المادة كاملة    
من أئمة أهل السنة الكبار الذين نقلوا حقيقة فهم السلف للإيمان الإمام هشام بن عمار رحمه الله تعالى، حيث أثبت فيما نقل عنه حقيقة زيادة الإيمان ونقصانه، وكونه قولاً وعملاً وله أركان ودعائم وذروة وحقيقة ومحض وصريح وصدق وبر وحلاوة وزينة ولباس وشطر وكمال، مستدلاً لكل ذلك بما وردت به النصوص، ومقرراً بذلك خطأ من خالف أهل السنة في مسلكهم، وملازمة العمل للاعتقاد في مسمى الإيمان.
  1. ذكر ما نقل عن الإمام هشام بن عمار في بيان فهم السلف لحقيقة الإيمان

     المرفق    
    1. حقيقة زيادة الإيمان ونقصانه وكونه قولاً وعملاً

      الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
      فقد سبق النقل فيما مضى عن الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله في الاستدلال على فهم السلف الصالح لحقيقة الإيمان، وهنا سنذكر النقل الثاني عن إمام آخر من أئمة السلف، وهو إمام محدث، هو الإمام هشام بن عمار ، وهو مقرئ الشام ومحدثها في زمانه، وشيخ الإمام البخاري رحمه الله تعالى، المتوفى سنة (245هـ)، وكونه عاش في هذه المرحلة معناه أنه من المعاصرين للإمام أحمد ، وهو ممن تتلمذ على الإمام مالك رضي الله عنهم أجمعين، وقد بسط سيرته الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في سير أعلام النبلاء في الجزء الحادي عشر.
      وهو -كما أشرنا- معاصر للإمام أحمد ، أي أنه أدرك ظهور فتنة الإرجاء والخوارج والبدع والضلالات في الإيمان، ومن ثم تكلم وعبر عن فهم أهل السنة لهذه المسألة العظيمة كما في كتاب الحجة في بيان المحجة لـأبي القاسم الأصبهاني ، وهذا الكتاب مخطوط من المخطوطات القيمة العظيمة، والإمام أبو القاسم الأصبهاني كان يلقب بقوام السنة، وهو من أهل السنة المؤلفين المعروفين، فجزاه الله خيراً عن السنة والعقيدة وأهلها.
      فمن النقول التي أوردها رحمه الله النقل القيم عن الإمام هشام بن عمار الشامي ، يقول فيه: (ومما يبين لأهل العقل أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث)، فالإمام هشام يخاطب أهل العقل والنظر والتأمل والتدبر بأن (مما يبين أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) -كما عرفه وأجمع على ذلك السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم- هذه الأحاديث التي يذكرها، وبعضها آثار، لكن مجموع هذه الأحاديث يدلنا على أمر، هو أن الإيمان حقيقة مركبة من أجزاء، وليست شيئاً واحداً كما سبق أن بينا.
      فالذي يعتقد أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص هم الخوارج والمعتزلة من جهة، وكذلك المرجئة من جهة أخرى، وقد وقع كلا الفريقين في الضلال المبين بسبب هذا؛ لأن الخوارج و المعتزلة قالوا: إذا ارتكب العبد محرماً أو ترك واجباً ذهب إيمانه كله؛ لأنهم يرون أن الإيمان شيء واحد لا يتبعض ولا يتركب ولا يتعدد.
      والمرجئة قالوا: مهما ارتكب من المحرمات أو ترك من الواجبات فإيمانه كامل أيضاً؛ لأنه شيء واحد ولا يذهب.
      أما أهل السنة والجماعة فقد جمعوا بين المنقول والمعقول، وهذا ما يريد الإمام هشام بن عمار أن يوضحه، فالأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على خلاف ذلك، فهي تدل على أن الإيمان حقيقة مركبة مجتمعة من أمور، وهذه الأمور يمكن أن توصف بأنها شعب وبأنها أركان وبأنها دعائم وبأنها خلال وبأنها خصال وبأنها فروع إلى آخر ذلك، فهذه الأحاديث التي فيها ذكر صفات الإيمان تدل على ذلك، وبعضها محفوظ ومعروف.
      فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( الحياء شعبة من الإيمان )، يشير بذلك إلى الحديث الصحيح، وهو: ( الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة )، وفي رواية للإمام أحمد: ( باباً ) بدل (شعبة) ( فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ).
      إذاً: الإيمان شعب، وكونه شعباً يخالف وينافي أن يكون شيئاً واحداً لا يزيد ولا ينقص، وقد أوضحنا فيما مضى دلالة هذا الحديث على الإيمان وزيادته ونقصانه وأنه قول وعمل من خلال بيان هذه الثلاثة الأمور المذكورة في الحديث، فشهادة أن لا إله إلا الله مثال للأركان، وهي الركن الأول والأساس.
      وإماطة الأذى عن الطريق مثال للكمالات المستحبات، والحياء مثال للواجبات، وهو واجب باطني ينتج عنه واجبات ظاهرة، فكل من أطاع الله تبارك وتعالى وكل من ترك ما حرم الله فإنما فعل ذلك حياءً من الله، وكل من ترك واجباً من الواجبات أو ارتكب محرماً من المحرمات إنما فعل ذلك -بلا ريب- لفقده الحياء من الله مطلقاً.
    2. اشتمال الإيمان على عرى وأركان ودعائم ونحو ذلك

      يقول: (وأن الإيمان عرى) وإذا كان له عرى فالعرى متعددة، وبعضها أوثق من بعض، فليس هو -إذاً- شيئاً واحداً، إنما هو حقيقة مركبة أيضاً، ويدل على ذلك حديث: ( أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ).
      قال: (وأن للإيمان أركاناً ودعائم وذروةً وحقيقةً ومحضاً وصريحاً وصدقاً وبراً وحلاوةً وزينةً ولباساً وشطراً)، وكل هذا مما ثبت في الإيمان.
      فأما كون الإيمان له أركان فكما في الحديث الصحيح: ( بني الإسلام على خمس )، فالإسلام هنا بمعنى الدين والإيمان؛ لأنه إذا أفرد دخل فيه الإيمان.
      إذاً: للإيمان أركان، وكل ركن منها غير الآخر، وهي شعب، وهي أيضاً دعائم.
    3. بعض أركان الإيمان الباطنة

      ثم فصل هذا بشيء من التفصيل فقال: (فمن أركانه: التسليم لأمر الله، والرضا بقدر الله، والتفويض إلى الله، والتوكل على الله).
      ومعلوم أن الأركان هي أركان الإسلام ومبانيه الخمس الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه أراد شيئاً آخر من أركان الإيمان التي لا يكون العبد مؤمناً إلا بها، وهذه الأركان هي التسليم لأمر الله والرضى بقدر الله، وأمر الله تبارك وتعالى نوعان:
      الأول: الأمر الكوني أو القدري.
      الثاني: الأمر الشرعي الديني.
      فالواجب على العباد بالنسبة للأمر الشرعي الديني الاتباع والانقياد والتسليم والإذعان، فمن لم يفعل ذلك فليس بمؤمن، وبكمال الإذعان والانقياد والتسليم يكمل الإيمان، ومن هنا سمي الإسلام إسلاماً، فقال تعالى: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ))[النساء:125]، وقال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ))[البقرة:208]، وفي آية أخرى: (( وَأَسْلِمُوا لَهُ ))[الزمر:54]، فالإسلام لله تبارك وتعالى هو الإذعان والقبول والانقياد والاتباع والطاعة لأمره الديني الشرعي.
      وأما أمره الكوني القدري فالواجب على العباد فيه هو الصبر والرضا، بمعنى: أن يعلموا أنه من عند الله، وأن ما قدر الله لا بد من أن يقع، فيعتقد المسلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الخير أو الشر كله بقدر الله تبارك وتعالى، ولا يملك العباد منه شيئاً.
    4. بيان بعض دعائم الإيمان

      يقول: (ومن دعائمه الصبر واليقين والعدل والجهاد) هذه من دعائم الإيمان، وهي أيضاً من أجزائه ومن أعظم أركانه، وقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله تعالى تعليقاً، ورواه الإمام أحمد موصولاً في السنة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: [الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله]، وهذا دليل على أن السلف الصالح عرفوا أهمية هذين العملين القلبيين في الإيمان: الصبر واليقين اللذين بهما تنال الإمامة في الدين، كما قال الله تبارك وتعالى: (( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ))[السجدة:24]، فالصبر نصف الإيمان، ولو تأمل العبد في العبادات وفي الطاعات كلها لوجد أنها تقوم على أمرين:
      الأمر الأول: الإخلاص فيها لله تبارك وتعالى.
      والأمر الثاني: الصبر على ذلك، فالإخلاص يحتاج إلى صبر، والعمل يحتاج إلى صبر، وطلب العلم من أجل أداء فرائض الله يحتاج إلى صبر.. وهكذا، فالصبر لا غنى للعبد عنه، فعندما نقول: الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله، كأننا نتذكر قول الله تبارك وتعالى: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))[الفاتحة:5]؛ لأنه إن لم يعنا الله تبارك وتعالى ويصبرنا على أداء الطاعات؛ فإننا لا نستطيع أن نؤديها، فهذا من أعظم الكلام ومن أجله، فرضي الله تعالى عن السلف الصالح، فما أفقههم في دين الله، وما أعرفهم بالحقائق!
      ومن دعائم الإيمان العدل والإنصاف، وهذا أيضاً جاءت فيه عدة أحاديث، كما في حديث بلال وعمار بعدة روايات، وقد ذكره الله تبارك وتعالى في القرآن، فمن الوصايا العشر القرآنية التي هي متفق عليها في الشرائع كلها: (( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ))[الأنعام:152]، فـ العدل من أعظم خصال الإيمان التي لا يتنبه لها كثير من الناس، العدل في القول والعدل في العمل.
      ومن معاني العدل: القسط، أن يكون الإنسان من المقسطين الذين يحكمون بالحق وبالعدل، ومن معانيه: الاقتصاد في كل أمر، أن يكون الإنسان على القصد لا يغلو ولا يقصر، فهذا أيضاً من العدل، فالعدل ركن ركين من أعمال الدين والإيمان.
      والجهاد هو المعلوم فضله وقيمته، وهو ذروة سنام الإسلام، فالدين له ذروة، وذروة سنامه هي الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ ولهذا لما ذكر ابن عمر رضي الله تعالى عنه الأركان الخمسة قال رجل: والجهاد؟ كأنه يقول: أليس الجهاد من أركان الإسلام؟! فقال ابن عمر : (الجهاد حسن). يعني: أمر عظيم، لكن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما جعل الجهاد من الأركان الخمسة، وإنما جعل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسس الإسلام الثابتة التي هي الخمسة الأركان وهذه الثلاثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد.
    5. محض الإيمان وصريحه

      وأما صريح الإيمان ومحضه فقد جاء في الحديث ما يدل على أن الإيمان له محض، وله صريح، فقد قال الصحابة: ( يا رسول الله! إنا لنجد في أنفسنا شيئاً لأن يكون أحدنا حممة أحب إليه من أن يتكلم به ) أي: ما يلقي الشيطان من التشويش على إيمان العبد والشبه الباطلة والوساوس والأوهام؛ وذلك لأن للملك لمة وللشيطان لمة، فتأتي لمة الشيطان فتلقي الإيعاد بالشر والتكذيب بالحق، فيأتي في قلب المؤمن شيء من الشك والريب والشبهة التي يلقيها الشيطان في قلبه، فلما وجد ذلك الصحابة رضوان الله تعالى عليهم تعاظموا ذلك، فقد كانوا -رضي الله عنهم- يظنون أن الإيمان إذا اكتمل فإن صاحبه لا يجد بعد ذلك أي وسوسة أو تشويش من هذا العدو الخبيث، فالنبي صلى الله عليه وسلم طمأنهم وهدأ من روعهم وقال لهم: ( أوقد وجدتموه؟! ) وكأنه صلى الله عليه وسلم يشعرهم بأنه كان ينتظر متى يجدون هذه الوسوسة، فلما قالوا: نعم، قال: ( ذلك محض الإيمان ) أو ( صريح الإيمان ) على اختلاف الروايات.
      إذاً: الإيمان له محض وله صريح، ومعنى ذلك أنه يوجد من المؤمنين من لم يبلغ به إيمانه أن يكون في درجة المحض أو درجة الصريح، بل يكون دون ذلك.
      فالإيمان له محض وله صريح كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وله أركان وله دعائم، وله عرى.
    6. ذروة الإيمان

      يقول: (وذروته أن يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف)، ولا يعني ذلك الوجوب، إنما أن يستويا عنده، بل ربما قال: إن ابتلاني الله بالفقر فهو خير؛ لأن الفقر يردع النفس ويزجرها، إذ أكثر ما يطغي العبد ويدعوه إلى فعل المحرمات أو ترك الواجبات هو الترف والشبع، وذكر الله تبارك وتعالى ذلك في غير ما آية حال المترفين الذين ذمهم الله، كما قال تعالى: (( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ))[الإسراء:16] وفي الآية الأخرى قال تعالى: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ))[الأنعام:123]، فأكابر المجرمين والمترفون وأشباههم هم الذين يدعوهم هذا الترف إلى الطغيان: (( كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ))[العلق:6-7]، فإذا كان غنياً ذا مال وذا جاه؛ فإن ذلك أدعى إلى أن يترك ما أمر الله به أو أن يرتكب ما حرم الله، لكن الفقر قد يزجره عن ذلك، والفقر يؤدي إلى خصلة عظيمة هي أساس خصال العبودية كلها، وهي الذل والافتقار إلى الله تبارك وتعالى؛ ولهذا لو كان الافتقار إلى الله من غني ذي مال وجاه عريض، فكان مفتقراً إلى الله متذللاً متضرعاً مستكيناً لكان له من الأجر والدرجة والفضل الشيء الكثير، ولا يضره ماله ولا يضره منصبه مع هذا الافتقار إلى الله تبارك وتعالى.

    7. حقيقة الإيمان

      قال: (وحقيقته) يعني أن للإيمان حقيقة، فكما أن له دعائم وأركاناً وعرى؛ له أيضاً حقيقة، وهي التي جاءت في حديث حارثة ، وهو حديث ضعيف، وفيه أنه قال: ( أصبحت مؤمناً حقاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظر ما تقول؛ فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ ).
      فهناك إيمان حق وإيمان له حقيقة، وهناك إيمان ليس بهذه الدرجة، ويذكر الإمام هشام دليلاً آخر، وهو الحديث المروي: ( ثلاث من كن فيه فقد استوجب حقيقة الإيمان: حب الرجل المرء في الله )، وكأنها رواية أخرى عنده لحديث: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان )، وهناك رواية أخرى فيها ذكر الحقيقة، ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد عن البزار ، وهي: ( لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ).
      فليس كل من آمن يبلغ حقيقة الإيمان، فالإيمان له حقيقة، وبعض الناس لا يبلغ هذه الحقيقة، فهو -إذاً- متفاوت.
    8. كمال الإيمان

      قال: (وأما استكماله فما روي: ( لا يستكمل عبد الإيمان كله حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يقدم الصلاة في اليوم الدجن ) واليوم الدجن: هو اليوم الممطر البارد، كما قال طرفة :
      وتقصير يوم الدجن والدجن معجب                        ببهكنة تحت الطراف المعمد
      وكل رواية جاء فيها: ( لا يؤمن ) هي بمعنى: لا يستكمل الإيمان الواجب، مثل حديث: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، وحديث: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )، وحديث: ( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه )، وهكذا، فكل ما جاء بهذا فالمقصود به أنه لا يستكمل حقيقته، وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: [إن للإيمان شرائع وفرائض، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان] ذكره البخاري تعليقاً.
      فالاستكمال وارد في عدة أحاديث وآثار إما باللفظ وإما بالمعنى، وفي هذا دليل على أن الإيمان له درجات متفاوتة، فمن المؤمنين من يبلغ الكمال، ومنهم من لا يبلغ ذلك.
    9. حقيقة طعم الإيمان

      قال: (وأما طعم الإيمان فأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه)، وهذا كما ذكرنا في رواية حقيقة الإيمان (ولا يقول: لولا ولو أن، ويدع المراء وهو محق، ويدع الكذب في المزاح، روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه).
      وقد ورد في طعم الإيمان حديث: ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً )، فالإيمان له طعم؛ إذ قد يؤمن الرجل ولكن لا يذوق طعم الإيمان، فإذا كان الإنسان في حالة لو طرح في النار أحب إليه من أن يرجع عن الإيمان فقد ذاق حلاوة الإيمان وذاق طعم الإيمان، وقبل ذلك قد يفتن فيرجع والعياذ بالله.
      فهذا دليل على أن هذه حالة أعلى من مجرد الإيمان، ولذلك يجب على كل مؤمن أن يجتهد وأن يسعى لأن يذوق طعم الإيمان، ويخالط قلبه بشاشة الإيمان، ويذوق حلاوة الإيمان؛ لأنه متى ذاق ذلك وعرفه فإنه يؤثره على كل شيء، ولا يقدم عليه شيئاً، فيقدم نفسه وماله ومنصبه وكل شيء، ولا يمكن أن يضحي بطعم الإيمان أو بحلاوة الإيمان بعد أن ذاقها.
      وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم من هذا النوع حين استكملوا الإيمان فذاقوا حلاوته، دل على ذلك حديث هرقل لما قال لـأبي سفيان : ( فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: قلت: لا ) ثم قال له: ( وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه؟ فزعمت أن: لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب ).
      وقد كان المشركون يأتون ببعضهم في قيض مكة في صحرائها الحارة ويضعون الصخرة على صدره يريدون أن يرتد فيقول: [أحد أحد]، مع أن الله تبارك وتعالى أجاز في مثل هذه الحالة أن يكفر العبد بلسانه: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106]، لكن لما ذاق طعم الإيمان لم يستمنع أن يقول ذلك، وإن كان جائزاً له ليتخلص من الأذى وقلبه مطمئن بالإيمان.
      وأما (لولا) و(لو أن) فقد ورد فيها: ( فإن (لو) تفتح عمل الشيطان )، فإذا قال العبد: لو أني فعلت كذا وكذا؛ فقد خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ( ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل )، فإذا خالفه فقال: (لو) فقد أخل بأمر من أمور الإيمان وأركان الإيمان هو الرضا بقدر الله، فليس الذي يقدم ويؤخر هو عملك، فما قدره الله كائن، سواء فعلت أو لم تفعل؛ ولذلك خير لك أن تقول: قدر الله وما شاء فعل، ولا بد من أن تقوله (ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل).
      وقول (لولا) يخل بكمال التوكل، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في بيان الشرك الخفي: [وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص]، وكذلك قولك: لولا فلان لما كان وكذا، فهذا أيضاً فيه إخلال بالإيمان بالقدر، ومن ناحية أخرى فيه إخلال بالتوكل؛ لأنك إذا كنت متوكلاً على الله حق التوكل تعلم أن كل شيء من الله تبارك وتعالى فلن تقول: لولا هذا لما كان هذا.
    10. محض الإيمان وصدقه وبره ولباسه وحلاوته

      قال: (وأما محض الإيمان فما روي أنهم قالوا: ( يا رسول الله! إن أحدنا ليحدث نفسه بالشيء ما يحب أن يتكلم به. قال: ذلك محض الإيمان ) ).
      قال: (وأما صدق الإيمان وبره فما روي عن عبيد بن عمير قال: [من صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء على المكاره، ومن صدق الإيمان وبره أن يخلو الرجل بالمرأة الحسناء فيدعها لا يدعها إلا لله]).
      هذا من آثار السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم؛ لأن العبد قد يدعي كمال الإيمان، لكن لا يكون صادقاً، فمن صدق الإيمان أن يكون فيه مثل هاتين الخصلتين إسباغ الوضوء على المكاره، وهي دليل على صدقه في طاعة الله وفي عبادة الله مهما كان الجو ومهما كان الألم، فإنه يسبغ الوضوء على المكاره؛ لأنه يريد أن يؤدي عبادة الله وفريضة الله وطاعة الله على الوجه الكامل اللائق بهذه العبادة وكذلك أن يخلو الرجل بالمرأة ثم يدعها خوفاً من الله، وهذا مثال الشهوة التي تبلغ بالإنسان إلى أن يخلو بمحارم الله وفي إمكانه أن ينتهكها، ولكنه يدع ذلك ابتغاء وجه الله، وليس لمخلوق في ذلك شيء، وإنما لأجل الله ولوجه الله تبارك وتعالى.
      قال: (وأما لباسه فالتقوى، روي ذلك عن وهب بن منبه)، فللإيمان لباس، فإذا كان له أركان ودعائم وذروة وكمالات ولباس وحلاوة وطعم فذلك دليل على أنه حقيقة مركبة من هذه الأمور جميعاً.
      قال: (وأما حلاوته فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ) ) فهذا في إثبات حلاوة الإيمان، وقد سبق القول فيها.
    11. شطر الإيمان

      ثم ذكر شطر الإيمان ودليله، وهو حديث: ( الطهور شطر الإيمان )، فإذا كانت الطهارة معنوية فشطر الإيمان التطهر من الشرك والبدعة والضلالة والهوى، ثم بعد ذلك الشطر الآخر هو التوحيد والسنة والطاعة.
      وإذا كانت الطهارة بمعنى التطهر الحسي الذي هو رفع الحدث؛ فإن الصلاة لا تصح ولا يقبلها الله تبارك وتعالى إلا بالطهارة، وهي ركن الإيمان العملي اليومي المتكرر، كما قال الله تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ))[البقرة:143].
      فأعمال الصلاة نصف، والنصف الآخر هو الطهارة، فلو لم يتطهر لم ينفعه ذلك العمل ولم يقبل منه.
      وفي رواية: ( إسباغ الوضوء شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، والتكبير والتسبيح يملأ السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك ) الحديث.
      وهذا الحديث الصحيح المعروف قال في آخره صلى الله عليه وسلم: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )، فهذه الجملة فيها دلالة عجيبة على حقيقة الإيمان، فكل الناس يغدون، وفي غدوهم يبيعون أنفسهم، ويترتب على ذلك ( فمعتقها أو موبقها ).
      والإنسان عامل ولابد، كما قال تعالى: (( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ))[الإسراء:84] أي: على نيته وعلى سبيله وعلى مراده، فكل يوم تطلع فيه الشمس يتحرك فيه الكم الهائل من البشر، يتحركون ليعملوا، فكل الناس يغدو ليعمل، حتى لو نام المرء فنومه عمل من الأعمال، فطبيعة الحياة جعلها الله تبارك وتعالى هكذا، فكل إنسان هو عامل عملاً ما، وهذا العمل موافق لنيته على شاكلته وعلى سبيله وعلى سنته التي يريد ومنهاجه الذي يسير عليه، فإذا كان العبد من أهل الإيمان فعمله يكون وفق إيمانه، فالحركة تكون وفق المعتقد، والذي يحرك الناس للعمل هو ما يقتنعون به وما يعتقدونه، فمن يريد الخير يسعى في الخير، ومن يريد الإثم والشر والبغي والعدوان يسعى فيه.
      فمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن تجد أن حركته تكون فيما يقربه إلى الله، ومن أراد الدنيا تجده يسعى لها، كحال أمم الغرب والكفار اليوم كما هو معلوم، يتحركون ويعملون ويجدون كل يوم، لكن الدنيا كل همهم، ففي هذه الحياة الدنيا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام.
      وقد قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ))[الانشقاق:6]، فكل إنسان كادح يعمل، لكن نتيجة عمله يلاقيها عند الله، فإن كان الكدح في الخير وفي الطاعة وفي السنة فإنه يجد ذلك ثواباً وأجراً وإكراماً عند الله تبارك وتعالى، وإن كان ضد ذلك فإنه يجد عذاباً وعقوبة وانتقاماً.
      فعليك -أيها العبد- أن تخلص وأن تجدد النية وأن تجعل نية الكدح والعمل لله، فإذا غيرت المعتقد تغيرت الحركة، فأصبح هذا العمل في طاعة الله تبارك وتعالى، والفرق بين المؤمن وبين الفاجر هو هذا، فإن المؤمن ليست كل أوقاته عبادة، بمعنى أن المؤمن ليس في كل وقت من أوقاته لا بد له من أن يصلي أو يقرأ القرآن أو يسبح الله تبارك وتعالى، والكافر ليست كل أوقاته معصية وكفراً، لكن الفرق بينهما أن ذاك لما كان إيمانه ومعتقده الحق كانت الحياة تابعة لذلك المعتقد، فالكدح كله في جانب الخير والحق، حتى ولو لم يعمل، كتركه العمل ما بين العمل والعمل، فهذا تابع للعمل، والكافر كذلك كل حياته تعتبر في ذلك العمل الآخر المضاد؛ لأن ذلك يرجع إلى النية وإلى المعتقد.
      فهذا الحديث من أعظم الأدلة على حقيقة الإيمان أيضاً، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو) والغدو: هو الذهاب في أول النهار، (فبائع نفسه) فالبعض منا في الدنيا يعمل الشر والموبقات، ويقدم تضحيات كما يقدم المؤمن تضحية للخير، ويسهر ويتعب ويكدح ويخطط وينفق المال ويتألم، كما قال الله تعالى: (( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ))[النساء:104]، هكذا كل الحياة، فالله تعالى جعل سنة الحياة العمل والكدح.
      فكل إنسان حارث وهمام وعامل وكادح، و(كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) كعبد مملوك لرجل قال له: اذهب واسع واجتهد لتعتق نفسك، فيذهب ويجتهد كل يوم بما أمره به مولاه وسيده، ويجمع المال حتى يعتق رقبته.
      فهذا الحديث من الناحية البيانية اللغوية في أرقى درجات البيان والفصاحة، فصلى الله وسلم على من آتاه الله جوامع الكلم، فهو أفصح من نطق بالضاد بلا ريب، فقد قال: هذه العبارات الحكيمة التي لا يمكن أن يقولها حكيم ولا يمكن أن يقولها مربٍ ولا مزكٍ.
    12. نصف الإيمان

      ثم قال الإمام هشام بن عمار رحمه الله تعالى: (وأما نصف الإيمان فما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: [الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله]) وقد تقدم تخريجه والإشارة إليه، وإلى هنا ينتهي النقل الذي نقله الإمام أبو القاسم الأصبهاني صاحب كتاب الحجة .
    13. مراتب القدر

      وللقدر مراتب أربع:
      المرتبة الأولى: العلم، فيؤمن العبد بأن الله تبارك وتعالى يعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
      الثانية: الكتابة: فما يقع في هذه الدنيا قد علمه الله تبارك وتعالى وكتبه، فعندما خلق الله تبارك وتعالى القلم -وهو أول ما خلق- أمره أن يكتب، فكتب في الذكر كل ما هو كائن إلى قيام الساعة.
      الثالثة: المشيئة والإرادة، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
      الرابعة: الخلق والإيجاد، فما يقع إنما خلقه الله تعالى، ومن ذلك أفعال العباد.
      فالواجب على العباد في أمر الله تبارك وتعالى هو أن يذعنوا ويسلموا للأمر الشرعي، وأن يرضوا ويؤمنوا بالأمر الكوني القدري.
      وهذه الأمور التي ذكرها الإمام هشام رحمه الله -وهي التسليم والرضا والتفويض والتوكل- جاءت في حديث أخرجه البزار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ( خمس من الإيمان، من لم يكن فيه شيء منها فلا إيمان له: التسليم لأمر الله، والرضا بقضاء الله، والتفويض إلى أمر الله، والتوكل على الله )، وزاد خامسة ذكرها الإمام أحمد في إحدى رواياته قال: ( والصبر عند الصدمة الأولى ) وهي داخلة في الرضا بالقدر لكن هذا الحديث ضعيف، وقد يكون من كلام ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
      والمقصود أن أركان الإيمان منها الأركان المعروفة، ومنها كذلك هذه الأركان الباطنة كما ذكر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
    14. حقيقة الافتقار إلى الله تعالى

      فالغرض من الفقر ليس هو أن يكون الإنسان لا مال له، إنما حقيقة الافتقار القلبي أن يشعر العبد أنه لا غنى له عن الله طرفة عين، وهذه حقيقة جلية لمن تأملها ولمن تدبرها، كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ))[فاطر:15]، فلا غنى للمخلوقين أبداً عن الله عز وجل، أما الله فهو الغني الحميد، فلو كفروا جميعاً أو آمنوا جميعاً لم يضروه شيئاً ولم ينفعوه بشيء، كما في حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه: ( يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته... يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته ... يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته.. ) ثم قال في آخره: ( يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ).
      إذاً: الافتقار إلى الله تبارك وتعالى أساس العبودية، وكل عابد إنما يخشع في عبادته وينيب ويتضرع في صلاته أو صيامه أو دعائه بقدر ما يشعر من الحاجة إلى الله تبارك وتعالى؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )؛ لأن حقيقة وأصل العبادة ومجمع كل العبادات هو أن تشعر أنك فقير محتاج مضطر بالضرورة إلى الله تبارك وتعالى، وأنه لو وكلك إلى نفسك طرفه العين لهلكت، فتدعو الله دائماً: ( يا حي يا قيوم! برحمتك استغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفه عين )، وهذا مجال كبير عظيم فسيح لأهل العقول لو تدبروه وعقلوه؛ لأن الإنسان بهذا التركيب الذي جعله الله تبارك وتعالى له حيث أعطاه السمع وأعطاه البصر وأعطاه الفؤاد والعلم ووهبه النعم الظاهرة والباطنة لا يستطيع أن يحافظ على كل ذلك فضلاً عن أن يجنبه ويحصله إلا بعون الله وبحفظ الله تبارك وتعالى له، فهل يستطيع الإنسان أن يجـلب العلم والذكاء من تلقاء نفسه؟! وهل يستطيع أن يحافظ على ما وهب؟! إن الإنسان قد ينام وهو في كامل العقل والعافية ثم يقوم وإذا به في غاية الجنون أو المرض -نسأل الله السلامة والعافية- لا يملك لنفسه شيئاً مهما كان ماله ومهما كان جاهه فلا غنى لأحد عن الله تبارك وتعالى، فالله تعالى يحفظ هذه الأعضاء، ويحفظ هذه النعم التي من بها عليك، وهو يدبر أمرك، ويمن عليك بنعم وأفضال متواصلة، ولكن العباد غافلون عن الله تبارك وتعالى إلا قليلاً، كما قال الله تبارك وتعالى: (( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ))[إبراهيم:34]، وهاتان الخلتان متى ما كانتا في الإنسان فإنه يجحد النعمة ويكفر ولا يشكر الخالق تبارك وتعالى المنعم الرازق.
    15. التواضع الذي يطلب من العبد

      وقوله: وأن يكون (التواضع أحب إليه من الشرف) لا يعني ذلك أن الإنسان لا يحرص على أن تكون له قيمة أو منزلة، فمن دعاء عباد الرحمن: (( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ))[الفرقان:74]، بل المقصود أنه مهما أعطاه الله تبارك وتعالى من الشرف يكون مع ذلك متواضعاً، ويكون ذامه وحامده في الحق عنده سواء، وهذه أيضاً رتبة لا يرقى إليها أي أحد، ولكن من كمل إيمانه وعلت درجته في الاقتداء وفي التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
    16. صفات صريح الإيمان

      قال: (ومن صريح الإيمان أن يصل من قطعه ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويغفر لمن شتمه، ويحسن إلى من أساء إليه).
      وأين نحن من هذه الصفات؟! إنها صفات عظيمة جداً، وهي من أخلاق الأنبياء وأتباع الأنبياء.
      فأولها: أن يصل المرء من قطعه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي شكا إليه قرابته، فمن الدرجة العليا أن تصل من قطعك من أقربائك أو من إخوانك، فلا يعامل الإنسان الناس بالمثل، بل يعامل من قطعه بالصلة.
      وثانيها: أن يعطي من حرمه، فلو حرمك أحد حقاً أو مما ينبغي له أن يفعله فلا تحرمه، بل الفضل أن تعطيه.
      وثالثها: أن يعفو عمن ظلمه، كما قال تعالى: (( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ))[آل عمران:134]، فيعفو ويصفح ويغفر، ولا يؤاخذ ولا ينتقم لنفسه، وإن كان يجوز له ذلك، ولكن الكلام هنا ليس في الجواز، وإنما الكلام في الدرجة العليا التي يبلغ العبد بها صريح الإيمان، وهو أن يكون هذا شأنه وديدنه.
      ورابعها: أن يغفر لمن شتمه ويحسن إلى من أساء إليه، فلا يقابل الإساءة بالإساءة، بل يقابل الإساءة بالإحسان، ويقابل الجهل بالحلم، وهذا من أعظم صفات النبي صلى الله عليه وسلم التي عرف بها أحبار اليهود أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، كما في قصة زيد بن سعنة وغيرها من القصص، فهذه أخلاق النبوة وأخلاق اللذين يسيرون على نهج الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فيتخلقون بأخلاقهم.
  2. نتائج ودلائل من كلام الإمام هشام بن عمار

     المرفق    
    1. ترجيح مذهب أهل السنة في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

      والمقصود أن هذه الأحاديث وهذه الآثار التي ذكرها الإمام هشام رحمه الله تعالى تدلنا على حقيقة الإيمان وعلى معتقد السلف الصالح في الإيمان، فتبين أن الإيمان حقيقة، ودعائم، وأركان، وصريح، وطعم، ومحض، وعرى، وشعب، وحلاوة، ولباس، وذروة، وشطر، وزينة، وكمال، وبشاشة، وواجبات، وكمالات، ومستحبات.
      فهل من قال: الإيمان التصديق، ومن قال: إنه لا يزيد ولا ينقص يتناسب قوله مع هذا؟! كلا.
      وقول الإمام هشام في أول كلامه: (ومما يبين لأهل العقل أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) ثم ذكره هذه الأمور يدل دلالة واضحة على أن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان يجمع بين المنقول والمعقول، والحمد لله؛ فإن من تدبر في هذه الآثار والأحاديث يستنتج أن الإيمان لا بد من أن يكون كذلك، وأن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم هم أعظم من فسر حقيقة الإيمان.
      وعليه فما سبق إيراده من النقول على إجماعهم على أن الإيمان قول وعمل، وما ذكرناه عن الإمامين الفضيل و هشام في توسيع مفهوم الإيمان وحقيقته وشعبه إلى آخر ذلك، كل ذلك ينتج من مجموعه أن المخالفين لهذا المذهب هم -بلا ريب- واقعون في البدعة وواقعون في الخطأ، وأقل أحوالهم أنهم أخطئوا حين خالفوا منهج أهل السنة والجماعة في حقيقة الإيمان.
    2. لزوم ظهور آثار التعبيرات القلبية للإيمان في عمل الإنسان

      ونستنتج كذلك أن الإيمان إذا كان تعبيرات قلبية فلا بد من أن يظهر لها آثار في عمل الإنسان؛ فإنه لا يمكن أن ينفصل فيه العمل عن الاعتقاد، فهما متلازمان، فالعبد إذا كانت عنده حلاوة الإيمان وطعم الإيمان وبشاشة الإيمان وكمال الإيمان وزينة الإيمان ولباس الإيمان إلى آخر ذلك؛ فهل يمكن أن تكون أعماله منافية ومخالفة لفرائض الإيمان وشرائع الإيمان؟!
      والجواب أنه لا يمكن ذلك؛ فهذه مرتبطة بتلك، فالظاهر مرتبط بالباطن، والعلاقة بينهما لا يمكن لها أن تنفصل ولا أن تنفك أبداً، فحلاوته وطعمه وبشاشته لا بد من أن تظهر آثارها، ومنها كما ذكر في الحديث الصبر على الطاعة، وإسباغ الوضوء على المكاره، وتحمل الأذى في ذات الله عز وجل، واليقين بما وعد الله تبارك وتعالى به، وهذه كلها تنتج عن إيمان العبد حقيقة وعن معرفته بالله وعن اليقين الذي يكون في القلب.
      وبقدر ما ينقص الإيمان الباطن -أي: بقدر نقصان بشاشة الإيمان أو حلاوة الإيمان أو طعم الإيمان وما أشبه ذلك- يظهر الأثر على الجوارح، فلو أن أحداً ذاق طعم الإيمان على الحقيقة لقام بفرائض الله تعالى على الحقيقة، فالذي يتذوق قراءة القرآن ويجد فيه من اللذة ما لا يمكن أن يجده في قراءة أو سماع أي نشيد أو شعر أو أي شيء مما يلتذ به الناس؛ يكون قد ذاق طعم الإيمان حقيقة، لكن لو أن رجلاً يقول: قد ذقت طعم الإيمان وذقت حلاوة الإيمان، ومع ذلك لا يتذوق ولا يلتذ ولا يشعر بحلاوة قراءة القرآن أو سماع القرآن؛ فإن عمله يكذب قوله.
      إذاً فهما متلازمان، ظاهر وباطن، وقول وعمل، واعتقاد وتنفيذ، وبهما تظهر حقيقة الإيمان الشرعي.
      وبعض الأمور -كما ذكر الإمام فضيل والإمام هشام - هي كمالات أو مستحبات، لكن بكمالها يكمل الإيمان.
    3. المحافظة على الفرائض والاستزادة من النوافل

      فالمسلم الذي يريد أن يحافظ على الفرائض يأتي بالنوافل، والذي يريد أن يستكمل النوافل يأتي بها على أكمل الوجوه؛ ولذلك يتفاوت الناس في النوافل ويتفاوتون تبعاً لذلك في الفرائض، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: ( وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) ثم قال: ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ).
      فأول ما يجب على العبد أن يأتي به الفرائض، فإذا أراد زيادة في ذلك فإنه يأتي ويتقرب بالنوافل، ولا يعني ذلك أنه يشتغل بالنوافل ويترك الفرائض، فهذا ليس منهجاً صحيحاً، بل مما يورده الشيطان ويحرص عليه، لكن من أراد أن يحفظ الإيمان الواجب فليجتهد وليسع في تحقيق الإيمان الكامل، ومن هنا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يتعاهدون إيمانهم ويجددون إيمانهم، وقد عقلوا وفقهوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ) يعني: يبلى، أرأيت قطعة الثوب كيف تخلق وكيف تبلى حتى تتمزق وتتقطع؟! كذلك الإيمان في القلوب، فلا بد من تجديد الإيمان، ولا بد من تعاهد الإيمان، فالإيمان كأنه شجرة إن لم تسقها كل يوم ذبلت، وربما أدى بهذا ذلك إلى أن تموت.
    4. التدبر والتفكر في ملكوت السموات والأرض وأثره في تقوية الإيمان

      ومن مقويات الإيمان التي يحفظ العبد بها إيمانه التدبر والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وهذه من العبر العظيمة في الآيات المنزلة في القرآن التي يغفل عنها كثير من الناس، فقد أمرنا أن ننظر ونتفكر ونتدبر في آيات الله الكونية المشاهدة التي يراها من يقرأ ومن لا يقرأ، ولو أن العباد تفكروا فيها وتأملوها وتدبروها لأخذتهم هيبة وعظمة الله سبحانه وتعالى، وملأت قلوبهم من إجلال الله وتعظيم الله سبحانه وتعالى الذي يسبح له هذا الكون كله، فهو الذي جعل هذا الكون في غاية الاتساق والتناسب، وجعل هذا الكون بهذا الأحكام وهذا الإتقان: (( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ))[النمل:88]، (( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ))[الملك:3].
    5. الفساد الكوني وعلاقته بفساد إيمان الناس

      فإذا نظر العبد إلى هذا وتدبره وتأمله أورثه ذلك إيماناً بأن الذي ما جعل في خلقه من تفاوت هو الذي ما جعل في دينه وفي شرعه من تفاوت من باب أولى؛ لأن هذا الكون إنما هو للنظر والاتعاظ، وهو مسخر لنا، أما الشرع والدين فقد أحكمه الله تبارك وتعالى وفصله لتقوم حياتنا عليه، ولنعبد الله تبارك وتعالى كما أمر وشرع، ولتستقيم أمورنا بالعدل والإنصاف والتعامل فيما بيننا وفق ما شرع الله تبارك وتعالى.
      فلو أن الناس أقاموا حياتهم على ما أمر الله وعلى طاعة الله وعلى إرضاء الله لم يكن فيها من تفاوت، وإنما يقع الخلل ويقع الفساد في حياة الناس ويقع التفاوت وتقع الذنوب والمصائب العظام بسبب أن الناس لم يستقيموا على أمر الله تبارك وتعالى، والخلل الذي ينتج عن عصيان العباد وضعف إيمانهم يؤدي إلى الفساد الكوني أيضاً، فقد جاء عن بعض السلف قوله: (إن الحبارى لتموت في أوكارها من ظلم الظالم) حتى الطيور والبهائم تشكو إلى الله وتضج من ظلم الظالم وفجور الفاجر وبطش المتجبر وغدر الغادر؛ لأن الحياة الكونية تتأثر بالحياة البشرية، وهي عقوبات ينزلها الله تبارك وتعالى، وإذا جاءت العقوبة عمت، كما قال تعالى: (( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ))[الأنفال:25].
      فمن هنا وجب على الإنسان أن يقوي إيمانه وأن يستكمل حقيقة الإيمان بقدر ما يستطيع، فإذا حصل ذلك في حياة الناس واستقام الناس على الإيمان وكمل إيمانهم فإن أمورهم تنتظم، فينتظم الجانب الاختياري الذي جعله الله تبارك وتعالى محلاً للعقوبة أو للمثوبة مع الجانب الذي جعله الله تبارك وتعالى جارياً وفق السنن الإلهية، كحركة الليل والنهار.
      فعلى الناس أن يجتهدوا ليوافقوا هذه السنن بأداء ما افترضه الله تبارك وتعالى عليهم، واتباع أمر الله ظاهراً وباطناً، والإيمان به كما أمر وكما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجيل الأول الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي ضرب القدوة والأنموذج الأعلى في هذا.
      والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.