المادة كاملة    
لقد سلكت الطرق الصوفية الضالة في العبادة مسلكاً مبنياً على المحبة المتوهمة، مجانبة بذلك طريق الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من عباد الله الصالحين، موافقة لطرائق الهندوس وعقائدهم في هذا الباب، الأمر الذي يقود المتأمل إلى حقيقة نشأة هذه الطرق الصوفية ومردها، ويكفي في بيان هذا الضلال نتائج تلك المحبة المتوهمة التي أفضت بهم إلى عبادة الله تعالى بالغناء والسماع، واعتقاد وحدة الأديان باعتبارها طرقاً موصلة إلى الله تعالى.
  1. بيان أصل التصوف وعلاقته بالهندوسية

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فقد سبق الحديث عن العبارة السلفية المشهورة: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق)، وبينا أن هذا هو مسلك الصوفية الزنادقة، وهنا سنرجع إلى أصل القضية من الناحية الموضوعية، في بيان من أين دخلت على المسلمين هذه الفرقة الضالة، وهي الصوفية التي تسترت بالحب الإلهي وتدعي أنها تعبد الله بالمحبة ولا تعبده طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره كما يزعمون.
    وهذه قضية مهمة، ومن فضل الله أن الدراسات الحديثة الأخيرة عندما نشرت الكثير عن الأديان مما لم يكن منشوراً من قبل أعانت على معرفة الحق في هذا الأمر، ومن ميزة الحق التي اختصه الله بها دون الباطل أن الزمن يكشف دائماً عن صحة الحق، فمع مرور الزمن يتضح بطلان الباطل.
    فالذين اتخذوا التصوف عبادة واقتفاء لما يزعمون من آثار نبوية، عندما يناقشون لا يعتقدون أن هذه الضلالة أصلها وثني هندي، ولكن مع مرور الزمن وانكشاف الحقائق ظهر أصل التصوف واضحاً ولله الحمد وبغض النظر عن الدراسات الحديثة فإن هناك كتاباً قل من أشار إليه، بل لا أذكر من رجع إليه، وهو من المصادر القديمة، وقد طبع مؤخراً، وقد يكون سبب إهماله فيما مضى أن صاحبه ليس عالماً مهماً في الأمة، وإنما هو رحالة وجغرافي متفلسف متكلم لا يؤبه كثيراً لما يكتب، لكنه بالنسبة إلى مقارنة الأديان يعد رأساً، وهو البيروني الرحالة مؤلف الكتاب المشهور (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة )، وقد ذهب إلى الهند ودرس أديانها، وكتابه يدل على أنه كان يجيد اللغة الهندية، وله كلام طويل في هذا الكتاب عن أديان الهند ، والذي يهمنا منه ما يتعلق بالمحبة الزنديقية، وهي أن يعبد الإله أو الرب لذاته دون رجاء ثوابه وخوف عقابه، وبيان أن أصل هذه المسألة من الهندوس .
    1. موافقة الصوفية للهندوس في القول

      يقول: (إن الهنود يذهبون إلى أن المعبود والمعبودات شيء واحد) وهذا هو المعروف بوحدة الوجود، والمصطلحات الصوفية الثلاثة -الحلول، والاتحاد، ووحدة الوجود -يدور حولها كفر الصوفية وقد سبق أن فرقنا بينها، وقلنا: إن وحدة الوجود هي: أن الموجودات عين واحدة وذات واحدة، وأهل الاتحاد يثبتون حقيقتين وذاتين تتحدان فتكونان ذاتاً واحدة، وهما في الأصل ذاتان مختلفان، فأصحاب وحدة الوجود والاتحادية مثل فلاسفة اليونان وفلاسفة الهندوس عموماً، وتبعهم بعض من يدعي أنه من المسلمين، ومنهم ابن سبعين على ما يظهر من كلامه، وفي بعض كلام ابن عربي وغيره ما يدل على ذلك.
      وأما الحلولية فيثبتون ذواتاً حقيقة، لكن يرون أنه يمكن أن يحل الخالق في المخلوقات، وأوضح مثال على ذلك معتقد النصارى ، فدين النصارى يقوم على الحلول، وهو أن الله تعالى حل في عيسى، أي أن الإلهية حلت في عيسى عليه السلام.
      والفرق بينهما -كما ذكر شيخ الإسلام في الجواب الصحيح وغيره- أن النصارى اعتقدوا أن مخلوقاً واحداً يحل فيه الله، وهو عيسى عليه السلام، أما الصوفية فإنهم يعتقدون أنه يحل في أئمتهم، ومنهم الحلاج الذي ادعى الحلول وكثير منهم مثله، فمنهم من كان يقول: ما في الجبة إلا الله! ومنهم من كان يقول: سبحاني سبحاني ما أعظم شأني! فكل زعماء الصوفية ، وكل من تصوف وتعمق في التصوف وإن انتسب إلى أي طريقة، بأن ادعى أنه قادري أو نقشبندي أو رفاعي أو تيجاني أو براهمي أو ختمي أو غير ذلك؛ كل أولئك تجدهم يعبرون بأن الله حل فيهم، ويتكلمون باسم الله، ويقولون: إن ذواتهم قديمة، كما هو واضح في أخبارهم.
      فالمقصود أن أصل القضية عند الهندوس أن الموجود شيء واحد، فانظر إلى هذا المذهب الخبيث الباطل الذي تتفق جميع الأديان على بطلانه؛ حتى العرب مع ما كانوا عليه في جاهليتهم من شركهم بالله ما وصل بهم الانحدار في التفكير إلى هذا المستوى، وقد كانوا أقرب إلى الفطرة، يعبد أحدهم الصنم من التمر فإذا جاع أكله لعدم وجود الاقتناع الداخلي به، ويطوف بالصخرة ويعبدها فيأتي وقد بال الثعلب عليها فيقول:
      أرب يبول الثعلبان برأسه            لقد ضل من بالت عليه الثعالب
      فالعرب كانت عندهم فطرة سليمة، ولكنه الاتباع والتقليد، كما قال الله تعالى عنهم: (( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ))[الزخرف:22]، وقال تعالى عنهم: (( بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ))[البقرة:170]، وكذلك حمية الجاهلية، كما قيل لـأبي طالب : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! أما الأمم الأخرى فإنها ارتكست إلى هذه الضلالات والسخافات.
    2. موافقة الصوفية للهندوس في معتقدهم في الربوبية والعمل

      يقول البيروني: (إن باسديو يقول في الكتاب المعروف بـكيتا) وهذه الكتب موجودة ومعروفة عند الهندوس (أما عند التحقيق فجميع الأشياء إلهية) يعني: هي الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
      (لأن بشن) وهو الرب عندهم (جعل نفسه أرضاً)، فكيف يتصور أن الرب يجعل نفسه أرضاً ليستقر عليها الحيوان! قال: (وجعلها ماءً ليغذيهم، وجعلها ناراً وريحاً لينميهم وينشئهم، ومنح الذكر والعلم وضديهما على ما هو مذكور في فيدا) أي: في أسفار الفيدا ، وفي لغتهم تنطق بين الواو والفاء.
      يقول البيروني: (والغاية المثلى عند هؤلاء هي معرفة الرب والتخلق بخلقه، دون انتظار الثواب أو الجزاء) هذه هي القضية، فيقول صاحب كتاب كيتا: (إن الرب يقول: إني أنا الكل من غير مبدأ بولادة أو منتهى بوفاة، ولا أقصد بفعلي مكافأة، ولا أختص بطبقة دون أخرى لصداقة أو عداوة، قد أعطيت كلاً من خلقي حاجته في فعله، فمن عرفني بهذه الصفة وتشبه بي في إبعاد الطمع عن العمل انحل وثاقه وسهل خلاصه وعتاقه) أي: أن تعمل العمل ولا ترجو ثواباً ولا تطمع في ذلك، وهذا هو منبع الخطأ الذي قاله الصوفية فيما بعد، أن تعبده ولا ترجو الجنة ولا تخاف من النار.
      ثم يقول: (ولهذا لم يعد كتاب سانك ثواب الجنة خيراً بسبب الانقضاء وعدم التأبيد]، فهم يرون أن الجنة تفنى، وهذا باطل.
      يقول: (وبسبب مشابهة الحال فيها حال الدنيا من التنافس والتحاسد لأجل تفاضل الدرجات والمراتب؛ فإن الغل والحسرة لا يزول إلا بالتساوي) هكذا ظن فلاسفة الهنود، فقالوا: إذا كانت الجنة درجات؛ فسيكون فيها تحاسد وتنافس، ونحن نكره الدنيا لما فيها من ذلك، وهذا الذي لا يؤمن به من عرف الله، ولا يعتقده؛ لأنه تعالى بين لنا ذلك فقال: (( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ))[الحجر:47]، فكل أهل الجنة راضون بمنازلهم التي هم فيها.
      وأما الأبدية فمعلوم أنهم خالدون فيها أبداً، كما ذكر الله في آيٍ كثيرة، فأبدية الجنة حق، ولا غل فيها ولا تحاسد، فانتفى ما يخشى منه هؤلاء.
    3. موافقة الصوفية معتقد الهندوس في الجنة

      يقول البيروني : (والصوفية لا يعدونها خيراً من جهة أخرى)، يقول: يزيدون على الهنود شيئاً آخر، (وهي التلهي بغير الحق والاشتغال عن الخير المحض بما سواه) يرون أن الاشتغال بالجنة والنار والحديث عنهما يلهي ويشغل عن الحق، والمطلوب أن يكون اشتغالك كله بالله.
      فنقول: بيننا وبينكم كتاب الله؛ فإن الله في كتابه الكريم قد أخبرنا عن نفسه، وهذا أشرف ما في كتاب الله، كما في سورة الفاتحة وهي أفضل السور، وآية الكرسي وهي أفضل الآيات، وكذلك سورة الإخلاص، والكافرون، ومع ذلك أخبرنا تعالى عما في الجنة من نعيم في سور كثيرة، كسورة الإنسان مثلاً، وحدثنا عما في النار من عذاب أليم في سور كثيرة جداً، وحدثنا الله عن القرون قبلنا وأخبارها، وعن أيام الله فيها والعذاب الذي أصابهم به في الدنيا، ونرى نحن آثار هذه العذاب أمام أعيننا كما نرى آثار من أنعم الله عليهم أمام أعيننا، فهذا يجعلنا نوقن بأن في الآخرة عذاباً ونعيماً ونصدق به.
      فالله تعالى قد أعطى إبراهيم وآله الذكر الحسن في العالمين كما أخبر تعالى، وهذا من النعيم في الدنيا، ودليل ذلك البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام، جعله تعالى معظماً محبوباً تهوي إليه القلوب والأفئدة من كل مكان وفي جميع الأزمان، وهذا تكريم وتفضيل من الله له، ولكن أين آثار عاد وثمود وأشباههم؟! ما بقي منها إلا أطلال وخرائب تدل على أن الله قد ابتلاهم وعذبهم: (( فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ))[القصص:58]، (( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ))[الأحقاف:25] لمن أراد أن يعتبر ويتبصر في أخبارهم.
    4. اتفاق الصوفية والهندوس في التمادي في أداء العبادات على وجوه المشقة

      ثم يقول: (وفي كتاب كيتا: كيف ينال الخلاص من بدد قلبه ولم يفرده لله؟!).
      ونريد أن نبين أن هناك أصلاً قد تشترك فيه الأديان جميعاً، فقد نشترك نحن -المسلمين واليهود و النصارى والصوفية - في أشياء معينة وفي مطالب معينة، ولا يعني ذلك أن الدين واحد، فالاتجاه في الأصل واحد، وهو أن الرب المعبود واحد، لكن طرقنا تختلف بحسب الحق والباطل، فالحق هو الذي عليه المسلمون، والباطل هو الذي حرفه وغير فيه غيرهم.
      يقول: (كيف ينال الخلاص من بدد قلبه ولم يفرده لله ولم يخلص عمله لوجهه؟! ومن صرف فكرته عن الأشياء إلى الواحد ثبت نور قلبه كثبات نور السراج الصافي الدهن في كن لا يزعزعه فيه ريح، وشغله ذلك عن الإحساس بمؤلم من حر أو برد؛ لعلمه أن ما سوى الواحد الحق خيال وباطل)، وهذا الكلام قد تجد مثله في إحياء علوم الدين للغزالي أو غيره، وعند التأمل تجد أن أصل هذا الكلام مقارب لقوله تعالى: (( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ... ))[النور:35] الآية، ولكنه بعد ذلك حرف وغير وبدل، فالأصل والمنبع واحد، لكن بعد ذلك كان الانحراف، فعندما يتصور أن ذلك الإحساس يشغله حتى لا يشعر بمؤلم من حر ولا برد هنا يمد ذلك الرهبان الهندوس مداً، فيصبح الإنسان منهم يتعبد في الخلاء ويتعرى في الجبال ولا يبالي بحر ولا ببرد، بخلاف ما لو قال ذلك أحد على سبيل الزيادة في الصبر والتحمل لا أكثر.
      يقول: (وفي كتاب سانك : وكل شيء يظنه غاية له فإنه لا يتعداه)، فكل شيء يظنه غاية له لا يتعداه، فعلى العاقل أن لا يجعل له غاية قريبة، وأن يجعل غايته هي المعبود.
      قال: (وفي كيتا : إن من عرف عند موته أن الله هو كل شيء ومنه كل شيء فإنه متخلص وإن قصرت رتبته عن رتبة الصديقين).
      أي أن المهم معرفة أن الله كل شيء ومنه كل شيء، فالصديقون يعبدون الله ويجتهدون في عبادته، لكن لو أن أحداً اعتقد أن الله هو كل شيء ومنه كل شيء فإنه يتخلص مثلهم وإن كان أقل منهم عملاً.
      وهذا مثل قول الصوفية : توحيد الخاصة، وتوحيد خاصة الخاصة، وتوحيد العامة، (( تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ))[البقرة:118].
      ثم يقول: (اطلب النجاة من الدنيا بترك التعلق بجهالاتها، وإخلاص النية في الأعمال، وقرابين النار لله، من غير طمع في جزاء ولا مكافأة)، أي: اترك الدنيا وتخلى عنها من أجل الله، من غير طمع في جزاء ولا مكافأة، هذا أصل اعتقاد الهندوس ، وينقلون أن سقراط الفيلسوف اليوناني المعروف قال ذلك، وهو وغيره من فلاسفة اليونان أخذوا هذا العقائد من فلاسفة الهند، فأصلها جميعاً من الهند ، وهذا أيضاً ثابت في علم مقارنة الأديان المعاصر.
      يقولون: إن سقراط لما حكموا عليه بالإعدام وجاءوا به ليقتلوه قال: ينبغي أن لا تنحط رتبتي عند أحدكم عن رتبة قوقن. وهو الذي يقال: إنه طائر أبلو الشمس؛ فإن هذا الطائر إذا أحس بموته أكثر الألحان طرباً وسروراً حتى يموت، هكذا اختص الله هذا النوع من الطيور، ويسمونه طير أبلو.
      فيقول: أنا الآن سأذهب إلى ربي، فيجب أن أكون فرحاً وأن تكونوا أيضاً مثلي فرحين، ولا أقل من أن يكون فرحي كفرح هذا الطائر بوصولي إلى معبودي. يرى أنه سيصل إلى ربه وسيتحد به في اعتقاده على ما ينقل في دين الهندوس .
      يقول البيروني: (ولهذا قالت الصوفية في تحديد العشق: إنه الاشتغال بالحق عن الخلق) وهنا نلحظ أن البيروني كلما أتى بعقيدة من عقائدهم ونقل كلامهم يقول: وقالت الصوفية ؛ ليثبت أن الصوفية أصلها هذا الدين الهندي.
    5. اتفاق الصوفية والهندوس في الاشتغال بالفكرة في الرب تعالى عن عبادته

      يقول: (وعن براهم : إن الله هو الذي لا أول له ولا آخر، لم يتولد عن شيء، ولم يولد شيئاً، إلا ما لا يمكن أن يقال: إنه هو، ولا يمكن أن يقال: إنه غيره)، وهذا شيء من الحق خلط بشيء من الباطل.
      يقول: (وأنى يكون لي طاقة بذكر من الخير المحض في رضائه، والشر المحض في سخطه، وهل يمكن إدراك معرفته حتى يعبد حق عبادته؟! إلا بالاشتغال به عن الدنيا بالكلية، وإدامة الفكرة فيه).
      فجعل العبرة ليست في أن نعبده، ولكن أن نشغل أذهاننا فيه، وهكذا الصوفية يتركون العبادة بدعوى الاشتغال به تعالى، وهذا يوضح كثرة التشابه بين الفريقين.
      ثم يقول البيروني: (إنما ذهبوا في الخلاص) الذي هو دين النصارى اليوم (إلى الاتحاد؛ لأن الله مستغن عن تأميل مكافأة أو خشية مناوأة، بريء -في نظرهم- عن الأفكار؛ لتعاليه عن الأضداد المكروهة والأنداد المحبوبة)، فانظروا إلى الضلال! وهذا الذي أخذه أفلاطون ، يقولون بعبادة أوضح كما وضحها أفلاطون : إن الله -سبحانه وتعالى- كامل، والعالم ناقص، والكامل لا يشتغل بالناقص، ولا يفكر فيه ولا يبالي به، فلهذا خلق الخلق وتركه!!
      إذاً: كيف يدار الكون؟ ومن يدبر الأمر؟ ومن يصرفه؟
      قالوا: خلق العقول العشرة، وكل عقل منها خلق الذي بعده إلى العاشر، وبعد هذا خلق النفس الكلية، والنفس الكلية فاضت على العالم… إلخ.
      يقول الحسن البصري رحمه الله: [ولا أن لهذا الكون رباً يحادثه] ي: لولا أن للكون رباً يغير الليل والنهار، ويسوق السحاب ويدبر الأمر [قال القائلون: لو أن لهذا العالم رباً يحادثه، فلو كان كل شيء لا يتحرك مطلقاً لقال الظالمون والمفترون: أين الرب؟ والله يدبر الأمر، وهو كل يوم في شأن]
      فـ القائلون بأن الله تعالى خلق الخلق وتركه هم الضلال الذين سماهم الله المضلين، يقولون الكذب ويقولون على الله بغير علم، ولذلك قال الله تعالى: (( مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ))[الكهف:51].
      فهؤلاء المضلون يقولون: هو كامل، وليس بحاجة إلى أن يكافئ أحداً أو أن يعذب أحداً!
      والحق أنه كذلك، لكن حكمته اقتضت ذلك، أما كونه غنياً عن العالمين وكاملاً وغير محتاج إلى أحد؛ فهذه حقيقة واضحة عندنا نحن المسلمين، ولكنه مع غناه حكم عدل، فلا بد من أن يجازي المحسن بالإحسان والمسيء بما عمل، أما هم فيقولون: إذا كان غنياً عن ذلك فالقصد الثواب وليس العقاب، وإنما يطلب ويعبد لذاته، والمتخلص الكامل يتمثل بالله في ذلك، أي: يعبد فلا يرجو منه شيئاً؛ لأن الله غني عن العالمين، فكذلك المتخلق بأخلاقه يعبده ولا يرجو ولا يطمع!
      فهذه هي الشبهة الخبيثة التي دخلت عليهم في هذا الباب، وقال من قال من الناس: إنها من الإسلام.
      وهنا قصة عجيبة تدل على ضلال الصوفية، وعلى أن هذا المزلق هو الذي أدى بهم إلى إفساد دين المسلمين بعبادة القبور وبناء القباب والأضرحة ودعاء غير الله وعبادة الأصنام والتماثيل تحت ستار معرفة الله، يظنون أنهم أولياء لله وهم الذين أفسدوا دين الإسلام بهذا الشرك.
    6. اتفاق الصوفية والهندوس فيما يتعلق بالمخاطبات

      يقول البيروني عن أحد كتب الهندوس حاكياً قصة من قصصهم: (كان فيما مضى من الأزمنة ملك يسمى أنبرش نال من الملك مناه، فرغب عنه وزهد في الدنيا وتخلى للعبادة والتسبيح زمناً طويلاً) أي: تصوف (حتى تجلى له المعبود في صورة أندرا رئيس الملائكة) وهو إله الشمس عندهم، ولذا يسمون باسمه، ومن هؤلاء أنديرا غاندي .
      يقول: (تجلى له المعبود في صورة أندرا رئيس الملائكة راكباً فيلاً وقال: سل ما بدا لك لأعطيكه. فقال الملك: إني مسرور برؤيتك، ولكنني لست أطلب منك، بل ممن خلقك. فقال أندرا : إن الغرض في العبادة حسن المكافأة عليها، فحصل الغرض ممن وجدته) يقول: ما هو الغرض من العبادة سوى الجزاء والمكافأة؟! فخذ المكافأة ممن وجدت، ولماذا تشترط الرب؟!
      (فقال الملك: أما الدنيا فقد حصلت لي وقد رغبت عن جميع ما فيها، وإنما مقصودي من العبادة رؤية الرب) يعني: لا أريد أي مكافأة، ولا أريد أي شيء، بل عبادتي محبة في الله فقط، وأريد رؤيته فقط. وهذه نفس الشبهة التي قالها الصوفية بعد.
      وبعد ذلك أخذ الملك يتحدث مع أندرا ويقول: أنا لا أريد جزاءً ولا شكوراً، إنما أعبده لذاته، فإذا بالرب -كما يزعمون- يتجلى له في صورة إنسان له هيبة وله هالة من النور، فلما رآه الملك اقشعر جلده من الهيبة وسجد وسبح كثيراً، فآنس الرب وحشته وبشره بأنه قد حصل على ما يريد من مشاهدة الرب ومخاطبته! فالشيطان يلعب بالعقول منذ زمن قديم.
      يقولون: فقال له: كيف أتخلص من هذه الدنيا؟!
      فقال له الرب: بالتخلي عن الدنيا بالوحدة، والاعتصام بالفكرة، وقبض الحواس إليك.
      فشكا الملك إليه أنه لا يستطيع ذلك؛ لأن الدنيا مشغلة تشغل الإنسان عن التفكر فيه، فقال له: إن غلبك نسيان الإنسية؛ فاتخذ تمثالاً كما رأيتني عليه، وتقرب بالطيب والأنوار إليه، واجعله تذكاراً لي لئلا تنساني، حتى إن عنيت فبذكري، وإن حدثت فباسمي، وإن فعلت فمن أجلي. أي: تكون أفعالك كلها لي خالصة، وهكذا.
      وقد ذكر قصة أخرى مشابهة لهذا، ثم قال: (ومن حينئذٍ وضعت الأصنام بالصور)، والأصنام في الهند إلى اليوم على صورة بني آدم، وصور أخرى كبيرة جداً، ويجتمع عندها الملايين يعبدونها إلى اليوم.
      فهذا أصل دينهم، وهو مخاطبة الرب كما يزعمون، والصوفية أخذوا ذلك بطريقة أخرى، فإنه إذا مات الشيخ أتاهم في المنام وقال: ابنوا على قبري قبة واتخذوه ضريحاً، ومن كان له حاجة فليدعني وأنا آتيه. ولذلك كثرت عندهم المخاطبات كما يسمونها.
      والله تعالى بحكمته ورحمته أنزل إلينا هذا الكتاب وأرسل إلينا هذا الرسول الذي قال فيه: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ))[الأنبياء:107]، ووصف القرآن في أكثر من آية بأنه هدى ورحمة وبشرى وموعظة وشفاء لما في الصدور، فهذه الرحمة التي من الله بها علينا يعرضون عنها، ويريدون أن يخاطبهم الله، وكأن كل إنسان منهم يريد أن يلقى إليه كتاب خاص أو صحف منشرة، كما أراد ذلك بعض الجاهلين، فلذلك ينام المرء منهم وهو يريد أن يرى الله في المنام أو يخاطبه الله، وتطور الحال ببعضهم إلى زعمهم أنهم سمعوا المخاطبات، بل إنهم جمعوا هذه المخاطبات، كما في كتاب المخاطبات لـعبد الجبار النفري ، فكله مخاطبات، يقول فيه: خاطبني ربي، وكلمني ربي! وما معنى تكليم الله لعبده في الدنيا سوى النبوة؟!
      فهؤلاء القوم تارة يقولون بالمخاطبات وتارة يقولون بالمكاشفات, والكشف هو الوحي, ولكن بصورة ملبسة، فكل منهم يدعي أن الله يخاطبه ويوحي إليه، والحقيقة هي كما قيل لـعبد الله بن عمر : إن المختار يزعم أنه يوحى إليه! فقال: صدق. قالوا: كيف؟! قال: ألم يقل الله: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ))[الأنعام:112]؟! فهذا من وحي الشياطين.
      فالمخاطبات والمكاشفات مثل هذه الرؤى التي كان يتحدث عنها أولئك الهنودس من قبل، وقل أن تجد شيخاً من شيوخهم إلا وهو يزعم أنه أحب الله حتى رآه وخاطبه وكلمه وقال له وأوحى إليه، وما أكثر ما يفترون على الله من الكذب بهذه المخاطبات والأفعال والأحوال.
  2. شواهد من كلام الصوفية تثبت الموافقة لمقالات الهندوس

     المرفق    
    نأتي هنا بشواهد من كلام الصوفيين تؤكد ما قلناه عن الهنود والفلاسفة وأمثالهم، وكلامهم كثير جداً، وأول من ألف في الصوفية من خلال تتبعي هو ابن الأعرابي ، ألف كتاباً وأسماه طبقات النساك ، ثم كتب أبو نعيم في الحلية ، ثم كتبت بعد ذلك كتب، مثل طبقات الأولياء للشعراني وكثرت كتبهم فيما بعد، ومن الصوفية المعاصرين من جمع هذا الكلام وحشره يريد أن يحشو به أذهان الناس وأذهان الجيل الجديد، فالعبارات قديمة، لكن جمعها في هذا الزمان يدلنا على قسم الشيطان لرب العالمين على إغواء الناس بعد استنظاره الله في ذلك، فهو يتخذ في كل زمن أولياء، فتنشأ طرق جديدة.
    1. نقل كاتب العصبة الهاشمية الصوفية عبارة ابن موفق

      ومن الطرق الخبيثة التي يجب أن ينبه عليها هذه الطريقة الخبيثة التي نشأت في مصر باسم العصبة الهاشمية، وهي خطيرة جداً؛ لأنها نشأت بعد نجاح ثورة إيران ، وتريد أن تكون دعوة جديدة في مصر التي طهرها الله على يد صلاح الدين رحمه الله من الرافضة ومن ضلالاتهم وبدعهم وعقيدتهم، فأصبحت -والحمد لله- بلاد سنة منذ زمن صلاح الدين إلى الآن.
      فتأسست هذه الفرقة الخبيثة، ولها علاقات مريبة مع الروافض لنفس الغرض الخبيث، والعلاقة بين التصوف والتشيع واضحة جداً وجلية جداً، والكلام فيها يطول كثيراً، وقد كتب الدكتور كامل الشيبي -دكتور عراقي- كتاباً اسماه الصلة بين التصوف والتشيع ونقل عنه وزاد الشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله تعالى، وبين الصلة بين التصوف والتشيع.
      المهم أن العصبة الهاشمية الخبيثة التي أنشئت في صعيد مصر شيخها محتجب لا يراه أحد، ولا يدخل عليه إلا المقربون الخاصة الذين يؤمنون بما يؤمن به هو من عقائد الهندوس وأشباههم، وطريقتهم خبيثة في إثارة شعور الناس إلى الشيء الغريب؛ لأن الناس لو رأوه وخالطوه رأوا عيوبه وفضائحه، لكن عندما يكون مختبئاً محتجباً يتكلم من بعيد يخيل للناس أنه شخص روحاني نوراني، يكسوه الشيطان هالة معينة في أذهان الناس، فيتشوق كل أحد من المريدين ومن الأتباع إلى اليوم الذي يصبح فيه أهلاً لأن يرى حضرة الشيخ ويدخل عليه من غير حجاب ويتمتع بمشاهدة طلعته البهية عندما يكبر ويصل إلى الدرجة العليا عندهم، وهي الحلول والاتحاد، وهذا الطلعة هي من نور الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وهذا هو القصد الخبيث عند هؤلاء الناس.
      فهذه الطائفة الخبيثة خطر على الإسلام، ومندوبها في هذه البلاد المقدسة لا يزال مصراً على دعواه، ونحن نعرفه ونعرف كتبه ونعرف إصراره على الاستمرار على الشرك، وأنه لم يستطع أن ينفي صلته بتلك العصبة الخبيثة، فالنقول التي سأنقلها هي من كتابه، وهي -في الحقيقة- نقول قديمة، لكنه جمعها ليثبت بها هذه العقائد الباطلة التي تثبت أن النهج واحد، وأن هذه الطائفة بعيدة عن دين الإسلام وعن السنة، وإن كتب أصحابها عن ليلة القدر أو عن صيام رمضان أو عن أحكام الشريعة أو عن السيرة النبوية فهذه مظاهر، أما الحقيقة التي يريدونها فهي ما أثبت في الكتاب الذي أسماه صاحبه المختار من كلام الأخيار .
      فهذا الرجل ينقل عن علي بن موفق أحد رجال الصوفية قوله: اللهم إن كنت تعلم أني عبدك خوفاً من نارك فعذبني بها. نعوذ بالله! مع أن كل واحد من المؤمنين يدعو بقوله تعالى: (( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ))[البقرة:201]، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      فهذا يقول: إن كنت تعلم أني عبدك خوفاً من نارك فعذبني بها، وإن كنت تعلم أني عبدك حباً مني لجنتك فاحرمنيها، وإن كنت تعلم أني أعبدك حباً لك وشوقاً إلى وجهك الكريم فأبحنيه واصنع بي ما شئت! نسأل الله العفو والعافية.
    2. قصة ذي النون المصري

      وبعد ذلك يأتي بقصة عن ذي النون و ذو النون المصري مشهور في كتب التصوف وغيرها، كان يقال له -كما قال الذهبي وغيره- ذو النون الزنديق، وقد قلنا: إن هذه المحبة زنديقية.
      وكل ما كانوا يكتبونه عن ذي النون أنه كان يهيم في الأودية ويتتبع الرهبان، فخرج إلى جبل لبنان حيث الرهبان النصارى يريد أن يسألهم عن معرفة الرب! ثم إلى الصحراء ثم إلى اليمن ، فلقيه شاب يريد مثل ما يريد، أي: يبحث عن المعرفة، فسأله الشاب عن علامة الحب لله سبحانه وتعالى، فقال: إن درجة الحب رفيعة، إن المحبين لله عز وجل شق لهم عن قلوبهم فأبصروا بنور القلوب عز جلال الله تعالى، فعبدوه بمبلغ استطاعتهم حباً له لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار!
      فكلام ذي النون مثل كلام الهندوس .
    3. مقولة أبي يزيد البسطامي

      أما أبو يزيد البسطامي المشهور الذي يضربون به المثل في العبادة؛ فإنه كان يقول: عرج قلبي إلى السماء، وطاف ورجع، فقلت: بأي شيء جئت معك؟ قال: المحبة والرضا. قال ابن خضروريه : فرأيت رب العزة في منامي -كما يزعم- فقال لي: يا أحمد! كل الناس يطلبون مني، إلا أبا يزيد فإنه يطلبني! وجميع عباد الله الصالحين -ومنهم الأنبياء- يطلبون من الله ويدعون الله، ولا غنى لهم عن فضل الله في أدنى القليل، ويدعون الله أن لا يكلهم إلى أنفسهم أو إلى أحدٍ سواه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بذلك فيقول: ( ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ).
    4. مقولة إبراهيم بن أدهم

      ويذكر قصة عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: قلت: اللهم إن كنت أعطيت أحداً من المحبين لك ما تسكن به قلوبهم قبل لقائك فأعطني ذلك؛ فقد أضر بي القلق .
      وإبراهيم بن أدهم من خيارهم، ولبيان هذه القصة نقول: هناك طائفة هم صوفية من أصلهم، ولا خير فيهم ولا نسبة لهم إلى الإسلام، كـجابر بن حيان و عبدك وغيرهما، وهناك طائفة خلطت تصوفاً وإسلاماً، فـالصوفية ينسبونهم إليهم وأهل الإسلام ينسبونهم إليهم، وهناك طائفة محضة لم تخلط شيئاً من التصوف، لكن الصوفية ينسبونهم إليهم، ومنهم أبو بكر و عمر و عثمان و علي و سلمان و أبو الدرداء ، فإذا رجعت إلى حلية الأولياء تجد أن صاحب الحلية جعلهم من المتصوفة، وهذا باطل.
      أما إبراهيم بن أدهم فهو قد خلط، والصوفية ينسبون إليه أموراً كثيرة الله أعلم بصحتها، فالمهم أنهم نسبوا إليه أنه قال ذلك، ثم رأى الله في النوم فأوقفه بين يديه وقال: يا إبراهيم! أما استحييت مني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي؟! وهل سكن قلب المشتاق إلى غير حبيبه؟! أم هل يستريح المحب إلى غير من اشتاق إليه؟! قال: يا رب! بهت في حبك فما أدري ما أقول! وهذه دعوى المحبة التي لا ضابط لها.
    5. مقولة السري السقطي

      ويقول السري السقطي -وهو أيضاً من أصحاب السقطات التي يعدونها من الكرامات-: رأيت كأني وقفت بين يدي الله. وكل كلامهم مخاطبات مع الله، تعالى الله عما يقولون! يقول: فقال الله: يا سري ! خلقت الخلق فكلهم ادعوا محبتي، فخلقت الدنيا فذهب مني تسعة أعشارهم وبقي العشر، فخلقت الجنة فهرب مني تسعة أعشار العشر وبقي معي عشر العشر، فسلطت عليهم ذرة من البلاء فهرب مني تسعة أعشار عشر العشر، فقلت للباقين: لا الدنيا أردتم، ولا الجنة أخذتم، ولا من النار هربتم، فماذا تريدون؟! قالوا: إنك لتعلم ما نريد. فقلت لهم: فإني مسلط عليكم من البلاء بعدد أنفاسكم ما لا تقوم له الجبال الرواسي، أتصبرون؟! قالوا: إذا كنت أنت المبتلي لنا فافعل ما شئت. فهؤلاء عبادي حقاً!
      وهذا منافٍ لحكمة الله تعالى، فالله ما جعل علينا في الدين من حرج ولله الحمد، وقد أجاب تعالى المؤمنين لما دعوا ربهم فقالوا: (( وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ))[البقرة:286] فقال: قد فعلت. وكذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحاء، وكذلك من قبله من الرسل أصل دينهم سمح ميسر, وإنما جعلت الأغلال والآصار على أقوامهم بذنوب ارتكبوها، كما قال تعالى: ((فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ))[النساء:160] فأصل الدين يسر، أما أنه لا يفوز برضا الله إلا من يسلط عليهم البلاء بعدد أنفاسهم ما لا تقوم له الجبال الرواسي؛ فهذا من التكليف بما لا يطاق، نعم من آمن بالله واليوم الآخر، ودافع عن دين وجاهد في سبيل الله لا يريد بذلك إلا وجه الله فإنه يلاقي من الشدة والبلاء كثيراً، ولكنه مع ذلك أيضاً يلقى من النعيم والطمأنينة ومن السعادة ومن الراحة الشيء العظيم، فليس هناك بلاءً محضاً، ثم إنهم يدعون الله أن يبلغهم جنته على هذا البلاء ويعيذهم من ناره، لا كما يزعم هؤلاء.
      ويذكر عن عبد الأعلى أنه قال: رأيت أبا عبيدة الخواص على سوأته خرقة وعلى رقبته خرقة. وهل كان هذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة؟! لقد قال تعالى: (( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ))[الأعراف:31]، فهذا جعل نفسه من العراة، والحكماء العراة هم أيضاً من الهنود القدماء، واسمهم كذلك إلى اليوم، أي: الحكماء أو الفلاسفة العراة، يمشون عراة في الغابات ويتدينون بذلك، يقول الواحد منهم: واشوقاه لمن يراني ولا أراه! فهل هذه هي المحبة الحقيقية والعبادة الحقيقية التي يريدها الله تبارك وتعالى؟!
      وهؤلاء -كما يزعم- هم تيجان العباد، ولكننا نعلم أن تيجان العباد هم الذين أحبوا الله حق المحبة، هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، ولم يفعلوا هذه الأفاعيل أبداً.
    6. قصة عباس المجنون

      يقول: إن ابن المبارك قال: صعدت إلى جبل لبنان فإذا رجل قد اتزر بالخشوع، فلما رآني توارى بشجرة، فناشدته فظهر فقلت: إنكم تصبرون على الوحدة، يعني: كيف تعيشون في وحدة في هذه الجبال؟ قال: فأنشأ يقول:
      يا حبيب القلوب مالي سواك            ارحم اليوم مذنباً قـد أتاكا
      أنت سؤلي ومنيتي ومرادي             قد أبى القلب أن يحب سواكا
      ليس سؤلي من الجنان نعيم            غير أني أريـدها لأراكا
      يخاطب الله بأنه لا يريد من الجنة إلا أن يراه فقط، وهو هائم في هذه الصحراء، وما هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، وإنما جاهدوا في الله حق جهاده وهم بين ظهراني الناس، ودعوا إلى الله، وسألوا الله الجنة واستعاذوا به من النار.
      قال: ثم غاب عني فتعاهدت ذلك الوضع سنة لأقع عليه فلم أره، فلقيني غلام أبي سليمان الداراني -عابد الشام المشهور- فسألته عنه فبكى وقال: واشوقاه إلى نظرة أخرى منه، ذلك عباس المجنون ! يأكل في كل شهر مرتين من ثمار الشجر ونبات الأرض!
      فهل هكذا عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يقول: ويتعبد هكذا منذ ستين سنة، وهو على هذه الحالة هذه المدة.
      عباد النصارى ورهبانهم وعباد الهندوس يفعلون مثل هذا وأكثر منه، فـ العبرة ليست بالاجتهاد في العبادة، وإنما العبرة بالاتباع للسنة، لحديث: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).
  3. نتائج وخيمة للمحبة الصوفية الهائمة

     المرفق    
    هذه المحبة الهائمة أدت إلى أمرين: ‏
    1. عبادة الله تعالى بالغناء والسماع

      الأمر الأول: أنهم عبدوا الله بالغناء والشعر والنشيد والسماع، فما جعله العرب من عشق وغزل في ليلى و عبلة و بثينة و لبنى و سعاد إلى آخر ذلك من الأسماء الموجودة في دواوين العرب يأخذه الصوفية ويتغنون به ويبكون ويخشعون ويرقصون ويتمايلون ويتعبدون الله به؛ لأن المسألة عندهم محبة، ويعتقدون أن هذا الذي أحب هذه الفتاة أو تلك المرأة هو في الحقيقة -كما يقول بعضهم- ما أحب إلا الله؛ لأنه إنما أحب ما يتجلى من جمال الله، فأخفوا بذلك شهواتهم الخفية، وحرموا أنفسهم من الزواج ومما أحل الله من المتعة، ثم يجلسون مع النساء ويتغزلون بالأناشيد الغزلية، ويقولون: إن أهل الشهوات (أهل الدنيا) منحطون محجوبون عن الله، ونحن أعلى وأسمى من ذلك؛ لأننا نتغنى ونحن نريد بذلك الله والجمال الروحاني، ولا نقصد الجمال الجسماني الجسدي البشري.
      والحقيقة أن القضية واحدة مهما جعلوا من هالات، وإنما ذلك مغالطة منهم لأنفسهم.
      وترتب على ذلك تسهيل الطريق لمن أراد التسكع والفساد، ولذلك كان بعض الشعراء الفساق وأمثالهم قديماً يخافون من أهل الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يستطيعون أن يفعلوا ما يشاءون أو أن يجلسوا مع الجواري أو المغنيات، فيدخلون مع الصوفية ويحضرون الحضرة ويتمايلون معهم ويغنون، ومن ثم يرون الوجوه التي يريدون أن يروها، ويحصل من الطرب والسهر ما لا يقل عما يفعله الفساق، بل وصل بهم الحال وتطور بهم الأمر إلى حد أن الملوك والزعماء المجرمين استغلوا ما هم عليه من الضلالة وبدءوا بنشره والدعوة إليه ليصرفوا الناس عن الدين الحق، ومن ثم لا ينكر عليهم منكر ما يفعلونه من المنكرات والموبقات، حتى إنه في أيام المماليك كانت الحضرات والاحتفالات الصوفية ينفق عليها الألوف من قبل الأمراء.
      فهذا أحد نتائج هذا المحبة الزنديقية، وهو التعلق بالغزل والسماع، وقد وصل بهم الحال في ذلك إلى أن كتب أبو عبد الرحمن السلمي وغيره في إباحة السماع والرقص، وأن ذلك جائز تديناً، أي: إن غنيت وطربت ورقصت لهواً فهذا حرام، أما إن كان تديناً وذكراً فذلك عبادة رفيعة ودرجة عالية، وهذا هو الفرق في نظرهم.
    2. اعتقاد وحدة الأديان

      الأمر الثاني: هو نتيجة أخرى أخطر من سابقتها، وهي أنهم جعلوا الدين هو المحبة، ووصل بهم الأمر إلى اعتقاد وحدة الأديان، فليس المهم أن يكون المرء مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً، إنما المهم أن يكون محباً عارفاً، وهم في ذلك لا يختلفون عن الهندوس ، فـبوذا معناه: العارف، فلذلك يرى الصوفية أن كل من عرف وكل من بحث عن الطريق وكل من سار فيه على أي دين فهو مقبول، وهذا الذي كان يقول فيه ابن عربي :
      وقد كنت قبل اليوم أهجر صاحبي            إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
      يقول: كنت إذا وجدت إنساناً على غير دين الإسلام أنبذه وأهجره؛ لأنه غير مسلم.
      ثم قال بعد أن ترقى وفهم:
      فأصبح قلبي قابلاً كل صورة            فدير لرهبان وكعبة لأوثان
      إلى أن يقول:
      أدين بدين الحب أنى توجهت            ركائبه فالحب ديني وإيماني
      يعني: كل من يحب الله فهو على هذا الدين، فالدين عنده ليس دين الإسلام، وإنما هو دين الحب فقط أينما كان.
      وقد نقل من كتب تاريخ الحلاج أن أحد الناس المسلمين مر بيهودي في بغداد فنهره وقال له: اسكت يا يهودي. فنظر إليه الحلاج شزراً وغضب عليه غضباً شديداً وقال له: لماذا تنهره؟! لا تعير أحداً بدينه؛ فإن الأديان طرائق إلى الله، وإنك إن عبت أحداً بدينه فقد جعلته مختاراً، والله هو الذي اختاره له! أي: كأنك تشرك بالله إذا قلت لأحد: دينك كذا؛ لأنك تثبت أنه هو الذي اختار، والحقيقة أن البشر لا يختارون، وإنما الله تعالى هو الذي يختار لهم الطرق إليه! ثم أنشد في ذلك أبياتاً، وغير ذلك كثير.
      ومن أفحش ما جاء عنهم في هذا قصيدة عبد الكريم الجيلي و عبد الغني النابلسي ، فهذان كشفا عن سوأة ما كان يستره ابن عربي و ابن الفارض ، فـابن عربي و ابن الفارض أعطاهما الله من البيان شيئاً عجيباً، وقد أنصف شيخ الإسلام حين ذكر قوة بيانهما وسحرهما، لكنهما يقدمان لحم الخنزير في طبق من ذهب.
      أما الجيلي و النابلسي فإنهما لم يستحيا في كشف الكفر الذي عليه أولئك القوم الذين يستترون بالحب ويزعمونه، وهم من أخبث الناس.
  4. تعظيم المؤمن لصغير العمل وإشفاقه من يسير الزلل

     المرفق    
    يقول الشارح رحمه الله تعالى: [ولقد أحسن محمود الوراق في قوله:
    لو قد رأيت الصغير من عمل             الخير ثواباً عجبت من كبره
    أو قد رأيت الحقير من عمل            الشر جزاءً أشفقت من حذره]

    فالشارح رحمه الله تعالى يثني على هذه الأبيات لـمحمود الوراق ، وهو شاعر من شعراء العصر العباسي، توفى في أيام الخليفة المعتصم، وقد ذكره ابن خلكان في موضعين: عندما تكلم عن بشار بن برد ، لأنه كان من معاصري بشار وله مع بشار قصة ذكرها، ثم ذكره عندما تكلم عن أبي العيناء .
    يقول الوراق:
    لو قد رأيت الصغير من عمل            الخير عجبت من كبره
    فقد يقول الرجل كلمة لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وقد يتصدق بدرهم فيضعه الله عنده شيئاً عظيماً، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة )، فقد تكون الوقاية بينك وبين النار بشق تمرة، وهذا من فضل الله، فكن راجياً من ربك فضله وثوابه واعمل الخير، وهذا جانب الرجاء.
    قال:
    أو قد رأيت الحقير من عمل             الشر جزءً أشفقت من حذره
    (فلو رأيت الحقير من عمل الشر) ككلمة استهزاء، أو نظرة خائنة جرحت في القلب جرحاً كبيراً وهدت من الأعمال والطاعات شيئاً كثيراً، وأوقد الله لها سعيراً لو رأيت ذلك تعجبت من كبره حال الجزاء، وكل ذلك بسبب هذه النظرة أو ذلك الذنب الصغير فـ لا تحقرن شيئاً من الطاعات رجاء أن يكون ثوابه عظيماً، ولا تحقرن شيئاً من الذنوب خشية أن يكون جزاؤها كبيراً، ولذا أثنى الشيخ على البيتين وعلى قائلهما.
    فهذا هو حال عباد الله المؤمنين المتقين، وليس هو حال أولئك الذين يزعمون أنهم يحبون الله فغلبتهم محبتهم حتى أصبحوا من الزنادقة، ولا حال الذين يدعون أنهم يخافون من الله فغلبهم خوفهم حتى صاروا حرورية ، ولا حال الذين يغلبون الرجاء ويقولون: إن الله غفور وينسون أن عذابه هو العذاب الأليم، فيغلبون جانب الرجاء فيكونون مرجئة .
    والعبد المؤمن هو الذي يعمل الطاعات ولا يحقر من المعروف شيئاً، ويرجو بذلك ثواب الله وما عنده، ويجتنب المعاصي ولا يحقر منها شيئاً، ويرجو بذلك النجاة من عذاب الله، ومع الخوف والرجاء يحب الله، فإن المحبة -كما قلنا- هي أساس كل الأعمال، وهي التي جعل الله لها الدرجة والميزة العظمى إذا كانت كما أمر الله كما قال الله تعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[آل عمران:31].
    والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.