المادة كاملة    
اتفقت كلمة السلف ومن تبعهم من علماء أهل الحديث والفقه على أن حقيقة الإيمان قول وعمل، ونقل الإجماع على ذلك غير واحد من الأئمة، مستدلين لذلك بجملة من آيات الكتاب العزيز وأحاديث السنة النبوية الدالة على تلك الحقيقة، وإنما سلك المخالف لذلك مسلك التأويل الذي لا يسلم صاحبه من إيرادات تفتح عليه خرقاً لا يرقع، والحقيق بالمسلم التسليم للنصوص بما جاءت به، فإنه إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
  1. تابع ما نقل عن علماء الأمصار في بيان حقيقة الإيمان

     المرفق    
    1. ما نقله الإمام البغوي من الاتفاق على دخول الأعمال في الإيمان

      الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
      فكنا قد شرعنا في موضوع الإيمان، وتحدثنا عن إجماع السلف الصالح على حقيقة الإيمان، وذكرنا أربع نقولات عن الأئمة في حكاية الإجماع، وهنا نشرع في ذكر النقل الخامس عن الإمام البغوي رحمه الله تعالى.
      يقول الإمام البغوي: (اتفقت الصحابة فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، لقوله سبحانه وتعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ))[الأنفال:2] إلى قوله تعالى: (( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ))[البقرة:3]، فجعل الأعمال كلها إيماناً، وكما نطق به حديث أبي هريرة)، يعني: حديث: ( الإيمان بضع وسبعون شعبة ).
      ثم قال: (وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة).
      وسنتحدث -إن شاء الله تعالى- عن هذه الزيادات، مثل عقيدة، واعتقاد، ونية، وسنوضح لماذا زاد ذلك، وهل هذه الزيادة فيها استدراك أم أنها مجرد بيان وإيضاح.
      قال: (وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة).
      أما زيادة الإيمان فقد جاءت في القرآن، كقوله تعالى: (( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ))[الفتح:4] في آيات كثيرة.
      قال: (وجاء في الحديث بالنقصان)؛ لأن هناك من شكك فقال: ما الدليل على وجود النقصان مع وجود الدليل على الزيادة؟!
      فقال بعضهم: ما قبل الزيادة فهو قابل للنقصان.
      وقال آخرون: بل ورد دليل النقص في قوله صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل ) ومعناه أن الإيمان ينقص في هذه الحال حتى لا يكاد يكون شيئاً، وإذا كان يتخيل في حبة خردل فهو يتصور فيما هو فوقها.
      ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن ) والدين هو الإيمان، ولهذا قال الإمام البغوي: (وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء)، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسره بقوله: ( أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟! قلن: بلى. قال: فذلك نقصان دينها )، فالصلاة التي سماها الله في القرآن إيماناً في قوله تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ))[البقرة:143] أي: صلاتكم، سماها النبي صلى الله عليه وسلم هنا أيضاً ديناً، وجعل نقصها نقصاً في الدين، فلو أن رجلاً عاش أربعين سنة يصلي وامرأته عاشت أربعين سنة تصلي فالرجل أكثر أجراً من المرأة؛ لأنه لا بد لها من أن تدع الصلاة في أيام الحيض وفي أيام النفاس.
      ثم قال: (واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان وتباينهم في درجاته)، فهذه قضية مجمع عليها بينهم، فما كان أحد يجرؤ على أن يقول: إن إيمانه كإيمان أبي بكر وعمر ، ولا أحد يقول: إيماني كإيمان جبريل، كما نقل ذلك عن المرجئة ، وإنما كان الصحابة الكرام يعلمون أن تفاضلهم فيما بينهم وتفاضل الناس جميعاً إنما هو في الإيمان، فكانوا مجمعين على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان، وتفاضل أهل الإيمان في الإيمان يكون في الإيمان كله ويكون في الشعبة الواحدة من شعبه، كما كان الخلفاء الراشدون أكثر إيماناً من بقية العشرة، ثم بقية العشرة أكثر وأفضل إيماناً وأكمل من أهل بدر ، ثم أهل بدر أفضل من غيرهم من الصحابة، ومن جاهد وأنفق من قبل الفتح أفضل ممن جاهد وأنفق بعده.
      وهناك تفاوت يكون في شعبة من شعب الإيمان، وهذا دليل على تأكد التفاوت، كالصلاة مثلاً، فليس كل مصلى صلّى كأي مصل آخر، فقد يقف رجلان أو أكثر في صف واحد في صلاة واحدة، لكن بين هذا وذاك مثل ما بين السماء والأرض، فهذا التفاوت في العبادة الواحدة، وآخر قد يقرأ القرآن وغيره مثله، لكن بين هذا وهذا من التفاوت الشيء العظيم، وهكذا.
      فالناس يتفاوتون، والمرجع في ذلك إلى اليقين والإخلاص وسائر أعمال القلوب من الخشوع والخضوع والرهبة والرغبة والإنابة، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في حديث المرأة البغي التي نزلت البئر فسقت الكلب، فليس كل متصدق ينال من المغفرة والدرجة مثل هذه المرأة، وذلك لأنها فعلت ذلك عن تواضع وصدق وإخلاص وبعد عن الرياء، أما غيرها فقد يفعل مثل ذلك أو أعظم، فيتصدق، ويكون عبداً صالحاً مؤمناً، ومع ذلك لا ينال مثل ما نالت، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سبق درهم ألف درهم )، والمقصود النية والإخلاص، وليس مجرد الكثرة؛ فإن الألف -بلا ريب- أكثر من الواحد، لكن صاحب الدرهم تصدق وهو صحيح شحيح يرجو الغنى ويخشى الفقر، ولا يجد إلا ذلك الدرهم فاضلاً عن قوت أهله، وربما لا يكون له سواه لقوته، والآخر قد لا يكون كذلك.
    2. ما نقله الحافظ ابن عبد البر من إجماع أهل الفقه والحديث على حقيقة الإيمان

      النقل السادس: عن الإمام الحافظ أبي عمر بن عبد البر رحمه الله، وهو الإمام المشهور في غرب العالم الإسلامي وهو صاحب كتاب التمهيد ، وهو سفر عظيم جليل مشهور.
      قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد في الجزء التاسع من الطبعة المغربية: (أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل). يريد أن يخرج أهل الكلام ولا يعتد بإجماعهم، ولذلك إذا وجدنا الإجماع عن أهل الفقه والحديث وشيوخهم وأوائلهم من الصحابة؛ فلا اعتداد بأقوال أهل الكلام، ولا بأهل الرأي إذا خالفوا هؤلاء.
      قال: (ولا عمل إلا بنية) وبعض هذه الزيادات تقال للاحتراز؛ لأنه يخشى أن يفهم بعض الناس أن إجماع الصحابة ومن بعدهم على أن الدين قول وعمل معناه أن القول هو التلفظ باللسان، والعمل هو العمل بالجوارح فحسب، فيقول قائل: فأين ما في القلب من النية أو من الإخلاص أو من العقيدة؟!
      فلذا قال بعضهم: (وعقيدة)، وقال بعضهم: (ونية)، ولكننا على التفسير الذي سنذكره تفصيلاً، وهو أن العمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، فالنية من عمل القلب، وكذلك الإخلاص، والنية هي الإخلاص، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات )، ولما جعل البخاري أول حديث في الصحيح حديث عمر : ( إنما الأعمال بالنيات ) أراد التنبيه على الإخلاص، فعلى الإنسان وطالب العلم خاصة أن يبتدئ أي عمل من الأعمال بالإخلاص لله.
      فالنية المقصود بها إخلاصها؛ إذ لا يمكن لأحد أن يؤمن ونيته ليست خالصة لله تعالى، فإذا قال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) غير مخلص في هذه النية؛ فإنه يكون من المنافقين والعياذ بالله، نعم الإخلاص يتفاوت، لكن لا بد منه؛ ولهذا يقول هنا: (ولا عمل إلا بنية) حتى لا يفهم العمل مجرداً عنها، وإلا فذلك غير وارد عندما قال الصحابة ومن بعدهم: الإيمان قول وعمل، فهم لا يعنون بذلك مجرد عمل الجوارح، وإنما يعنون عمل القلب كله مع عمل الجوارح.
      قال: (والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان).
      وهذا ما فصله البخاري تفصيلاً عظيماً في كتاب الإيمان في الصحيح من خلال تراجمه؛ فإنه ترجم تراجم عديدة نوصي بقراءتها لنعلم أن الأعمال التي جاءت في أحاديث كثيرة من الإيمان، كصيام رمضان وقيامه، وقيام ليلة القدر، وأداء الزكاة، والصوم، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وأن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، إلى غير ذلك من الأمور التي جاء أنها بذاتها إيمان، وهي أجزاء من الإيمان، فالصلاة إيمان، والزكاة إيمان، والحج إيمان، كما في حديث وفد عبد القيس الذين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا الخمس من المغنم ).
      فكل الأعمال إيمان، ولذا نجد في الأحاديث: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً )، ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً )، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفعل كذا، أو فلا يفعل كذا، وكلها على كثرتها تدل على أن هذه الأعمال في ذاتها إيمان وبمجموعها يكون الإيمان، ولهذا يزيد وينقص بمقدارها.
      وحديث الشُعب الذي تقدم يدل على ذلك دلالة واضحة؛ لأن الإيمان إذا كان بهذه المثابة ويجمع هذه الشُعب، فإن الناس يتفاوتون في فعلها، فمنهم من يأتي بمجموعة ويترك بعض الشعب، ومنهم من يأتي بمجموعة ولكنه لا يأتي بها على وجه الكمال، فهي في ذاتها متفاوتة، وفي مجموعها يتفاوت الناس بحسب الإكثار أو الإقلال منها، ومن هنا كان لا بد من أن يتفاوت الناس في الإيمان مع كون كل عمل من أعمال الإيمان يسمى إيماناً، وكل طاعة من الطاعات تسمى إيماناً، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وتسمى إيماناً، وهي أصل الإيمان وأعظم شيء فيه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وهذه إيمان، والحياء شعبة من الإيمان فهو يسمى إيماناً.
      ولا يخفى على أحد ما في هذا الحديث العظيم من الدلالة الجلية على صحة عقيدة أهل السنة والجماعة في أبواب الإيمان، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، فبيانه صلى الله عليه وسلم هو أعظم البيان وأجلاه، ولهذا قال: ( الإيمان بضع وستون شعبة )، أو: ( بضع وسبعون شعبة ) على اختلاف الروايات في الصحيحين ، ثم قال بعد أن بين هذا المجموع: ( فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق )، فذكر أعلى الشعب وأدنى الشعب، ثم ذكر شعبة ثالثة فقال: ( والحياء شعبة من شعب الإيمان ).
      وبعيداً عن التعقيدات علمنا صلى الله عليه وسلم أن نستنبط من هذا الحديث أن أعمال الإيمان منها ما هو أركان ومنها ما هو واجبات ومنها ما هو مستحبات، والأركان أعظمها شهادة أن لا إله إلا الله، فضرب المثل بأعظم الأركان لأعلى الواجبات، ثم ضرب مثلاً لأدنى الشعب بإماطة الأذى عن الطريق، وهي أدنى المستحبات، وقد يميط الإنسان الأذى وهو عابر لا يدري أنه أماطه ولم يفكر في ذلك ولم يحتسب الأجر لدنو درجته في الإيمان، مع أن ذلك من كمال الإيمان، وأما ترك الركن فكفر يخرج من الملة، فإذا ترك أحد الشهادة التي هي أعظم الأركان أو ترك الصلاة، فليس بمسلم، ولا يكون له حكم المسلمين في الدنيا، ولا يكون من أهل الجنة في الآخرة؛ لأنه لم يأت بالشهادة، وأما ترك المستحب فلا يؤثر في الإيمان، ولا ريب في أن من تركه ينقص كمال إيمانه بحسبه، فليس من أماط الأذى كمن لم يمطه.
      ثم قال: ( والحياء شعبة من الإيمان ) فنبه هنا على الواجب، وأتى بواجب قلبي؛ لأن الأصل هو أعمال القلوب، وذكر أعظم هذه الأمثلة وهو الحياء، و(الحياء خير كله)، و(الحياء لا يأتي إلا بخير) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فأصل جميع أعمال الخير من فعل المأمور أو ترك المحظور يرجع إلى الحياء، فمن استحى من الله أتى بالمأمورات وترك المحظورات.
      فهذا الحديث على وجازة ألفاظه وقلتها جمع هذه الأصول العظيمة، ولو أن أي مذهب غير مذهب أهل السنة والجماعة أراد أن يستفيد من هذا الحديث لما استطاع، بل لتناقض مذهبه مع هذا الحديث، إلا المذهب الحق، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة والحمد لله.
    3. من سماهم الإمام ابن عبد البر من الفقهاء وغيرهم في قوله بحقيقة الإيمان

      ثم ذكر الإمام ابن عبد البر خلاف أبي حنيفة وأهل الرأي في هذا، ثم قال: (وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار)؛ لأن بعض الفقهاء من أهل الرأي في الفقه ليسوا موافقين لكلام أبي حنيفة في الإيمان، ومنهم ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، ذكر ذلك الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله، وهو شيخ أهل الرأي الأول.
      يقول: (وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بـالحجاز والعراق والشام ومصر منهم مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود بن علي) يعني الظاهريأبو جعفر الطبري) يريد أن يأتي بالأئمة من أصحاب المذاهب المتبوعة، فـمالك معروف، والليث كان مذهبه منتشراً في مصر ، ثم اندثر مذهبه، كما قال الشافعي : (الليث ضيعه تلاميذه)، وسفيان الثوري كان إمام الناس في زمانه في الكوفة ، وهو من الأئمة المتبوعين المعتد برأيهم، والأوزاعي كان إمام أهل الشام ، والشافعي معروفة مكانته، وكذلك الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه من أئمة أهل الحديث، وأبو عبيد إمام متبوع في اللغة والفقه، وداود بن علي إمام أهل الظاهر المؤسس للمذهب، وأبو جعفر الطبري أيضاً كان إماماً متبوعاً له مذهب وأتباع.
      قال رحمه الله تعالى: (ومن سلك سبيلهم، فقالوا: الإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة).
      وهذا بيان لما سبق ذكره من أنهم يقصدون بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح.
      قال: (وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان)، فالشعبة الواحدة من شعب الإيمان تسمى إيماناً.
      قال: (والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم) فهم يثبتون لهم إيماناً مقيداً، ولا يثبتون لهم الإيمان المطلق كما تقول المرجئة ، فالإيمان المطلق يمدح به من أتى بالواجبات وترك المحرمات ولم يأت بما يخل بالإيمان، فيطلق له الإيمان فيقال: هو مؤمن، كما قال تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، وهذا الإيمان مثل إيمان الصحابة والسلف الأول، يثبت لهم الإيمان المطلق، فهم المؤمنون حقاً من هذه الأمة، لكن فساق أهل القبلة وعصاتهم نثبت لهم مطلق الإيمان، فلا نخرجهم من الإيمان إلى الكفر كما فعلت الخوارج ، ولا نقول: هم في منزلة بين المنزلتين -أي: بين الإيمان والكفر- كما قالت المعتزلة ، ولكن نثبت لهم إيماناً مقيداً، فنقول عمن كان كذلك: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ونقول: هو مؤمن لكنه يشرب الخمر، فيفهم من ذلك أنه مسلم، وليست كلمة (مؤمن) بمعنى المؤمن الذي أثنى الله عليه ومدحه، وهذا كله سيتضح في مباحث مفصلة فيما بعد، ولكن المقصود من قول الإمام ابن عبد البر أنهم يعتقدون أن أصحاب الذنوب مؤمنون غير مستكملي الإيمان، فيثبت لهم إيمان مقيد.
    4. ما نقله الحافظ ابن كثير من الإجماع على حقيقة الإيمان

      وممن نقل الإجماع أيضاً الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، فإنه قال في أول تفسير سورة البقرة في تفسير قول الله تعالى: (( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ))[البقرة:3]: (فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص).
      فالإمام الحافظ ابن كثير وهو شافعي المذهب ومطلع على أقوال المذهب، يقول: إن الإيمان إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، وزاد أنه اعتقاد، ثم قال: (وهكذا ذهب إليه أكثر الأئمة) ثم استدرك فقال: (بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل ، وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً).
      وقد علق على كلامه بعض المحققين فقالوا: (لعله يعني بالإجماع إجماع الفقهاء والمحدثين، وإلا فإن جمهور علماء الكلام يرون أنه الاعتقاد فقط) وهذه مشكلة كثير من كتب العلم والسنة، أن يعلق عليها من يشوهها، كما في بعض التعليقات على شرح العقيدة الطحاوية ، فكتاب جليل كـتفسير ابن كثير لا ينبغي أن يعلق عليه من لا يدرك حقيقة مذهب السلف، فلما قال الحافظ ابن كثير: (إجماعاً) قالوا: (لعله -أي: هذا الإجماع- إجماع الفقهاء والمحدثين، وإلا فإن جمهور علماء الكلام يرون أن الإيمان هو الاعتقاد فقط).
      ويرد عليهم بأن الإجماع الذي يعتد به ويذكر هو إجماع العلماء من أهل السنة ، أما أهل البدع فلا يعتد بخلافهم، فلا يقال: اختلف العلماء في المولد، فمنهم من قال: إن عمل المولد سنة، ومنهم من قال: إنه بدعة، فهذا كلام لا يصح؛ لأنه بدعة لا يعتد بها، ولو اعتد بها لأصبحت كل قضايا ديننا خلافية، وهذا ما يخطئ فيه كثير من الناس، يقولون: ما دام الأمر خلافياً فكن مع أحد الأقوال أو رجحه، ولا تنكر على الآخرين، فأنت تأخذ بكلام الإمام أحمد وغيرك يأخذ بكلام المعتزلة ، ولا بأس بذلك، فكلها أقوال مأثورة منقولة!
      ونقول: هذا هدم للصراط المستقيم الذي أمر الله باتباعه فقال: (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ))[الأنعام:153]، فقائل هذا القول هو كمن يقول: اتبع أي سبيل شئت. وهذا لا يجوز أبداً، فنحن إنما ندعو الله ونقول: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ))[الفاتحة:6] وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أمر الدين، أما ما اختلف فيه من الفروع في الأحكام العملية، فهذا الذي يسع الإنسان أن يأخذ فيه أحد الرأيين على أن يتحرى في أن يأخذ ما يراه أقرب إلى الدليل.
      فلا يعتد بكلام أهل البدع على الإطلاق، وكيف يعتد بكلامهم والأئمة الأربعة الذين أجمعوا على حقيقة الإيمان قد ثبت عنهم ذم أهل الكلام، وحكم بعضهم فيهم بأن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في الأسواق؟! فمن كان هذا حاله هل يقال عنه: خالف فلان؟! فهذا مثل شارب الخمر، لا يعتد بخلافه في تحريم الخمر؛ لأنه يشربها، فلا نقول: إن المسلمين يحرمون الخمر إلا أن بعضهم يشربها، فهي خلافية، وهذا في الأمور العملية، وكذلك في الأمور الاعتقادية، بل هي أهم وأعظم، فلا يعتد بخلاف من خالف الحق وخالف السنة.
      فما أكثر من شوهوا كتب السلف العظيمة! وإن كان بعضهم قد خدم كتب السنة خدمة عظيمة، لكنه حاد عن الحق لجهله بعقيدة السلف، أو خطئه في بعض المسائل.
    5. ما نقله الحافظ ابن رجب عن السلف وأهل الحديث في حقيقة الإيمان

      وكما نقلنا عن الإمام ابن كثير وهو شافعي ننقل عن ابن رجب وهو حنبلي، حيث يقول رحمه الله في جامع العلوم والحكم في شرحه لحديث جبريل عليه السلام: (والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، وأنكر السلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكاراً شديداً).
      وهذا حق، فالسلف أنكروا على من أخرج الأعمال أو بعضاً منها عن الإيمان إنكاراً شديداً.
      قال: (وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولاً محدثاً: سعيد بن جبير و ميمون بن مهران و قتادة و أيوب السختياني و النخعي و الزهري و إبراهيم و يحيى بن أبي كثير وغيرهم، وقال الثوري : هو رأي محدث، أدركنا الناس على غيره)، فـالثوري يقول عن القول بإخراج العمل من الإيمان، وأن الأعمال والطاعات ليست من الإيمان: (هو رأي محدث). فحكم عليه بالابتداع، وأكد ذلك ووضحه بقوله: (أدركنا الناس على غيره) أي: أدركنا الأئمة الكبار العلماء الذين يؤخذ عنهم العلم.
      وهذه الأقوال التي نقلها الحافظ ابن رجب ذكرها اللالكائي في عقائد هؤلاء الأئمة، ونقلها الطبري في تهذيب الآثار ، وغيرهم ممن نقلوا عن هؤلاء الأئمة عقائدهم.
      وكلام الإمام الشافعي مهم جداً في هذا المقام، وترجع أهميته إلى أن أكثر الأشعرية ينتسبون إلى الشافعية، ثم بعد ذلك إلى المالكية، لكن أوائلهم كانوا شافعية، فمهم جداً أن نثبت أن الشافعي رحمه الله كان يقول بخلاف هذا القول، وما أكثر ما يقول بعض الناس: أنا شافعي، أو حنبلي، أو مالكي، أو حنفي، ويخالف هؤلاء الأئمة في الأصول وفي الفروع!
      فهي مجرد نسبة يتعصبون لها ويتقاتلون عليها وهم لا يتبعون هؤلاء الأئمة ولا يقتدون بهم في عقائدهم ولا في عباداتهم ولا في أخلاقهم ولا فيما ثبت عنهم من الخلال والخصال الحميدة، إنما أخذوا هذه النسبة ليتعصب بعضهم على بعض بها وليتقاتلوا وليختلفوا كما هو الواقع، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
      يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذا النقل عن الإمام الشافعي : (وقد ذكرنا عن الشافعي ما ذكره من الإجماع على ذلك قوله في الأم : وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: إن الإيمان قول وعمل ونية، ولا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر)، وهذا الكلام ذكره في كتاب الإيمان، وذكره أيضاً تلميذه الإمام ابن القيم في زاد المعاد .
      فهذا تأكيد من قبل علماء كثر مثل ابن رجب و ابن كثير و ابن تيمية و ابن القيم و أبي عبيد ، كلهم متفقون على أن الإمام الشافعي مذهبه أن الإيمان قول وعمل.
      ومع الأسف أن نجد بعد ذلك أن الشافعية يقولون: إن تارك الصلاة ليس بكافر، وإنما يقتل حداً لا كفراً، وهذا القول الراجح عندهم، وإلا فلهم قول آخر، وهذا يخالف ما ذكره الشافعي رحمه الله، ولإيضاح ذلك مكان آخر إن شاء الله.
    6. ما نقله اللالكائي عن الإمام الطبري في حقيقة الإيمان

      هناك نقل عن إمام متقدم مشهور، وهو الإمام محمد بن جرير الطبري ، وله كتاب عظيم هو كتاب تهذيب الآثار وقد حقق أوله، ونسأل الله أن يعين على إكماله من قام بذلك.
      وعقيدة الإمام الطبري ذكرها اللالكائي في الجزء الأول من شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، حيث قال: (والصواب لدينا من القول أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وبه الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مضى أهل الدين والفضل).
      إذاً: فمخالفهم يكون مبتدعاً لا يعتد بخلافه، فهو كذلك يؤكد ويؤيد أن الإجماع منعقد على ذلك.
    7. تسمية من نقل عنهم الإمام أحمد من الأئمة القائلين بحقيقة الإيمان

      والإمام أحمد رحمه الله ذكر أئمة عظاماً من أعظم الأئمة وأكبرهم، ونسب إليهم أنهم يعتقدون ذلك، فهو -كما فعل أبو عبيد - قد سمى، لكن الإمام أحمد سمى مجموعة منهم، ولكون عبد الله بن الإمام أحمد هو الذي روى عن أبيه كتاب السنة المعروف، ولأننا لا نعرف مقدار من سماهم الإمام أو سماهم ابنه جعلنا الكلام كله للإمام عبد الله ، منه ما يذكره من علمه ومنه ما ينقله عن أبيه، وإلا فلو كان هذا الكلام كله عن الإمام أحمد لكان حرياً وجديراً بأن نقدمه على غيره من الأقوال.
      فقد ذكر عبد الله بن أحمد نقولاً عمن ذموا الإرجاء، أو نقلوا الإجماع على خلافه، أو بينوا ما فيه من الخلل، منهم: مجاهد بن جبر ، الإمام المعروف تلميذ ابن عباس رضي الله عنه، ومنهم كذلك الإمام سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وأبو وائل وإبراهيم النخعي ، وعلقمة وعطاء بن أبي رباح ، وقتادة ، وابن أبي مليكة ، وهشام بن عروة ، وعمر بن عبد العزيز ، وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، ووكيع ، والفضيل بن عياض ، ومالك ، والشافعي ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، والأوزاعي ، وأبو بكر بن عياش ، وشريك القاضي ، وأبو البختري ، وميسرة ، وأبو صالح ، والضحاك ، وبكير الطائي ، ويحيى بن سعيد ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، ومنصور بن المعتمر ، وعمير بن حبيب ، وجرير بن عبد الحميد ، وعبد الملك بن جريج ، ويحيى بن سليم ، وأبو إسحاق الفزاري ، وعبد الله بن المبارك ، والخليل بن أحمد الفراهيدي ، وميمون بن مهران ، وخالد بن الحارث ، ومحمد بن مسلم الطائفي ، ومعمر بن راشد ، وقاسم بن مخيمرة ، وصدقة المروزي ، ومحمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان ، وسعيد بن عبد العزيز ، وعبد الكريم الجزري ، وخصيف بن عبد الرحمن ، هؤلاء كلهم مذكورون في كتاب السنة الذي هو من تأليف الإمام عبد الله بن الإمام أحمد بنقول عنهم بعضها طويل وبعضها قصير، وبعضهم من أعلام هذا الدين في الأقطار والأمصار، وكلهم متفقون على أن الإيمان قول وعمل.
    8. ما نقله القاضي أبو يعلى في حقيقة الإيمان

      وهناك نقل آخر ذكره القاضي أبو يعلى في كتابه الإيمان ، وهو كتاب مخطوط، قال: (روى الإمام أبو بكر النقاش بإسناده عن عبد الرزاق الصنعاني قال: لقيت اثنين وسبعين شيخاً) وذكر أسماءهم، وهم أئمة كبار عظام معروفون (كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص).
      فانظر إلى فطنة هؤلاء الأئمة وتنبههم إلى أن هذا القول محدث، وهو إخراج الأعمال عن الإيمان، فكل منهم لا يقول: أنا لا أرى ذلك فحسب، بل يقول: لقيت أو أدركت أو أدركنا.
      وكذلك الحليمي صاحب المنهاج في شعب الإيمان نقل الإجماع على ذلك أو قريباً منه، وكذلك نقله وذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق ، وغير هؤلاء من الأئمة ممن ذكر ونقل الإجماع.
      وبذا نكون قد ذكرنا ما يقارب أربعة عشر نقلاً موثقاً على أن الإيمان قولٌ وعمل، وأن المسألة إجماعية.
  2. استدلالات الفضيل بن عياض على دخول العمل في مسمى الإيمان

     المرفق    
    وهنا سنكمل ذلك بكلام مفصل لبعض الأئمة في بيان هذه الحقيقة، وقد اخترنا كلاماً نقله الإمام أحمد رحمه الله عن الإمام المشهور الجليل الفضيل بن عياض في كتاب السنة الذي أشرنا إليه، ونريد من النقل أن نأتي بأنموذج في كيفية مناقشة السلف الصالح أهل البدع وكيفية مناظرتهم لهم بألطف إشارة وأقوى عبارة، حتى ألزموهم بالحجج من كتاب الله ومما صح عن رسول الله، فهو نوع من الجدل الحكيم الملزم المقنع من غير تكلف. ‏
    1. الاستدلالات بآيات أوائل سورة الأنفال

      يقول الإمام عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: (وجدت في كتاب أبي) لأن الإمام أحمد له كتاب خاص هو كتاب الإيمان الذي أشرنا إليه سابقاً، وهذا الكتاب موجود ضمن مسند الخلال في مجلد ضخم، ولو حقق لكان عدة مجلدات.
      يقول: (وجدت في كتاب أبي: أخبرت أن الفضيل بن عياض قرأ أول الأنفال حتى بلغ: (( أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ))[الأنفال:4] ثم قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل، وأن المؤمن إذا كان مؤمناً حقاً فهو من أهل الجنة).
      فالمؤمن حقاً له صفات، وعاقبته وخاتمته هي الجنة، ففي هذا تنبيه على أن الذي يقول: أنا مؤمن حقاً كأنما يقول: أنا من أهل الجنة، ولهذا لا يقل أحد: أنا مؤمن حقاً، وله أن يقول: أنا مؤمن على سبيل الإخبار فقط، وأفضل من ذلك أن يقول: آمنت بالله كما سيأتي في كلام الفضيل بن عياض .
      قال: (فمن لم يشهد أن المؤمن حقاً من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله مكذب، أو جاهل لا يعلم، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمناً حقاً حتى يؤثر دينه على شهوته).
      يريد رحمه الله أن يربط العمل بالإيمان حقيقة، فـ لا يمكن لأحد أن يكون مؤمناً حقاً حتى يؤثر دينه على شهوته، وهذا واضح، فأكثر ما يكب الناس في النار هو الشهوات؛ لأن النار حفت بالشهوات.
      قال: (ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه، يا سفيه! ما أجهلك؛ لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقاً مستكمل الإيمان!) يخاطب الناس الذين ظهروا في زمانه، حيث كان الصحابة والتابعون يتحرجون من أن يقول أحدهم عن نفسه: أنا مؤمن، فهؤلاء جاءوا فقال أحدهم: أنا مؤمن حقاً، وقال الآخر: أنا مؤمن مستكمل الإيمان وبعضهم يقول: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، ويقصدون مجرد المعرفة أو الإقرار في نظرهم.
      يقول: (يا سفيه! ما أجهلك؛ لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقاً مستكمل الإيمان! والله لا تكون حقاً مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله عز وجل منك).
      هذا هو الإيمان حقيقة، أن تؤدي ما افترض الله عليك، وأن تجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، وتخاف مع هذا العمل والرغبة والرهبة والطاعة أن لا يتقبل الله منك.
      أما قول: (أنا مؤمن كامل الإيمان) أو (أنا مؤمن حقاً) فلا يقوله أحد عرف حقيقة الإيمان.
    2. الاستدلال بآية سورة البينة

      قال رحمه الله تعالى: (ووصف فضيل الإيمان بأنه قول وعمل وقرأ: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ))[البينة:5]).
      فهذه -كما قلنا- كان الإمام الشافعي يرى أنها أقوى في الدلالة على بطلان مذهب المرجئة ، وكذلك يرى الفضيل رحمه الله.
      يقول: (فقد سمى الله عز وجل ديناً قيماً بالقول والعمل) يعني: سمى الله ذلك دين القيمة بالقول والعمل لا بالقول وحده فعبدوا الله ظاهراً وباطناً مخلصين له الدين، فجاءوا بأعمال القلب وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وهذه أعمال جوارح.
      قال: (فالقول الإقرار بالتوحيد والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، والعمل أداء الفرائض واجتناب المحارم).
      يعني أن القول هو الإقرار والتصديق القلبي، والعمل هو أداء الفرائض واجتناب المحارم، والفرائض منها ما هو ظاهر ومنها ما هو باطن، والمحارم منها الكبائر الظاهرة، مثل الزنا والخمر، ومنها الكبائر الباطنة التي لا يتنبه لها كثير من الناس، مثل الكبر والعجب والحسد والرياء والنفاق القلبي.
      فهناك كبائر ظاهرة وكبائر باطنة، وهناك واجبات ظاهرة، مثل بر الوالدين والحقوق التي شرعها الله وجعلها على عباده، وهناك واجبات باطنة، مثل محبة المسلمين، والموالاة، والخوف، والرجاء، والتوكل، فهذه واجبات باطنة أصلها لا بد منه، ومنها ما هو مستحب؛ لأنها تزيد وتنقص.
      وإن مما يخطئ فيه كثير من المسلمين أنهم لا يفطنون للكبائر الباطنة، فلو عرض على أحدهم الدنيا كلها ليشرب الخمر لم يشربها، وهذه نعمة من الله لأنه لا يرتكب هذه الكبيرة، لكنه يمكن أن يغتاب أخاه أو يحسد أخاه المسلم، ويتلبس بهذه الكبيرة الباطنة ولا يرى أنه مذنب ولا يرى أنه فعل شيئاً، وهذا خطر على دينه، والكبائر كلها خطر، لكن الكبائر الباطنة عادة ما تدعو إلى الكبائر الظاهرة، فلو أن مسلماً يحسد أخاه المسلم؛ فإن هذا الحسد يؤدي به إلى أن يغمزه ويلمزه ويغتابه، وربما آذاه وجر له مصيبة.
    3. الاستدلال بما حكم الله تعالى من هدي الأنبياء وشرعتهم

      فالمقصود أن عبارات السلف الصالح تشعر وتدل على فهمهم العميق، لهذا قرأ الفضيل رحمه الله قوله تعالى: (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ))[مريم:54-55]، فالدين قول وعمل، والأعمال من الإيمان ومن الدين، ولذا كان يأمر بها الرسل الكرام.
      وقرأ أيضاً: (( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ))[الشورى:13]، فالدين هو الاتباع في أمور العمل، وكذلك في الأمور الباطنة، كما كان هؤلاء الأنبياء صلى الله وسلم وبارك عليهم، فالدين التصديق بالعمل، كما وصفه الله، وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته والتفرق فيه ترك العمل، أو التفريق بين القول والعمل، فقوله تعالى: (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) يعني: كأنكم إذا فرقتم بين الإيمان والعمل فقد تفرقتم في الدين.
      قال: (فالدين التصديق بالعمل)، فليس المقصود بالإيمان أن نصدق بقلوبنا ونقول: صدقنا فنحن إذاً مؤمنون، بل أن تصدق بأعمالك، فإذا قال الرجل: أنا مقر بأن الله افترض عليَّ الصلاة أو أي فريضة أخرى؛ قلنا: صدق ذلك بالعمل، وإن لم يصدقه بالعمل فقد كذب عمله قوله؛ يقال له: أقم الصلاة، فيقول: الإيمان في القلب! ويقال له: لقد تركت هذا الواجب، أو ارتكبت هذا المحرم، فيقول: الإيمان في القلب.
      فـالفضيل يقول: الدين التصديق بالعمل. ولهذا لما أمر الله خليله إبراهيم أن يذبح ابنه ثم أخذ ابنه وتله للجبين فامتثل أمر الله، إلا أن الله لم يشأ أن يموت، فقال تعالى: (( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ))[الصافات:105]، أي: امتثلت الحقيقة، لكن لم يرد الله أن تذبح ابنك.
    4. الاستدلال بآية سورة براءة

      يقول: (قال الله عز وجل: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ))[التوبة:11]، فالتوبة من الشرك جعلها الله قولاً وعملاً بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة).
      فـ التوبة من الشرك ليست أن يقول العبد: تبت وكفرت بما كنت أعبد من الأوثان، وأنا مؤمن، ثم يذهب ولا يفعل شيئاً، ولكن التوبة من الشرك جعلها الله قولاً وعملاً، يعني: أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، فلهذا قال تعالى: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ))[التوبة:11] أي: في الإيمان، والدين هو الإيمان.
      قال: (وقال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان؛ افتراء على الله وخلافاً لكتابه ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر أهل الردة).
      أي: لو كان القول كذلك، وأن الناس إذا أتوا بالواجبات الظاهرة أو لم يأتوا بها على سواء، فلماذا قاتل أبو بكر ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم من ترك الزكاة؟! وانظر الآن إلى كثير من الناس ممن يتركون الزكاة، إذا قلت لأحدهم: زك؛ قال: الإيمان في القلب.
      ولو كان الأمر كذلك لقال تاركو الزكاة: الإيمان في القلب، ولن نؤدي زكاة أموالنا، ولقال لهم الصحابة: أنتم أحرار، والحال أنه ما كان ذلك أبداً، وإنما قاتلوهم وسموهم أهل ردة؛ لأنهم لم يدفعوا حق الله وإن كان لهم تأويل، ولكن ليس كل تأويل مقبولاً فكثير من المسلمين يجهل هذه الحقائق، ويظن أن الإيمان مجرد القول أو الإقرار أو الانتساب إلى هذا الدين، ثم بعد ذلك يفعل ما يشاء، ويترك من الواجبات ما شاء ويرتكب من المحرمات ما شاء، ويريد أن تكون الحياة العامة في البلاد كلها كما يرى من مناهج وتصورات وآراء ونظريات غربية أو شرقية قديمة أو محدثة.
  3. الفرق بين أهل السنة والمبتدعة في حقيقة الإيمان ومنهج الاستدلال

     المرفق    
    قال (وقال الفضيل : يقول أهل البدع: الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد) أي: شيء واحد (وإنما يتفاضل الناس بالأعمال ولا يتفاضلون بالإيمان).
    وهذه مثل عبارة الإمام الطحاوي رحمه الله؛ إذ وقع في هذا الخطأ الذي سوف نناقشه إن شاء الله ونرد عليه، ولهذا أطلنا في هذا لنبين خطأه في أن الناس إنما يتفاضلون في الخشية والتقوى.
    يقول الفضيل : هذا قول أهل البدع، يقولون: إن الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد، وإنما يتفاضل الناس -في نظرهم- بالأعمال ولا يتفاضلون بالإيمان.
    يقول: (فمن قال ذلك فقد خالف الأثر ورد على رسول الله قوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ) وتفسير من يقول: الإيمان لا يتفاضل يقول: إن فرائض الله ليست من الإيمان، فميز أهل البدع العمل من الإيمان)، ففرقوا بين العمل وبين الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليست من الإيمان.
    قال: (ومن قال ذلك فقد أعظم الفرية) يعني: افترى فرية عظيمة (أخاف أن يكون جاحداً للفرائض راداً على الله أمره) يعني أن هذا الكلام يخشى على قائله أن يكون في الحقيقة جاحداً للفرائض، فإذا كان لا يعمل أي عمل ويقول: الإيمان في القلب وهو الاعتقاد والإقرار؛ فهو في -الحقيقة- كمن ينكر الفرائض، أي: ينكر أنها واجبات، فما الفرق بينه وبين من يقول: إنها مجرد نوافل وليست فرائض؟! فهذا لا يعمل وهذا لا يعمل، وذاك يقول: الإيمان في القلب، وهذا يقول: الإيمان في القلب، وهذا خطر عظيم على إيمان العبد.
    قال: (ويقول أهل السنة : إن الله عز وجل قرن العمل بالإيمان، وإن فرائض الله من الإيمان، قال تعالى: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[البقرة:82]) وكثيراً ما يأتي في القرآن هذا العطف: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
    قال: (فهذا موصول العمل بالإيمان، ويقول أهل الإرجاء: إنه مقطوع غير موصول).
    فالفرق بين الطائفتين أن أهل السنة يقولون: إن عطف العمل على الإيمان موصول، أي: أن يصدق بقلبه فيعمل بجوارحه.
    قال رحمه الله تعالى: (وقال أهل السنة : ((وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[الإسراء:19] فهذا موصول)، يعني: متلازمان، فيعمل وهو مؤمن.
    قال: (وكل شيء في القرآن من أشباه هذا فـأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع).
    يعني: متلازمان مجتمعان لا ينفصلان أبداً، (وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع متفرق) فالإيمان عندهم شيء، والعمل شيء آخر.
    يقول: (ولو كان الأمر كما يقولون لكان من عصى وارتكب المعاصي والمحارم لم يكن عليه سبيل وكان إقراره يكفيه).
    وما أكثر من يقول اليوم بفكرة الإرجاء في الأرض وإن لم يعرف عن المرجئة شيئاً، لكنه يعتقد ذلك بقوله: نحن -والحمد لله- مؤمنون، ولسنا كفاراً، فكلما أنكرت عليهم منكراً واجهوك بمنكر أكبر، وهذا المنكر الأكبر أنهم يزكون أنفسهم ويصرون على ذنوبهم بهذه الدعوة.
    فنقول لهم: نحن لا نتكلم عن كونكم مسلمين أو كفاراً، بل نقول: هذا المنكر عملتموه، وهذا الواجب أو الفريضة تركتموها، وهذه المنكرات ارتكبتموها. فيقولون: نحن مسلمون ومؤمنون. ولو كان كذلك لكان الإقرار يكفي عن العمل.
    قال: (فما أسوأ هذا من قول وأقبحه؛ فإن لله وإنا إليه راجعون).
    نعم إنه لقول قبيح، وإن أثره في الأمة لغاية في السوء وفي تدمير مقومات الإيمان ومقومات الحياة التي لا تكون حقيقية إلا بالإيمان.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.