المادة كاملة    
للفضيل بن عياض رحمه الله تعالى كلام نقله عنه أئمة أهل السنة يقرر به مسائل عظيمة من مسائل الإيمان التي جرى فيها الخلاف بين المبتدعة وأهل الحق، حيث بين ما عليه أهل السنة في اعتبار عطف الإيمان على العمل، وفي أصول الدين وفروعه، وموقفهم من سؤال المرء عن كونه مؤمناً، وما يجيب به من سئل عن ذلك، وفي بيان نوعي الإرجاء المذموم والمراد منه عند الإطلاق في عبارات السلف، وفي كيفية إجراء الأحكام على الناس في الدنيا وأمر الآخرة.
  1. أصول الإيمان وفروعه عند أهل السنة والجماعة

     المرفق    
    ثم قال: (وقال الفضيل: أصل الإيمان عندنا -أي: عند أهل السنة والجماعة - وفرعه بعد الشهادة والتوحيد والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وبعد أداء الفرائض).
    فذكر الأصول، وهي الشهادة لله تبارك وتعالى بالتوحيد، والشهادة لنبي الله صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وهذا أصل عظيم من أصول الدين، وبعده أداء الفرائض التي هي أركان الإسلام وما كان مؤكداً عليه من الفرائض.
    ثم بعد ذلك هناك أمور أخرى، قال: (صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين، والرحمة للناس عامة).
    فهذه كلها من فروع الإيمان، فبعد أداء الشهادتين وبعد أداء الفرائض والأركان هناك واجبات أخرى، فديننا هو أركان وواجبات وكمالات أو مستحبات على اصطلاح المتأخرين، وأما الأئمة الأولون فما كانوا يقسمون هذا التقسيم، لكن المراد هو هذا.
    فأصل الدين الذي لا يمكن لأحد أن يدخل الدين إلا به هو أصل واحد مكون من شعبتين: الأولى: ألا يعبد إلا الله، والثانية: ألا يعبد الله إلا بما شرع.
    فقولنا: ألا يعبد إلا الله فهذا معنى (لا إله إلا الله)، وقولنا: ألا يعبد الله إلا بما شرع فهذا مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، أي: أن نعبد الله كما علمنا عبادته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا طريق إلى الله وإلى رضا الله وإلى عبادة الله إلا طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل الدين.
    ويلي ذلك في الأهمية بقية الأركان الأربعة، فهي أعظم الفرائض وأوجب الواجبات، وهي أحب ما يتقرب العبد به إلى الله، كما قال تعالى في الحديث القدسي: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه )، فلو أن الله تعالى يحب أن يتقرب إليه بشيء غير الفرائض أو أولى منها لجعله هو الفرض، فمن حكمة الله أن جعلها هي الفرائض، فهي أولى وأفضل ما يتقرب العبد به إلى الله.
    فإذا أدى العبد الفرائض فهل يكتفي بذلك؟!
    يقول الإمام الفضيل : إن هناك أيضاً واجبات أخرى، ووجود هذه الواجبات دليل على أن الإيمان لا يتم إلا بها، وكذلك العمل لا يتمم إلا بها، فإذا أدى الفرائض والأركان وجاء بالتوحيد، ولكن أخل بهذه الواجبات فلا يكون مستكمل الإيمان، فإن أتى بالإيمان الواجب وترك الكمالات والمستحبات فإنه يكون قد أخل بالإيمان المستحب لكمال الإيمان، فلا بد من هذه المرتبة، فوجود هذه المرتبة دليل على ما عند أهل السنة والجماعة من أن الإيمان قول وعمل.
    وذكر أمثلة على هذه الواجبات، وهي: الصدق في الحديث، فهذا واجب، إذ الكذب من علامات المنافق كما قال صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يكذب -وإن كان قد أتى بالتوحيد وأتى بالأركان- ويكون مع ذلك كامل الإيمان.
    وكذلك حفظ الأمانة وترك الخيانة، ولا يمكن أن تكون هذه الخلة موجودة في مؤمن -وإن كان قد أتى بالفرائض والأركان- ويكون مع ذلك مستكملاً للإيمان.
    وكذلك الوفاء بالعهد الذي أمر الله تبارك وتعالى به فقال: (( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ))[الإسراء:34]، فهو واجب لا بد أن يفي به الإنسان، والله تعالى قد حرم أيضاً نقض الميثاق والأيمان بعد توكيدها فقال: (( وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ))[النحل:91]، وقال في صفات المؤمنين: (( وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ))[الرعد:20]، فالعهد بين العبد وبين ربه، والعهد بين العبد وبين الناس عام يدخل فيه كل عهد، فكل عهد يجب أن يفي به إلا ما كان مخالفاً لكتاب الله.
    ومن ذلك: صلة الرحم، وهي من أعظم الواجبات، وذكرها الله تعالى في صفات المؤمنين فقال: (( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ))[الرعد:21]، فلا يمكن للذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل أن يكونوا مستكملي الإيمان وقد افترض الله عليهم ذلك.
    1. مزية الإسلام في تشريعاته العظيمة

      وهذه الأمور من أظهر ومن أعظم مزايا الإسلام، حتى إن الرجل عندما كان يسأل عما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم يذكر من جملة ما يأمر به صلة الرحم والصدق والعفاف ونحو ذلك، كما سأل أبو ذر رضي الله تعالى عنه أخاه، وكذلك سؤال النجاشي رضي الله عنه جعفراً ، وكذلك سؤال هرقل أبا سفيان .
      فمن أعظم مزايا هذا الدين أنه يدعو إلى توحيد الله وإلى صلة الرحم والعفاف والصدق والأمانة، فهذه المزايا الأخلاقية تتفق العقول كلها عليها، ولا يمكن لأي أمة من الأمم أن تتغاضى عنها أو أن تتجاهلها، ولا يمكن لحكيم أو عاقل في هذا الوجود إلا أن يجعلها من مقومات الحياة، فلا بد من صلة الرحم ومن الصدق ومن العفاف.
      فهذه الأمور -كما ذكر الفضيل رحمه الله تعالى- داخلة في حقيقة الإيمان، وهي من أعظم وأظهر ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وهي أساسيات أخلاقية لا تقوم المجتمعات إلا بها.
      وكذلك: النصيحة لجميع المسلمين، لحديث: ( الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ).
      فهي للمسلمين عامة، ويتعين ذلك في حق الولاة وكبار القوم، كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه؛ لأن جريراً كان سيداً في قومه، فلما بايع النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم )، وفي حقه تأكد في ذاته؛ لأن العلماء والأمراء والمسئولين في قبائلهم أو في مجتمعاتهم لابد من أن ينصحوا لكل من ولاهم الله تعالى أمرهم، فإن كانوا غاشين فقد تحقق فيهم الوعيد، نسأل الله العفو والعافية.
      وكذلك الرحمة للناس عامة، وهذا هو الفرق بين الرحمة والنصيحة، فالرحمة للناس عامة، نرحمهم جميعاً، حتى قتال الكفار الذي هو أشد أنواع الإيلام فهو لهم رحمة، فالمسلمون لو قاتلوا أمة من الأمم فإنما يقاتلونهم رحمة بهم في الحقيقة؛ لأنه لا يمكن أن يخرجوا وأن يتحرروا من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبودية العباد إلى عبادة رب العباد الله وحده إلا بهذا الجهاد، فيقضى على ذوي الشوكة وعلى ذوي الطغيان الذين يقفون حائلاً وحاجزاً أمام هداية هؤلاء، فإذا قضي عليهم دخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجاً.
      ولذا كان الجهاد من أعظم ما رحم الله به البلاد والعباد، فإن الله تعالى لما أخرج وابتعث هذه الجيوش التي خرجت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في الفتوحات فوصلت أطراف الدنيا شرقاً وغرباً حرر الله بهم العباد، وصحيح أنه ما من أمة إلا وفقدت من أبنائها، ولا شك في ذلك، لكن ما نسبة هذه الخسارة إلى ما تحقق لها من الخير والهدى والإيمان والنور والحق؟!
      وإن كانت القضية مجرد دماء؛ فإنه ما من أمة إلا وهي تحارب أو تحارب وتراق منها دماء، لكن شتان بين أن تراق أقل نسبة من الدماء لتحقيق أعظم غاية في هذا الوجود، وبين أن تراق دماء الملايين من البشر من أجل أهداف وغايات حقيرة، كما حدث في الحربين العالميتين من نزوات شخصية وعنصرية وكان بسببها ما كان.
      فهذا الدين رحمة للعالمين، وهذه كلمة عظيمة جداً من الفضيل رحمه الله، كما قال الله تبارك وتعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ))[الأنبياء:107].
      بل إن هذا الدين لا تقتصر رحمته على البشر، وإنما تشمل الحيوان، ففي كل ذات كبد رطبةٍ أجر كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وما حديث البغي التي غفر الله تعالى لها حين سقت كلباً بموقها عنا ببعيد.
      فهذا الدين دين الرحمة قبل أن يأتي الغرب الذي يتبجح الآن بالرحمة وحقوق الإنسان، وقبل أن يعرفوا حق الإنسان في بلادهم، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الناس حق الحيوان، بل في أشد أنواع إيلام الحيوان ما شرع لنا الإسلام إلا الرحمة، فقال: ( وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته )، فهو سيذبحها، لكن هذا الذبح فيه رحمة.
      وأما من قال: إذا كان الإسلام دين الرحمة فلا جهاد فيه ولا قوة، فهذا إن كان قاصداً فهو ضال مضل مفترٍ على الله الكذب، وإن كان مخدوعاً مغروراً -وما أكثر أمثاله في هذه الأيام- فيجب أن يعلم حقيقة الرحمة، فإن بعض الناس يظنون أن الرحمة أنك لا تقاتل، ولا تجاهد، ولا تؤلم عدواً أو حيواناً أو كائناً من كان!
      بل كل ذلك رحمة، حتى الحدود عندما تقام في المجتمع فهي رحمة بالمجتمع كله، وربما كانت رحمة بذلك المقتول أو المرجوم؛ لأنه إذا عوقب بهذا فهو كفارة له في الدنيا، فهي رحمة عظيمة وإن كانت في الظاهر مؤلمة.
    2. افتراء المضللين على جوانب التشريع الرادعة

      هذا جانب عظيم يجب أن يتحدث عنه الناس، لا سيما في هذه الأيام مع انتشار الدعاوى المضللة التي تسمى حقوق الإنسان، ومع الدراسات الخبيثة التي يسمونها دراسات علم العقوبة وعلم الإجرام، حيث يقررون في الجامعات عندنا في قسم القانون أن العقوبات في الماضي كان الغرض منها هو الإيلام، وأما الآن فإن المجتمعات الحديثة بدأت تفكر في إلغاء العقوبات بالكلية، فهناك اتجاهات اجتماعية وأخلاقية -كما يسمونها- تفكر في إلغاء العقوبات بالكلية، وبعضهم يقولون: هناك عقوبات، ولكن الغرض منها ليس هو إيلام الجاني، بل التهذيب، ولذلك يأتون به ويضعونه في السجن وهو عبارة عن منتزه، فيرى كل شيء، ويعيش وكأنه في بحبوحة لا يحس بأي شيء، ثم تقوم جمعيات حقوق الإنسان وتتفقد السجناء بحيث لا يتعرضون لأي ألم أو إزعاج، وتفرض الضرائب على الناس من أجل ترفيه السجناء بشكل أفضل.
      وهذا معاندة لحكمة الله تبارك وتعالى، وهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين الذي شرع هذه العقوبات وجعلها إيلاماً، ألم يقل الله تعالى: (( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ))[النور:2]؟! فقد سماه عذاباً وإيلاماً، فالإيلام مقصود، بدليل أنه أمر أن يشهد العذاب طائفة، فالعذاب والإيلام مقصود هنا، وشهادة الطائفة مقصودة، فيأتي هؤلاء ويقررون على أبنائنا في بلاد المسلمين هذه القوانين والنظم على أن النظريات القديمة تقول: إن الإيلام هو المقصود، وأما الآن فلا مكان لهذه النظريات القديمة، وربما يصرحون، وأحياناً تكون العبارات المكتوبة مهذبة، فيأتي المدرس ويقول: العقوبات الوحشية! يعني أن قطع اليد شيء وحشي، وكذلك الرجم والعياذ بالله، فترسخ الكلمة في أذهان الطلاب، حتى إن الطالب يستوحش حين يرى أحداً يرجم، وينسى ما في هذا من الحكم العظيمة.
      وكذلك الزنا، ينشر في وسائل الإعلام بكل طريقة حتى يستسيغه الناس، ثم يقال لهم: ما رأيكم فيمن يفعل هذا، أيليق به أن يرجم؟! وحينئذٍ لن يقولوا: نعم؛ لأنهم قد هان عليهم وسهل.
      أما عندما يكون الناس قد تربوا على الفطرة النقية والأخلاق الفضيلة فإنهم يرون ذلك من أوجب وأولى ما يكون، ولو لم يشرعه الله، فالعقوبة التي تليق بمن يفعل الزنا أو الفاحشة الأخرى هي هذه.
      ولهذا حكى عمرو بن ميمون الأودي رحمه الله -كما في البخاري - أنه رأى في اليمن القردة وهي ترجم قردة اكتشفت أنها فعلت مع قرد ما صورته الزنا! وكأنه مركوز في الطباع أنه لا بد من أن يرجم الزاني، وهذا في الجاهلية، وكان الرجم معروفاً قبل الإسلام في التوراة، وجاء الإسلام ليؤكده.
      فالمقصود أن هؤلاء الذين يستبشعون الحقيقة هم مخالفون للفطرة، ولكل الشرائع حتى الشرائع القديمة، فكل الشرائع القديمة نستطيع أن نقول: إن لها أصلاً شرعياً، فشرائع الفراعنة القدماء وشرائع الفينيقيين وغيرها لو تأملناها فلن نستطيع أن نقول: إن هذه الشرائع وضعية، بل هناك احتمال أن تكون هذه الشرائع موروثة عن نبوات وعن كتب سابقة، لكن دخلها التحريف، كما غير اليهود الرجم إلى الجلد والتحميم.
      فيمكن أن تكون لشريعة حمورابي أو لشرائع المصريين القدماء وغيرهم أصول من كتب أنزلها الله، وشرائع نبوية لرسل أرسلهم الله تبارك وتعالى، لكن حرفت أو بدلت، وربما تكون هي الشريعة، ولكن نسخت؛ لأن الشرائع تتغير، أما الذي لا يتغير فهو المعتقد والأصل.
      فالمهم أن هذه الشرائع تقول بهذه العقوبات في أشكال وصور أخرى، وما عهد في تاريخ الإنسانية أن شريعة عامة ملزمة لها شأن واعتبار أقرت الزنا مثلاً، إلا عندما ظهرت الثورة الفرنسية وتمرد الغرب على الدين وظهرت قوانين نابليون ، ومن قبل كانت الشرائع تدخلها نواح عنصرية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سرق فيهم الشريف تركوه )، لكن الأصل كقانون نظري موجود في جميع الشعوب والأمم التي يمكن أن نسميها أمماً متحضرة، أما الأمم التي تتعاطى الفواحش فما كانت في التاريخ كله إلا أمماً منحطة، ولذا انحط الغرب إلى دركات الأمم المنحطة، فنجد أن الشكل والمظهر لحياة الأمريكيين والفرنسيين والإنجليز هو نفسه ما تعيشه القبائل الهمجية التي تعيش في أدغال أفريقيا أو في حوض الأمازون في أمريكا الجنوبية أو في غابات أستراليا أو بعض جزر أندونيسيا النائية، فالحالة الاجتماعية واحدة، لكن الفرق أن هذا يسكن في عمارة ويركب الطائرة ويقرأ الجرائد ويشاهد التلفزيون، وذلك لا يجد شيئاً، لكن الحياة الاجتماعية والعلاقات الزوجية الأسرية والإباحية والانحلال شيء واحد.
      إذاً: أين الحضارة؟! إنها مجرد جانب مادي فقط، فلو جئنا بهؤلاء العراة وأسكناهم في نيويورك وعاشوا مثل الأمريكان بشكل عادي جداً فلن يتغير فيهم إلا المسكن والمركب، وهذه الأمور ليست من جوهر وحقيقة الإنسان.
  2. تابع ذكر الفرق بين أهل السنة والمبتدعة في حقيقة الإيمان ومنهج الاستدلال

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فقد سبق لنا أن ذكرنا قول الإمام الفضيل بن عياض في بيان حقيقة الإيمان والرد على المرجئة الذي نقله عنه الإمام أحمد بسنده فيما رواه عنه ابنه عبد الله في السنة ، وذكرنا قول الإمام الفضيل رحمه الله تعالى: إن أهل السنة يرون اقتران العمل بالإيمان في القرآن موصولاً، وأما أهل البدع فيرونه مقطوعاً أو مفصولاً.
    والآيات في ذلك كثيرة، منها قول الله تعالى: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[البقرة:82]، وقوله: (( وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))[الإسراء:19]، وقوله تعالى: (( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))[النساء:124].
    يقول: كل هذا موصول، وأهل الإرجاء يقولون: إنه مقطوع، فـأهل السنة والجماعة يرون أن الإيمان قول وعمل، وهو في المصطلح المتأخر: حقيقة مركبة من أجزاء، قول وعمل، وليس شيئاً واحداً لا تركيب فيه ولا تبعيض ولا أجزاء كما يقول من خالفهم من المرجئة من جهة، ومن خالفهم من الخوارج أيضاً من جهة أخرى.
    وهذا هو الفرق الجوهري بين أهل السنة والجماعة وبين غيرهم في مسألة الإيمان، فيرى أهل السنة والجماعة أنه إذا عطف العمل على الإيمان لم يقتض المغايرة كما يظن المرجئة ، بل يقولون: العمل جزء منه، ولكن قد يكون العطف لنكتة بلاغية أو لغوية، ولغة العرب واسعة في هذا الباب.
    فالعطف قد يقتضي المغايرة، كما إذا قلت -مثلاً-: جاء زيد وعمرو، فلا شك في أن عمراً غير زيد، وكذلك إذا قلت: جاء الطلاب والمعلم، فالمعلم غير الطلاب، لكن لو قلت: جاء الطلاب ومحمد -وهو من الطلاب- فالمقصود به أنه خصص لصفة، إما لأنه أعلاهم درجة وإما لأنه الذي سئلت عنه أو ما أشبه ذلك، فهذا في لغة العرب معروف، وهو أنه قد يعطف الخاص على العام والجزء على الكل لحكمة.
    بل إن هذا في القرآن كثير، وهناك أدلة من القرآن كثيرة، كقوله تعالى: (( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ))[المعارج:4]، والروح من الملائكة، وإنما خصص وأفرد لحكمة؛ لأنه أشرفهم وأفضلهم وأعظمهم قدراً وجاهاً.
    وقال تعالى: (( مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ))[الفلق:2-3]، والغاسق -وهو الليل- يدخل في المخلوقات، فحكمة تخصيصه بالاستعاذة منه بعد الاستعاذة من جميع المخلوقات هي أن الليل تظهر فيه الأرواح الشريرة الخبيثة كذوات السموم من العقارب والحيات، والهوام، فناسب أن يستعيذ الإنسان بالله تعالى من شر ما خلق عموماً ومن شر الغاسق إذا وقب خصوصاً.
    ومن ذلك قوله تعالى: (( مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ))[البقرة:98]، فـجبريل من الملائكة، لكنه خصص لأن الآية تتحدث في سياقها عن اليهود ؛ لأن اليهود يقولون: جبريل عدونا من الملائكة.
    وكذلك قال الله تعالى: (( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ))[البقرة:238]، فإن قلنا: إن (الوسطى) صفة للصلاة فمعنى ذلك أن الصلاة الوسطى هي الأفضل والأمثل، فهي تأكيد، وإن كانت الصلاة الوسطى إحدى الفرائض الخمس فذلك دليل على أنها أفضل من الأربع.
    فإذا جئنا إلى قوله تعالى: (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[الشعراء:227] فقالوا: هذا مقطوع؛ قلنا: فكيف تصنعون بما في سورة العصر، حيث قال تعالى: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))[العصر:3]؟!
    فإن قيل: إن التواصي بالحق والتواصي بالصبر داخل في العمل الصالح، قلنا: فكذلك العمل الصالح داخل في الإيمان، فيكون تعالى قد ذكر الكل، ثم ذكر جزءاً منه مهماً، ثم ذكر جزءاً مهما من هذا الجزء، ومن ذلك قوله تعالى بعد أن أمر بإقامة الصلاة: (( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ))[البقرة:43]، فيمكن أن يكون عطف (اركعوا) على (أقيموا) من أجل الجماعة، فيكون أمر بالصلاة أولاً، ثم أكد على أن تكون جماعة ثانياً.
    وكذلك قوله تعالى: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))[الفاتحة:5]، فالاستعانة داخلة في العبادة، لكن أفردت لحكمة، كما في رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فهما من باب العلة الغائية والعلة الفاعلة، فالعبادة هي الغاية، والاستعانة هي السبب الموصل إلى الغاية، فنفرد الله تبارك وتعالى بالغاية، فهو المراد المعبود وحده، كما نفرده بالاستعانة، وهي الوسيلة التي نصل بها إلى المراد والمعبود سبحانه وتعالى.
    وهذا كثير جداً حتى فيما هو معلوم عند الناس جميعاً، كما في قوله تعالى: (( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ ))[الأحزاب:72] والجبال هي من الأرض، وهكذا.
    وكذلك ذكر الأنبياء، فقد جاءت آية فيها ذكر الأنبياء ثم ذكر إبراهيم عليه السلام، فقال تعالى: (( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ))[النساء:163] ثم قال تعالى: (( وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ ))[النساء:163]، ثم قال تعالى: (( وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ))[النساء:163] فذكر الأنبياء عموماً ثم خصص، وهذا أيضاً كثير لحكمة، فهذا -إن شاء الله- لا إشكال فيه.
    يقول الإمام الفضيل في ذكر العمل معطوفاً على الإيمان: (هو موصول مجتمع) أي أن الإيمان حقيقة مركبة، فالعطف دلل على أهمية المعطوف، وليس على أنه خارج عن المعطوف عليه، قال: (وأهل الإرجاء يقولون: هو مقطوع متفرق).
    ثم قال: (ولو كان الأمر كما يقولون لكان من عصى وارتكب المعاصي من المحارم لم يكن عليه سبيل، فكان إقراره يكفيه عن العمل، فما أسوأ هذا القول وأقبحه، فإنا لله وإنا إليه راجعون).
    فهو قول قبيح لأن الإنسان قد يرى أنه أتى بالإيمان وإن لم يعمل على زعمهم، فهذا قول قبيح، وأثره سيئ في حياة الإنسان وفي عبادته.
  3. الوجهة الشرعية في إجراء الأحكام على الناس في الدنيا والآخرة

     المرفق    
    قال: (وقال فضيل : سمعت سفيان الثوري يقول: من صلى إلى هذه القبلة فهو عندنا مؤمن، والناس عندنا مؤمنون بالإقرار والمواريث والمناكحة والحدود والذبائح والنسك، ولهم ذنوب وخطايا الله حسيبهم، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، لا ندري ما هم عند الله).
    وهذه قاعدة أخرى عظيمة من قواعد أهل السنة والجماعة في الأحكام، وهي أن الناس ينظر إليهم من جهتين:
    من جهة أحكام الدنيا، ومن جهة أحكام الآخرة وما عند الله.
    فعندما نحكم فإننا نتحدث عن الإيمان من جهة أحكام الدنيا ويكون هذا الحكم مبنياً على الأمور الظاهرة، فلا نتكلم في البواطن أبداً، فإذا شهد المرء أنه لا إله إلا الله قلنا: هذا آمن، ولا ندري بحقيقته، فقد يكون منافقاً، فنجري عليه الأحكام الظاهرة كما قال صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام )، لكن المقصود بالظاهر ما لم يرتكب شيئاً ظاهراً، فنحن نعامله بالإقرار، فكل من أقر بالإسلام قبلنا قوله، وإن أقر في المعركة لم نقتله، وإن أراد الدخول إلى دار الإسلام وقال: أنا مسلم أدخلناه ليعيش بين المسلمين في أي موضع من المواضع، بل إن العلماء عملوا في ذلك بالقرينة وليس بالإقرار فحسب، كما إذا وجد مختون بين قوم غير مختونين وأشتبه فإنه يحكم بإسلامه.
    وكذلك إذا وجد لقيط في دار الإسلام في محلة فيها كفار، فاللقيط يغلب في حقه جانب الإسلام.
    وهكذا إذا جاءك امرؤ فقال: هلك هالك عن زوجة وابن وبنت وكذا وكذا، فإنك تفرض بينهم بحسب ما شرع الله من الفرائض على أنهم مسلمون، ما لم يتبين لك أن أحدهم كان مرتداً.
    وكذلك المناكحة فإذا جاءك رجل متزوج من امرأة فإنك تصحح العقد على أنهما مسلمان، وكذلك الحدود، فنقيم على الناس الحدود على أنهم مسلمون، وكذلك الذبائح، كما جاء في حديث أنس : ( من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو مسلم )، فنحن نأكل ذبيحته وهو يأكل ذبيحتنا ما دام ظاهره هو الإسلام.
    قال سفيان: (ولهم ذنوب وخطايا الله حسيبهم) وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: ( وحسابهم على الله )، فنحن لا ندري ما ذنوبهم وما خطاياهم في السر، ولم يكلفنا الله عز وجل أن نشق عن قلوبهم، أو أن نتجسس لننقب عما يعملون لنتأكد من إيمانهم، ولم يكلفنا الله بامتحانهم.
    والحالة الوحيدة التي يكون فيها الامتحان هي إذا كان يترتب على ذلك مصلحة شرعية، فلو أنك أردت أن تتوثق من إنسان ليعمل عندك أو ليذبح لك فإنك تتحرى صلاته وأمانته ودينه، وهذا التحري شيء آخر، وكذلك تتوثق من إنسان لتصلي خلفه، هل هو مبتدع أم هو من أهل السنة ، لأن ذلك لمصلحة في دينك أنت، وليس المقصود الحكم على دينه، فأنت يهمك شيء من دينك، ولهذا لما جاء معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجارية ما سأل ليحكم عليها بأنها مسلمة أو كافرة، لكنه جاء ليقول: إن أمي نذرت أن تعتق رقبة، وهذه الجارية قد صككتها وأنا بشر آسف كما يأسف الناس، فهل تجزئ أو لا تجزئ؟ ففي هذه الحالة اختبرها النبي صلى الله عليه وسلم وسألها أسهل ما يكون من الأسئلة؛ لأنه ليس المهم التنقيب، فقال لها: (أين الله، و: من أنا)؟ وأوضح شيء في الدنيا كون الله تبارك وتعالى في السماء، يقر بذلك كل من له عقل، وكون محمد صلى الله عليه وسلم هو رسول الله أمر لا يجهله أحد في المدينة مؤمن ولا كافر، فلما أجابت قال: ( اعتقها فإنها مؤمنة ).
    وكذلك إذا تقدم رجل ليخطب منك إحدى بناتك فإنك تسأل عن دينه لمصلحة شرعية، وهكذا.
    فالمقصود أنه لا تناقض، فالحكم العام على الناس هو الإسلام، فكل من أظهر الإسلام حكمنا له بالإسلام، أما في التعامل الذي يستدعي التأكد من ثبوته، فهذا لا بأس بالسؤال أو التحري عنه.
  4. حكم الاستثناء في الإيمان

     المرفق    
    قال فضيل: (سمعت المغيرة الضبي يقول: من شك في دينه فهو كافر، وأنا مؤمن إن شاء الله. قال فضيل: الاستثناء ليس بشك).
    يقول: حينما أقول: أنا مؤمن إن شاء الله فلا أقولها شكاً، لكن أقولها لئلا أزكي نفسي، وقدم لذلك بقوله: (من شك في دينه فهو كافر) إذاً: الاستثناء ليس بشك، فمن قال: أنا مؤمن إن شاء الله، ويقصد بذلك التحرز من التزكية، وأنه لا يزكي نفسه فقوله حق، أما إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله ويقصد مجرد الإسلام من غير جزم، فهذا شاك في دينه، وفرق بين من يقول ذلك شكاً وبين من يقوله تحرزاً من التزكية.
  5. موقف المرجئة من نصوص الوعيد

     المرفق    
    قال: (وقال فضيل : المرجئة كلما سمعوا حديثاً فيه تخويف قالوا: هذا تهديد. وإن المؤمن يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده، ويرجو وعده، وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده، ولا يرجو وعده).
    يقول: لا تغتروا بكلامهم، فإنهم كلما سمعوا آية أو حديثاً فيه تخويف قالوا: هذا تهديد. كما يقول بعضهم: هذه لمجرد التغليظ! فإذا سمعوا قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ))[النساء:10] قالوا: هذه الآية لمجرد التغليظ، أي: يمكن ألا يعذب فاعل ذلك، واللبس يأتي من هنا، وهو أن بعض الناس يقول: ما دامت تغليظاً فمعنى ذلك أنه لن يتحقق الوعيد، لكن أهل السنة والجماعة يقولون: قد يتحقق الوعيد وقد لا يتحقق.
    وإذا قيل لأولئك: ما تقولون في حديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )؟ قالوا: هذا تغليظ وتهديد! هكذا يخيل الشيطان لهم، فيرتكبون الموبقات، وكذلك يقولون في قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده ) هذا للتهديد، ويقولون في قوله تعالى: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[النساء:65] هذا للتهديد والتغليظ.
    وهذا منهج خبيث لأهل البدع من المرجئة ومن شابههم في التقليل من قيمة النصوص الشرعية، فمهما وعظت أو ذكرت بآيات الله وخوفت الناس من الذنوب والمعاصي قالوا: هذا للتهديد والتخويف.
    يقول الفضيل : نعم هذه الأحاديث وهذه الآيات تهديد وتخويف، ولكن المؤمن يخاف تهديد الله وتخويفه ووعيده، أليس المؤمن يخاف وهو يطيع الله تعالى؟! كما قال تعالى: (( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ))[المؤمنون:60]؛ يخاف وهو يعمل الطاعات ألا يقبل منه، فكيف بمن يعمل الفجور والذنوب والمعاصي ولا يخاف تهديد الله ووعيده؟! فالمؤمن يخاف، وأما المنافق فلا يخاف تحذير الله ولا تخويفه ولا وعيده.
    وقد قيل: ما أمنه إلا منافق، ولا يخافه إلا مؤمن، فالمؤمن يخاف من وعيد الله ومن تحذير الله ومن تخويف الله.
    نعم إن نصوص التخويف والتحذير لا تتحقق في المعنى بذاته إلا إذا حصلت الشروط وانتفت الموانع، ولكن ما يدريك أن تكون الشروط متوافرة والموانع منتفية؟! فلا بد من أن تخاف الله وأن تخاف وعيد الله وألا تفعل ما حرم الله تبارك وتعالى، أما المنافق فلا يبالي بهذا ولا بذاك.
    وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم وضرب المثل لحال المؤمن وحال المنافق، فالمؤمن: يرى ذنوبه كالجبل يخاف أن يقع عليه، وأما المنافق فيرى ذنبه كالذباب وقع على أنفه فقال به هكذا، فيزني ويشرب الخمر ويأكل حقوق الناس ويقطع الرحم ويغتاب وينم ويفتري على الله ويفتري على الناس ويحسد خلق الله ويهمل فرائض الله ولا يبالي ثم يقول: ماذا صنعت؟! أنا مؤمن، وهذا تهديد وذاك وعيد، وهكذا يأتيه الشيطان بالشبهات بعد أن أوقعه في الخطايا والموبقات.
    أما المؤمن فيجتنب ما حرم الله، ولا يفعل هذه الأفاعيل، فهو يخاف الله، فإن وقع في شيء خاف وارتعد، ولهذا جاء ماعز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! طهرني). فكان يقول له: لعلك كذا، لعلك كذا، وهو يقول: (طهرني)، يريد أن يتطهر، وكم ممن يزني -والعياذ بالله- ولا يبالي وكأنه لم يفعل شيئاً قط، ويشرب الخمر وكأنه ما أتى أم الخبائث ولا فعل شيئاً، ويأكل الربا وقد توعده الله تبارك وتعالى عليه بما نعلم.
    بل إن أكلة الربا ودعاة الاختلاط ومروجي الفساد اليوم يرون أنهم مسلمون معتدلون، وأن من يقول: إن الاختلاط حرام، والربا حرام يجب أن يلغى، فهو مسلم متطرف، فليست المشكلة في أنهم لا يخافون من الذنوب، بل أصبحوا يؤصلون لذلك، وأما الملتزم فهو الذي لا يقبل كلامه، وينبز بالألقاب المختلفة، وينظرون إليه على أنه متطرف من أهل الغلو، وأنه متشدد من الخوارج .. إلى آخر ما يطلقون مما نسمع ونقرأ كل يوم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
    قال: (وقال فضيل : الأعمال تحبط الأعمال، والأعمال تحول دون الأعمال).
    أي أن أكل الربا قد يحبط الجهاد، وقد يحول ذنب دون أجر طاعة من الطاعات، نسأل الله العفو والعافية.
    إذاً: فالعمل من الإيمان، ولابد من أن تصلح الأعمال كلها، فليجتهد الإنسان في إصلاح عمله، وإلا فربما أذنب ذنباً فأحبط عملاً صالحاً آخر أو قلل أجره، وربما أوبق هذا الذنب دنياه وآخرته، وقد تقدم موضوع الإحباط وسبق الكلام فيه بالتفصيل، وبهذا نكون قد ختمنا كلام الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
  6. بيان نوعي الإرجاء والمراد بالمرجئة عند الإطلاق

     المرفق    
    يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: (قيل للفضيل : هل هذا الكلام -وهو أن الإيمان يشمل هذه الواجبات مع تلك الأركان والأصول- من رأيك، أم سمعته مأثوراً منقولاً عمن قبلك؟
    قال: بل أخذناه وتعلمناه ونقلناه عن أهل الفضل والفقه والعلم ممن قبلنا).
    قال الإمام أحمد: (وقال فضيل : يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة) وهذا التفريق عظيم جداً؛ لأنه من إمام جليل ومن مصدر موثوق متقدم فرق به بين نوعين من أنواع الإرجاء، فسمى الفريق الأول أهل الإرجاء، وسمى الفريق الثاني الجهمية .
    وهنا نستفيد من هذا النص فائدة علمية عظيمة جداً، وهي أن السلف إذا ذموا المرجئة أو تكلموا فيهم وطعنوا في عقائدهم؛ فإنما يعنون بهم مرجئة الفقهاء أهل الكوفة ، أما الذي يقول: إن الإيمان مجرد المعرفة فهذا لا يسميه السلف مرجئاً، بل يسمونه جهمياً، فهذا له وصف آخر وشأن آخر.
    وهذه من الفوائد المهمة التي يجب أن نعلمها، وعليه فإذا أردنا أن نسمي الأشاعرة على الحقيقة في باب الإيمان فهل نسميهم مرجئة أم جهمية الأشاعرة ؟
    إن الأشاعرة يقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب. ولا يدخلون قول اللسان ولا عمل الجوارح ولا عمل القلب في الإيمان، بل التصديق بالقلب فحسب هو الإيمان عند الأشاعرة ، وبناءً على هذا يدخلون في الجهمية، ولذا فإن إماماً من أئمتهم -وهو أبو المعالي الجويني - يذكر في الإرشاد المذاهب في الإيمان، فيقول في معنى كلامه: قال السلف: الإيمان قول وعمل، وقال جهم : الإيمان المعرفة بالقلب فقط، وقال أهل العراق أو الكوفة : الإيمان: التصديق والإقرار باللسان، قال: والذي نختاره أن الإيمان هو التصديق بالقلب وحده.
    فهو في الحقيقة يقول بصراحة: أنا أخالف السلف، وأنا أخالف أبا حنيفة ومرجئة الفقهاء ، وأخالف الخوارج والمعتزلة ، وأقول كقول جهم ؛ إذ الفرق بينه وبين جهم هو أن جهماً قال: الإيمان المعرفة، وهو قال: التصديق، فإذا كان الإيمان هو التصديق بالقلب مجرداً عن عمل القلب وعمل الجوارح وقول اللسان، فما الفرق بينه وبين مجرد المعرفة بالقلب؟! إن الفرق بينهما شيء دقيق قد يصعب على العقلاء أن يتصوروه.
    فنقول: مثل كلام هؤلاء الأئمة له قيمته العلمية، ولذلك نجد أن الفضيل وعبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة وإسحاق والإمام أحمد و يزيد بن هارون وكثيراً من العلماء الذين يتكلمون في ذم الإرجاء والمرجئة -كما جمع الطبري كلامهم في تهذيب الآثار ، وجمعه اللالكائي و الآجري - إنما يقصدون الذين يقولون: إن الإيمان إقرار باللسان واعتقاد بالقلب، ولا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، فمصدر الذم عندهم وسببه أن هؤلاء لا يدخلون الأعمال في الإيمان، أما من وصل به الحال إلى أنه لا يدخل الإقرار باللسان ولا يدخل أعمال القلب أيضاً؛ يعد من الجهمية .
    وعليه فلا مانع بعد ذلك أن نقول: إن المرجئة على ضربين: مرجئة الفقهاء وقولهم كذا وكذا، والمرجئة الغلاة وهم الجهمية ، ثم نقول: والمرجئة الغلاة أقسام: الجهمية و الأشعرية و الماتريدية ومن وافقهم.
    وعلينا أن نعلم -كما قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في: (فضل علم السلف على علم الخلف )- أن الكلمة الواحدة من كلام السلف توزن بمجلدات من كلام الخلف، وذلك مثل هذه العبارة في هذا التعريف الدقيق.
    إذاً: فكل ذم ورد عن العلماء المتقدمين في ذم المرجئة فالمقصود به مرجئة الفقهاء ، أما عندما يتكلمون عن المرجئة الغلاة الذين يرون أن الإيمان عمل واحد من أعمال القلب؛ فهؤلاء يسمونهم الجهمية ، والذم والعيب والطعن فيهم أكثر.
    فإن كان ولا بد من أن نسميهم مرجئة فنقول: المرجئة منهم الغلاة وهم الجهمية ، ومنهم المرجئة الآخرون وهم مرجئة الفقهاء ، ويدخل فيهم كذلك الكرامية الذين يقولون: إن الإيمان هو قول اللسان فقط.
    ويمكن أن نقسم الناس في الإيمان قسمة أخرى، فنقول: من الناس من يجعل الإيمان شيئاً واحداً، ومنهم من يجعله شيئين، ومنهم من يجعله أكثر، فالذين جعلوا الإيمان شيئاً واحداً هم المرجئة الغلاة، وهم الأشاعرة الذين يقولون: هو التصديق، والجهمية الذين يقولون: هو المعرفة، والكرامية الذين يقولون: هو قول، والذين يرون الإيمان شيئين هم مرجئة الفقهاء ، والذين يرونه أكثر من ذلك هم أهل السنة والجماعة .
    ويمكن أن نأتي بقسمة أخرى بحسب الأعضاء فنقول: من الناس من يكون الإيمان عندهم بالقلب وباللسان وبالجوارح، وهؤلاء هم أهل السنة ، ومنهم من يقول: إن الإيمان يكون بالقلب وحده، وهؤلاء هم الجهمية والأشاعرة.
    ومنهم من يقول: إنه يكون باللسان وحده وهم الكرامية .
    يقول الفضيل رحمه الله تعالى: (يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية : الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة : الإيمان المعرفة والقول والعمل، فمن قال: الإيمان قول وعمل فقد أخذ بالوثيقة، ومن قال: الإيمان قول بلا عمل فقد خاطر وغامر؛ لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه)، فلو أن شخصاً قال: أنا مقر ومؤمن، والأعمال عندي ليست داخلة في الإيمان، فإنه يذنب بناءً على هذا بذنب، فالنتيجة أنه خاطر؛ لأن الذنوب قد تعود على الإقرار بالإبطال، فلا ينفعه ذلك الإقرار.
    أما المؤمن فإنه -وإن أذنب- يشعر بأن الذنوب تضعف الإيمان وتنقصه وتدني درجته ومرتبته، فلا يهمل في الطاعة ولا يهمل في الأعمال، ويخاف من الذنوب ويخشاها.
  7. الموقف من الإجابة على سؤال: أمؤمن أنت؟ وغيرها

     المرفق    
    قال الفضيل رحمه الله: (قد بينت لك إلا أن تكون أعمى)، وهذا كلام يهز مشاعر طلابه، يقول: هذه حقائق واضحة، فلا تتبع المبتدعة ولا تنح منحى المرجئة ولا غيرهم.
    1. توجيه الفضيل بشأن جواب سؤال الشخص عن كونه مؤمناً

      قال الفضيل: (إذا قلت: آمنت بالله فهو يجزئك من أن تقول: أنا مؤمن).
      يعني: لو افترض أن أحداً سالك فقال: أنت مؤمن؟ فقل: آمنت بالله. وكذلك تقول: آمنت بالله من غير سؤال، لكن ما الفرق بين أن يقول العبد: آمنت بالله وبين أن يقول: أنا مؤمن؟ يقول: (لأن (آمنت بالله) أمر)، وهناك نصوص تبين هذا، قال تعالى: (( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ))[البقرة:136]، وفي الحديث: ( قل آمنت بالله ثم استقم ).
      يقول: (وقولك: أنا مؤمن تكلف لا يضرك ألا تقوله)، فهناك فرق بينه وبين (آمنا بالله)، فقد أمرنا الله وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول: آمنا بالله، لكن إذا قلت: أنا مؤمن فهذا تكلف لا يضرك ألا تقوله، لكن لو لم تقل: آمنت بالله ضرك ذلك، فخذ الذي لا تكلف فيه ولا يضرك، فانظر إلى الفقه!
      قال: (ولا بأس إن قلته على وجه الإقرار وأكرهه على وجه التزكية)، والمقصود بالكلام هو التزكية، والخلاف بين المرجئة وبين غيرهم ليس مجرد الإقرار، وإنما المقصود أنهم يدعون ذلك على سبيل التزكية، فعندهم أن الإيمان كامل!
      ولهذا قال ابن أبي مليكة: [أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق ما منهم أحد يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل]. لأنه ظهر من يقول: إيماني كإيمان جبريل ويعني مجرد التصديق، يقول: أنا مصدق وجبريل مصدق! وما كان أحد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا القول أو يجرؤ على أن يتحدث به.
    2. قاعدة هجر المبتدع حتى يظهر مخبره بين الناس

      قال: (وقال فضيل: لو قال رجل: مؤمن أنت؟ ما كلمته ما عشت).
      وهذه قاعدة منهجية، ومعناها أنه ليس شرطاً إذا كان لك رأي أن تقول في كل ما يقال، فبعض الناس يرى أنه لا بد من أن يقول رأيه، وهذا ليس شرطاً، بل قد يكون الحق وقد تكون السنة ألا تتكلم في هذا الأمر، فهذه قضايا مهمة جداً نغفل عنها.
      فـالمرجئة كانوا يشيعون بين الناس قولهم: اذهبوا إلى فلان واسألوه: أمؤمن أنت؟ فإن قال: نعم، قالوا: إذاً هو يقول: إنه كامل الإيمان، فهو من أهل مذهبنا ومن أهل ملتنا، وإن قال: لا، قالوا: كيف يشهد على نفسه بالكفر!
      فليس شرطاً أنك تخوض في هذه الأمور، بل العلماء في هذه المسائل على أن من يخوض فيها يهجر، فيصبح معلوماً أن من يشيع هذا الكلام في المجتمع هم أهل البدع وأهل الإفساد وأهل الفتنة وأهل الإرجاء، فينقطع دابرها، وإن لم يوضح هذا الحد تجرأ كل أحد وخاض الناس فدخل اللبس وتفرقت الأمة في الدين، وهذا من الحكم التربوية العظيمة، فلو قال لك أحد: أنت مؤمن؟ فلم تكلمه ما عشت وهجرته لم يتجرأ بعد ذلك على أن يسأل، فإذا حصل ذلك هدأت الفتنة وبقي الأمر محصوراً في أهل البدعة، وأهل البدعة تقام عليهم الحجة.
      فعلماء السلف رحمهم الله تعالى وضعوا لنا منهجاً في هذه المسألة وغيرها، وهو أنه يجب أن يعرف العالم من يخاطب وبم يخاطب، ومتى لا يتكلم في الموضوع بـ(نعم) ولا بـ(لا) حتى لا تثور مشاكل وفتن بين الناس.
      فقد يجيء السائل إلى العالم فيقول له: هل يعذر أحد بالجهل؟ فيقول: لا يعذر، يقصد في ذهنه شيئاً معيناً؛ إذ كيف يعذر أحد في أنه ما عرف الله ووحد الله وهو في بلاد المسلمين وبين المسلمين؟!
      فيبني السائل على ذلك أحكاماً وقد يكفر بعض المسلمين وتراق دماء وتنقل الفتوى عن العالم ويقال: إنه يرى ذلك، بالمنظار الذي يراه السائل.
      والسائل يقصد أشياء كثيرة ما قصدها المفتي ولا درى أنه يترتب عليها ما يترتب، وإنما قال: لا، وفي ذهنه شيء آخر.
      ثم يأتي فيقول آخر: يا شيخ! هل يعذر أحد في الجهل في التوحيد؟ فيقول: نعم؛ لأنه ينظر من زاوية أخرى؛ إذ قد تخفى بعض صفات الله وبعض فروع التوحيد وبعض الأحكام على بعض الناس، فيقول: نعم يعذر حتى يعلم. لكن السائل يأخذها على أن هؤلاء الذين يشركون ويعبدون بجهل معذورون.
      فالمعركة قائمة بين هذين النقيضين، فهذا يسأل ويجيب جواباً إجمالياً ينبني عليه ما الله به عليم من الفتن، ثم إذا ظهر الموضوع وضوربت الأقوال قالوا: قال الشيخ فلان كذا، وخالفه الشيخ فلان، وافتعلوا معركة بين الشيخين مع أنه لا يوجد خلاف بينهما، فكل منهما يتكلم ويقصد شيئاً غير الذي يقصد الآخر، ولو جلسا جميعاً ما احتاجا إلى أن يختلفا، ولو سئلا عن صورة معينة من صور الشرك مثلاً لما اختلفا فيها، لكن هكذا تصور الأمور، فيقال: الشيخ الفلاني يميل إلى الإرجاء، والشيخ الفلاني يميل إلى رأي الخوارج ، وهكذا تتضخم المسألة.
      ولذلك كان الحل التربوي لكثير من الأمور أن يقال: لا يتحدث ولا يخاض في هذا الموضوع، وإذا كان لا بد من أن تتناول المسألة فلتتناول كلياً بتفصيل كامل، بحيث لا يأخذ أحد جزءاً من الكلام ويدع الجزء الآخر، وإلا كان هذا من التحريف، ومن تحريف الكلام أن يأخذ بعضه ويترك الباقي، وهذا التحريف هو فعل اليهود ونحوهم.
      فالسلف الصالح أفقه الناس في التربية وفي التزكية، وأصح الناس رأياً بلا ريب، وأكثرهم صواباً في منهج الدعوة، فهناك أمور كانوا يهجرون من يتكلم فيها لمجرد أنه تكلم، ولذا قال الفضيل لو قال لي أحد: أمؤمن أنت ما كلمته ما عشت، فرضي الله عنهم وأرضاهم. ‏