المادة كاملة    
اشتهر عن السلف تفسيرهم للإيمان بأنه قول وعمل، يريدون بذلك قول القلب وهو تصديقه، وقول اللسان وهو إقراره، وعمل القلب وعمل الجوارح، كما نص عليه الأئمة، وتعرضوا له بالبيان، لئلا يظن ظان نقصاناً في تعريف السلف وإخراجاً لعمل القلب وتصديقه عن مسمى الإيمان؛ وذلك كله إنما هو فهم للنصوص الواردة في شأن الإيمان بما يلزم الاقتصار عليه والاكتفاء به والغنية به عن المدلولات اللفظية لهذه الكلمة العظيمة بعد ثبوت بيان الوحي.
  1. مراد السلف بإطلاق القول والعمل في تفسير الإيمان

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد ذكر العبارات السلفية المتنوعة في بيان حقيقة الإيمان، التي زيد فيها على عبارة (قول وعمل).
    (وليس بين هذه العبارات اختلاف)، يعني أن الاختلاف إنما هو لفظي تعبيري فقط، أما من حيث المعنى فكلام السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم كله واحد، ولا يؤدي إلا إلى واحد.
    يقول: (ولكن القول المطلق والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح).
    إذاً: هم لا يقصدون قول اللسان دون قول القلب، ولا يقصدون أيضاً عمل الجوارح دون عمل القلب، فإذا قالوا: قول وعمل؛ فإنما يريدون قولاً باللسان مع قول القلب، وعملاً بالجوارح مقترناً به عمل القلب.
    يقول: (فقول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد، كقوله تعالى: (( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ))[الفتح:11]) فلا يطلق عليه القول إلا مقيداً؛ لأن الإنسان إذا قال قولاً فالأصل أن يكون هذا القول باللسان معبراً ومطابقاً عما في القلب حقيقة، لكن قد ينفصلان، فيقول الإنسان قولاً والقلب بخلافه، وهذا حال المنافقين. ويتقابل في هذا الكرامية و الجهمية ، فـالكرامية يقولون: إن الإيمان هو القول باللسان فقط دون قول القلب ودون عمل القلب، والجهمية -وتتبعهم الأشاعرة - جعلوا الإيمان هو المعرفة أو التصديق بالقلب فقط، وهذان قولان متقابلان، فالسلف الصالح لا يريدون هذا ولا ذاك، وإنما إذا قالوا: (قول) فإنما يقصدون به قول القلب وقول اللسان؛ لأن الظاهر والباطن متلازمان عند أهل السنة والجماعة ، وعند أهل العقول السليمة لا بد من أنه إذا تحقق الظاهر يتحقق الباطن، وإن كان في الواقع -كما هو حال المنافقين- قد يفترقان، لكن من حيث الشرع لا بد من أن يتطابقا.
    ومن الأدلة على ذلك حديث جبريل عليه السلام، ففيه دلالة على ضرورة تلازم الظاهر والباطن، فقوله: ( أتاكم يعلمكم دينكم ) يقصد به المراتب الثلاث، وأما كونه ظاهراً وباطناً فلأن أركان الإيمان أعمال باطنة، وأركان الإسلام أعمال ظاهرة، ولا يمكن لأحد أن يصلي ويصوم ويحج وهو غير مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولا يمكن لأحد أن يترك شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة والصيام والحج ثم يقول: أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
    فهما متلازمان، لكن عمل القلب أفضل وأعلى، فأصل الدين وأصل الإيمان هو ما في القلب، وهو الإيمان الباطن.
    قال رحمه الله تعالى: (وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين التي لا يتقبلها الله، فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر).
    ثم قال: (وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح) يعني من قال من العلماء ومن السلف: إن الإيمان هو هذه الثلاثة: اعتقاد بالقلب وقول باللسان، فقد (جعل القول والعمل اسماً لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب) وهو الإيمان الباطن، فقال: يضاف إلى إقرار اللسان وإلى عمل الجوارح اعتقاد بالجنان، أي: الإيمان الباطن، بمعنى أنه لا بد من أن يدخل في قوله: (اعتقاد القلب) أعمال القلوب، فالاعتقاد هنا لم يعد وفق التقسيم الرباعي خاصاً بالقول فقط أو بالإقرار فقط، بل على التقسيم الثلاثي يكون قولهم: (اعتقاد بالقلب) شاملاً للعمل الباطن كله، أي: شاملاً لقول القلب الذي هو إقراره وتصديقه، ولأعمال القلب أيضاً.
    قال: (ولا بد أن يدخل في قوله (اعتقاد القلب) أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل حب الله وخشية الله والتوكل على الله ونحو ذلك).
    فلا يظن بالسلف الصالح والفقهاء من العلماء الذين ذكروا هذه العبارة إلا هذا، وأنهم غير خارجين عن القسمة الرباعية، لكنهم لما ظنوا أن القول والعمل إنما هو القول الظاهر والعمل الظاهر جعلوا الثالث هو الاعتقاد الباطن، فهو شامل لقول القلب وعمله.
    ثم قال: (فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها)؛ لأن أصل الإيمان إنما يكون في القلب، وهو مكان كتب الإيمان، كما قال تعالى: (( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ))[المجادلة:22].
    فمحل الإيمان في الأصل هو القلب، فإذا كتب في قلب أحد أثمر قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح، ومن هنا ضل وأخطأ الأشاعرة وقبلهم الجهمية حين ظنوا أن التأكيد على أهمية القلب وعلى أنه محل الإيمان معناه أن العمل الظاهر وأن قول اللسان ليس من الإيمان، فنقول: هذا لا ينافي ذلك، فالأصل لا شك في أنه هو القلب، لكن هذا لا ينافي ما يلازمه من العمل بالجوارح، فمن قال من السلف: إن الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح.
    وقد ذكر المعلق في هامش كتاب الإيمان فقال: (وعلى هامش النسخة الهندية: وقول القلب: هو إقراره ومعرفته وتصديقه، وعمله: هو انقياده لما صدق به) وهذه الزيادة مهمة توضح المقصود، أي: تفرق بين قول القلب وعمل القلب، فقول القلب هو الإقرار، وعمل القلب: هو الإذعان والانقياد لما أقر به.
    فمن حصل منه مجرد الإقرار ولم يأت بالإذعان فإنه لا يكون مؤمناً كما في حديث الحبرين من اليهود ، فإنهما لم يذعنا ولم ينقادا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن شهدا بقلوبهما وألسنتهما بأنه حق، فمن لم يحمله هذا القول وهذه الشهادة -وإن كانت صادقة في الباطن- على الانقياد والإذعان فليس بمؤمن.
    فهناك نسبة -كما يقول المناطقة وأشباههم- وهناك عمل يترتب عليها، فنسبة الخبر إلى الصدق أمر، ولكن لا بد من أمر آخر، وهو إنفاذ وامتثال مضمون الخبر، والعمل بمضمون الخبر، فلا يكفي مجرد هذه النسبة -وهي: اعتقاد صدق المخبر- في إثبات الإيمان، فالرجل الذي يكتفي باعتقاد أن القرآن حق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حق وصادق، ولم يزد على ذلك الانقياد والامتثال لهذا الحق والعمل به لا يكون مؤمناً، ولا يعد في حساب المؤمنين.
    ولهذا إذا وجدنا كلاماً لأحد المستشرقين يثني فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن وعلى الإسلام وعلى حضارته وعلى علومه، وأقر فيه بأن هذا الدين حق وأنه وحي وأنه من عند الله، وما ترك ما هو عليه؛ فإنه يعد كافراً ظاهراً وباطناً، وليس في هذا شك؛ لأنه لم يقل ذلك على سبيل الانقياد والإذعان، وإنما هو صادق في القول عندما قال: هذا الدين حق، فهو صادق في التعبير عما في نفسه، لكن هذا الصدق في القول لم يتبع الانقياد والإذعان والامتثال، فلا يعد إيماناً بأي حال من الأحوال. ‏
    1. تفسير ابن القيم لمعنى القول والعمل في الإيمان

      ونذكر هنا كلاماً لـابن القيم رحمه الله تعالى في عدة الصابرين حيث يقول: (الإيمان قول وعمل، والقول قول القلب واللسان، والعمل عمل القلب والجوارح)، فهذه زيادة في الإيضاح، (وبيان ذلك أن من عرف الله بقلبه ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمناً، كما قال عن قوم فرعون: (( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا ))[النمل:14]، وكما قال عن قوم عاد وقوم صالح عليه السلام: (( وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ))[العنكبوت:38])، أي أن طريق الحق وطريق الباطل واضحان.
      قال: (وقال موسى لفرعون : (( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ))[الإسراء:102]) وهذا تأكيد على أن كثيراً من الكفار من ناحية الاعتقاد الداخلي في أنفسهم يعتقدون أن الأنبياء حق، وأن الله حق، وأن الدين حق.
      يقول: (فهؤلاء حصلوا قول القلب وهو المعرفة والعلم، ولم يكونوا بذلك مؤمنين، وكذلك من قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمناً، بل كان من المنافقين) وقد ذكر الله تعالى ذلك فقال: (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ))[المنافقون:1]، فهذه الشهادة لم تنفعهم؛ فالله تعالى قال: (( وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ))[المنافقون:1] فالمسألة حق: (( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ))[المنافقون:1] أي: في قولهم: (إِنَّكَ لَرَسُولُهُ)، فكونك رسوله حق، لكنهم كاذبون في قولهم: (نَشْهَدُ)؛ لأنهم في الحقيقة لا يشهدون شهادة المقر المذعن المنقاد، فالقضية صحيحة لا شك فيها، وهي كونه صلى الله عليه وسلم رسول الله، لكن المنافقين كاذبون في دعواهم أنهم يشهدون شهادة الإيمان التي يريدها الله ويثيب صاحبها، ودعا الناس إليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يدعهم لمجرد الإقرار بأنه نبي، وإنما دعاهم إلى اتباعه وطاعته والانقياد لما جاء به من عند الله تبارك وتعالى.
    2. بيان ابن القيم انتفاء الإيمان بانتفاء عمل القلب

      يقول: (وكذلك من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمناً حتى يأتي بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة).
      وهنا تتضح أهمية الحب والبغض والموالاة والمعاداة، وهي مسألة عظيمة جداً؛ لأن من قال: أشهد أنك رسول الله، أو: أشهد أن القرآن حق؛ فلا بد له من أن يحب هذا الدين ويحب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحب القرآن، وهذا الحب يثمر العمل والامتثال، وفي نفس الوقت يبغض ويكره ما يخالف هذا الدين، فلا بد من أن يتبرأ مما عليه اليهود و النصارى والمشركون وأهل كل ملة تخالف هذا الدين، ولا بد من أن يوالي وأن يعادي، فيوالي المؤمنين الذين بقوله هذا أصبح واحداً منهم، ويحبهم ويقدمهم ويفضلهم، ويعادي ويبغض الكافرين والجاحدين والمارقين، فهذا أمر لا بد منه.
      فلو أن أحداً ادعى الإيمان ولكن لم يكن لديه حب للإيمان على الحقيقة وبغض للكفر، ولم يكن لديه موالاة للمؤمنين ولا بغض للكافرين؛ فهذا لا يكون مؤمناً، ومن كان الناس عنده سواء المؤمن والكافر، والأديان عنده سواء الإسلام وغير الإسلام؛ فهذا لا يكون مؤمناً أبداً، وإن كان في نفسه لا ينكر الإسلام، ولا ينكر الدين، ولا ينكر القرآن.
      والنماذج على هذا قديماً وحديثاً كثيرة، ومن ذلك كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن التتار، حين أفتى بوجوب قتال التتار؛ لأن الناس -كما ذكر ابن كثير رحمه الله- اختلفت وهاجت واضطربت، فقد كانوا يقولون: كيف نقاتل هؤلاء التتار وقد أعلنوا دخولهم في الإسلام، وقازان ملكهم يقول: أنا مسلم، وعنده في جيشه الأئمة والوعاظ والمؤذنون، وبعض الجيش يصلون؟! فاحتار الناس؛ لأن قازان كان يحكم العراق ، فأراد أن يحارب أهل الشام ، فاحتار العلماء على أي وجهٍ يخرجون لقتال قازان ومن معه، أهو قتال الخوارج أم قتال البغاة أم قتال المحاربين؟ وماج العلماء واضطربوا، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى كلاماً عظيماً ونفيساً في البداية والنهاية في جمع الله تعالى شمل الأمة على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية .
      فالفتن دائماً مؤداها الاضطراب إلا من رحم الله، لكن القول البين هو قول أهل العلم والإيمان الذي يشفي الصدور ويذهب الفتنة ويزيل الغبش.
      فأفتى شيخ الإسلام رحمه الله بأنهم يقاتلون من جنس قتال المرتدين، وذكر ما قاله الفقهاء في قتال الطائفة الممتنعة عن شيء من شعائر الإسلام، ثم أخذ يعدد أحوال هؤلاء التتار ومن الأمثلة على ذلك: أن غاية ما في الأمر عندهم أنهم يقولون: إن هذا الدين حق، أو: إن هذا الدين عظيم وجليل، وذكر عبارتهم المشهورة عن ملكهم أنه يقول: رجلان عظيمان: محمد وجنكيزخان ، فهذا مبرر وموجب لأن يقاتلوا قتال ردة، فليسوا بمسلمين.
      ولو طبقنا كلام ابن القيم رحمه الله لوجدنا أن هذا ما أحب حقيقة الحب ولا أبغض، فالموالاة والمعاداة والحب والبغض التي هي من أعمال القلب ما جاء بها من قال هذا القول ومن اعتقده؛ لأنه كان يجب عليه أن يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، ويتبرأ من جنكيزخان ، وأن يحب المؤمنين ويواليهم، ويتبرأ من المشركين، أما أن يكون في جيشه مشركون، وبعض أتباعه نصارى وبعضهم وثنيون، ثم يقرن بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين جنكيزخان ، فهذا كفر صريح، فأصبح الوضوح في المسألة ماثلاً أمام الناس بعد كلام شيخ الإسلام هذا.
      فكثير من قضايا التكفير أصلها مبني على معرفة حقيقة الكفر وحقيقة الإيمان، فإذا عرفت حقيقة الكفر وميزت عن حقيقة الإيمان اتضح الكافرون من المؤمنين، واستبانت سبيل المجرمين، ولذلك فإن من يفتخرون بالحضارات القديمة، ورجال التاريخ القديم من الفراعنة والآشوريين والفينيقين، ثم يفتخرون إلى جانب ذلك بالفتح الإسلامي والحضارة الإسلامية، ويقولون: هذا حق وهذا حق، وهذه حضارة وهذه حضارة، وهم مثل هؤلاء التتار، فهم في الحقيقة لم يأتوا بعمل القلب من حب وبغض وموالاة ومعاداة.
      وكذلك من يزعمون أهمية الحوار أو التقارب والتعاون والعلاقة بين المسلمين وبين النصارى ، كما في فترة من الفترات، حيث كانوا يقولون: إن وجود مسجد عمر في القدس إلى جانب الكنيسة دليل على التجانس والتقارب والأخوة والتسامح بين الدينين: الإسلامي والمسيحي، فمن قال هذا واعتقد هذا فهو -في الحقيقة- ما شهد أن لا إله إلا الله وما شهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا برئ من أي دين يخالف دين الإسلام.
      فالأمر -في الحقيقة- خطير جداً؛ لأنه ليس مجرد فساد في عمل من أعمال الإيمان، وإنما هو فساد في أصل الإيمان وأصل الدين، ومهما تعبد العبد بعد ذلك فلن ينفعه عمله، كما قال تعالى: (( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ))[الفرقان:23]، فلا يقبل الله تبارك وتعالى ممن يعتقد الباطل ولم يحقق إيمانه كما أمر صرفاً ولا عدلاً.
      لذلك قال ابن القيم رحمه الله: (وكذلك من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمناً حتى يأتي بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة، فيحب الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداءه، ويستسلم بقلبه لله وحده، وينقاد لمتابعة رسول الله وطاعته والتزام شريعته ظاهراً وباطناً) ولا يخلط بها شريعة أخرى وأفكاراً أخرى: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ))[الأحزاب:36]، فإذا قال الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم: هذا حق، أو: هذا حلال، أو: هذا حرام، أو: هذا باطل، أو: هذا ضار، أو: هذا نافع؛ فلا كلام لأحد بعد ذلك أبداً، ولو كان إماماً أو عالماً مجتهداً، فلا يجوز أن نقول: إن هذا الأمر قد حرمته الشريعة ولكن القوانين الوضعية تبيحه! فالمسألة دائرة بين الأمرين، وكأن القضية فتوى بين حكم الله وحكم غيره، وقد قال تعالى: (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ))[المائدة:50].
      فالمسألة بين أمرين: إما حكم الله وإما حكم الجاهلية، إما الحق الذي أنزله الله وإما أهواء باطلة: (( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ))[المائدة:49]، فكل ما عدا ما أنزل الله من اجتهاد واستنباط أهواء لا تتبع ولا ينظر إليها، وهي حكم الجاهلية، وهي التحاكم إلى الطاغوت، وهي الكفر فلا بد من تجريد الولاء في الاتباع والالتزام بالشريعة ظاهراً وباطناً، حتى يكون الإنسان مؤمناً حقاً.
      يقول: (وإذا فعل ذلك لم يكف في كمال إيمانه حتى يفعل ما أمر به)؛ لأن هناك أصلاً للإيمان، ثم يكمل هذا الأصل بالإيمان الواجب، ثم يكمل بالإيمان المستحب.
      فالمقصود هنا الكمال الواجب، فإذا انقاد واستسلم وأذعن بقلبه؛ فإنه لا يمكن أن يكون قد أتى بالإيمان الواجب إلا بأن يفعل ما أمر به ويكف عما نهي عنه.
      يقول: (فهذه الأركان الأربعة هي أركان الإيمان التي قام عليها بناؤه)، فهي أركان أربعة لأن القول قولان والعمل عملان.
    3. بيان ابن القيم لظاهر الإيمان وباطنه

      ويقول في كتاب الفوائد: (الإيمان له ظاهر وباطن) فعلاقة الظاهر بالباطن مهمة جداً (وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر بلا باطن له وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية)، فالإيمان الظاهر نفعه وفائدته في الدنيا فقط؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله )، فالسرائر عند الله، وفي الحديث الآخر: ( من صلَى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا )، فالأحكام الظاهرة في المناكحة وفي المواريث وفي المعاملة بين الناس نعامله فيها معاملة المسلم، لكن هذا وإن نفع في الدنيا لا ينفع عند الله تبارك وتعالى ما لم يكن عن إيمان صادق وإخلاص في القلب، فلا ينفع الظاهر الذي لا باطن له عند الله تبارك وتعالى.
      قال: (ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر لعجزٍ أو إكراه وخوف هلاك)، بمعنى أن من قال: أنا مؤمن، وقلبي -والحمد لله- ممتلئ بالإيمان، وأنا مقر بما جاء من عند الله فلابد له من أن يأتي بالعمل الظاهر، ويسقط العمل الظاهر في هذه الحالات: الخوف أو الإكراه أو العجز، أما في غير ذلك فلا بد من أن يأتي به العبد ليكون مؤمناً.
      يقول: (فتخلف العمل ظاهراً مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته)، يعني: أن المعيار هو العمل الظاهر، ولهذا نجد في الأمثلة التي ضربها الله تبارك وتعالى للإيمان في القرآن أن المقصود بها الدين أصوله وفروعه، كقول الله تبارك وتعالى: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ))[إبراهيم:24-25]، فنفهم من هذا المثال حقيقة الإيمان وحقيقة تلازم الظاهر والباطن، وبهذا يظهر فساد من خالف أقوال أهل السنة والجماعة ، فالماء الذي يمد الشجرة والمطر الذي ينزل من السماء فيغذي به الله تبارك وتعالى الأرض ويخرج به الأشجار والزروع حدائق ذات بهجة ألواناً شتى شبيهه القرآن منذ أنزل الله تبارك وتعالى الوحي من السماء وجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة، فتسقى شجرة الإيمان بالقرآن وبالسنة وبالعلم بما أنزل الله تبارك وتعالى، فتنبت الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، فهي عالية لأنه كلما ثبتت الجذور وقويت وامتدت إلى المنابع في الأرض علا ظاهرها وعلت أغصانها وامتدت فروعها في السماء يميناً ويساراً وإلى العلو حتى تكبر وتنمو، فيتفاضل الشجر -كما يرى الناس جميعاً- في هذا تفاضلاً كثيراً، فالشجر من جنس واحد يتفاضل، فبعضه ينمو ويكبر ويشتد لأن جذوره متأصلة، فهذا المثال مثال الإيمان، فالأعمال الظاهرة هي الجذع والأغصان، والأوراق والفروع الصغيرة هي كمالات الإيمان، وشهادة أن لا إله إلا الله حقاً والإيمان الباطن حقاً وما في القلب من المحبة واليقين والإخلاص والنية الصادقة والانقياد كالجذور تحت الأرض، فالإنسان لا يرى جذور الشجر كما هو معلوم، وإنما يرى الشجرة من خلال الظاهر.
      والعجيب أن كثيراً من الناس اليوم يقال له: إن إيمانك يتمثل في محافظتك على ما أمر الله به من صلاة الجماعة، وفي مظهرك وتمسكك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أخلاقك وفي كلامك وفي ألفاظك وفي تعاملك، وفي سائر الأمور الظاهرة من الواجبات والمستحبات، فأين هذا في حياتك؟! فإنه يجيب ويقول: الإيمان في القلب فقط.
      فالمنافقون يحسبون أنهم على شيء، ويستدلون على ذلك بهذا الشيء الظاهر الذي لا ثمرة له، ولا طعم له ولا رائحة؛ لأنه ليس له في الحقيقة صفة الإيمان.
      أما المؤمن الحق فإنه كلما ازداد ارتواءً من هذا الدين ومن التقوى ترعرعت الشجرة فأنبتت من كل زوجٍ بهيج، واستظل في ظلالها وأخذ من طيب ثمارها، وبقيت كذلك حتى يأذن الله تبارك وتعالى.
      فالمقصود أن هذا المثال الذي يوضح علاقة الظاهر بالباطن يدحض الادعاء بوجود باطن لا ظاهر له، فهذا ادعاء مخالف للحقيقة إلا في حالة عجز أو إكراه، فهذه الحالة مثالها مثال شجرة بدأت في النمو، غير أن شخصاً أتى بحجر كبير فوضعه فوقها، فهو الذي أعاقها وهو الذي منعها من النمو، فإذا أزال الحجر نبتت وخرجت، فهذا عامل خارجي، لكن الشجرة في الحقيقة موجودة، وكذلك الإيمان في حالة العجز أو الخوف أو الإكراه.
      فـأهل السنة والجماعة عندما قالوا: الإيمان قول وعمل عبروا بعبارة دقيقة وصائبة وصحيحة ومتسقة مع الفطرة والعقل السليم، فالإنسان -في الحقيقة- هو ظاهر وباطن، والإيمان إنما هو ظاهر وباطن، فالباطن قول القلب وعمله، والظاهر هو قول اللسان وعمل الجوارح، والإنسان في الحقيقة هو جسد وقلب، فالقلب فيه الإيمان الباطن، والجسد -ومنه اللسان- فيه الأعمال الظاهرة، فهكذا يتضح لنا ذلك مع هذا المثال البشري.
      فتشهد الشواهد الفطرية والحسية والواقعية بأن الدين وأن الإيمان هو قول وعمل، وأنه ظاهر وباطن، ولا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر، وعلى هذا تكون العبارة حقاً ولا غبار عليها ولا مخالف لها من السلف، حيث إنها منقولة عنهم في كلام البخاري رحمه الله وغيره، منقولة عن الأثبات الثقات، فـالبخاري رحمه الله نقلها عن أكثر من ألف شيخ، فكيف بغيره؟!
      ثم إنه إذا قيل: إن هذه العبارة قد تفهم خطأ فيظن أن القول والعمل هو الظاهر فقط، فالرد على ذلك أن الظاهر والباطن متلازمان، وأي فهم خاطئ يرد على هذه العبارة يمكن أن يرد على العبارة الثلاثية، أو على غيرها من العبارات.
    4. بيان الحافظ ابن حجر معنى كون الإيمان قولاً وعملاً يزيد وينقص

      ويزداد الكلام وضوحاً بكلام عالم بحر علامة فهامة لا يمكن أن يجادل أحد في علمه وتبحره وسعة اطلاعه، وهو الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، فالحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري شرح قول البخاري رحمه الله عن الإيمان: وهو قول وعمل يزيد وينقص، فقال: (فأما القول فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح؛ ليدخل الاعتقاد والعبادات، ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى)، فالقول هو نطق الشهادتين، وهذا لا إشكال فيه، وأما العمل فيقول: (المراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح؛ ليدخل الاعتقاد والعبادات)، لكنه لما لم يتفطن لحقيقة معنى كلام السلف قال: (مراد من أدخله أو من نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله)، بمعنى: النظر إلى المآل وإلى أحكام الآخرة.
      قال: (فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان).
      فـالحافظ رحمه الله أراد أن يشرح عبارة (قول وعمل) فشرحها بالعبارة الثلاثية، فالتبس عليه الأمر بين الكلمتين.
      قال: (وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله)، أي: أرادوا بقولهم: اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، أن الأعمال شرط في كماله، وهذا أول مدخل لخطأ كبير.
      ثم قال: (ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص) يعني قول السلف: الإيمان يزيد وينقص؛ لأنهم اعتبروا الأعمال شرطاً في كمال الإيمان، والأعمال تزيد وتنقص، لكن إذا قال: لا إله إلا الله، فهذا قول لا زيادة فيه ولا نقص، وإذا اعتقد بقلبه فكذلك الاعتقاد ليس فيه زيادة ولا نقص، هذا في نظر الحافظ رحمه الله، فوقع فيما قرره المرجئة -ومنهم مرجئة الفقهاء - وهو لا يشعر؛ لأنه جعل الأعمال هي أعمال الجوارح فقط أولاً، ثم جعلها شرط كمال فقط، وقال: (وبناءً على ذلك قالوا: إن الإيمان يزيد وينقص)، ففسر كلام السلف بالزيادة والنقصان بهذا الاعتبار فقط.
      قال: (والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط) وهو بهذا يعني مرجئة الفقهاء ؛ لأنه لا بد من أن يفرق بينهم وبين الغلاة.
      قال: (والكرامية قالوا: هو نطق فقط، والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد ومعهم كذلك الخوارج)، فكأن كلام الخوارج والمعتزلة هو كلام السلف.
      ثم قال الحافظ رحمه الله: (والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته) وهنا وقع في خطأ كبير، فهو يقول: إن الخوارج و المعتزلة جعلوا الأعمال شرطاً في صحة الإيمان (والسلف جعلوها شرطاً في كماله، وهذا كله -كما قلنا- بالنظر إلى ما عند الله تعالى) وهذا أيضاً من أسباب الخطأ كذلك، فلو أنه قال: فالنظر إلى حقيقة الإيمان بغض النظر عن المعين منه ما وقع في هذا رحمه الله، لكنه قال: إنه بالنسبة إلى ما عند الله، وهو بهذا يعني أحكام الآخرة.
      قال: (أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط)، وأحياناً يؤتى العالم على فضله وعلى سعة علمه من مثل هذا الفهم.
      قال: (فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بالكفر) مع أن الحافظ نفسه من أكبر علماء الحديث الذين يجمعون الطرق، ألم يشرح حديث: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلا الله ) وغيره؟! فهل اكتفى صلى الله عليه وسلم بالإقرار أم قال: ( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) ؟!
      فالعمل مطلوب هنا ومطلوب هنا، فانظر كيف وقع رحمه الله!
      قال: (فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم بكفره إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره، كالسجود للصنم):
      إذاً: لا نحكم بكفر أحد إلا إذا عمل عملاً مكفراً، كالسجود للصنم، أما إذا أتى بالإقرار فقط ولم يأت بعمل الجوارح -إذ عمل الجوارح ما هو إلا شرط كمال- فإنه -في الحقيقة- يعد مؤمناً، ولا نحكم بكفره إلا إذا رأيناه يعمل عملاً من أعمال الكفر التي لا تحتمل التأويل، كأن نراه يسجد للصنم!
    5. تعقب كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله

      وهذا الكلام يهدم فصولاً كثيرةً، فلو أن أحداً قرأ كلام الحافظ رحمه الله وفقهه لرد كل ما تقدم من كلام السلف وإجماعهم وشرحهم وقولهم بحقيقة الإيمان، والحافظ رحمه الله قال في أول كلامه: (السلف قالوا: الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان)، فجعله ثلاثة أركان، ثم تناقض فجعله ركنين وشرطاً، وكأنه أراد أولاً أن يقول: إنه ركنان وشرط، ثم في النهاية جعله ركنين وشرط كمال فقط حتى يتخلص من مسألة التكفير.
      ويمكن أيضاً أن يفهم من كلامه أن الفرق بين المرجئة والسلف أن المرجئة قالوا: اعتقاد ونطق، والسلف قالوا: اعتقاد ونطق وعمل.
      فالفرق بينهم أن السلف زادوا العمل، ولما زادوه جعلوه شرط كمال، هذا الفرق بين السلف والمرجئة عند ابن حجر على كلامه رحمه الله.
      ثم جاء في المشكلة الأخرى يريد أن يتخلص من مشابهة السلف للخوارج والمعتزلة ، فهؤلاء قالوا: نطق وعمل واعتقاد، وهؤلاء قالوا: نطق وعمل واعتقاد، فما المخرج؟
      يقول: إنه شرط عند الجميع، وذلك حتى لا يدخل في الماهية، ولكنه عند المعتزلة و الخوارج شرط صحة، فلا يصح الإيمان إلا بالعمل، أما السلف فالعمل عندهم شرط كمال، فيمكن أن يكون الإيمان من غير عمل؛ لأنه مجرد كمال، وإذا كان شرط كمال فهو يزيد وينقص، فما وقع من زيادة أو نقص ففي شرط الكمال وليس في ذات الماهية.
      وهذا كلام يخالف كل ما قد تقدم من الشرح، ولو نظر أحد من الناحية المنطقية نظرة عقلية مجردة لوجد أن تعريف السلف بهذه الطريقة -في الحقيقة- هو أقل الثلاثة حظاً من النظر العقلي؛ لأن المرجئة لما قالوا: هو القول والإقرار جعلوه ركنين، والمعتزلة جعلوه ثلاثة أركان، أما أن يكون التعريف الذي قاله السلف ركنين وشرطاً فهذا فيه غرابة.
      والصواب أن عبارة السلف: (الإيمان قول وعمل) فهمها الصحيح أن تفهم بالتقسيم الرباعي، فهي تشمل القول الظاهر والباطن، والعمل الظاهر والباطن، ومن فهم غير ذلك فإنه لا بد له من أن يخطئ ويرتبك ويخالف النصوص، ويقع فيما وقع فيه هذا الإمام الحبر العلامة رحمه الله على سعة علمه، فهذا عندما يتكلم في أي باب من أبواب العلم تجده بحراً، بل إنه لما تكلم في موضوع الإيمان جاء بالكلام الذي تم إيراده أو بكثير منه، وبالكتب التي ذكرته، ونقل الإجماعات التي سبقت، لكنه رحمه الله تابع شراح الحديث الذين يعتقدون العقيدة الأشعرية ، وكثير من المتأخرين يعتقدون ذلك، ومنهم القاضي عياض و النووي في شرح صحيح مسلم ، وكذلك ابن بطال وغيرهم، فـابن حجر رحمه الله مع سعة علمه وفضله وتعمقه واطلاعه على السنة وافق هؤلاء واتبع كلامهم، وظن أنه بتخريجه هذا قد أتى بقاعدة صحيحة وسليمة، ولم يبق أي مدخل أو منفذ لأن ينتقد مذهب السلف أو يطعن فيه بأي وجه من الوجوه.
  2. تقرير ارتفاع الحاجة إلى البيان اللغوي بعد بيان الوحي

     المرفق    
    قد يقول قائل: ما تقولون فيمن قال: الإيمان إقرار وعمل، أو تصديق وعمل؟ ما المراد بالإقرار؟ وما المراد بالتصديق؟
    والجواب: أنه قد ورد عن بعض السلف أن الإيمان تصديق أو إقرار مع العمل؛ ولا بد من معرفة التصديق في الكتاب والسنة وكلام السلف في لغة العرب.
    والحقيقة المقررة المهمة التي لا ينبغي أن تغيب عن الأذهان هي أن أي تعريف لأي أمر من أمور الدين يأتي في القرآن أو في السنة بلفظه وبيانه لا نحتاج معه إلى اللغة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله ليعلمنا الإيمان والدين بين ذلك ووضحه، فـجبريل عليه السلام -وهو الرسول الملكي- جاء بنفسه إلى الرسول البشري صلى الله عليه وسلم فقال له: ( أخبرني عن الإيمان؟ ) يعني: ما حقيقته؟ وما شرطه؟ وما معناه؟ وما حده؟ فبينه النبي صلى الله عليه وسلم.
    فمع هذا البيان لا يحتاج إلى أن نقول: الإيمان في لغة العرب كذا، ولا بد من أن نفسر ما جاء في الشرع عن الإيمان بلغة العرب، فإما أن نقول: لا ننظر إلى اللغة ولا نحتاج إلى أن نستشهد بها مطلقاً، وإما أن نقول باعتبار آخر: إنه يمكن أن ننظر إلى اللغة ونقول: الإيمان في اللغة كذا، لكن الشارع الحكيم نقل المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي.
    ومثال ذلك الصلاة، فهي في كلام العرب الدعاء، فإذا جاء أحد فقال: إذا كانت الصلاة هي الدعاء؛ فنحن نعرف الصلاة الشرعية بأنها الدعاء؛ لأنها كذلك في لغة العرب؛ فإنا لا نقبل منه ذلك.
    وكذلك الحج، فهو في لغة العرب مجرد القصد، والعمرة في لغة العرب هي الزيارة، والزكاة في لغة العرب هي النماء، لكننا نجد في الشرع أن الحج أعمال كثيرة مختلفة، وأن العمرة أعمال مخصوصة معينة، والزكاة إخراج مبلغ مخصوص في زمن مخصوص لطائفة مخصوصة.
    فكذلك الإيمان، فالإيمان في لغة العرب هو مجرد التصديق كما يقول القاضي الباقلاني إمام الأشعرية الكبير في كتاب التمهيد ، يقول: الإيمان هو التصديق، ودليل ذلك اللغة؛ فإن الناس يقولون: فلان يؤمن بالبعث أي: يصدق.
    ونقول: لماذا تقول: إن الناس يقولون، ولا نكتفي بكون النبي صلى الله عليه وسلم قال لـجبريل كذا؟! فالإيمان واضح في القرآن وواضح في السنة، ولو كان في اللغة كذلك، فإنه في الشرع قد انتقل إلى معنى آخر.
  3. إثبات مجيء التصديق بمعنى العمل والامتثال

     المرفق    
    فالتصديق في لغة العرب -كما هو في الكتاب والسنة، وهما الأساس- ليس مجرد اعتقاد صدق المتكلم، أي: أن ننسبه إلى الصدق، بل يطلق على العمل أيضاً، وعلى التنفيذ وعلى تحقيق الشيء وامتثاله، والدليل على ذلك قول الله تعالى: (( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ))[الصافات:104-105] أي: نفذتها وامتثلتها وعملت بها.
    فعندما نقول: فلان صدق الدين؛ فالمعنى أنه عمل به.
    فالله تبارك وتعالى أمر إبراهيم عليه السلام أن يذبح ابنه، ورؤيا الأنبياء حق، فأخذ إبراهيم عليه السلام ابنه وقال له: (( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ))[الصافات:102]، فالمسألة عمل وتنفيذ، لا أنه صدق بها بمعنى: آمن بأنها رؤيا حق، إنما امتثلها فقال ذلك لابنه، ووافق ابنه على الذبح فقال: (( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ))[الصافات:102].
    فقوله تعالى: (( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ))[الصافات:105] معناه: حققتها وحولتها إلى واقع، وهذه حقيقة التصديق، فمفهوم التصديق أيضاً هو العمل والتحقيق والإنفاذ، والمقصود من هذا العمل الذي أراده الله من إبراهيم هو أن يمتثل أمر الله لا أن يذبح ابنه، فلو أراد الله حقيقة الذبح لفعل، وإنما أراد حقيقة الامتثال، وكذلك قول الله تعالى: (( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[الزمر:32-33] والذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه وسلم، والصدق هو الدين والإيمان كله، ومعنى: (وصدق به) أي: اعتقده وعمل به، وأخذه ظاهراً وباطناً قولاً وعملاً، ولهذا قال مجاهد : الصدق هو القرآن، والذي صدق به المؤمنون.
    قال ابن كثير رحمه الله: (وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين؛ فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به)، فالمؤمن مصدق؛ لأنه يقول الحق، ويعمل به، ولهذا لما بين الله حال المنافقين حذر المؤمنين من حالهم، فقال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ))[التوبة:119] ليخرج بذلك المنافقون الذين ذكرهم في السورة التي تتحدث كلها عن المنافقين الذين يدعون الإيمان كذباً، فأرشد الله عباده المؤمنين وخاطبهم بقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ))[التوبة:119]، أي: لا تكونوا كأولئك الذين لم يصدقوا ولم يخلصوا دينهم لله وهم المنافقون.
    وكذلك قوله تبارك وتعالى: (( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ))[الذاريات:5] أي: واقع متحقق لا محالة، فالصدق أيضاً يأتي بمعنى التحقق والوقوع وكذلك قول الله تبارك وتعالى: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ))[البقرة:177] إلى أن قال تعالى: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ))[البقرة:177]، فهذه الآية تدل على أنهم صدقوا بأن قالوا وعملوا، فكانوا بذلك صادقين ومصدقين، كما قال الربيع بن أنس رضي الله تعالى عنه: [أولئك الذين صدقوا فتكلموا بكلام الإيمان فكانت حقيقة العمل، صدقوا الله]. ففهم السلف لا يتناقض أبداً.
    وكان الحسن يقول: [هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء]. فهؤلاء أقروا وعملوا، وأذعنوا والتزموا، وجاءوا بكل ما أمر الله تعالى به من الجهاد والصبر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقوى الله وسائر الأعمال المطلوبة.
    قال ابن جرير رحمه الله تعالى: (يعني تعالى ذكره بقوله: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ))[البقرة:177] من آمن بالله واليوم الآخر، ونعتهم النعت الذي نعتهم به في هذه الآية، يقول: فمن فعل هذه الأشياء فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم).
    ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله أيضاً في تفسير هذه الآية: (هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا).
    فكل كلام السلف ومن بعدهم على أن الإيمان قول وعمل، والتصديق يكون بالفعل كما يكون بالقول.
    وفي السنة: ( إن تصدق الله يصدقك )، وكذلك: ( العينان زناهما النظر، والأذنان زناها الاستماع ) إلى أن قال: ( والفرج يصدق ذلك أو يكذبه )، فإذا عمل الفاحشة -والعياذ بالله- فقد صدق ما قد سبق، وهو ما كان في القلب من أمانٍ أو ما كان في اللسان من ألفاظ، أو ما كان في العين من نظر، أو ما كان في الأذن من استماع.
    إذاً فالتصديق قد جاء في كلام الشارع بمعنى الفعل والامتثال، وأما في لغة العرب فنقول: إن كلام العرب كثير فيه إطلاق الصدق على العمل، ومن ذلك قول كثير عزة في عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين، ذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه أدنى العلماء وأقصى الشعراء، فعوضه الله تبارك وتعالى، وما ترك أحد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه، فعوضه الله بمدائح من الشعر تفوق كل ما قيل فيمن قبله، فمدحه كثير عزة ومدحه جرير ومدحه شاعر آل البيت الكميت الأسدي ، وكان كثير عزة شيعياً رافضياً، والكميت شاعر آل البيت كان شيعياً، فكل هؤلاء مدحوه، وممن أثنى عليه كثير حين قال له:
    وصدقت بالفعل المقال مع الذي            أتيت فأضحى راضياً كل مسلم
    أي أن كل من جاء قبلك كان يقول، ولكنه لا يصدق القول بالعمل، أما أنت فقلت وصدقت القول بالعمل، فالتصديق في كلام العرب يأتي بمعنى تحقيق القول وإنفاذه، فإذا قيل: إن الإيمان هو التصديق فالمقصود به أيضاً الامتثال والعمل، فهو يشمل عمل القلب ويشمل القول باللسان، فيقول: الإنسان بلسانه ويكون صادقاً ومصدقاً بقلبه، فإذا قال أحد: ما معنى قول السلف: الدين تصديق وعمل؟ قلنا: أن يعمل عملاً يدخل فيه تصديق القلب وعمله، فهم يقصدون الالتزام القولي المستتبع للعمل، ثم قالوا: (وعمل) ليؤكدوا أن الدين حقيقته قول وعمل.
    وبهذا نكون قد عرفنا أن معنى التصديق في كلام السلف يأتي بمعنى العمل، فلا تناقض بين قول من قال: التصديق وقول من قال: قول وعمل.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.