدق الله تعالى في أخباره، كان جنس اعتقادنا بصدقه جنس اعتقاده بصدقه بلا تفاوت، فنحن متفقون في جنس التصديق، آمنا بمثل ما آمنوا به؛ لأن التصديق جنس واحد، والجنس لا تتفاوت ماهيته.
      وهذه المصطلحات والعبارات لم تكن معروفة بهذا المعنى في أيام السلف وأيام الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ثم يقول: إن فضل الأنبياء في الإيمان على بقية الخلق إنما هو باعتبار العاقبة وباعتبار ثباتهم على الإيمان، وليس مثل بقية الناس لا يثبتون على هذا الإيمان، فيمكن لكل منهم أن يرتد أو يكفر والعياذ بالله، إلا الرسل والملائكة فهم معصومون من ذلك، قال المتعلم: يا حسن ما فسرت، ولكن أخبرني إن كان إيماننا مثل إيمان الرسل، أليس ثواب إيماننا مثل ثواب إيمانهم؟ فما فضلهم علينا وقد استوينا في الإيمان في الدنيا، واستوينا في ثواب الإيمان في الآخرة، أي: إن كان الثواب واحداً لا تفاضل فيه، قال: وإن كان ثواب إيماننا دون ثواب إيمانهم، أليس هذا ظلماً إذ كان إيماننا مثل إيمانهم، ولم يجعل لنا من الثواب ما جعل لهم؟ فهو بين الأمرين: إما أن نقول: بأن الثواب واحد، فنكون آمنا وهم بشيء واحد، وأجرنا وهم في الآخرة واحد، وعلى ذلك ما فضل الأنبياء علينا؟ وإن قلت: إن الأنبياء يفضلوننا في الأجر، إذ إن أجرهم عند الله أكثر منا، فيقال: كيف يكون أجرهم أكثر ونحن وهم قد آمنا بإيمان واحد وبشيء واحد من جنس واحد لا يتفاضل ولا يتفاوت؟ يقول: قال العالم: قد أعظمت المسألة، ولكن تثبت في الفتيا، يقول: ألست تعلم أن إيماننا مثل إيمانهم؛ لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الرسل، ولهم بعد علينا الفضل في الثواب على الإيمان وجميع العبادة؛ لأن الله تعالى كما فضلهم بالنبوة على الناس كذلك فضل صلواتهم وبيوتهم ومساكنهم وجميع أمورهم على غيرها من الأشياء. وهذا مخرج صحيح، حيث إن الأنبياء مفضلون علينا، فعبادتهم أفضل من عبادتنا، وصلواتهم أفضل من صلواتنا، وكل ما يتعلق بالأنبياء أفضل مما يتعلق بنا، أما الإيمان فهو واحد، فالأفضلية في الثواب ما جاءت من جهة أن عملهم أكثر، أو أن يقينهم أو إخلاصهم أو طاعنهم أو عبادتهم، وإنما جاءت أفضليتهم من منزلتهم، حيث إن منزلتهم عند الله أفضل من كل ما يتعلق بهم من عبادة أو صلاة أو أمور، فهو أفضل عند الله، يقول: ولم يظلمنا ربنا، إذ لم يجعل لنا مثل ثوابهم، وذلك إنما يكون الظلم إذا أنقصنا حقنا فأسخطنا، أما إذا زاد أولئك ولم ينقصنا حقنا، وأعطانا حتى أرضانا، فإن ذلك ليس بظلم. فجعل القضية مثل قضية أفضلية المسلمين بالنسبة لأهل الكتاب، فالمسلمون بالنسبة لأهل الكتاب كما في الحديث: ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة )، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الطويل مثلاً بذلك فقال: ( كمثل رجل استأجر قوماً فعملوا له إلى الظهر، ثم استأجر غيرهم فعملوا من الظهر إلى العصر، ثم استأجر طائفة ثالثة فعملت من العصر إلى المغرب، فأعطى الله تبارك وتعالى الأولين حقهم كاملاً، وأعطى الطائفة الثانية -الوسطى- حقهم كاملاً، وأعطى الآخرين أجر عمل اليوم كله، فقال أولئك: لِمَ يا رب تفضلهم علينا؟ قال: هل أنقصتكم من أجوركم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أعطيه من أشاء )، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأخيرة، لكنها تعمل قليلاً فتؤجر كثيراً، وهذا الذي ثبت في فضل هذه الأمة على أهل الكتاب، فجاء هذا فجعله نفس المثال في فضل الأنبياء على سائر الأمة، وهذا كلام لا يقر بأي حال من الأحوال؛ لأنه جعل الإيمان واحداً وجعل إيمان أي عامي مثل إيمان الملائكة وإيمان الرسل، إذاً هذه الشبهة الكبيرة التي يدفعها ويتبرأ منها الشارح رحمه الله، وكل من يفقه عن الله تبارك وتعالى دينه، لا يمكن أن يقر مثل هذا الكلام، فضلاً عن أن يكون من كلام الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ومن هنا وجب أن نعلم أو أن نتبين أن ما جاء في مذهب المرجئة الفقهاء هو غير صحيح شرعاً، وساقط بالحجة العقلية كذلك، والمشكل في ذلك أنهم ينقلون وينسبون ذلك إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
  2. ملاحظات حول عبارة المصنف: (وأهله في أصله سواء)

     المرفق    
    قال: (وأهله في أصله سواء)، ويعني بالأصل: أعمال القلب، وأعمال القلب تتفاوت، فما دام أن الأصل هو أعمال القلوب، أي: الإيمان الباطن، فهم جعلوا الإيمان الباطن هو الإيمان، أما الإيمان الظاهر فلا يستطيعون أن يجعلوه؛ لأنهم قالوا: يتركه الإنسان ولا يكفر، لكن لو ترك شيئاً من الإيمان -أعمال الإيمان- فجعلوا الإيمان هو ما في القلب، أي: الإيمان الباطن، ومع ذلك قال: (وأهله في أصله سواء)، فلو كان أهله فيه سواء للزم من ذلك أن يكونوا سواء في اليقين والإخلاص والخشية والتقوى، وهذا الملحظ الأول على العبارة، وأما الملحظ الآخر: هل عندما سألهم الله تعالى: (( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ))[الأعراف:172] هذا الإقرار الموجود في كل النفوس، هل أهله فيه سواء؟ وهل الإقرار بالربوبية واحد؟ وإن الإقرار الذي أخذ في عالم الذر يسألون عنه يوم القيامة، منهم في الدنيا لديه هذا الإقرار بالربوبية.
    إذاً: فالسؤال: هل الإقرار بربوبية الله تبارك وتعالى واحد وأهله فيه سواء؟ إن بعض الكفار اليوم، وكثير منهم علماء فلك، وعلماء طبيعة، وعلماء أحياء تأملوا آيات الله الكونية التي قال الله تبارك وتعالى عنها: (( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ))[فصلت:53] فتبين لهم أن الله تبارك وتعالى هو الحق، وأن القرآن هو الحق، وكونه مسلم هذا أمر آخر، فقد لا يسلم، لكن يقول: القرآن لا يمكن أن يكون من كلام بشر، والله تعالى حق، ولم يخلق هذا الخلق عن عبث وصدفة مثلما يقول الملحدون عندنا في الغرب، بل يقر بأن هذا حق، فهذا إقرار بالربوبية، وهو مقتضي: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)، ولكن هل هذا موجود لدى بقية الناس؟ إنه غير موجود، وأضف إلى ذلك: المؤمنون، المسلمون، الموحدون، هل إقرارهم بالربوبية ليس واحداً؟ لا؛ لأنه جزء من الإيمان، وهم في أصلابهم إيمانهم سواء، ولما خرجوا إلى الدنيا هم كذلك، والعالم والمتعلم يتكلم عن جميع الناس الأحياء المخاطبين في هذه الدنيا، أما ما دام أن البشر في عالم الذر فهم دون التكليف، فالإنسان لا يكلف إلا بعد البلوغ، فنحن لا نتكلم عن هذه الحالة؛ لأنها حالة غيبية، لكن الكلام هو بعد أن أوجدهم الله، وأصبحوا في هذه الدنيا؛ ولذلك السؤال يكون يوم القيامة عن أعمالهم، وعن إقرارهم: (( أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ))[الأعراف:172-173]، فالمقصود من هذا الإقرار هو: الإعداد للجواب يوم القيامة.
    إذاً: فالكلام عن المكلفين المخاطبين الأحياء في الدنيا، فنقول قوله: (وأهله في أصله سواء) العبارة خطأ من جهة كلمة (سواء)؛ لأن أهل الإيمان متفاوتون فيه.
    وما دام أنه أثبت أصلاً فلا بد أن لهذا الأصل فروعاً، لكن نحن نقول لهم: هل هذه الفروع داخلة في الأصل أم خارجة عنه؟ مثال ذلك: الشجرة، وقد ذكره الله تعالى في القرآن، وهو دليل فطري على صحة عقيدة أهل السنة والجماعة ، إذ إن الشجرة تسمى: شجرة، فجذورها التي في الأرض والجذع والأغصان والفروع والثمر كله يقال له: شجرة، قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ))[إبراهيم:24]، فهذه شجرة: لا إله إلا الله، وهذا هو الإيمان، لكن على كلام الإمام الطحاوي: (أهله في أصله سواء) فهل الفرع تابع للأصل؟ إن قال: إن الفرع داخل في مسمى وفي حقيقة الأصل ألزمناه بأن يكون من أهل السنة والجماعة ، وهذا كلامنا نحن.
    إذاً: لماذا تقول: (وأهله في أصله سواء)؟ إن هذه العبارة أصبحت خطأ، فأنت بهذا يلزمك أن تقول: إن الأصل والفرع كلها إيمان، وعلى هذا إن قال: إن الناس في الإيمان سواء بأصله وفرعه، فهو لا يقر بذلك؛ لأنه يعلم أن الناس لا يمكن أن يتساووا في الفروع على الأقل في الأعمال الظاهرة، وإن التزم غير ذلك فقد ألزمناه بأنه كمن جعل جذور شجر التفاح -مثلاً- في الأرض للتفاح، وأما الجذع والثمر والورق والأغصان فهو لشجرة الطلح، وهو شوك وأذى، فكيف يمكن أن يكون هذا؟ يمكن أن يكون شيء منها طلحاً وشيء منها تفاحاً؟ إن هذا هو الذي يوقع في التناقض، إذاً: عبارة الشارح إما أن يقول: (وأهله فيه سواء) مثل ما نقل عن شيخهم الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وعلى هذا فلا داعي أن يقول: والتفاضل بينهم في كذا، أو إن قالها على تأويل، المقصود: عليك أن تقول: (أهله فيه سواء)، فإذا قال ألزمناه به الطائفة كلها من قبل، وهو أن الإيمان ليس أهله فيه سواء بالأدلة المعروفة لدى الجميع، وإما أن يقول: وأهله يتفاضلون فيه، ولا داعي لأصل وفرع ما دام قد جعلناه شيئاً واحداً، فلا يجعل التفاضل بالتقوى والخشية، ويجعل الأصل هو مجال التساوي فيقول: وأهله يتفاضلون فيه.
    1. تصحيح عبارة المصنف: (وأهله في أصله سواء)

      وحتى تصح وتسلم العبارة لا بد أن يلتزم إحدى العبارتين، فإن قال: وأهله فيه سواء، فقد التزم ما قاله متأخروا المرجئة الفقهاء ، وهذا مذهب باطل مردود ، وخرج عن كونه وسطاً متردداً بين أهل السنة وبين المرجئة ، وإن قال: وأهله يتفاوتون فيه، فقد خرج كلية عن كلام المرجئة المنسوب إلى الإمام وغيره، وأصبح موافقاً لـأهل السنة والجماعة ، فالفرع شرعاً ولغةً وعقلاً داخل في مسمى وفي حقيقة الأصل، فكيف تجعل الأصل واحداً وتجعل الفرع غير داخل، بغض النظر عن قضية التفاوت؟! لذا يجب أن تدخله في مسماه فتقول: إن اسم الإيمان يطلق على الأصل والفروع، ثم بعد ذلك إما أن تلتزم التفاضل أو لا تلتزم التفاضل، وفي كل منهما لنا جواب، فقد يلتزم عدم التفاضل فيكون ككلام الخوارج و المعتزلة ، إذ أن كل الأعمال عندهم إيمان، لكنها شيء واحد لا تفاضل فيه، وإما أن يقول: أهل الإيمان متفاوتون، فيصبح مثل أهل السنة والجماعة يتفاوتون في الفروع، بل يتفاوتون أيضاً في الأصل.
  3. أمور تجعل الخلاف بين أهل السنة والمرجئة حقيقياً

     المرفق    
    كذلك يرد منا جواباً آخر وهو: حتى لو فرض أن الناس بغض النظر أنهم يتفاوتون في الفروع، أو لا يتفاوتون في الفروع كما هي عبارته، أليسوا يتفاوتون في الأصل؟
    إذاً: تبين أن عبارة الشارح رحمه الله خطأ، وكأنها عبارة توفيقية، أي: تريد أن توفق بين مذهبين مختلفين: مذهب أهل السنة والجماعة من جهة، ومذهب أهل الكلام والتجهم من جهة أخرى، فجاءت مضطربة متناقضة، فإذا اتضح لنا هذا فيكون الخلاف حقيقياً، ومما يجعل الخلاف أيضاً حقيقياً بين أهل السنة والجماعة وبين المرجئة أمور منها:
    1. زيادة الإيمان ونقصانه بين أهل السنة والمرجئة

      أولاً: أن القول بمذهبهم هو في الحقيقة قول بنفي زيادة الإيمان ونقصانه وأهل السنة والجماعة يثبتون الزيادة والنقصان؛ لأنها جاءت في نصوص صريحة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أيضاً مما تقره العقول السليمة، فهي ثابتة نقلاً وعقلاً.
      إذاً: الزيادة والنقصان هو أول شيء يجعل الخلاف حقيقياً.
    2. مرتكب الكبيرة بين أهل السنة والمرجئة

      ثانياً: في اسم مرتكب الكبيرة؛ لأن الباب دائماً في كتب العقائد تجدونه: كتاب أو باب الأسماء والأحكام، فبماذا يسمى مرتكب الكبيرة عندهم؟ مؤمن، أي: مؤمناً كامل الإيمان، وعند أهل السنة والجماعة يقولون: فاسق، مرتكب كبيرة، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيسمونه باسم الذنب الذي عمله، فإن كان قاتلاً يقولون: قاتل أو سارق أو زان، ولا يخرجونه من الملة.
      إذاً: الفرق هو ما يسميه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على الطريقة المنطقية أو اللغوية، فما الذي يثبت لمرتكب الكبيرة؟ وما الذي ينفي عنه؟ يثبت له مطلق الإيمان الذي به يكون من أهل القبلة، ولا يخرج من الدين وإن زنى وإن سرق، لكن الإيمان المطلق هل يثبت لمرتكب الكبيرة؟ لا؛ لأن ما فعل من الذنب يتنافى مع ذلك، والإيمان المطلق هو الذي جعله الله تبارك وتعالى مدحاً لعباده المؤمنين الذين أثنى عليهم، وجعلهم أهل الإيمان وأهل الجنة، حيث قال: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، وفي غيرها: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ))[الحجرات:15]، وكذلك: (( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ))[المؤمنون:1]، فما هي الصفات التي يتوقع أن تأتي عقب هذا الوصف؟ إن هذا الإطلاق (المؤمنون) لن يأتي لمن زنى أو سرق أو غش، وإنما قال: (( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ))[المؤمنون:1-2]، وما قال: "الذين يصلون…"؛ لأن الذين يصلون قد يصلون ولكنهم أهل كبائر، فهم مجرد أن لديهم مطلق الإيمان، لكن الإيمان المطلق: (( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ))[المؤمنون:2]؛ ولهذا لما جاءت كبيرة الزنا وهي من أكبر الكبائر التي تطلق، والتي جاء نفي الإيمان عن صاحبها كما في الحديث، نفاها عنهم فقال: (( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ))[المؤمنون:5]، فالزناة لا يدخلون في الإيمان المطلق الممدوح أهله المثني عليهم، لكن: (( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ))[النساء:92] يجوز أن يحرر الزاني أو السارق أو الفاسق؛ لأن المقصود هنا هو مطلق الإيمان، فإذا وجب على الإنسان كفارة، ولديه عبد فاسق فاجر فإنه يجزئ؛ لأن المقصود في الإجزاء ليس استكمال شروط الإيمان وشرائعه، وإنما يكفي أن يطلق عليه أنه مؤمن؛ ولهذا في حديث الجارية سألها النبي صلى الله عليه وسلم عن بدهيات الأمور: ( من أنا؟ قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم، أين الله؟ قالت: في السماء )، وهي جارية معاوية بن الحكم السلمي ، فعرفت أصلين من أصول العقيدة: معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفة أين الله، مع أنها لا بد أن تعرف أن الله هو الخالق والرازق، وهذه فطرة، لكن (أين الله؟) أخص من ذلك، وإن كانت أيضاً عقيدة فطرية، ومن يعرف هذا وهو في الظاهر من أهل الإسلام لا من أهل الكفر، فإنه قال: (اعتقها) فهي تجزئ عن أمك ؛ لأنه كما في الحديث كان على أمه نذر، أو أراد أن يتصدق عنها.
      إذاً: هذا الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، وهذا أحد ما يبين أن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين المرجئة حقيقي وليس صورياً.
      كما أن المرجئة يقولون: إن الإيمان لا يتركب ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتفاضل أهله فيه، بينما أهل السنة والجماعة يقولون بخلاف ذلك كله، إذ إن لديهم آيات وأحاديث تثبت أن الإيمان يتجزأ، بدليل أن الله تبارك وتعالى سمى بعض أعمال الإيمان (إيماناً)، مثل: الصلاة، قال تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ))[البقرة:143]، فسماها الله تعالى: (إيماناً)، ومثل حديث وفد عبد القيس: ( قال: آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا الخمس من المغنم )، وحديث: ( الإيمان بضع وسبعون شعبة )، وكل الأدلة قد تقدمت على ذلك أيضاً، فيكون الخلاف حقيقياً.
  4. المقصود بالتصديق لمعنى الإيمان في كلام السلف

     المرفق    
    وأما قوله تعالى: (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ))[الزمر:33] فقد مضى الاستدلال بها على أن الإيمان هو التصديق والتصديق، يشمل قول القلب وعمل القلب، وقد ذكرناها سابقاً لنقول: إن بعض السلف قالوا: الإيمان هو التصديق، وقد يقول قائل: ما دام هؤلاء قالوا: الإيمان هو التصديق، والمرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق، إذاً: فالمذهبان واحد، لا، إذ أن التصديق في كلام السلف له معنى آخر، وهو العمل بالقلب والعمل بالجوارح، واستدللنا على ذلك من القرآن ومن السنة.
    إذاً: لو وجدنا أن الإمام أحمد رحمه الله أو الفضيل أو أحد من أئمة أهل السنة والجماعة قال: الإيمان هو التصديق، أو الإيمان هو التصديق -مثلاً- والعمل، فالتصديق عن السلف ليس كما يظن أولئك، فلو صح أن الإيمان لا يُعرَّف إلا بالتصديق، ونظرنا إلى المعنى اللغوي وقلنا: الإيمان هو التصديق -مثلاً- كما يقولون، فنقول: حتى التصديق لا نقصد به ما تقصدون أنتم من إخراج أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وإنما المعنى كما في قوله تعالى: (( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ))[الصافات:105]، أي: أقررت وعملت بها، وطبقتها ونفذتها وحققتها، إذاً التصديق: هو العمل والتحقيق، قال تعالى: (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ))[الزمر:33]، أي: آمن به قولاً وعملاً وحققه، ولو قال: أقر به وأصدق بقلبي ولا أعمل، فإن الله عز وجل لا يثني عليه بهذا الثناء.
    فإذاً: هذا بيان أن السلف يقصدون بالتصديق المعنى الذي جاء في القرآن وجاء في السنة، وهو بمعنى العمل كما في حديث: ( والفرج يصدق ذلك أو يكذبه )، أي: بفعل الفاحشة والعياذ بالله، وليس المقصود الإقرار.
    1. الاستثناء في الإيمان بين أهل السنة والمرجئة

      ثالثاً: الاستثناء في الإيمان بين أهل السنة والجماعة و المرجئة ، والاستثناء في الإيمان مثل أن يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله، فماذا يقول السلف في هذا؟ وماذا يقول المرجئة حتى يكون الخلاف حقيقياً؟ لا المرجئة يستثنون؛ لأنه شيء واحد بمعنى الإسلام، فإذا استثنى كان شاكاً في دينه، لكن إن قيل لأحد: هل أنت مؤمن؟ فإن قال: أنا مؤمن، دخل في باب التزكية، والله تعالى يقول: (( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ))[النجم:32]، وقال: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ))[النساء:49]، لكن الإسلام تقوله، بمعنى: أنك من أهل القبلة، أما إذا أردت بالإسلام بمعنى مسلم حقيقي، فتقول: إن شاء الله، فهذا شيء آخر، قال تعالى: (( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ))[الأحزاب:35]، لكن معنى (مسلم) بمعنى: أنني من أهل الملة، ومن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أهل القبلة، فهذه ما تحتاج إلى أنك تستثني فيها، لكن لا تقول: أنا مؤمن إلا مقيدة، بينما المرجئة يقولون: إذ قال العبد: أنا مؤمن إن شاء الله، فالمعنى عندهم فقط هو معنى الإسلام، ومعنى أنهم من أهل القبلة: أي: أنهم من أهل الملة، فإذا قال: إن شاء الله صار شكاً، والمعارك الطويلة التي في التاريخ كله في كتب الفقه بين الشافعية والحنفية من أجل هذا، وهذا من الجهل، والأئمة المتبوعون رضي الله عنهم وأرضاهم في كل العصور -والله أعلم- شيء والأتباع المتعصبون شيء آخر، فالأتباع المتعصبون يأتون بالعجائب مما لم يخطر على بال المتبوعين ولم يقولوه ولم يلتزموه، لكن أولئك يغلون ويغلون حتى يأتوا بأمور لم يكن ليقرها أولئك الأولون؛ فلذلك يقولون: لا تصح الصلاة خلف الشافعية، وهذان المذهبان هما اللذان كانا سائدين في شرق العالم الإسلامي بلاد ما وراء النهر وما حولها وخراسان و العراق ، فالحنفية يقولون: لا تصح الصلاة خلف من يشك في إيمانه؛ لأنهم يجوزون أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله. وفي الحقيقة هو لا يشك في إيمانه، لكن ذلك من إلزامات المتعصبين، وما أكثر التعصب! وما أكثر الإلزامات الباطلة التي يلتزمها أو يلزم بها المتعصبون.
      أما أهل السنة والجماعة -والحمد لله- فكما هو معلوم يستثنون إذا كان قد يفهم التزكية، وقد يستثنون للتحقيق، أي: قد يخرج الاستثناء عن معناه اللغوي، أو المعروف العام في اللغة إلى معنى آخر صحيح وثابت في لغة العرب، بل في القرآن، من ذلك قوله تعالى: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ))[الفتح:27]، فهذه (إن شاء الله) تحقيق لا تعليق، كما جاء في السنة في دعاء زيارة القبور: ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )، فهل هذا على بابه كما يقولون؟ إن كل حي وكل مسلم لا بد أنه لاحق بهم، فهو تحقيق وليس تعليقاً، إذاً: فقد يخرج الاستثناء عما هو عليه في الاستعمال الغالب.
    2. أعمال القلوب أخص من أعمال الجوارح

      رابعاً: أن أعمال القلوب أخص من أعمال الجوارح؛ لأن عمل الجوارح عمل ظاهر، لكن عمل القلب عمل باطن، فكيف لا يدخلونه في الإيمان؟ نحن نقول: ما دامت أعمال القلوب فروعاً فلا بد أن تدخل في الأصل، بينما يقولون: إن أعمال القلوب لا تدخل في حقيقة وأصل الإيمان، فهي لا تعد أجزاءً منه، وإنما تعد ثمرات ولوازم له، ويقولون -أيضاً- في الآيات والأحاديث التي جاء إطلاق الإيمان عليها: هذا الإطلاق مجاز، ويؤولون الإطلاق، وبالتالي هل الفرق حقيقي أم صوري؟ فمثلاً عندما نقول: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ))[البقرة:143]، أي: ليضيع صلاتكم؛ لأن سبب نزول النص الصلاة، لكن يقولون: إطلاق الإيمان على الصلاة مجاز، ولا بد أن نؤوله ونقول: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ)، أي: لازم إيمانكم، أو ثمرة إيمانكم، أو نتيجة إيمانكم؛ لأنه لو أقر أنها إيمان لكان من أهل السنة والجماعة .
      إذاً: هم يؤولون الآيات والأحاديث التي تطلق اسم الإيمان على الأعمال، وكذلك يؤولون الآيات والأحاديث التي فيها الزيادة والنقصان، فهذا التأويل وقولهم: بأن هذا مجاز، خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة ، وبالتالي فيثبت أيضاً أن الخلاف حقيقي وليس صورياً أو لفظياً.
  5. خطأ من يزعم أن للإيمان أصلاً وقدراً لابد منه

     المرفق    
    القضية الأخرى والمهمة، وهي ترد وتبين ما في كلام الشارح رحمه الله من خطأ عندما تخيل أو تصور وغيره كثير قديماً وحديثاً: أن للإيمان أصلاً وقدراً لا بد منه، ثم بعد ذلك يتفاوت الناس فيما يبنى عليه.
    1. حقيقة الجدال السائد اليوم حول الإيمان والكفر

      واليوم لا يخفى ما يدور بين الدعاة مثلاً في مصر من جدل حامي الوطيس حول الإيمان والكفر وحقيقة كل منهما، ومن أسباب هذا الخلاف وهذا الجدل: أن السائد في مصر هو مذهب الإرجاء؛ لأن المقرر عندهم الجوهرة وشروحها، سواء في الأزهر أو في غيره من المعاهد الأزهرية، والشباب الذين رفضوا هذا الإرجاء ليت كل أحد فقه تفصيلات مذهب أهل السنة والجماعة ، فكان الخطأ واللبس أن بعض الدعاة تصور فعلاً أن الإيمان لا بد له من أصل، فهو قدر معين لا بد أن يؤمن به، فكل مؤمن في قديم الدهر وحديثه عنده هذا القدر المحدد المعين، ثم بعد ذلك الناس يزيد بعضهم، وبعضهم زيادة أقل، فيقولون بحد أو مقدار لا بد منه عند كل أحد، أما البقية فقد يطول وقد يقصر، أو قد يزيد وقد ينقص، وهذا شيء آخر، لكن مهما زاد الإيمان فهو ثابت موجود، ومهما نقص فلا ينقص ويخل بهذا الأصل، ثم بعد ذلك يأتي كل واحد ويضع هذا الأصل ويقول: لا بد أن يقر بكذا وكذا، وهذا هو الحد الأدنى للإسلام، وبعد ذلك يزيد عليه، لكن لو نقص هذا الحد لا يكون مؤمناً ولا يكون مسلماً، ويعتبر كأنه كافر مثل الروس والصرب والأمريكان؛ لأنه يرى أن هذا الذي وضعه غير مكتمل لديه، وبعضهم قد يجعلها عشرة أشياء، وبعضهم اثنان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة، فيصبح الخلاف بينهم في هذا الشيء، أما هذا فقد اتفقوا عليه؛ ولذلك إذا نقضنا وبينا خطأ هذه النظرية من أصلها فينتقض المذهب من أساسه؛ لأن الإيمان الأصل أو إيمان القلب والفرع شيء واحد، فإذا نقص الإيمان من هنا فإن ذلك ينقص من هنا، مثل الشجرة الصغيرة جذورها في الأرض صغيرة، كأن تكون الشجرة فوق الأرض متراً، وشجرة أخرى من نفس النوع طولها فوق الأرض ثلاثون متراً، فهل تكون جذور المتر مثل جذور الثلاثين؟ لا، لكن هم على كلامهم الجذور في الأرض واحدة، لكن قد تطول وقد تقصر ما فوق الأرض، فنقول: هذا الكلام غير صحيح لا عقلاً ولا شرعاً، وإنما هو شيء واحد، إما أن يطول كله، أي: الذي إيمانه أكثر يرتفع إلى ما شاء الله، والذي إيمانه أقل ينقص حتى يتلاشى؛ ولذلك آخر من يخرج من النار الجهنميون الذين في قلوبهم أدنى مثقال ذرة؛ لأنه شيء لا يرى، لكن على كلامهم يكون عنده هذا الشيء كله، ومع ذلك يقل ولا ينقص عنه.
    2. إثبات التفاوت في الإيمان

      وعلى هذا نقول: إن الإيمان الذي افترضه الله وطلبه من عباده متفاوت، فيتفاوت إيمان هذا عن إيمان هذا، حتى عندما يقولون: إن هذا معلوم من الدين بالضرورة، فنقول: في الحقيقة هذه العبارة نفسها لا تنطبق، إنما معلوم من الدين بالضرورة عند شيخ تخرج من كلية الشريعة، وعرف الدين وأصوله، وغير معلوم من الدين بالضرورة عند من جاء من البادية، فهل نجعلها سواء؟ ثم لو أن هذا العالم أحل مثلاً شرب الخمر بإطلاق، فهل يكون مثل هذا العامي الذي جاء من إحدى الدول التي كانت شيوعية سبعين سنة ويقول: أنا مسلم، لكن يشرب الخمر؟ لا نقول: إن هذا مثل هذا؛ لأنه ليس من العدل ولا يصح ولا يجوز.
      إذاً: فقولنا: معلوم من الدين بالضرورة التي يظن البعض أنها تحل الإشكال لا تحل الإشكال؛ لأن من كان عنده معلوماً فهو في حدود علمه، ومعلوم عند الآخر في حدود علمه؛ ولذلك عندما تأتي تناقش أحداً وتقرر الحجة وتقيم عليه بالقطعي غير الظني، فهذا شيء آخر، إنما نحن نتكلم عند الحكم عليه بمجرد أن يأتيك بما عنده، فبماذا تحكم عليه؟ فإذاً: الإيمان في الحقيقة متفاوت، فمثلاً: هل الإيمان الذي افترضه الله تبارك وتعالى على نوح وقومه عليه السلام هو نفس الإيمان الذي افترضه الله على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من كل الوجوه ؟ لا، بدليل قوله تعالى: (( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ))[المائدة:48]، أي: لنا شرع غير شرعهم، فالصلاة عندنا شعبة من شعب الإيمان غير ما كان عندهم، وكذلك يجب علينا أن نؤمن بموسى وعيسى عليهما السلام، لكن قوم نوح هل خوطبوا بالإيمان بعيسى وموسى؟ لا؛ لأنهم ما بعثوا، وإنما خوطبوا بالإيمان بالذي نص عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ))[آل عمران:81] الآية، النص وأما الباقي فهو عام، أي: عليك أن تؤمن بكل رسول يبعثه الله، بمعنى: أنه ما دام أن الشريعة قابلة للنسخ، والرسالة لم تختم بعد، فكل نبي يبعثه الله تبارك وتعالى عليك أن تؤمن به، حتى ولو كان الرسول الذي قبله ما يزال حياً، لكن عندما ختم الله تبارك وتعالى الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم انتهى الأمر، وما بقي إلا أن نؤمن بكل الأنبياء السابقين.
      والمقصود: أن هناك فرقاً في التفصيل في الإيمان بين من نؤمن به نحن وبين ما يؤمن به من كان قبلنا، وبين ما يؤمن به العالم وبين ما يؤمن به الجاهل وهكذا.
  6. كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيما يتعلق بتفاوت الناس فيما يجب عليهم من تفصيلات الإيمان

     المرفق    
    وهنا كلام قيم نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: (وهؤلاء غلطوا من وجوه -أي: المرجئة - أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك، فإن أتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأوجب على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول القرآن، أو قبل نزول جميع القرآن ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول جميع القرآن) فمثلاً: قبل أن يشرع الحج كانت أركان الإسلام كما في حديث وفد عبد القيس من غير ذكر؛ لأن الحج لم يشرع بعد، فبنوا عبد القيس لما آمنوا وقالوا: آمنا بما ذكرت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فكانوا مؤمنين بكل ما فرضه الله عليهم، وبعد أن شرع الحج وفرض لو جاء رجل وقال: أنا أؤمن بمثل ما آمن به بنو عبد القيس، وأما ما بعد ذلك فلا أؤمن به، فلا يقبل منه ويكون كافراً، يقول: (والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مفصلاً ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملاً). وهذا بين عالم مطلع وبين عامي جاء من البادية، فهذا يعلم من تفصيلات الإيمان ما لم يعلم ذاك، فالإيمان الذي يجب على هذا غير الإيمان الذي يجب على ذاك، وهذه حالة يعيشها كل إنسان، فمن قرأ حديثاً أو اطلع على أمر من أوامر الله لم يكن قد اطلع عليه من قبل، فيجب عليه أن يؤمن به، والذي لم يطلع عليه لا يجب عليه إلى الآن حتى يطلع عليه.
    فإذاً: الإيمان التفصيلي متفاوت؛ ولذلك أكثر الناس إيماناً إذا تساووا في التقوى والخشية هم أكثرهم علماً؛ لأنه يعلم أن هذا حلال وهذا حرام، وهذا مستحب وهذا مكروه، وهذا فيه من الأجر كذا، وهذا فيه من الأجر كذا، فيعلم هذه التفصيلات فيؤمن بها، لكن آخر مثله في التقوى، في الطاعة، في الإنابة إلى الله، في الرغبة في الخير، لكن ليس عنده تفصيلات هذا العلم، فلا يكون كذلك، ومن هنا تبرز وتتضح أهمية العلم.
    يقول: (فإنه لا بد في الإيمان من تصديق الرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول ومات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك). أي: لم يجب عليه من الإيمان إلا ما سمع، كمثل الذين توفوا بعد البعثة بقليل، وكمثل الذين توفوا في الحبشة ولم تشرع بعض الشرائع أو لم تبلغهم، فهؤلاء لا يجب عليهم من الإيمان إلا في حدود ما بلغهم، (وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيها من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبرٍ وأمر أمرٍ) أي: بكل خبر واحد واحد، وبكل أمر واحد واحد، فهذا يجب عليه (ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل لموته قبل أن يبلغه شيء آخر) والله تعالى يقول: (( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ))[البقرة:286]، فهذا لا يكلفه أن يؤمن إيماناً مفصلاً، وهو إنما آمن بما أخبر به ربنا تبارك وتعالى، أو أخبر به رسولنا صلى الله عليه وسلم عن الله، فآمن به ثم مات، لكن من مد له في عمره وعلم من الدين الشيء الكثير؛ فإنه مطالب بأن يؤمن بكل ما بلغه وبكل ما علمه، ولهذا كان السلف الصالح يحذرون من العلم بلا عمل، والبعض قد يقول: إذاً أبقى جاهلاً من أجل أن لا آثم، فهذا ليس بصحيح، لكن تعلم واعمل، وقد قال قائلهم: أو قد عملت بكل ما علمت؟ قال: لا، قال: فلم تستكثر إذاً من حجة الله عليك؟ ما دام أنك علمت فأين العمل؟ لكن الذي لم يعلم قد يعذر بأنه لم يعلم؛ ولهذا من الأسئلة الأربعة التي يسأل كل إنسان عنها يوم القيامة: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن علمه ماذا عمل به … )، في حدود علمه لا في حدود أكبر العلماء، وإلا لهلك الناس.
    إذاً: يجب عليك من جهة أن تتعلم العلم، ويجب عليك من جهة أن تعمل به. يقول: (وأيضاً لو قدر أنه عاش -هذا في حالة أنه بلغه شيء فمات- فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول، وكل ما نهى عنه، وكل ما أخبر به) صلى الله عليه وسلم بمعنى: بعض الأعراب أو ممن أسلم أول الإسلام لا يطالب بمثل ما يطالب به العلماء الكبار، فمثلاً: يقول: عمرو بن عبسة رضي الله تعالى عنه: (لو رأيتني وأنا ربع الإسلام). وإن كان هذا قد لا يكون في الواقع، لكن فيما ظهر له أنه ما عرف إلا ثلاثة من المسلمين وهو الرابع، والمقصود أنه أسلم في أول الإسلام، لكن هل هو مطالب أن يؤمن بمثل ما آمن به أبو بكر و عمر ممن لازم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف التفاصيل، أو بمثل ما آمن به عبد الله بن مسعود أو معاذ بن جبل ؟ إن العلماء يتفاوتون في العلم، فيجب على كل أحد أن يؤمن بما بلغه، فالمسلمون من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى اليوم يتفاوتون في العلم، من العامي إلى العالم الجهبذ النحرير الكبير المتعمق، وهذا يجب عليه ما لا يجب على ذاك.
    يقول: (بل إنما عليه أن يعرف -العامي- ما يجب عليه هو وما يحرم عليه) لأنه ليس مفتى يفتي الناس، فالمفتي يجب عليه أن يعلم ما يفتي به الناس، لكن العامي عليه أن يعلم ما يجب عليه هو وما يحرم عليه هو في ذاته، فمثلاً يقول: (فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة) لكن بائع الذهب أو من يملك الذهب يجب عليه أن يعلم ذلك، وهكذا يجب على هذا ما لا يجب على هذا، والمتزوج يجب عليه من معرفة أحكام العشرة الزوجية ما لا يجب على غيره حتى يتعامل معها بما شرع الله، وكما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل أن يتزوج عليه أن يتعلم أحكام العشرة الزوجية كلها إلى نهاية الطلاق والعدة والحداد وغير ذلك.
    إذاً: الواجب على كل إنسان بحسب ما يحتاج إليه هو، لكن من تصدر للعلم والفتيا فيجب عليه أن يعلم ما يُعلِّم الناس، ولا أنه لا يجب عليه أن يعلم كل شيء، لكن يجب عليه زيادة عما يجب على من لا يجب عليه إلا ما هو في حدود نفسه؛ لأنه ليس لنفسه وإنما هو للناس، فمثلاً: إمام المسجد لا يصح أن يكون علمه كعلم العامي؛ لأنه إمام، وإذا كان أكثر من إمام مسجد، كأن يكون في منصب الإفتاء، فيجب عليه أن يكون أعلم من أئمة المساجد وهكذا؛ لأنه متصدر لأمور العامة وليس فقط فيما يخصه في دينه، فلو لم يكن لديه ولا شيء من الذهب أو الفضة أو الإبل، بل لا بد أن يعرف أحكام الزكاة في هذه الأمور، وكذلك حتى لو لم يتزوج، ففرضاً لا بد أن يعرف أحكام ذلك كله وهكذا.
    يقول: (ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك) لكن إذا أراد الحج وقدر عليه أو استطاع يجب عليه أن يعرف أحكام الحج وأن يؤمن بها. وقال: (ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة، فصار يجب من الإيمان تصديقاً وعملاً على أشخاص ما لا يجب على آخرين) إذاً: يجب على إنسان ما لا يجب على غيره، فالذين تخيلوا -وإن نسبوا ذلك إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله أو غيره- أن الإيمان شيء واحد، وأن الناس -بل حتى مع الملائكة، حتى مع الرسل جميعاً- يؤمنون بشيء واحد، ويصدقون بشيء واحد، فهذا خطأ لا يقر شرعاً ولا عقلاً أيضاً.
    ويقول رحمه الله: (إيمان القلوب يتفاضل من جهة ما وجب على هذا، ومن جهة ما وجب على هذا، فلا يستوون في الوجوب، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن وجب عليهم الإيمان بعد استقرار الشرع فوجوب الإيمان بالشيء المعين موقوف على أن يبلغ العبد) فمن لم يبلغه الإيمان بأن الخمر حرام، ومن لم يبلغه الإيمان بأن فلاناً أو فلاناً من الرسل هم رسل الله أرسلهم وهو لا يعرفهم مثلاً، أو أي أمر من أمور الإيمان، أو ما بلغه شيئاً عن الميزان، أو عن تطاير الكتب، فهذا لا يجب عليه إلا بعد أن يبلغه.
    فالأمور نوعان، أو العلم يكون بنوعين من العلم: إما أخبار فنعتقدها، وإما أوامر فنعمل بها، وهذا هو المهم، فالأخبار مثلاً: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدجال ، وعن الجساسة والدابة التي جاءت في القرآن؛ فنؤمن بها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أمور العمل فما كان من عمل وجب علينا أن نعمل به، ولا يلزم أحد أن يؤمن بشيء قبل أن يبلغه، ولا أن يعمل أيضاً بشيء قبل أن يبلغه، وإنما عليك أن تبلغ وتقيم الحجة عليه، ثم بعد ذلك تأمره وتلزمه، أو يأثم عند الله تبارك وتعالى إن لم يمتثل لذلك، سواء علمت أنت أو لم تعلم.
    قال: (وإلا فلا يجب على كل مسلم أن يعرف كل خبر وكل أمر في الكتاب والسنة، ويعرف معناه ويعلمه، فإن هذا لا يقدر عليه أحد، فالوجوب مما يتنوع الناس فيه، ثم قدرهم في أداء الواجب متفاوتة) فهم جميعاً يؤمنون بما أتاهم من أوامر إذا بلغتهم، وعلى فرض أن الأمر بلغ الجميع، لكن القدرة على الأداء تكون متفاوتة، فهذا معذور وهذا غير معذور.
    إذاً: يتفاوتون في الإيمان ويتفاوتون كذلك في العمل بما هو مقتضي هذا الإيمان أو النص أو الدليل.
    يقول: (ثم نفس المعرفة تختلف بالإجمال والتفصيل والقوة والضعف ودوام الحضور والغفلة، فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة كالمجملة التي غفل عنها، وإذا حصل له ما يريده فيها ذكرها في قلبه، ثم رغب إلى الله في كشف الريب) فحتى هذا الإيمان قد ثبت ويستمر وينمو في القلب، وقد يتلاشى ويضمحل ويغفل عنه صاحبه.
    إذاً: هناك مسألة العلم، ثم هناك العمل به، ثم دوام هذا العلم والعمل، أي: قد يبلغه أمر من أمر الله ويواظب عليه ويؤديه، وقد يبلغه فيعمله مدة ثم ينقطع، ثم ينسى أنه واجب، فتتفاوت إذاً معرفة الناس بين التفصيل وبين الإجمال، إلى آخر ما ذكره في الإيمان الكبير.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد على آله وصحبه أجمعين.