المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعلوه سبحانه وتعالى -كما هو ثابت بالسمع- ثابتٌ بالعقل والفطرة، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه:
أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر.
الثاني: أنه لما خلق العالم، فإما أن يكون خلقه في ذاته، أو خارجاً عن ذاته، والأول باطل، أما أولاً: فبالاتفاق، وأما ثانياً: فإنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والثاني يقتضي كون العالم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً، فتعينت المباينة؛ لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول.
الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية، لأنه غير معقول، فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه، والأول باطل، فتعين الثاني، فلزمت المباينة
]. اهـ.
الشرح:
يذكر المصنف رحمه الله تعالى دليل العقل والفطرة بعد إجماله للأدلة العقلية كما قال:
[وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع - أي بالنقل من الكتاب والسنة - ثابتٌ بالعقل والفطرة، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه:
أحدها: -وقد تقدم- العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر] يعني: أنَّ كل عاقل يثبت موجودين اثنين لا يخلو إما أن يكون أحدهما قائماً بالآخر كالصفات بالنسبة للموصوف، وكاللون بالنسبة للشيء الملوَّن، فالجدار مثلاً لونه أبيض أو أسود، فالبياض والسواد قائمٌ بالذات الموصوفة، ولا يستقل عنها.. هذا شيء، أو أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر منفصلاً عنه، فالإنسان مثلاً منفصل عن الجدار أو الجبل، هذه المقدمة الأولى.
المقدمة الثانية: أنه لما خلق العالم فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خلقه خارجاً عن ذاته، لكن هم يقولون: إن الله سبحانه وتعالى في كل مكان، أو لا داخله ولا خارجه، كما ينفون النفي المطلق، فنحن نناقش المسألة من أولها فنقول: إن الله سبحانه وتعالى -من الناحية العقلية النظرية البحتة- عندما خلق العالم، إما أن يكون خلقه في ذاته أو خلقه خارجاً عن ذاته، وكل الفرق متفقة على أنه إنما خلقه خارجاً عن ذاته، ولو افترضنا وجود قائل يقول: بأن الله خلق الخلق في ذاته، فيرد عليه بأدلة كثيرة منها هذان الدليلان: الأول: الاتفاق، فكل أهل الفرق يقولون: إنه لم يخلق الخلق في ذاته.
الدليل العقلي الثاني: أنه على هذا الاحتمال تكون ذاته تعالى محلاً للقاذورات والخسائس؛ لأن فيها الخنازير والكلاب والجيف والنجاسات، وكل ذلك في الكون موجود، فلو قيل: إنه خلقه في ذاته، لكان ذلك كله داخل ذاته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وهذه مجرد افتراضات عقلية لإفحامهم وإلزامهم فقط.
"والثاني يقتضي كون العالم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً، فتعينت المباينة" يعني إذا كان الخلق وقع خارج ذاته وهو ما اتفقنا عليه، إذاً فهو منفصل عن الخلق، فنكون بذلك أثبتنا موجودين، ولكلٍ منهما ذاتٌ منفصلة عن الذات الأخرى، مباينة لها، مختلفةٌ عنها: ذاتٌ هي ذات الله الخالق سبحانه وتعالى، وذاتٌ أخرى هي ذوات المخلوقين.
ثم يقول: "لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول" يعني القول الآخر عندهم، وهو أنه لا داخل ولا خارج، ولا أمام ولا خلف، ولا متصل ولا منفصل، وهذا القول غير معقول؛ لأنه في الحقيقة بمنزلة (غير موجود)؛ ولذلك يسقط هذا القول، ويبقى ثبوت المباينة.
[الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية؛ لأنه غير معقول، فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه، والأول باطل، فتعين الثاني، فلزمت المباينة]، ثم: إما هو فوق العالم أو تحته، وكونه تحت العالم باطل فتعين أنه فوقه -يعني: الله تعالى فوق المخلوقات- وهذا دليل عقلي بدهي.