المادة كاملة    
لقد اتفق السلف من الصحابة والتابعين على أن حقيقة الإيمان ومسماه شاملان لقول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح، وخالفهم في ذلك طوائف بشبه واهية لا تنهض أمام نصوص الوحي، ومن أشهر هؤلاء المخالفين مرجئة الفقهاء من أهل الكوفة الذين حصروا الإيمان في تصديق القلب والإقرار باللسان، والماتريدية الذين اعتبروا مع ذلك أن الإقرار باللسان ركن زائد وليس بأصلي، وأقوالهم وشبههم مفندة بالأدلة الشرعية المؤكدة لما عليه أهل الحق.
  1. عرض الشارح المذاهب في حقيقة الإيمان

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فقد سبق لنا تفصيل القول في مذاهب الناس في معنى الإيمان وحقيقته، وهنا سنعيد إجمالاً كلام الشارح من أوله مع التعليق بما يسره الله تعالى.
    قال رحمه الله تعالى: (قوله: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى وملازمة الأولى):
    اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيرا، فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه ، وسائر أهل الحديث، وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، وذهب كثيرٌ من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله أنه الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركنٌ زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به، وقولهم ظاهر الفساد).
    ثم قال: [وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي -أحد رؤساء القدرية- إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب، وهذا القول أظهر فساداً مما قبله، فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين؛ فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: (( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ ))[الإسراء:102]، وقال تعالى: (( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ))[النمل:14] وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً، فإنه قال:
    ولقد علمت بأن دين محمدٍ             من خير أديان البرية دينا
    لولا الملامة أو حذار مسبةٍ             لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
    بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان؛ فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به: (( قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ))[الحجر:36]؛ (( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ))[الحجر:39]، (( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ))[ص:82]، والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه؛ فإنه جعله الوجود المطلق وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه، وبين هذه المذاهب مذاهب أخر بتفاصيل وقيود أعرضتُ عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره]
    .
  2. مآخذ على الشارح في ذكر الخلاف في حقيقة الإيمان

     المرفق    
    1. نقد منهج الشارح في طريقة عرض الخلاف في مسمى الإيمان

      هذا كلام الشارح رحمه الله في عرضه للمذاهب المختلفة في الإيمان، وأول مأخذٍ عليه لا يخفى، وهو ذكره أن الناس اختلفوا في موضوع الإيمان اختلافاً كثيراً، ثم ذكر المذهب الأول وهو مذهب أهل السنة والجماعة مذهب السلف، ثم ذكر المذهب الثاني مذهب الحنفية، ثم ذكر مذهب الكرامية ثم ذكر مذهب الجهمية .
      والأصل أن يقال: أجمع السلف وأهل السنة والجماعة على هذا، خاصةً أن الصحابة والتابعين لم يكن بينهم خلاف في هذا، ثم بعد ذلك يقال: وشذ أو وخالف فلان ثم يبين بعد ذلك، فما كان من مذهب الإمام أبي حنيفة ومن معه شذوذ، فهم من أهل السنة ولكنهم شذوا وخالفوا وأخطئوا، وما كان من غيرهم فهو ابتداع، وما قاله الجهم وما ذهب إليه أيضاً الماتريدي و الأشعري و الصالحي وغيرهم بدعة منكرة تنكر على صاحبها، وهي مخالِفة للإجماع.
      فمنهجنا الذي يجب أن نلتزم به دائماً في عرض العقيدة هو أن نبين أولاً المذهب الصحيح، ونبين الحق بالأدلة، ونشبع ذلك بحثاً كما قد عملنا والحمد لله، حيث نقلنا إجماعات كثيرة في مسألة حقيقة الإيمان، ثم بعد ذلك ننظر في الخلاف.
      وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في أول كتاب الإيمان الكبير : إن الناس اختلفوا منذ أن خرج الخوارج، وكثر الكلام وكثرت المصنفات في موضوع الإيمان، ونحن نبتدئ بذكر هذا وبيانه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك نأتي على أقوال الناس؛ إذ الأصل أن يقرر ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك يقال: إن فلاناً خالف، وإن فلاناً وافق في شيء وخالف في شيء.. إلخ.
      فهذه قاعدة منهجية عندنا، خاصةً أنه ليس كل أحد من الناس يحتاج إلى أن يعرف المذهب المخالِف ويعرف كيف يرد عليه، ولكن كل الناس محتاجون إلى أن يعرفوا الحق وأن يعتقدوه، ولهذا لا يضر بعض الناس أنه لا يستطيع أن يرد على مذهب الجهمية أو الأشعرية ، ولكن يضره أنه لا يعرف حقيقة مذهب أهل السنة والجماعة .
      فهذا أول ملحظ يؤخذ على الشيخ الشارح رحمه الله، فالمسألة ليست منحصرة في الأئمة الثلاثة -كما ذكر- وبعض أهل الحديث، وإنما نقول: انعقد الإجماع على هذا، ويكفي أن الإمام الشافعي رحمه الله -على إمامته وفضله وتقدمه حقيقةً وزمناً- نقل الإجماع على أن الدين قولٌ وعمل كما بينا، واستدل على ذلك بآية البينة، وغيره كذلك.
    2. نقد نسبته إلى السلف تفسير الإيمان بقول اللسان واعتقاد القلب وعمل الجوارح

      والملحظ الثاني: قوله: إنهم يقولون إن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، وهذه ثلاث جمل، وقد رجحنا أنه: قولٌ وعمل، وأن القول قولان والعمل عملان.
      أما هذه الثلاث الجمل فلا تُدخِل قول القلب، ولابد من أنهم يشترطون قول القلب، لكن هذه العبارة لا تفصل بين القول والعمل، ففي الكلام إجمال.
      ثم إن قوله: اعتقاد بالجنان وقولٌ باللسان وعملٌ بالأركان، يفهم منه أن كل جزء من هذه الأجزاء الثلاثة منفصلٌ عن الآخر، فالقلب منه الاعتقاد أو الإقرار، واللسان منه القول، والجوارح منها العمل.
      فإذا قلنا: عملٌ بالأركان فكأننا فصلناه عن عمل القلب، وعليه فإنه يمكن لقائل أن يقول: أنا عندي ركنان: اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان، وليس عندي عمل بالأركان! وهذا الذي وقعت فيه مرجئة الفقهاء .
      وأما نحن فنقول: الأصل أنها لا تنفصل، أي أن عمل الجوارح لا يمكن أن ينفصل عن عمل القلب.
      ومثال ذلك الصلاة، فقول القلب فيها أن يعتقد العبد أن الله تبارك وتعالى افترض عليه أن يؤدي الصلوات الخمس، وجعلها ركناً من أركان الإسلام، وأمره بها، فيفعلها بنية التقرب إلى الله تعالى، فعمل القلب هو الانقياد والإذعان والتزام العمل، واليقين، والإرادة الجازمة، ومحبة الصلاة، والخشية والخشوع.
      وأما قول اللسان في الصلاة فالتكبير والقراءة والتسبيح، وأما عمل الجوارح فالركوع والسجود.
      فمذهب أهل السنة والجماعة ميسر وواضح وسهل.
      صحيح أن بعض الأعمال قد تكون من عمل القلب في الأصل، ولكن ينشأ منها أثر وهو عمل الجوارح، وبعض الأعمال هي في الأصل من عمل الجوارح، ولكن ينشأ منها أثر في القلب، والتلازم بين الباطن والظاهر، وبين عمل القلب وعمل والجوارح ليس بدرجة واحدة.
  3. دلالات في حديث شعب الإيمان

     المرفق    
    ومما يدل على ذلك حديث عظيم، وهذا الحديث يدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة ، وهو حديث ( الإيمان بضع وستون شعبة... )، فهذا الحديث فيه أن الإيمان شعب، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية التامة ثلاث شعب: العليا، والدنيا، وشعبة أخرى.
    فالشعبة العليا شهادة أن لا إله إلا الله، وهي الركن الأول، بل هي أعظم الأركان، إذ الدين أركان وواجبات وكمالات، وأهم الأركان ورأسها وأعظمها شهادة أن لا إله إلا الله.
    فلو قال أحد: أشهد أن لا إله إلا الله، وهو كاذب في قلبه، وكان من الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؛ فإنه يكون كافراً.
    فهذا الركن الأول لا يمكن أن يسقط منه عمل القلب بأي حالٍ من الأحوال، فلو أن أحداً قال: لا إله إلا الله بلسانه ولم يقر بذلك بقلبه لا يقبل منه، حتى إن الكرامية يقولون: إنه غير مؤمن. ولكننا نقول: إنه مسلم باعتبار إجراء الأحكام الظاهرة فقط.
    فهذا الحديث يجمع لنا بين أعظم حديثين في الإيمان والإسلام: الحديث الأول حديث جبريل عليه السلام الذي جعل شهادة أن لا إله إلا الله من أركان الإسلام، أي: من الأركان الظاهرة العملية، وفي نفس الوقت لابد من قائلها أن يكون مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، فلابد من أن يجمع معها الإيمان.
    والحديث الآخر: حديث وفد عبد القيس الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله )، فالذي جعله هنا ركناً من أركان الإيمان جعله هناك ركناً من أركان الإسلام، فحديث الشعب يجمع هذين الأمرين: أنه لابد من أن يقولها بلسانه، وأنها شعبة من شعب الإيمان، فلابد من أن يكون مؤمناً بقلبه، وإلا فلا تقبل منه.
    وأما الشعبة الدنيا فإماطة الأذى عن الطريق، وإماطة الأذى عن الطريق عملٌ أشبه ما يكون بالعاديات، أي: ما يعمله الإنسان عادةً من غير أن يفطن له، كما لو رأيت في بيتك أو في الطريق عند بيتك شيئاً فنحيته وأزلته من غير نية، فهل يعني ذلك أنه لا أثر له في صلاح الإنسان، أي: ليس له علاقة بعمل القلب مطلقاً؟!
    والجواب: أن له علاقة، لكنها تخفى؛ إذ لا بد لكل عمل من علاقة قلبية، لكنها تخفى، فيُظن أنه من العاديات، فتجد الفاسق والفاجر إذا رأى أذى في مكان فإنه يأخذه بيده أو يزيحه برجله، وكل الناس يصنعون هذا؛ لأنه أمر معتاد في حياة الناس، لكن المؤمن عندما يحمل هذا الأذى ويضعه ينوي بذلك أنه شعبة من شعب الإيمان، فيؤجر عليه، فيكون له نية احتساب الطاعة والتقرب والعمل، فهذه شعبة عملية لا علاقة لها بعمل القلب إلا إذا نوى، ومن هنا كانت شعبة من أدنى الشعب.
    وأما الشعبة الدنيا فهي الحيـاء، والحياء تنبيه على أن الأساس والأصل في الأعمال كلها هو عمل القلب؛ إذ الحياء في الأصل عمل القلب، ولكن يستحيل في واقع الناس أن أحداً يستحي دون أن يظهر ذلك في عمله، ومن ذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في الحلقة فدخل ثلاثة نفر، فوجد أحدهم فرجة فآوى إليها، واستحيا الثاني، وأعرض الثالث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما الأول فآوى فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه )، فالثاني استحيا حيث لم يقدر على الخروج ولم يلق فرجة فاستحيا من الله أن يخرج فبقي.
    فحين نقول: فلان استحيا فمعنى ذلك أنه ظهر ذلك في عمله ورأينا أثره، وإلا فالحياء -في الحقيقة- عمل قلبي، وهذا وحده تنبيه على أن أصل الواجبات وأصل الدين هو عمل القلب.
    وحين يقول المرجئة : إن الله تعالى يقول: (( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ))[المجادلة:22]، ويقول: (( وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ))[المائدة:41] ويقول: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106]، وإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( التقوى هاهنا )، فيستدلون بذلك على أن الإيمان هو ما في القلب؛ ونرد عليهم بقولنا: استدلالكم ليس صحيحاً؛ لأن كل ذلك لا يدل على أن الإيمان هو ما في القلب فقط، وإنما يدل على أن أصل الإيمان هو ما في القلب، وما يظهر على الجوارح فرعٌ عنه وجزؤه الظاهر.
    فالأمثلة الواقعية والشرعية والعقلية الواضحة تدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة ، ولهذا ضرب الله تبارك وتعالى حقيقة الإيمان والشهادة فقال: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ))[إبراهيم:24].
    1. منزلة عمل القلب في الإيمان

      فالأصل هو عمل القلب، ولما كان هو الأصل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً منه، فذكر الحياء؛ لأنه أساس كل خير وأساس كل عمل، ولذا قال ابن القيم : وهل الحياء إلا حياء المحبين؟!
      ولذا فإن من تتعامل معه من الناس إما أن تكون محباً له، وإما أن تكون مبغضاً له، فإذا كنت تكرهه ولديه سلطة عليك وأمر ونهي فوجدك تعمل عملاً لا يريده؛ فإن الحالة التي تصير عندك حينئذٍ هي الخوف، لكن إذا كنت تحبه وتقدره وتعظمه، فرآك على أمرٍ تعلم أنه يكرهه ولا يريده؛ فإن الحالة النفسية حينئذٍ هي الحياء، فتستحي وتتمنى أنه ما رآك.
      فالإنسان يخاف من الله لا ريب في ذلك، لكن المؤمن الذي يحب الله ويحب طاعة الله يكون وازعه هو الحياء لا مجرد الخوف، نعم تجتمع الخصال كلها ولا تنفصل، لكن الوازع الأكبر هو الحياء، إذ إنه يدفع صاحبه إلى ترك ما لا يليق وإن كان مباحاً.
      ولذا قال نوح عليه السلام لقومه: (( مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ))[نوح:13].
      والمعاني القلبية متقاربة، فاليقين والإخلاص والخشوع معان متقاربة، وكذلك الحياء والوقار والتعظيم والإجلال والمحبة معان كلها متقاربة ومتداخلة.
      فأكثر ما يجعل الناس يعصون الله تعالى ويكذبون دعوة الرسل أنهم لا يرجون لله وقاراً، ولا يقدرون الله حق قدره، ولا يعرفون نعمة الله، كما قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ))[إبراهيم:28]؛ لأن الإنسان إذا تأمل في نعم الله عليه وعظَّم الله ووقر الله عز وجل استحيا أن يعصي الله، وقد قال تعالى: (( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ))[العنكبوت:17]، فصاحب النعم هو الذي يوقر، ولذلك كان أكثر كُفر الكافرين من هذا القبيل، كما بين الله سبحانه وتعالى بقوله: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ))[الأنعام:1]، وقال في الآية الأخرى: (( إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الشعراء:98]، وقال في آية أخرى: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ))[البقرة:165] فكفرهم عدل وتسوية وندية في المحبة وفي التوقير وفي الإجلال وفي التعظيم، وليست التسوية أن يقولوا: إن لله شركاء خلقوا كخلقه، إذ ما قال هذا أحد من الأمم السابقة، بل هم معترفون بأن الله خالق كل شيء، كما قال تعالى: (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ))[الزخرف:9]، وقال تعالى: (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ))[الزخرف:87]، وقال تعالى: (( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ))[يونس:31] يؤمنون بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر، لكن كان العدل والتسوية والندية في المحبة وفي الإجلال وفي التعظيم وفي التوقير.
      ولذلك انظر إلى واقع عباد القبور وعباد الأولياء ومن أشبههم والعياذ بالله، حيث تجدهم يجعلون الحياء من الشيخ رادعاً عن الذنب! مع أن الله تعالى قال عن عباده: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))[الأعراف:201] أي: تذكروا وعد الله ووعيد الله وعقوبة الله، وخافوا من الله فأبصروا فرجعوا عن ذنوبهم واستغفروا وأنابوا.
      فأولئك المشركون -والعياذ بالله- قد يتذكر أحدهم الإمام المعصوم كما هو الحال عند الروافض ، أو يتذكر الشيخ كما هو الحال عند الصوفية ، ويقول: إذا عصيت فاستحضر في ذهنك صورة الشيخ، وكأن الشيخ يراك! ويذكرون قصصاً عجيبة في هذا، فهذه هي المساواة والندية في الإجلال والتعظيم.
      فموضوع المسألة الأولى تقرير أن قول أهل السنة والجماعة -أو السلف بمعنى أخص- أن الدين قولٌ وعمل هو الراجح، وهو الذي ينبغي أن يصار إليه، بالإضافة إلى أن الشيخ ذكر أنها مسألة خلافية ولم ينقل الإجماع، فهو أيضاً اختار غير اللفظ المختار، ونحن اخترنا ورجحنا خلاف لفظه.
  4. مذهب مرجئة الفقهاء في حقيقة الإيمان

     المرفق    
    نقل المؤلف رحمه الله تعالى مذهب أهل السنة أولاً، ثم نقل المذهب الثاني في بيان حقيقة الإيمان، فقال: (وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله، أنه الإقرار باللسان والتصديق بالجنان).
    إذاً يعني بقوله: (من أصحابنا): الحنفية؛ لأن الإمام الطحاوي رحمه الله حنفي، وابن أبي العز هو أيضاً على المذهب الحنفي، والمقصود هنا مذهب أهل الكوفة أو مذهب مرجئة الفقهاء ، إذ إنه قبل أن تظهر المذاهب الأربعة، عندما كان الأئمة المجتهدون كثيرين كان يقال: أهل الكوفة ، أهل العراق ، لذا قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: وقد كان أهل الشام في عافيةٍ من هذه البدعة حتى أتى بعض أهل العراق.. إلخ؛ لأن الإرجاء ما ظهر في بلاد الشام ، وإنما ظهر في العراق ، فكانت هذه البدعة تنسب إلى الكوفة أو إلى العراق أو إلى الفقهاء، وأحياناً يقال: إرجاء العُباد.
    فلما أصبحت الأمة على أربعة مذاهب مرت فترة من الفترات لا يمكن أن يوجد فيها مسلم إلا وهو ينتسب إلى مذهب، فانحصر القائلون بالإرجاء في مذهب الحنفية، فالإرجاء الذي هو قول الفقهاء انحصر في مذهب الحنفية باعتبار الموضع والأصل، ولأن فقه أهل العراق أصبح هو الفقه الحنفي، أي: فقه أهل الرأي.
    والكلام المنقول عنهم هو أنهم يقولون: إن الإيمان هو اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان. ولا يدخلون عمل الجوارح.
    1. شبهة الحنفية فيما ذهبوا إليه

      وشبهتهم أنهم قالوا: إذا قلنا: إن عمل الجوارح من الإيمان؛ فإنه إذا ترك أحد عملاً من أعمال الجوارح فقد ترك الإيمان، فيكون كافراً، فنكون قد أصبحنا كـالخوارج والمعتزلة ! ولذلك قلنا: إن الأصل الجامع الذي يجمع المعتزلة و المرجئة وكل من ضل في الإيمان هو اعتقادهم أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتركب .. إلى آخره، فإذا جعلناه ثلاثة أجزاء -أي: اعتقاد وإقرار وعمل بالجوارح- وقَصَّر أحد في أعمال الجوارح فمعنى ذلك أنه ترك الإيمان بالكلية؛ إذ لا يتبعض، فإذا انتفى انتفى كله، وإذا وجد وجد كله، ولذا قال الخوارج : هذا هو الصحيح، فلذلك إذا ارتكب العبد كبيرة أخرجوه من الإيمان، وبذلك ضلوا ومرقوا من الدين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله: ( يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ).
      وأما المرجئة -ومنهم مرجئة الفقهاء - فقالوا: كيف نقول: إن الذي يزني أو يسرق أو يشرب الخمر يكون كافراً بالله ورسوله واليوم الآخر؟! فهذا ليس بصحيح؛ إذ قد وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم في عهده زنى ماعز وزنت المرأة الغامدية والجهنية ، وسرقت المرأة المخزومية ومع ذلك لم يخرجوا من الإسلام، فدل على أن صاحب الكبيرة لا يزال من المؤمنين، فقولكم أيها الخوارج باطل، والصواب أن نخرج العمل من الإيمان، فنقول: ما هو من الإيمان.
      وعليه فالإيمان يوجد كاملاً بغير العمل! وهذا مصدر الضلال الذي وقعوا فيه.
      فالشبهة هي أننا لو قلنا: إن العمل من الإيمان لكان من ترك العمل أو شيئاً من الواجبات الظاهرة كافراً؛ لأن الماهية تنتفي بانتفاء جزئها؛ لأنها لا تقبل النقص، فلذلك قالوا: إن الإيمان هو ما في القلب وما في اللسان فقط.
    2. رد أهل السنة على شبهة مرجئة الفقهاء

      ولكن ما سلم لهم هذا القول، وما اطرد لهم، بل اختلفوا فيما بعد حين وقعوا بين قول أهل السنة والجماعة من جهة، وبين قول الخوارج وإلزامهم لهم من جهة، فاضطربوا.
      ذلك أنا إذا قلنا: إن الإيمان اعتقاد بالجنان وقول باللسان فكأن عمل القلب لا يدخل في الإيمان، فنقول لهم: عندما تقولون: هو اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان، هل يدخل في ذلك عمل القلب؟!
      وأهل السنة والجماعة دائماً أذكى الناس وأمهر الناس وأعقل الناس وأفهم الناس، ولا شك في ذلك، لكن قد تبتلى الأمة بوجود من يدافع عن السنة وهو ضعيف، فيُظن أن أهل السنة مخطئون أو مقصرون، والتقصير إنما هو من بعض من ينتسبون إلى السنة، ومع وضوح الحق وظهور الحجة يندحر الباطل، فإذا ضعف أهل السنة قوي أهل الباطل، وإلا فالسنة في ذاتها واضحة، والحق في ذاته واضح جلي.
      فإن قالوا: نحن ندخل كل أعمال القلب في الإيمان؛ فاليقين والإخلاص والتوكل والصبر والإنابة والخشوع والمحبة كلها من الإيمان، والذي نخرجه فقط هو عمل الجوارح؛ قلنا: وهل يعقل أن أحداً يكون لديه اليقين والإيمان والإخلاص والصدق والمحبة والإذعان والانقياد والخشوع ولا يعمل بجوارحه؟! فالتلازم بينهما قوي جداً، فإن قالوا نعم.. أقروا قالوا: يدخل العمل في الإيمان، والتلازم بينهما قوي، ولابد من أن يعمل؛ قلنا: فلم لا تدخلونه؟! فهذا عمل أخرجتم جزءه الظاهر من الإيمان، وأدخلتم جزءه الباطن، فالصلاة تجعلون خشوعها ويقينها وإخلاصها من الإيمان، وتجعلون الحركات من الركوع والسجود خارج الإيمان، فلماذا فرقتم بين ذلك وهي صلاة واحدة؟!
      فيصبح الأمر على هذا الاعتبار كأنه مجرد خلاف لفظي، فحين يقول قائلهم: العمل ليس من الإيمان، لكنه من لوازمه المؤكدة الثابتة، يقال له: قل: هو منه، أي: لا تقل: هذا البناء الظاهر هو من لوازم الأساس الذي يرتبط به ارتباطاً وثيقاً قوياً، بل قل: البناء هو جزء ظاهر، والأساس جزء باطن، وبذلك تكون قد اتبعت السلف وما أخطأت وما تعبت وما أولت.
      وإن قالوا: لا ندخل أعمال القلوب في الإيمان يقال لهم: يلزم من ذلك أن نصبح كـالخوارج ، فكما أنه إذا ترك عملاً ظاهراً يكفر، فكذلك لو ترك عملاً باطناً -كالحياء أو الخشوع- فإنه يكفر فإن قالوا: نحن لا نجعل الإيمان إلا عملاً واحداً من أعمال القلب فقط، وهو الإقرار أو التصديق، ولا نجعله مع ذلك إلا قول اللسان؛ قيل لهم: إذاً أصبحتم -في الحقيقة- مرجئة غلاة، فما بقي بينكم وبين الجهمية والصالحية أتباع الصالحي والأشعرية فرق إلا أنكم تقولون: إن الإقرار باللسان ركن مع ركن التصديق، وهم يجعلونه ركناً واحداً.
      ثم إن الماهية لا تتجزأ ولا تتركب ولا تتبعض، ومرجئة الحنفية جزءوا الإيمان، فجعلوا جزءاً منه اعتقاد القلب، وجزءاً منه الإقرار باللسان، فأصبح جزءين.
      فقال لهم المتكلمون و الأشعرية و الجهمية : أنتم جعلتموه جزأين، فيلزمكم أن تكونوا كـالخوارج ، فإما أن تقولوا: كل الأعمال من الإيمان، وإما أن تجعلوه عملاً واحداً، فاختاروا القول بأن الإيمان هو التصديق فقط، أو الاعتقاد والإقرار القلبي.
  5. بيان مذهب الماتريدية في مسمى الإيمان

     المرفق    
    قال رحمه الله تعالى: (ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركنٌ زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه).
    ليس هذا بصحيح، فـأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه مات ولم يُبحث بعد موضوع الماهيات ويُتكلم ويُخاض فيه، ولكن جاء من نسبوا إليه رسالة العالم والمتعلم كما يسمونها، فقالوا: إن أبا حنيفة يقول ذلك.
    فالشاهد هو أن الحنفية أصبحوا في الغالب ماتريدية، فالرجل منهم يقول: أنا حنفي في الفقه ماتريدي في العقيدة، كما يقول الشافعي: أنا فلان بن فلان بن فلان الشافعي مذهباً، الأشعري عقيدةً، وبعد ذلك ينتسب إلى الطريقة، فيقول: الرفاعي، والنقشبندي... إلخ!
    فأكثر الحنفية مالوا إلى هذا، وبعض الحنفية المشتغلين بالحديث ظلوا على القول الأول، ومنهم الإمام الطحاوي باعتباره محدثاً رحمه الله، وابن أبي العز أيضاً باعتباره يحب السنة وأهلها، وله اطلاع في الحديث، وكذلك بعض المتأخرين ممن ينتسب إلى المذهب الحنفي، وهو من أهل الاطلاع في الحديث، والذي يهمنا كيف نوضح ونبطل ونفند قولهم: إنه ركن زائد وليس بأصلي.
    فنقول: إذا جعلنا للإيمان ركنين فقد عددناه وبعضناه وجزأناه وركبناه... إلى آخره، وهم لا يرون التركيب، بل يرونه جزءاً واحداً فقط.
    وقد تبين لنا أن الماهية لا يمكن أن تكون إلا شيئاً واحداً، ولذلك أولوا كلام أئمتهم، فقالوا: إن أئمتنا -رحمهم الله- يقصدون بقولهم: إنه ركن أي: ركن زائد.
    وبتعبير آخر قالوا: إن الإقرار بالشهادتين إما شطر -أي: أن الإيمان نصفه اعتقاد ونصفه إقرار- وإما شرط، واختار الأكثرون أنه شرط؛ ليتخلصوا من الإشكال؛ لأن الشرط لا يدخل في الماهية، وليس جزءا منها، كشروط الصلاة، فدخول الوقت ليس من الصلاة، بل منفصل عنها، وليس بداخل في ماهيتها، لكنه شرط لصحتها.
    والذي يليق بفقه الإمام أبي حنيفة رحمه الله -وهو الفقيه الذي يحكم ويقضي ويعلم الناس ويفتي الدولة- أنه حين يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة... ) يقول: إن من لم يقر بالشهادة كافر بالتالي فيقاتل قتال الكفر، وهذا هو المنقول في كتب الحنفية في الفروع، لكنهم يؤولون هذا الحديث، فيقولون: ما ذكر فيه شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، ففرق بين أن نقول: إن الإقرار شرط لصحة الإيمان، وبين أن نقول: شرطٌ لإجراء الأحكام الدنيوية!
    فانظر كيف أن الإنسان إذا بدأ يتفلت فإنه يتدحرج ولا يقف عند حد، فما كفاهم أنهم قالوا: الإقرار شرط وليس شطراً حتى دخلوا في متاهة أخرى، فقالوا: إن كان شرطاً لصحة الإيمان فلا يمكن أن يؤمن أحد إلا إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فأقر بلسانه، فعلى هذا يكون الخلاف لفظياً، فليس هناك فرق بين شطر وشرط، المهم أنه لا يصح إيمانه إلا بهذا، كاستقبال القبلة، فلو قال قائل: استقبال القبلة شرط في الصلاة، وقال آخر: ركن؛ فليس هناك فرق في النهاية، فالقضية اصطلاح.
    لكنهم يقولون: لا نريد أن يلزمنا لازم كونه شرطاً في صحة الإيمان، فجعلوه شرطاً في إجراء الأحكام الدنيوية.
    ثم تنازلوا بعد ذلك ولم يقفوا عند هذا الحد، فقالوا: لا يشترط أن يكون أيضاً شرطاً، وإنما هو علامة، فإذا قال المرء: أشهد أن لا إله إلا الله، فذلك علامة على أنه مؤمن بقلبه، وإذا لم يأت بالعلامة يكون عاصياً، وما نقص شيئاً ذا بال! فوصل الأمر بهم إلى أنهم أخرجوا أعمال القلب وأعمال الجوارح من الإيمان، وهذا مذهب خطير، نسأل الله العافية؛ لأن الثابت بالقرآن والسنة وإجماع علماء السلف أن من لم يقر بالشهادتين كافر ظاهراً وباطناً في أحكام الدنيا وفي أحكام الآخرة.
  6. إيراد مرجئة الفقهاء شبهة ورد أهل السنة عليها

     المرفق    
    وقد قال مرجئة الحنفية : لنا عليكم حجة، فقلنا: ما حجتكم؟ قالوا: ما تقولون في الأخرس الذي لا يستطيع النطق؟ قلنا: نحن لا نجبره على أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله؛ لأنه أخرس لا يستطيع النطق. قالوا: إذا سقط الركن، والركن لا يحتمل السقوط، فمتى سقط أصبح مجرد علامة.
    وقالوا كذلك: ما رأيكم في رجل آمن بقلبه ومات فجأة قبل أن يستطيع أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، هل تقولون: إنه كافر؟
    والجواب على هذين الاحتجاجين أن نقول: إن هاتين الصورتين من الأمور الشاذة، فهي استثنائية خارجة عن الأصل، وكلامنا كله إنما هو في حق القادر السوي، ولو أن كل حكم راعينا فيه الحالة الشاذة لما بقي لنا شيء، فإذا قال فقيه: القيام ركن من أركان الصلاة، فقال آخر: وما حكم العاجز؟ فقال: يسقط عنه القيام، فقال: إذاً لا تجعله ركناً؛ لأنه يسقط عن هذا؛ فمعنى ذلك أنه لا يبقى عندنا شيء، حتى الصيام، أليس الله سبحانه وتعالى قد أسقطه عن الكبير والعاجز؟!
    إذاً: فما هو بركن من أركان الإسلام! فنحن نقول: الأصل أن القادر السوي المقيم -إلى آخر هذه الأوصاف- يلزمه الصوم، والصلاة، والنطق بالشهادة، فهذا هو الذي نتكلم عنه، فنحن دائماً نتكلم عن الحالة الأصلية العامة، أما الشذوذ فله أحكام، والاستثناء له حكمه، ولا نناقش فيه ولا نجادلكم فيه، لئلا يعكر علينا الأصل، فاتفقوا معنا على الأصل ونحن نوافقكم في الفرع.
    وأما بالنسبة للأخرس والذي آمن ومات قبل أن ينطق فليست صورة شذوذ، بل هي صور مجرد افتراض؛ لأن الإنسان لو آمن حقيقةً فإنه يستطيع أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وهل يعقل أنه مات بمجرد أن صدق بقلبه؟! وكيف اطلعتم على هذا؟! فهذا شيء لا ينضبط، فهو مجرد افتراض عقلي ذهني، المقصود منه إبطال الأصل.
    وهذا المذهب أصله -في الحقيقة- مذهب الأشاعرة ، لكن الماتريدية أخذوه عنهم، فشهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة علامة عندهم على الإيمان القلبي، أو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية.
    ولاشك في أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ) أنه في الأحكام الظاهرة، لكنَّه يدل أيضاً على تلازم الأحكام الظاهرة والأحكام الباطنة، فهم أخرجوا الباطن وجعلوا هذا مجرد علامة على الظاهر.
    فبعض الناس يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي ويصوم ويزكي ويكون مؤمناً ظاهراً وباطناً، وهذا هو الذي حقق الإيمان، لكن لو أن رجلاً شهد بلسانه وصلى وأدى الزكاة وهو غير معتقد بقلبه؛ فقد عصم دمه ظاهراً، وهذه حالة ليست هي المقصودة في الأصل، لكنها قد تقع، فحسابه على الله وأمره إلى الله في الآخرة، لكن ليس المقصود من الحديث مجرد إجراء الأحكام الظاهرة، بل إنما يؤمر بهذه الأعمال الظاهرة ليحقق معها وبها الأعمال الباطنة التي هي المقصود، كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ))[التوبة:73] فنحن نجاهدهم لأنهم كفار، فنجاهدهم ليكونوا مؤمنين حقاً وصدقاً، فإن لم يفعلوا فحسابهم على الله.
    فالحاصل أن في قولهم رداً لصريح الكتاب والسنة، ولذا قلنا: إن هذا مذهب بدعي، وإن ما ورد من كلام السلف -سفيان و وكيع و سعيد بن جبير و سعيد بن المسيب و يحيى بن سعيد و عبد الرحمن بن مهدي و عبد الله بن المبارك والإمام أحمد و يزيد بن هارون وغيرهم من أئمة السلف- في ذم المرجئة ينصرف إلى هؤلاء؛ لأنهم ردوا صريح السنة، وكذلك دلالة القرآن.
    أما القول بأن الإيمان هو ما في القلب فقط فهو الذي آل إليه الحنفية فيما بعد، وهو مذهب الجهمية ، والجهمية قد أخرجوا من الإسلام.
  7. بيان سبب رد مرجئة الفقهاء النصوص المفسرة للإيمان

     المرفق    
    وسبب ردهم لصريح النصوص -كما في حديث جبريل: ( الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته... )- وشبهتهم في ذلك هو أنه في مبحث التعريف -الذي يسمونه التصورات في المنطق- لا يصح أن تعرف الشيء بنفسه، فلا يقال في تعريف الماء: هو الماء الذي نشرب، فهذا ليس بصحيح، فلهذا قالوا: لا يصح تعريف الإيمان بأنه أن تؤمن، ليس هذا هو المقصود، بل الأصل أن يقال: الإيمان أن تصدق، أو أن تقر؛ لتكون حقيقة الإيمان المنطقية، ولتكون الماهية.
    وقد قلنا: إن هذا الأصل عندنا مرفوض، وهو قولهم في الماهية، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يُسأل عن الإيمان ويجيب، ولم يكن يجيب بجواب أهل المنطق الذين يتكلمون في الماهيات المجردة، ولم يكن يجيب بجواب أهل اللغة، وما كان الصحابة يقولون: يا رسول الله! ما الإيمان في لغة العرب؟ أو: ما الإيمان كحقيقة ماهية مجردة على قواعد أرسطو ، إنما كانوا يسألون عن الإيمان الشرعي الذي جاء به، فيقولون: أنت تدعونا إلى الإيمان، ورسلك أتونا يطلبون منا أن نؤمن، وبلغنا عنك أنك تدعو إلى الإيمان، ففسر لنا الإيمان حتى نؤمن.
    فالمقصود الإيمان الشرعي، فلذلك كان تفسيره: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.. إلخ، فهو الإيمان الشرعي، ولا نتكلم في الإيمان اللغوي ولا في الإيمان المنطقي الذي يبحث في التصورات أو الحدود والتعريفات.
    وإذا كان المنطق هو الذي أدى بهم إلى هذه المسالك؛ فالرد عليه بأحد أمرين: أن نقرر الحق من الكتاب والسنة ونقول: وما عدا هذا باطل، فنحاربه جملةً.
    والمحاربة الأخرى هي الرد، كما رد شيخ الإسلام في كتابه الرد على المنطقيين، وذلك بتفنيد مسائله، وهذا -في الحقيقة- لا يفهمه إلا من درسه، فخيرٌ أن يموت هذا العلم، ولا يبقى من يعرفه إلا المختص الذي يضطر إلى أن يقرأ كتب العقيدة والمقالات والفرق، فهذا الذي يتعلم المنطق، لا ليعمل به أو ليعتقده، لكن يتعلم اصطلاحاته ومسائله لكي يعرف كيف يرد عليها وكيف ينقضها.
    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.