المادة كاملة    
إن حقيقة الإيمان لا تعرف بأكثر مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والمتربون على دعوته من أصحابه الكرام، إذ كان ذلك العصر -وهو عصر الوحي والتنزيل- لا يعرف أهله للإيمان حقيقة غير الاعتقاد والقول والعمل، فكانت تلك التربية الإيمانية مغنية عن طلب مفهوم اصطلاحي للإيمان، وذلك هو الأمر الذي اعتمده أئمة التابعين في جواب من سألهم عن حقيقة الإيمان، واتفقت عليه كلمة علماء الأمصار مع تفرق أوطانهم وتباعد ديارهم، وذلك فيما نقله عنهم أئمة عظام يحصون منهم عدداً كثيراً، ويحكون عنهم الإجماع على تلك الحقيقة العظيمة.
  1. حقيقة الإيمان في واقع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فقد سبق الحديث عن بعض ما وقع فيه الماتن والشارح رحمهما الله تعالى من الخطأ في تعريف الإيمان وشرح حقيقته، واتباعهما رحمهما الله في ذلك لمذهب الحنفية أهل الكوفة في الإرجاء، كما سبق الحديث عن أصل ظهور الخلاف ونشأته.
    وقبل أن ندخل في تفصيل ما في كلام الشارح رحمه الله من خطأ نمهد لذلك ببيان ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة قديماً وبعد ظهور الإرجاء، وما أجمع عليه السلف الصالح في حقيقة الإيمان، فإذا بينا إجماعهم على أمر تبين أنه لا تجوز مخالفتهم، ولا يجوز لأحدٍ أن يأتي برأي آخر، فسنبين هذا إن شاء الله، ثم نشرح بعد ذلك تعريف ما أجمعوا عليه، ثم ننتقل إلى بيان ما يخالفه من المذاهب، ومنها مذهب مرجئة الكوفة الذين سار صاحب المتن والشارح رحمهما الله تعالى على منهجهم.
    أما بالنسبة لتعريف الإيمان وحقيقته عند السلف الصالح فنقول:
    أولاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعثه ربه وأرسله ليعلم الناس الدين والإيمان الذي هو الإسلام، كما قال تعالى: (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ))[آل عمران:19]، وهو الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً )، فالإسلام أو الدين أو الإيمان الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو أعظم وأشهر من أن يستدل عليه أو يبين أو يعرف؛ فقد عُلم بالاضطرار والتواتر حقيقة ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، علمه من كفر ومن آمن، وبلغت دعوته صلى الله عليه وسلم الآفاق.
    1. تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه على الاعتقاد والعمل

      هذا الذي نريد أن نحدده، فالهدف من هذا هو إثبات أن الدين قول وعمل، وأنه واقع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تربى على دعوته من الصحابة الكرام، إنما كان الدين عندهم قولاً وعملاً حقيقةً وواقعاً، وليس ادعاءً، ولم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم -على الإطلاق- رجل يدعي أنه من المسلمين، أو يحسبه المسلمون منهم، ولا يقوم بصلاة ولا صيام ولا صدقة ولا جهاد فهذا الذي وقع وانتشر في الأمة في العصور المتأخرة لم يكن موجوداً.
      بل إن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أخبروا عن أنفسهم -كما في حديث جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه الذي أخرجه ابن ماجه - فقالوا: ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل القرآن ).
      فالصحابة رضي الله تعالى عنهم تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كلامه، ومن عمله، ومن الاقتداء به، ومن الجهاد معه الإيمان قبل القرآن، قال: ( فازددنا به إيمانا )، أي: فازددنا بالقرآن لما تعلمناه إيماناً.
      وهذا المنهج التربوي مخالف تماماً لما صار عليه المسلمون في العصور الأخيرة، وهو أن الناس يحفظون القرآن وهم لا يفقهون من عمل الدين شيئاً، ويحفظه المرء منهم وهو لا يؤدي من الفرائض شيئاً والعياذ بالله، على عكس ذلك كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الرجل حين يسلم يرى التقوى، ويرى الصلاح، ويرى الخير في النبي صلى الله عليه وسلم ومن حوله، فيتأسى بهم ويخشع كخشوعهم، ويعبد كعبادتهم، ويعرف الله، ويعرف ما أعد الله للمتقين من النعيم، وما أعد للفجار من الجحيم، ويعرف أحكام الحلال والحرام بحسبه، فكان ذلك ما يتعلمونه، ولهذا يقول الله تعالى: (( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ))[التوبة:122]، فكانوا ينفرون مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتفقهوا في الدين، وإن جلسوا في المسجد جلسوا ليتفقهوا في الدين، فكانت وسيلة التربية والتعليم هي العمل نفسه، فالإنسان يصلي ثم يتفقه في أحكام الصلاة، ويعرف عظمة القرآن وأهميته ثم يبدأ فيحفظ ويقرأ القرآن، وهذا نموذج عظيم جداً وفريد في التربية، فهذه البيئة التي يكون فيها الإنسان تفتح قلبه وتنير بصيرته، ثم يأتي العلم الذي هو (قال الله) و(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأحكام الحلال والحرام فيزداد إيماناً كما قال جندب رضي الله تعالى عنه.
      ولهذا رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية عظيمة جداً، حتى عرفوا بها الإيمان وعرفوا بها الدين، فلم يحتاجوا إلى أن يسألوا عن معنى الإيمان في لغة العرب، وعن معنى الإيمان اصطلاحاً؛ لأنهم كان يعيشون في الإيمان كل يوم، ويتعبدون به كل يوم، ويزدادون فيه ترقياً كل يوم، فإذا أنزلت آية، أو وقعت وقعة من وقائع السيرة زادتهم إيماناً، وإذا رأوا منه صلى الله عليه وسلم حكمةً قولية أو عمليةً ازدادوا بها يقيناً وإيماناً، فهذا الإيمان بين أيديهم واضح جلي.
    2. توضيح الحقائق المتعلقة بالإيمان من خلال حديث جبريل الطويل

      وتوج ذلك كله بحديث جبريل عليه السلام، فكان آخر تعليم للأمة؛ لأنه جاء جبريل عليه السلام في آخر عمره صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه من حجة الوداع، لم يعش صلى الله عليه وسلم بعد حجة الوداع إلا بضعاً وثمانين ليلة، فجاء إليه جبريل عليه السلام في أمرٍ غير معهود؛ إذ لم يعهده الصحابة من قبل أن الرسول الملكي يأتي إلى الرسول الإنسي، جاء إليه مستفهماً مستعلماً سائلاً يجلس بين يديه جلسة المتعلم المتأدب ويقول: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، أخبرني عن الإيمان، أخبرني عن الإحسان، أو بدأ بالإسلام، ولما انصرف ولم يعرفه الصحابة قال: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم )، فديننا هو هذه المراتب الثلاث، فهو الإسلام والإيمان والإحسان، وهذا التعليم هو بمثابة تقرير لما قد عُمل به، تقرير لما قد عاشه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكأنه يقول: جهادكم وإيمانكم وصلاتكم وقراءتكم للقرآن وذكركم وعبادتكم وتقربكم، كل ذلك هو الدين لا شك، وهذا الدين هو هذه المراتب الثلاث، فاحفظوا هذا لتعرفوا ما أنتم عليه من الدين، ولا تزيغوا عنه ولا تنحرفوا عنه.
      فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم الصحابة الإيمان والدين فعرفوا ذلك وشاهدوه حقائق واقعية معلومة بالاضطرار.
    3. منهج الصحابة في بيان حقيقة الإيمان

      ثم لما كان الصحابة أو التابعون من بعدهم يُسألون عن الإيمان وحقيقة الدين؛ كانوا يجيبون بأنه قولٌ وعمل، يجيبون بالحكمة بحسب ما يرون من حال السائل، فإن كان ولا بد من جواب علمي يفيده فإن هذا الجواب لا يتخذ الشكل الاصطلاحي الفلسفي أبداً، فقد جاء رجل إلى أبي ذر أو إلى الحسن رضي الله تعالى عنهما يسأله عن الإيمان، فأجابه بآية من كتاب الله، وهي قول الله تعالى: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ... ))[البقرة:177] فالمسألة ليست أن يقول: هو في لغة العرب كذا، وأما في اصطلاحنا فهو كذا، بل المسألة حقائق واضحة، وكأنه يقول له: إذا كنت تقرأ القرآن فالدين ما جاء في القرآن، فالبر هو الدين، والدين هو الإسلام، والإسلام هو التقوى وهو البر، كما سبق أن ذكرنا ذلك نقلاً عن كتاب الإيمان لـشيخ الإسلام رحمه الله تعالى فيما يختص بالألفاظ المشتركة التي تتفق دلالتها أو تختلف بحسب الاقتران والافتراق.
      بل إن جواب النبي صلى الله عليه وسلم لما أجاب جبريل عليه السلام يعتبر أنموذجاً في الجواب، ودليل ذلك أنه حين ظهرت بدعة القدرية وكانت هي السبب الذي من أجله روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه حديث جبريل عن أبيه، حيث قال لسائله عنهم: [ أخبرهم أنني منهم براء وأنهم مني براء ]، ثم ساق حديث عمر رضي الله عنه؛ ليبين أن الإيمان بالقدر ركن، وبين حقيقة الدين بالنص نفسه.
      وجاء زبيد اليامي يسأل أبا وائل شقيق بن سلمة -كما في البخاري - عن المرجئة ، وذلك حين ظهرت وعم ضررها وشرها، فيأتي إليه وكان أبو وائل من تلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، فلم يقل له: هي مأخوذة من أرجأ يرجئ بمعنى كذا، وخرجت عام كذا، ورأينا فيها كذا، بل أجابه بحجة مقنعة قوية، وبأفضل أسلوب لو ربيت الأمة عليه لارتاحت من المجادلات العقيمة الطويلة، مع أنا لا نعترض على المناهج الاصطلاحية، فهذه المناهج قررت حين أصبح الناس يريدون أن يفهموا من خلالها، ولكن لماذا لا نعيد الناس ما استطعنا إلى التربية الإيمانية الأساسية التي نستطيع معها أن نقول لكل إنسان الآية أو الحديث فيفهم ولو لم يعبر عن المراد تعبيراً اصطلاحياً منطقياً؟!
      لقد أجاب أبو وائل زبيداً فقال له: حدثني عبد الله -أي: عبد الله بن مسعود - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) وانتهى، وفهم زبيد من هذا الحديث أن الإرجاء مذهب باطل، فـالمرجئة التي تقول: إن الإيمان لا يدخل فيه العمل يقال لهم: كيف يكون ذلك وهو إذا سب فسق وإذا قاتل كفر؟! فلابد من أن تكون الأعمال من الإيمان، والمرجئة تقول: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وكيف لا يزيد ولا ينقص وإيمان من قاتل مسلماً أقل من إيمان من سبّه، وإيمان من سلم من القتل والسب أكمل؟!
      فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )، فالذي يسب المسلمين أو يقاتلهم كيف يكون كامل الإيمان؟!
      فهؤلاء كانوا يجيبون بالآية، ويجيبون بالحديث، ويقتنع الناس، ولا شك في أن الأمة كانت مهيأةً لأن تقتنع بالنص، وهذا الذي يجب علينا نحن -الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى من المعلمين والخطباء والوعاظ والمدرسين- أن نربي الأمة عليه، فنربيها على أن تقف عند (قال الله) و(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولن نجد أوضح ولا أبين من بيان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
      فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كان منهجهم في تعريف الإيمان في الأصل هو ما ذكرناه، ثم ظهرت الفرق وتفلسفت وبدأت تقول: الإيمان قول، أو قول وعمل، وما معنى العمل؟ وما معنى القول؟ وهل أعمال الجوارح داخلة فيه أم لا؟
      هنا نجد آيةً أخرى من آيات الله تبارك وتعالى، وهي أن الله عز وجل إنما اختار ذلك الجيل الكريم المبارك لِحِكْمٍ عظيمة، فهم أكثر الناس فقهاً في دين الله وأعلم الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقل الناس تكلفاً كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في وصفهم، وأعلم الناس وأفقههم وأعرفهم بحدود ما أنزل الله.
    4. وضوح تضمن الإيمان للعمل عند المسلمين

      فهذا الأمر -بالنسبة لعامة المسلمين، ولمن كان في جزيرة العرب على وجه الخصوص- أمر واضح كالشمس، فلا يحتاج إلى بيان، وإن كان في أول الأمر خفي بعض ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه في آخر الأمر أظهر الله تبارك وتعالى الدين كله وفصله تفصيلاً، فما بقي أحد يجهله، ولا سيما من كان في هذه الجزيرة ممن لديه عقل وفهم في لغة العرب، خاصة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم الذين هم علماء الأمة يفتون ويبينون للناس الحق والحلال والحرام.
      ولم يختلفوا أبداً في الإيمان، ولم يكن ليدور في أذهانهم أو في واقعهم البحث عن حقيقة الإيمان، أو أن يتنازعوا فيه؛ لأن ذلك مثل الشمس في رابعة النهار، ولن يأتي أحد على الإطلاق بقول أو رأي منسوب إلى أحد الصحابة الكرام أنه ظن أو توهم أو اعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليعرف الناس بأن هناك رباً موجوداً في السماء تبارك وتعالى، وأن الإيمان هو أن يُعرف الله ويصدق الناس بقلوبهم أن هذا الدين حق ولو لم يعملوا بشيء من الأعمال.
      بل إن المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يستطيعوا أن يتجرءوا فيقولوا هذا القول، ولذلك نجد في القرآن في آيات براءة وغيرها أن المنافقين أنفسهم كانوا يعملون أعمال الإيمان، فالأمة كلها كانت عاملة، وكلها كانت تعلم أن الدين قولٌ وعمل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء بهذا الدين ليعبد الله وحده لا شريك له حقيقةً وعملاً، وأنه صلى الله عليه وسلم وفى بما أمره به ربه تعالى حين قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ... ) فكل من دان لله تعالى ودخل في دين الإسلام فلابد له من أن يأتي بهذه الأعمال، وهي الإقرار بالشهادتين ظاهراً والانقياد بأداء هذين الركنين: الصلاة والزكاة، أما الصوم والحج فالحكمة في أنهما لم يذكرا في هذا الحديث، ولم يذكرا في قوله تعالى: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ))[التوبة:11]، ولم يذكرا في قوله تعالى: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ))[التوبة:5]: أن الصوم عبادة خفية، فلا يمكن أن تقول: سنقاتل فلاناً حتى يصوم، وإذا التزم الصلاة والزكاة وعرف أن الصيام ركن فإنه يصوم غالباً، وإذا عُرف أن أحداً انتهك الصوم يعاقب، لكن الإلزام به كالإلزام بالصلاة والزكاة متعذر؛ لأن الإنسان يمكنه أن يمسك عن الطعام والشراب ظاهراً ولا يكون صائماً.
      وأما الحج فلأنه يجب مرة واحدة في العمر، فكلما قيل له: حج قال: أحج من قابل، أو لأن فرضيته -كما يقول بعض العلماء- تأخرت.
      فالمقصود هو أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما هو معلوم من دينه ودعوته- جاء للناس بدينٍ هو اعتقاد وعمل، حتى المنافقون كانوا يعلمون ذلك، ولهذا كانوا يعملون، فكانوا يحجون، وكانوا يغزون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يؤدون الزكاة، وكانوا ينفقون، مع أن نفقاتهم غير مقبولة وجهادهم غير مقبول؛ بسبب النفاق الأكبر، فكل أعمالهم حابطة، لكن لم يكن أحد يتسمى باسم الإسلام أو ينتمي إلى أمة الإسلام ولا يأتي بالأعمال التي هي أركان الإسلام أو واجباته الظاهرة. ‏
  2. ذكر ما نقل عن علماء الأمصار في تعريف الإيمان

     المرفق    
    1. حرص العلماء على بيان الحق ومعالجة أوضاع الناس

      قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر كلام أبي عبيد: (ذكر من الكوفيين من قال ذلك أكثر مما ذكر من غيرهم؛ لأن الإرجاء في أهل الكوفة كان أولاً فيهم أكثر، وكان أول من قاله حماد بن أبي سليمان ، فاحتاج علماؤها أن يظهروا إنكار ذلك، فكثر منهم ذلك).
      يعني أنه كثر إنكار أهل الكوفة أكثر من غيرهم لأن البدعة ظهرت فيهم، وهذا شأن أئمة الإسلام الهداة المهتدين المقتدى بهم، يعالجون ما ينزل بالأمة في عصرهم، ففي الكوفة ظهر الإرجاء فتكلموا فيه، وإلا فما قيمة علماء الإسلام حين يرون البدع والضلالات والانحرافات تنتشر ثم لا ينكرون ولا يغيرون؟!
      ولهذا كتب علماء الكوفة والعراق في السير، وهي التي يسمونها اليوم: المعاملات الدولية؛ لأن الحكومة كانت عندهم، وكانت تحتاج إلى أن تتعامل مع الروم ومع غيرهم، وكتبوا في الخراج؛ لأن الحكومة تحتاج إلى ذلك وهم أئمتها، كما كتب يحيى بن آدم و أبو يوسف وغيرهما، فعالجوا الأوضاع التي نشأت أو كانت تنشأ في أيامهم.
      وفي المدينة كان أكثر ما يذكرون بدعة القدر، لأن القدرية جاءت فأصابت المدينة ، وكان الإمام أحمد رحمه الله يعلم الناس في المسجد كتاب الإيمان والأشربة؛ لأن الناس على مذهب أهل العراق ، فهم في الإيمان مرجئة ويستحلون النبيذ.
      فانظر إلى الإمام الحقيقي، الذي يقوم بما أخذ الله تعالى عليه من الميثاق، كما قال تعالى: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ))[آل عمران:187]، فهو يعالج الواقع الموجود، فلو كان في المدينة فهل سيحدثهم عن الأشربة ولا أحد في المدينة يشرب النبيذ؟!
      وقد ألف كتاباً هو كتاب الورع، وهو يشتمل على أمور من وقائع ما كان يدور حوله في العراق ؛ لأنه إنما ظهر الترف والاعتداء على الحقوق أكثر ما ظهر في الحواضر.
      فالمعالجة الواقعية أن تعلم الناس ما يحتاجون إليه، فتبدأ مع الجهال فتفهمهم التوحيد، ومعنى لا إله إلا الله، أما المترفون فتعالج معهم موضوع النساء والخمر والمخدرات والأفلام والدشات.
      وهذه من الحكمة ومما فضل الله به علماء أهل السنة والجماعة والحمد لله في جميع العصور، فهذا الدين دواء، وهذا الحق دواء، فلتعالج الناس من خلال الأمراض الموجودة، فأحوج ما يكون الناس إلى العقيدة، وإذا كنت في بيئة لا تحتاج إلى العقيدة إلا إجمالاً فأجمل القول فيها وفصل فيما عداها، وإذا كنت في مجتمع يحتاج إلى العقيدة تفصيلاً ففصل القول فيها وأجمل فيما سواها، وإن كنت في بيئةٍ الشرك فيها ظاهر في الإلهية. فتحدث عن توحيد الإلهية، وإن كان الشرك في الربوبية أكثر فتحدث عن توحيد الربوبية، وإن كان في الأسماء والصفات فتحدث عنه؛ لأنك تعالج الواقع، وتشخص مرض المريض، ولابد من إعطاء علاج خاص بالعضو المريض.
      فالمقصود أن هناك من العلم ما يقال للعامة، ولكن من العلم ما يجب أن يعالج به الوضع الخاص بحسب الحالة المرضية التي يعاني منها المجتمع، وهذا من الفقه الذي فقهه هؤلاء الأئمة.
      يقول شيخ الإسلام : كما أن أكثر من أنكر على الجهمية من أهل خراسان . فتجد الكتب المؤلفة في ذم الجهمية وضلالهم في الصفات والكلام فيهم من أهل خراسان في المشرق؛ لأن الجهم ظهر هناك، فـعبد الله بن المبارك -مثلاً- له كلام عظيم جداً في هذا، وكذلك يزيد بن هارون ، ونعيم بن حماد وإن كان استقر في مصر ، حتى إنه لما قيل لـنعيم بن حماد : نراك شديداً على الجهمية ، قال: إني كنت منهم. فكادوا أن ينشئوه تنشئة جهمية، فلذلك كان شديداً عليهم يعرف مآخذهم ويعرف خطرهم.
    2. رحلات الإمام البخاري ونقله معنى الإيمان عن شيوخه

      أول من نبدأ في الاستشهاد بكلامه هو الإمام البخاري رحمه الله، وهو أهل لأن يُبدأ به؛ لما نعلم من إمامته ومكانته، فالإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى من أئمة أهل السنة الذين فقهوا هذا الدين عملاً ودعوةً وجهاداً، ونقلوه بأمانةٍ وحفظٍ وصدقٍ لا مثيل له في تاريخ الأديان الأخرى على الإطلاق، فهو من حفاظ الأمة المعروفين المعدودين.
      وقد نقل عقيدته في هذه المسألة الإمام اللالكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة بسندٍ صحيح -كما نقل الحافظ في الفتح - عن الإمام البخاري رحمه الله تعالى، حيث قال رحمه الله تعالى: (لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم، أهل الحجاز و مكة و المدينة و الكوفة و البصرة و واسط و بغداد و الشام و مصر ، لقيتهم كراتٍ قرناً بعد قرنٍ، ثم قرناً بعد قرن، أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ستٍ وأربعين سنة).
      وهذا الكلام يدل على أن ذلك في آخر الأمر بعد أن رحل وجمع العلم وزارهم مرات كما سيذكر، وقوله: (وقرناً بعد قرن) يعني: طبقة بعد طبقة من طبقات العلماء.
      فالإمام البخاري رحمه الله يعطينا خلاصة حياةٍ وتجربةٍ واطلاعٍ وأخذٍ وتلق للعلم من أكثر من ألف رجل، ولو أن واحداً منا أراد أن يعد من لقي من العلماء أو من سمع له شريطاً أو قرأ له كتاباً؛ فلن يجاوز عددهم عشرين أو ثلاثين.
      يقول: (أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ستٍ وأربعين سنة)، أي: منذ أن بدأ يرحل في طلب العلم إلى أن قال هذا القول.
      يقول: (أهل الشام و مصر و الجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات، في سنين ذوي عدد)، يعني: أقام بها أربع مرات، وكل مرة كذا من السنوات، (وبـالحجاز ستة أعوام) وهو مقيم يتعلم ويطلب العلم، (ولا أُحصي كم دخلت الكوفة و بغداد)، فدخلهما عدة مرات رضي الله تعالى عنه يتلقى العلم النقي من كل الشوائب، (مع محدثي أهل خراسان)، أي: مع محدثي أقرب البلاد إليه، وهم أهل خراسان .
      فهو يقول: هذه الأمصار أمصار الإسلام ومراكز العلم فيه، زرتها مراراً وتكراراً، وأخذت عن طبقات أهل العلم فيها ممن أدركتهم منذ كذا سنة، وهم أكثر من ألف رجل، فمن هم هؤلاء؟ وما هي عقائدهم؟
      قال: (منهم: المكي ابن إبراهيم ويحيى بن يحيى وعلي بن الحسن وشقيق وقتيبة بن سعيد وشهاب بن معمر من خراسان ، وبـالشام محمد بن يوسف الفريابي وأبا مسفر عبد الأعلى بن مسفر وأبا المغيرة عبد القدوس بن الحجاج وأبا اليمان الحكم بن نافع ومن بعدهم عدة كثيرة، وبـمصر يحيى بن كثير وأبا صالح كاتب الليث بن سعد وسعيد بن أبي مريم وأصبغ بن الفرج ونعيم بن حماد ، وبـمكة عبد الله بن يزيد المقري والحميدي وسليمان بن حرب قاضي مكة وأحمد بن محمد الأزرقي ، وبـالمدينة إسماعيل بن أبي أويس ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن نافع الزبيري ، وأحمد بن أبي بكر أبا مصعب الزهري ، وإبراهيم بن حمزة الزبيري وإبراهيم بن المنذر الحزامي ، وبـالبصرة أبا عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني ، وأبا الوليد هشام بن عبد الملك والحجاج بن منهال وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني ، وبـالكوفة أبا نعيم الفضل بن دكين وعبيد الله بن موسى وأحمد بن يونس وقبيصة بن عقبة وابن نمير وعبد الله وعثمان ابنا أبي شيبة)، ونكتفي بتسمية هؤلاء اختصاراً.
      وهؤلاء هم أعلام الدنيا في أيامهم، فكل بلد هؤلاء هم أعلامه من المحدثين، وأكثر ما اشتهروا به هو الحديث، وكذلك كان لهم باع في التفسير والفقه، والحديث والتفسير لم يكونا منفصلين، فقد كان أعلم الناس بالحديث هو أعلمهم أيضاً بالتفسير.
      يقول: (فما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء)، يعني أن عقيدتهم إجماعية على الأمور الآتية: أولاً: (أن الدين قولٌ وعمل).
      فمن ذكر من الأسماء ومن لم يذكر إلى آخر الألف لم ير واحداً منهم يخالف في هذه المسألة، وهو من نعلم حين يقول: لم أجد، أو: لم أر، فالإمام البخاري رحمه الله حجة، ولا شك في ذلك، فهو يخبر أنه ما وجد واحداً منهم إلا وعقيدته في الإيمان أنه قولٌ وعمل.
      قال رحمه الله تعالى: (وذلك لقول الله: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ))[البينة:5]).
      وقد اشتهر عن إمام من أئمة الإسلام أنه كان يجادل المرجئة ويرد عليهم بهذه الآية، وهو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقد صح عنه أنه قال: هذه الآية تكفي في إبطال مذهب المرجئة ؛ لأن الله تعالى بين فيها أن الدين الذي أمر به عباده من أهل الكتاب ومن بعدهم هو أن يعبدوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فالدين هو هذه الأعمال العبادة والصلاة والزكاة، فكيف يقال: إن الدين مجرد قول أو اعتقاد وليس عملاً؟!
      والله تعالى بين هذا الذي أمروا به بطريقة الحصر، فقال: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ))[البينة:5] ، والحال أنهم مخلصون له الدين.
      فالإخلاص هو القول والعمل القلبي، وعمل الجوارح إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرهما، فالدين قول وعمل بالقلب والجوارح، وهذا من عظيم الفقه والاستنباط عند الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه.
      ولقد اختار الإمام البخاري رحمه الله هذه الآية؛ لأنها من أجلى الأدلة وأوضحها، فتبع الشافعي في هذا الدليل؛ إذ الإجماع لا بد له من مستند، وهذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله، فأي إجماع ينعقد لا بد له من مستند نصي، سواء كان آية أو حديثاً؛ لأن الإجماع يقطع ما بعده، ولا حجة بعد قيام الإجماع من السلف الصالح لأحد ولا عذر له في أن يخالفه، فيكفي أن تأتي بآية واحدة أو حديث واحد لتبين مستند الإجماع.
      فالإمام البخاري رحمه الله تعالى يقول: مستند الإجماع هذه الآية، وانتقاها لما فيها من معان وحكمة في الانتقاء.
      ثم ذكر بعد ذلك عقيدة السلف في أمور كثيرة، ونحن نقتصر على ما يتعلق بتعريف الإيمان فقط.
      يقول: (ولم يكونوا يكفرون أحداً من أهل القبلة بالذنب؛ لقوله: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]).
      أي: لم يكونوا يكفرون أحداً من أهل القبلة بما دون الشرك؛ لأن الله تعالى قال: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]، فمستند الإجماع على أن أصحاب المعاصي والذنوب لا يكفرون ما لم يرتكبوا الشرك أو الكفر هو هذه الآية الجلية: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48].
      فهذه عقيدة الإمام البخاري وما نقل من إجماع الأمة على هذه العقيدة.
    3. ذكر ما نقل عن أبي زرعة وأبي حاتم رحمهما الله تعالى في الإيمان

      نأتي بعد ذلك إلى إمامين جليلين معروفين في الأمة، وهما: الإمام أبو زرعة الرازي والإمام أبو حاتم الرازي ، ولا تخفى مكانتهما وإمامتهما في الحديث وعلم الرجال، فقد نقل اعتقادهما الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم ، فقال: (سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟) فهذا إمام ابن إمام يقول: سألت أبي وسألت زميله ونظيره فقلت لهما: ماذا يعتقد أهل السنة والجماعة في أصول الدين؟ وما الذي أدركتما عليه العلماء في هذه المسائل حين اختلف الناس وهاجوا وماجوا في ذلك في جميع الأمصار؟ وماذا تعتقدان؟
      وهذا قريب من كلام البخاري أيضاً في مسألة إجماع علماء الأمصار.
      قال: (فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً فكان من مذهبهم: الإيمان قولٌ وعملٌ، يزيد وينقص).
      فهذان إجماعان محكيان، الأول نقله البخاري ، والثاني نقله الإمامان: أبو زرعة الرازي و أبو حاتم الرازي .
      ومما حكاه عنهما في ذلك قولهما: (وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل).
      فهما ذكرا مضمون الآية: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48] وأما البخاري ففصَّل، فقال: (لا يكفرون).
      وقالا: (ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم، ونكل أسرارهم إلى الله عز وجل).
      وقالا: (والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم، ولا ندري ما هم عند الله عز وجل).
      ومستند هذا الإجماع قوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ).
      فالسرائر والبواطن يتولاها الله، فلا نتهمهم بالنفاق ولا بالبدعة، ولا بالشرك ولا بالضلال؛ لأنا لا نطلع على السرائر، ومن أظهر شيئاً أخذ بحق الإسلام، ومن لم يظهر فسرائر الناس إلى الله عز وجل.
      وقولهما: (والناس) المقصود به أهل القبلة؛ لأن العلماء يعنون بذلك دائماً أهل القبلة، وليس الناس كلهم مع اليهود والنصارى، وليس المراد أيضاً كل من قال: إنني مسلم، بل الكلام في أهل القبلة، فأهل القبلة مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم، كما جاء في الحديث: ( من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا ).
      فالإسلام أحكام ظاهرة جلية، حتى لا تضطرب الأمة وتهيج وتموج وتختلف، فمن فعل ذلك فهو على هذا الأمر، فنحن نعتقد أن أهل القبلة الذين يقرون بشرائع الإسلام الظاهرة ويلتزمون بها مؤمنون ظاهراً، وليس هو الإيمان المذكور في حديث جبريل ، بل الإيمان المذكور في حديث وفد عبد القيس الذي فيه: ( أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة )، وأما الذي في حديث جبريل فهو مرتبة عليا، ونحن لا نثبت للعامة ولأهل القبلة أنهم في مرتبة دون مرتبة، إنما نريد أن نثبت لهم أنهم مسلمون، فلو قارنا هذا الحديث بحديث جبريل فهو يعني الإسلام، فكون الناس مؤمنين يعني أنهم مسلمون وليسوا كافرين في أحكامهم ومواريثهم، فنصحح عقودهم، وأنكحتهم، وأكل ذبائحهم، والصلاة خلفهم، والصلاة عليهم، ونورثهم، ما لم يظهروا الشرك أو الكفر أو البدعة.
      قالا: (ولا ندري ما هم عند الله عز وجل)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل أهل الصلاة هكذا، ولا شك في أنه كان فيهم منافقون قطعاً، منهم من يعلمهم، ومنهم من يعلمهم الله ولا يعلمهم صلى الله عليه وسلم، لكن إجراء الأحكام يكون على الأمور الظاهرة، وليس بتأويلات خفية ولا بتوجسات ولا توقعات، فهذه الأمور ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة يتعاملون بها، بل لهم الظاهر، ولذا جاء المتخلفون يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا معذورين، وأنهم ما تخلفوا إلا من أجل كذا وكذا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل أعذارهم، وهو يعلم بإعلام الله تعالى له أنهم كاذبون.
      وهذه قاعدة عظيمة من قواعد التعامل، ولا يعني ذلك أنك تزكي المرء وتواليه وتحبه وتناصره وأنت تعلم نفاقه، ولكن إذ أمسكت عليه أمراً فأقسم لك الأيمان على أنه ما أراد إلا الخير؛ فكله إلى ربه وانصحه وعظه، (( وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ))[النساء:63] كما أمر الله.
      وهذا تعامل عظيم مع المنافقين، ومع ذلك كان منهم من هو من أهل الدرك الأسفل في النار، حتى إنه كان منهم من نهى الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، فقال: (( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ))[التوبة:84]، فوصل الأمر إلى حد أن الأحكام الظاهرة لا تعطى لهم، لكن الأصل في أهل القبلة أن يعطوا الأحكام الظاهرة.
      وقال الإمامان: (فمن قال إنه مؤمن حقاً فهو مبتدع).
      فإنه لا أحد من الصحابة قال: أنا مؤمن حقاً، مع أنهم كانوا رضي الله تعالى عنهم هم المؤمنون حقاً بلا ريب، ولا يمكن يأتي جيل مؤمن حقاً أليق بهذا الوصف من الصحابة، ومع ذلك ما قالوها، وقد كانوا يخافون، كما قال ابن أبي مليكة -فيما أخرجه البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان-: (أدركت أكثر من ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه علي إيمان جبريل وميكائيل ويتجرأ من بعدهم على هذه الدعوى!
      قالا: (ومن قال: هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين)؛ لأنه لا يعلم، ومن قال أي قول بغير علم فقد كذب، فإن كنت مؤمناً صادقاً عند الله تعتقد ذلك؛ فإنك لا تدري ما نهايتك وما مصيرك وما مآلك، وإن كنت غير ذلك فالكذب واضح.
      قالا: (ومن قال: هو مؤمن بالله حقاً فهو مصيب).
      فالحق أن نقول: نحن مؤمنون بالله حقاً، فإن قيل: ما الفرق بين أن يقول الشخص: أنا مؤمن حقاً، وأن يقول: أنا مؤمنٌ بالله حقاً؟ فالجواب أن الجملة الأولى تزكية، والله تعالى قال: (( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ))[النجم:32]، وقال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ))[النساء:49]، لكن الجملة الأخرى (أنا مؤمن بالله حقاً) اعترافٌ وإقرار والتزام من العبد بأنه لا يشك في إيمانه، ويجب على الإنسان أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله حقاً، لا مجرد رأي أو احتمال أو ترجيح، فلو قالها مجرد ترجيح لكان شاكاً، والشاك يكون كافراً، ولا يكون مؤمناً، فالواجب أن يشهد حقاً.
      قالا: (والمرجئة المبتدعة ضلال) وصفاهم بأنهم مبتدعة ضلال؛ لأنهم يقولون: إن الدين قولٌ بلا عمل.
      قالا: (وعلامة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفةً ونقصانية)، أي: يسمون أهل السنة المخالفين، فيقولون: قال أهل الحق، وقال أهل الاتباع، وأحياناً يقولون: قال أهل السنة ، يقصدون أنفسهم، ثم يقولون: وقال المخالف! يقصدون به أهل السنة .
      فقالا: إذا رأيت أحداً يقول هذا فاعلم أنه هو المرجئ الذي يتهم أهل السنة بأنهم ليسوا أهل السنة.
      وأما تسميتهم أهل السنة بالنقصانية فلأنهم يقولون: الإيمان ينقص، وهم يقولون: لا ينقص، فمن عرف الله وصدق بقلبه لا ينقص إيمانه، فالإيمان قد يزول، ولكن كيف ينقص؟! هذا رأيهم وعقيدتهم.
      ويقول المرجئة : إذا سمعت أحداً يقول: إن الإيمان ينقص فاعلم أنه مبتدع! هكذا يقول المرجئة .
      فالإمامان يقولان: إذا رأيت أحداً يقول ذلك ويلمز ويطعن في أهل السنة بذلك فاعلم أنه مرجئ.
    4. قول الإمام إسحاق بن راهويه في معنى الإيمان

      النقل الثالث: نقلٌ عن إمام آخر عظيم، هو الإمام إسحاق بن راهويه رحمه الله، وهو قرين وزميل الإمام أحمد ، ومن كبار أئمة الحديث والسنة، وقوله عظيم ويعتد به، وهو يسند إلى العلماء، فقد قال فيما رواه عنه موسى بن هارون الحمال بإسناد ذكره أبو عمر الطلمنكي ، ونقله شيخ الإسلام في الإيمان : (الإيمان قولٌ وعمل، يزيد وينقص، لاشك أن ذلك كما وصفنا، وإنما عقلنا هذا بالروايات الصحيحة والآثار العامة المحكمة وآحاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وهلم جراً على ذلك).
      فهو ينقل أن هذا هو مقتضى الكتاب والسنة وإجماع السلف، فيقول: إن كون الإيمان قولاً وعملاً هو ما جاء في القرآن، عقلناه من كتاب الله والروايات الصحيحة والآثار العامة المحكمة وآحاد الصحابة، ثبت لدينا هذا عنهم واحداً واحداً أن هذه عقيدتهم وهذا دينهم.
      قال: (وكذلك بعد التابعين من أهل العلم على شيءٍ واحد لا يختلفون فيه)، فكله شيء واحد ما اختلف فيه الصحابة ولا من جاء بعدهم من التابعين، ولا من جاء من أتباع التابعين إلى أن أدركهم هو والإمام أحمد رضي الله تعالى عنهما.
      قال: (وكذلك في عهد الأوزاعي بـالشام).
      فبعد أن عمم رجع يخصص علماء أهل السنة الذين هم أئمة الأمصار وأئمة الأقاليم فقال: وكذلك في عهد الأوزاعي بـالشام وسفيان الثوري بـالعراق ، ومالك بن أنس بـالحجاز ومعمر بـاليمن على ما فسرنا وبينا أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
      يقول: هذا مذهب الأئمة الكبار المتبعين في أقاليم الإسلام، فالإجماع منقول عن الجميع، وخص بالذكر منهم الأئمة المتبوعين في هذه الأقاليم المهمة التي أخذ العلم وحفظه منها.
      قال: (واتبعهم على ما وصفنا من بعدهم من عصرنا هذا أهل العلم)، يعني نظراءه، كالإمام أحمد ، وعلي بن المديني ، وأبي زرعة الرازي ، وأبي حاتم ، ويزيد بن هارون ، وقتيبة بن سعيد ، وغيرهم من الذين كانوا أئمة الدين في عصره وعاصرهم ورآهم، فهم أيضاً على هذا.
    5. ذكر ما نقله أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى من إجماع علماء الأمصار في معنى الإيمان

      النقل الرابع: قاله أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام المعروف في اللغة والحديث، والإمام أبو عبيد له كتاب الإيمان ، مطبوع مع مجموع، واسم المجموع كله من كنوز السنة ، وهو عبارة عن رسائل حققها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى, وهي أربع رسائل قيمة عظيمة مجموعة في كتاب واحد.
      والكتاب المطبوع ليس فيه الكلام الذي سنذكره كله، وإنما هذا الكلام مأخوذ من مصدر موثوق لا شك فيه، وهو كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ، فإما أن يكون المخطوط الذي حُقق ناقصاً، وإما أن يكون الإمام أبو عبيد كتب ذلك الكتاب مجملاً، ثم فصل في مصنف آخر أسماء من ذكروا؛ لأن الإمام ابن تيمية رحمه الله ثقة، يشهد بثقته في النقل الأعداء والأصدقاء، فإذا وجدت مخطوطة لشيخ الإسلام ابن تيمية ذكرت نقولاً عن أي كتاب، فقابل أي كتاب بالمخطوطة فإنك تستطيع أن تصحح الكتاب من مخطوطة ابن تيمية ؛ لأمانته ودقته وحفظه رحمه الله، حتى إن علي سامي النشار -على شدة ما يحمل على ابن تيمية ويظلمه، وهو من أسوأ الظلمة في هذا الشأن- حين يأتي إلى قضية النقل يقول: إن ابن تيمية في النقل أمين ودقيق، وابن تيمية رحمه الله يدري أن تغيير الكلمة أو العبارة يترتب عليه معنى آخر، فشهد بهذا وهو لا يطيق أن يقرأ له.
      قال شيخ الإسلام: (قال أبو عبيد وله كتاب مصنف في الإيمان) ولم يقل: قال في كتابه الذي صنفه في الإيمان. وكأن هذا فيه إشارة إلى أن هذا النقل ليس في الكتاب، وإنما قاله وهو صاحب ذلك الكتاب المعروف.
      يقول: (قال أبو عبيد وله كتاب مصنف في الإيمان، قال: هذه تسمية من كان يقول: الإيمان قولٌ وعمل يزيد وينقص: من أهل مكة : عبيد بن عمير الليثي ، عطاء بن أبي رباح ، مجاهد بن جبر ، ابن أبي مليكة ، عمرو بن دينار ، ابن أبي نجيح ، عبيد الله بن عمرو ، عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عبد الملك بن جريج ، نافع بن جبير ، داود العطار ، عبد الله بن رجاء ، ومن أهل المدينة : محمد بن شهاب الزهري ، ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، أبو حازم الأعرج ، سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، يحيى بن سعيد الأنصاري ، هشام بن عروة بن الزبير ، عبد الله بن عمر العمري ، مالك بن أنس ، محمد بن أبي ذئب ، سليمان بن بلال ، عبد العزيز بن عبد الله يعني الماجشون ، عبد العزيز بن أبي حازم ، ومن أهل اليمن : طاوس اليماني ، وهب بن منبه ، معمر بن راشد ، عبد الرزاق بن همام ، ومن أهل مصر و الشام : مكحول ، الأوزاعي ، سعيد بن عبد العزيز ، الوليد بن مسلم ، يونس بن يزيد الأيلي ، يزيد بن أبي حبيب ، يزيد بن شريح ، سعيد بن أبي أيوب ، الليث بن سعد ، عبد الله بن أبي جعفر ، معاوية بن أبي صالح ، حيوة بن شريح ، عبد الله بن وهب)، وهؤلاء من الأئمة الأعلام، فأي مطلع على الرجال والعلماء في هذا الزمن -وهو أكثر الأزمنة انتشاراً للعلم وتشعبه- يجد أن علماء الأمة في القرون المفضلة هم هؤلاء في جميع الأمصار.
      قال: (وممن سكن العواصم وغيرها من الجزيرة)، والجزيرة يعني بها ما بين الرافدين، وليست جزيرة العرب ( ميمون بن مهران ، يحيى بن عبد الكريم ، معقل بن عبيد الله ، عبيد الله بن عمرو الرقي ، عبد الكريم بن مالك ، المعافى بن عمران ، محمد بن سلمة الحراني ، أبو إسحاق الفزاري ، مخلد بن حسين ، علي بن بكار ، يوسف بن أسباط ، عطاء بن مسلم ، محمد بن كثير ، الهيثم بن جميل ، ومن أهل الكوفة : علقمة الأسود أبو وائل) وهؤلاء تلاميذ عبد الله بن مسعود ، ورابعهم زر بن حبيش ، فهم تلاميذ أكبر إمام سكن الكوفة ، وأخذ عنه العلم سنين طويلة، وهو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.
      قال: (سعيد بن جبير ، الربيع بن خثيم ، عامر الشعبي ، إبراهيم النخعي ، الحكم بن عتيبة ، طلحة بن مصرف ، منصور بن المعتمر ، سلمة بن كهيل ، مغيرة الضبي ، عطاء بن السائب ، إسماعيل بن أبي خالد ، أبو حيان يحيى بن سعيد ، سليمان بن مهران الأعمش ، يزيد بن أبي زياد ، سفيان بن سعيد الثوري ، سفيان بن عيينة ، الفضيل بن عياض ، أبو المقدام ثابت بن العجلان ، ابن شبرمة ، ابن أبي ليلى ، زهير ، شريك بن عبد الله ، الحسن بن صالح ، حفص بن غياث ، أبو بكر بن عياش ، أبو الأحوص ، وكيع بن الجراح ، عبد الله بن نمير ، أبو أسامة ، عبد الله بن إدريس ، زيد بن الحباب ، الحسين بن علي الجعفي ، محمد بن بشر العبدي ، يحيى بن آدم ، محمد ويعلى وعمرو بنو عبيد)، كل هؤلاء من علماء الكوفة الذين يقولون: إن الدين قولٌ وعمل.
      قال: (ومن أهل البصرة : الحسن بن أبي الحسن البصري ، محمد بن سيرين ، قتادة بن دعامة ، بكر بن عبد الله المزني ، أيوب السختياني ، يونس بن عبيد ، عبد الله بن عون ، سليمان التيمي ، هشام بن حسان ، الدستوائي، شعبة بن الحجاج ، حماد بن سلمة ، حماد بن زيد ، أبو الأشهب ، يزيد بن إبراهيم ، أبو عوانة ، وهيب بن خالد ، عبد الوارث بن سعيد ، معتمر بن سليمان التيمي ، يحيى بن سعيد القطان ، عبد الرحمن بن مهدي ، بشر بن مفضل ، يزيد بن زريع ، المؤمل بن إسماعيل ، خالد بن الحارث ، معاذ بن معاذ ، أبو عبد الرحمن المقرئ .
      ومن أهل واسط : هشيم بن بشير ، خالد بن عبد الله ، علي بن عاصم ، يزيد بن هارون ، صالح بن عمر ، عاصم بن علي .
      ومن أهل المشرق: الضحاك بن مزاحم ، أبو جمرة نصر بن عمران ، عبد الله بن المبارك ، النضر بن شميل ، جرير بن عبد الحميد الضبي .
      وهؤلاء كلهم أعلام، جبال في علوم شتى، والغالب عليهم علم الحديث، ولكن منهم من كان أيضاً متمكناً في اللغة وفي غيرها.
      قال: (هؤلاء جميعاً يقولون: الإيمان قولٌ وعمل يزيد وينقص، وهو قول أهل السنة المعمول به عندنا).
      وهذا أيضاً نقل للإجماع وذكر للأئمة المجمعين من إمام ثقةٍ في نقله وفي إسناده إلى هؤلاء.
    6. إجماع الأئمة على أن الإيمان قول وعمل وحكم مخالفته

      فالمسألة إجماعية لا شك فيها عند هؤلاء الأئمة رضي الله تعالى عنهم.
      قال: (إلا من باين الجماعة) أي: من خالف الجماعة (واتبع الأهواء المختلفة، فأولئك قومٌ لا يعبأ الله بهم لمّا باينوا الجماعة) فلا يُعتد بخلافهم.
      فهذا من أقوى الدلائل على الإجماع، وخطر مخالفة الإجماع أن الله تعالى قال: (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ))[النساء:115].
      فماذا تريد يا من تخالف الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وعلماء الإسلام؟! هذا مصيرك وهذا جزاؤك إن اتبعت غير سبيل المؤمنين وشاققت الرسول صلى الله عليه وسلم وخالفت الحق من بعد ما تبين لك.
      يقول: (لا يعبأ الله بهم) أي: لا يعتد بمن خالف الإجماع، ولا سيما إذا كان مصدر تلقيه غير إسلامي، ولهذا لما سئل يزيد بن هارون رحمه الله تعالى عن الفتن والبدع والكلام قال: نحن أخذنا علمنا عن أتباع التابعين عن التابعين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسألوهم عمن أخذوا؟
      يقول: الذي نقوله لكم نحن -علماء أهل السنة - أخذناه بهذا السند العظيم، فأخذناه عن أتباع التابعين عن التابعين عن الصحابة، فائتوا بأهل البدع، فقولوا للجهمية : عمن أخذتم؟ وقولوا للقدرية : عمن أخذتم؟ فسيقولون: هذا مقتضى العقل! وهو هوى سموه عقلاً، ويقولون: هذا ما قال به الحكماء القدماء، كـأفلاطون و أرسطو ! فلم يأخذوا عن كتاب الله ولا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    7. نقل البغوي لإجماع الأمة على معنى الإيمان

      النقل الخامس عن الإمام البغوي رحمه الله صاحب شرح السنة ، حيث يقول في الجزء الأول من شرح السنة: (اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان؛ لقول الله سبحانه وتعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ))[الأنفال:2] إلى قوله: (( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ))[الأنفال:3]) فمستند الإجماع أي دليل، فهذا يأتي بآية وهذا يأتي بآية، ولا حرج في ذلك، فـالبخاري جاء بآية البينة، والبغوي جاء بآية الأنفال.
      قال: (فجعل الأعمال كلها إيماناً، وكما نطق به حديث أبي هريرة)، وحديث أبي هريرة الذي جعل الأعمال كلها إيماناً هو: ( الإيمان بضع وستون شعبة، أو بضع وسبعون شعبة )، فهذا الحديث يتبين به جلياً أن الأعمال كلها من الإيمان، فالإيمان بضع وستون شعبة، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.
      وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
  3. اختلاف أهل البدع وتوحد أهل السنة

     المرفق    
    ثم احتاج الناس إلى أن يعرفوا الدين بتعريفٍ جامع مانع يبينون به حقيقته، ويفرقون به بين حقيقته الشرعية وبين أقوال أهل البدع المختلفة، من خوارج و مرجئة وغيرهم، وهنا تظهر هذه الآية العظيمة التي عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله )، وأولى الناس بهذا الوصف هم صحابة رسول الله والتابعون، فلا منجى لأحد ولا نجاة له إلا باتباع طريقتهم، فهي مثل سفينة نوح عليه السلام من ركب فيها نجا ومن حاد عنها هلك وغرق.
    فكان الذي حصل أنه جاءت هذه الفتن، وكان العلماء الذين تلقوا العلم بأسلوب الحكمة لا بأسلوب التعريفات الاصطلاحية منتشرين في الآفاق، في خراسان وفي بلاد ما وراء النهر والعراق ومصر والجزيرة واليمن ، ولولا وحدة المنهج ووحدة التربية ووحدة التلقي لرأينا عجبا من الاختلاف، لكن الذي وجدنا هو أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم، أجمعوا في هذه المسألة على كلام يكاد يكون ألفاظاً واحدة، وإن زاد بعضهم بعض الألفاظ لم يخرج عما قال الآخرون أبداً، دون أن يتفقوا فيما بينهم، أو يتكاتبوا أو يتواصوا؛ لأنها حقائق واضحة وتربية واحدة ومنهج واحد، فالموقف لابد من أن يكون واحداً.
    وهذه إحدى العلامات التي يجب أن نعلمها وأن نستدل بها لـ أهل السنة في جميع الأزمنة، وفي جميع العصور، وهي أنك تجد المنهج واحداً، فلو تكلم فلان ثم تكلم فلان لا تجد اختلافاً إلا فيما يختلف فيه البشر عادةً من أسلوب العرض أو الطريقة، لكن الهدف واحد.
    أما أهل الأهواء فهم مختلفون مضطربون هائجون مائجون لا يقر لهم قرار -والعياذ بالله- ولا يجمعهم جامع، وهذا من عاجل عقوبتهم.
    فالمهم أنه اتفقت كلمة سلف الأمة على أن الإيمان قولٌ وعمل، وقال بعضهم: يزيد وينقص، وهذا معلوم، وذكر بعضهم بعض القيود الأخرى التي سنبينها إن شاء الله.
    والمقصود أنهم أجمعوا على هذا، وسنأتي -إن شاء الله- أولاً بنماذج من هذا الإجماع، ثم نبين حكم المخالف وشبهة المخالف بعد أن نشرح هذا التعريف -إن شاء الله تعالى- شرحاً كافياً وافياً.