المادة كاملة    
إن إفراد الله تعالى بالعبادة بالمحبة فقط خلواً من الخوف والرجاء زندقة حذر منها السلف، وطريقة منحرفة نشأت عند زنادقة الصوفية أرادوا بها نيل شهوتهم المحرمة مستترين بستار المحبة، وإخفاء عقيدة وحدة الوجود، والعقائد الهندوسية القائمة على السعي إلى الاتحاد بالنفس الكلية، وأما سبيل الأنبياء والرسل فهو اقتران العبادة بمحبة الله تعالى حقاً مع خوفه ورجائه.
  1. ضلال من جعل العبادة بالمحبة وحدها أو بالخوف وحده أو بالرجاء وحده

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فحو حروري، وروي: ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد].
    تحدثنا في فقرات سابقة أن المؤمن إنما يعبد الله بهذه الأعمال الإيمانية الثلاثة: المحبة والخوف والرجاء، وغرضنا هنا أن نبين الفرق بين المحبة الإيمانية والمحبة الزنديقية؛ لأن هذه العبارة عبارة سلفية مأثورة.
    فإذا كان من عبد الله بالحب وحده زنديقاً؛ فلا بد من معرفة الحب، وحقيقة هذه المحبة، وإنما كان أصحابها زنادقة لأنهم أفردوها عن أعمال القلب، ولكن هل كان ضلالهم وخطؤهم وزندقتهم أنهم أفردوا عملاً من أعمال القلب الإيمانية عن الأعمال الأخرى؟
    إن الواقع أنهم غلوا في ذلك، وخرجوا عن الصراط المستقيم، ولذلك فإن دعواهم المحبة منازعون فيها من أساسها، وبمعنى آخر نقول: إن المرجئة و الخوارج كل منهما غلت في عمل من أعمال القلب، فغلت الخوارج في الخوف، وغلت المرجئة في الرجاء، ولنأخذ المرجئة مثالاً لهذا.
    فبعض المرجئة غلا في الرجاء، ومع ذلك كان عابداً تقياً ورعاً زاهداً؛ لأنه لم ير أن قوة الرجاء وغلبة الرجاء تحول بين الإنسان وبين الاجتهاد في العبادة، بخلاف من قال هذه المقالة منهم وانحرف بها فترك العبادة والاجتهاد واتكل على الرجاء وحده.
    وكذلك وجد في الخوارج من اشتد خوفه من الله وغلب عليه ذلك، ولكنه مع ذلك لم يزد على أن يكون غالياً في دين الله، يريد التقرب إلى الله، ويريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريد أن يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله، ولكنه غلا في ذلك واشتد واشتط حتى خرج عن المنهج القويم.
    أما أصحاب هذه المحبة الزنديقية فإنهم خالفوا مقتضى النفوس كما خالفوا مقتضى الشرع؛ لأن النفوس الإنسانية فطرها الله على محبة الخير وجلب النفع، فلا تجد أحداً -مؤمناً كان أو كافراً- إلا وهو يسعى ليجلب الخير والنفع لنفسه ليرتاح ويتنعم ويتلذذ كما يرى وكما يظن؛ فإن اجتهد المؤمن في عمل الآخرة فلكي ينال رضا الله والفوز عند الله بما أعده للمؤمنين في الآخرة، فالأصل أن الإنسان يبتغي الخير بأي عمل يعمله، ويبتغي بذلك ما يلائمه وما يحسن به إلى نفسه.
    لكن هؤلاء الذين يدعون المحبة يكابرون في هذا كله، ويقولون: إننا نحبه لذاته لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره وعقابه! وهذا فيه مكابرة؛ إذ لولا أنهم يتلذذون ويتنعمون بشيء من هذا ما فعلوا ذلك أبداً، فكل حي حساس إنما يتحرك فيما يلائمه وفيما يتلذذ به؛ فإذا قالوا ذلك فهم إما كاذبون في دعوى المحبة، وإما واهمون.
  2. طريق الزنادقة المدعين للعبادة بالمحبة فقط

     المرفق    
    وهذه العبارة التي قالها السلف، ونقلها شيخ الإسلام وكذلك ابن القيم رحمهما الله، وهي: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، هي مدخل لمعرفة الزنادقة، وإن شئت فقل: إذا عرفنا أن الحرورية هم من غلبوا الخوف، وعرفنا أن المرجئة هم من غلبوا الرجاء، عرفنا أن الزنادقة الذين غلبوا المحبة أو العشق الإلهي بزعمهم وهم الصوفية ، فهذه العبارة تدل على أن السلف الصالح كانوا ينظرون إلى حقيقة هذه الفرقة بأنها تنتحل الكذب والادعاء، ولا نعني كل من انتسب إلى التصوف، إنما نعني الدعاة الذين يضرب بهم المثل أو القدوات في هذه الطريق الضال، لا من نسب إليه ذلك ظلماً أو كان ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فالمقصود من يمثل المنهج حقيقة، فاسمه عند السلف زنديق، وحاله هو الزندقة.
    فالمحبة الإيمانية حق لا ريب فيه؛ لأن الله تعالى يقول: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ))[البقرة:165]، ويقول: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[آل عمران:31]، وقال في اليهود والنصارى: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ))[المائدة:18]، فلم ينكر الله أن له أحباباً، ولكنه أنكر دعوى من يدعي المحبة وهو ليس من أهلها، فعلامة المحبة ومقتضاها اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبة مراضي الله، وأن يقبل العبد على طاعة الله بقلب منشرح وهو يعلم أنه بذلك يتقرب إلى الله، وأن يحب من أحب الله ويبغض من أبغض الله، فهي المحبة التي تدفع صاحبها إلى الخير وإلى العمل وإلى الاتباع، ولهذا يقول شيخ الإسلام: (أصل أعمال القلوب جميعاً هما الصدق والمحبة، فالصدق أساس جميع الأقوال، والمحبة أساس جميع الأعمال، وهل الدين إلا قول وعمل؟!) كما قال البخاري رحمه الله: (لقيت أكثر من ألف شيخ كلهم يقول: الإيمان قول وعمل)، ولو أن أحداً عبد الله ما عبده وهو غير محب لله وغير محب لعبادته ما قبل الله منه ذلك أبداً، ولو أن أحداً عبد الله ما عبده وهو لا يحب رسول الله لما نفعه ذلك مطلقاً.
    نعم الناس يتفاوتون فيها، لكن لا بد من قدر منها تقبل الأعمال به، فالعمل الذي يؤدى وصاحبه مكره عليه ولا يحبه لا يقبل منه، كما قال تعالى عن المنافقين: (( وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ))[التوبة:54]، فمهما أنفقوا لا تقبل نفقاتهم، ومهما صلوا لا تقبل صلاتهم.
    إذاً: لا بد من المحبة، ولكن ليست المحبة التي يعنيها أولئك القوم، فالذي يتكلم فيه الصوفية هو في حقيقته زندقة وليس محبة، ولقد أشرنا من قبل إلى كلام رابعة العدوية التي يزعمون أنها شهيدة العشق الإلهي، ويضربون بها المثل في المحبة الإلهية، وهنا سنفصل في حقيقة هذه المحبة من خلال الكلمة التي قالها أبو داود عن رابعة ومن كان معها.
    يقول الحافظ الذهبي رحمه الله في الميزان -ونقل ذلك ابن حجر في لسان الميزان - في ترجمة رياح بن عمرو القيسي الذي له ترجمة في حلية الأولياء: (قال أبو عبيد الآجري : سألت أبا داود) وهو صاحب السنن المعروف تلميذ الإمام أحمد (عنه فقال: هو وأبو حبيب و حبان الجريري و رابعة رابعتهم في الزندقة)، ولا شك في أن هناك تحريفاً في العبارة، فـحبان هو في الحقيقة ابن حيان المشهور الذي يدعى جابر بن حيان ، ورياح كان يقال عنه: رأس المبتدعة في الكوفة من الزهاد.
    فهذه العبارة تفسر وتوضح أصل الزندقة في هذه الطائفة المسماة بـالصوفية؛ لأن اسم الصوفية لم ينتشر إلا متأخراً، فقد كان اسمهم الزنادقة، ثم سموا فيما بعد بـالصوفية ، واشتبه على الناس تسميتهم بذلك.
  3. منشأ التصوف المتلبس بالزندقة بدعوى المحبة

     المرفق    
    وإذا أردنا أن نعلم أصل التصوف وأصل هذه المحبة المدعاة التي تؤدي بصاحبها إلى الزندقة فلنرجع إلى علماء أهل السنة والجماعة الذين ألفوا في الفرق، وأقدم كتاب كتب في الفرق كتبه عالم من علماء أهل السنة والجماعة هو الإمام خشيش بن أصرم المتوفى سنة (253هـ) وكتابه هو: الفرق والملل ، وقد كان رحمه الله معاصراً للإمام أحمد ، وهو من شيوخ النسائي وأبي داود ، عالم ثقة معروف بالحفظ والتوثيق، ذكره العلماء وترجموا له كما في تهذيب الكمال وغيره، وقد فقد الكتاب، ولكن الإمام أبا الحسين الملطي رحمه الله تعالى جمع كلامه هذا في كتابه المعروف (الرد والتنبيه ) وفيه يقول: (قال أبو عاصم خشيش بن أصرم : ثم تشعبت كل فرقة من هذه الفرق على فرق كان جماعها الأصل، ثم اختلفوا في الفروع فكفر بعضهم بعضاً)، وأول فرقة ذكرها: الزنادقة، قال: (فافترقت الزنادقة على خمس فرق، وافترقت منها فرقة على ست فرق، فمنهم المعطلة)، فلم تكن كلمة (الصوفية) في زمانه قد ظهرت واشتهرت، وإن كانت قد وجدت، لكنها كانت لقباً لبعضهم، مثل أبي هاشم الصوفي ، وأبي حمزة الصوفي وأمثالهم.
    يقول: (فمنهم المعطلة الذين يزعمون أن الأشياء كائنة من غير تكوين، وأنه ليس لها مدبر ولا مكون …) إلى آخر ذلك، وهؤلاء هم الفلاسفة ، والفلسفة والتصوف شيء واحد، ولذلك تجد أن ابن عربي أشهر المتصوفين المتأخرين هو في الحقيقة فيلسوف، وهو في نفس الوقت زنديق يدعي المحبة، فهم أوجه لعملة واحدة.
    قال: (ومنهم المانوية) وهذه فرقة قديمة نشأت قبل الإسلام، وهم الذين يزعمون أن للكون خالقين: خالقاً للخير وخالقاً للشر.
    قال: (ومنهم المزدكية) الذين هم أصل مذهب الشيوعية ، وهم صنف من الزنادقة زعموا أن الدنيا خلقها الله خلقاً واحداً، وخلق لها خلقاً واحداً وهو آدم جعلها له يأكل من طعامها ويشرب من شرابها ويلتذ بلذائذها، فلما مات آدم جعلها ميراثاً بين ولديه بالسوية ليس لأحدهما فضل في مال ولا أهل، وهذه العبارات كأنها عبارات ماركس و لينين ، فهذه هي الاشتراكية ، فكل يعمل بحسب طاقته ويأخذ بحسب حاجته كما يزعمون.
    قال: (ومنهم العبدكية ، زعموا أن الدنيا كلها حرام محرم لا يحل الأخذ منها إلا القوت من حين ذهب أئمة العدل، ولا تحل الدنيا إلا بإمام عادل، وإلا فهي حرام ومعاملة أهلها حرام، فحل لك أن تأخذ القوت من الحرام من حيث كان، وإنما سموا العبدكية لأن عبدك وضع لهم هذا ودعاهم إليه وأمرهم بتصديقه).
    وعبدك هو رجل صوفي مترجم له في تاريخ بغداد وفي لسان الميزان ، وكان معاصراً لـخشيش ، والكلام عنه قليل جداً وغامض، ولكنه وضع ذلك وسمى نفسه (عبدك)، حتى إذا دعاه أحد قال له: (يا عبدك )؛ لأن الصوفية تعتقد وحدة الوجود، فهو يرى أن كل من نطق وكل من ناداه ينطق عن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
    ثم قال: (ومنهم الروحانية ، وهم أصناف، وإنما سموا الروحانية لأنهم زعموا أن أرواحهم تنظر إلى ملكوت السموات] وهؤلاء هم الصوفية، قال: (وبها يعاينون الجنان) وتسرح في الجنة (وسموا أيضاً الفكرية ؛ لأنهم يتفكرون -زعموا- في هذا حتى يصيروا إليه، فجعلوا الفكر بهذا غاية عبادتهم ومنتهى إرادتهم، ينظرون بأرواحهم في تلك الفكرة إلى هذه الغاية، فيتلذذون بمخاطبة الله لهم ومصافحته إياهم ونظرهم إليه فيما زعموا).
    قال: (ومنهم صنف -من الروحانية - يزعمون أن حب الله يغلب على قلوبهم وأهوائهم وإرادتهم حتى يكون حبه أغلب الأشياء عليهم)، أي: أنه لا يحركهم إلا الحب، فكل حركاتهم وأعمالهم لا تتحرك إلا بالحب، وهذا الذي يصدق عليه أنه عبد الله بالحب وحده.
    يقول: (فإذا كان كذلك عندهم كانوا عنده بهذه المنزلة) أي: كانوا عنده بمنزلة الخليل المحبوب (ووقعت عليهم الخلة من الله، فجعل لهم السرقة والزنا وشرب الخمر والفواحش كلها على وجه الخلة التي بينهم وبين الله، لا على وجه الحلال، ولكن على وجه الخلة كما يحل للخليل الأخذ من مال خليله بغير إذنه، منهم رباح وكليب) وهو في الحقيقة رياح ، وكليب هذا لم أجد له ترجمة مستقلة، ولكنه يذكر مع رياح ومع عبدك دائماً، ومن المعلوم أن الزنادقة الأوائل مجهولون؛ لأنه لم يظهر أمرهم فيما بعد.
    يقول: (منهم رياح و كليب ، كانا يقولان بهذه المقالة ويدعوان إليها).
    قال: (ومنهم صنف من الروحانية زعموا أنه ينبغي للعباد أن يدخلوا في مضمار الميدان حتى يبلغوا إلى غاية السبقة من تضمير أنفسهم وحملها على المكروه).
    يقولون: العبادة ميدان نتسابق فيه، ولا يمكن أن تسبق في الميدان إلا بالتضمير الذي هو تجويع الخيل، فيرون أن الوصول إلى الله يكون بالتجويع وتعذيب النفس وتأليمها، فإذا بلغ تلك الغاية أعطى نفسه كل ما تشتهي وتتمنى، أي: بعد أن يتم التضمير يتمتع بما يشاء، قال: (ومنهم ابن حبان كان يقول هذه المقالة) وهو في الحقيقة ابن حيان .
    قال: (ومنهم صنف يقولون: إن ترك الدنيا إشغال للقلوب وتعظيم للدنيا ومحبة لها، ولما عظمت الدنيا عندهم تركوا طيب طعامها ولذيذ شرابها ولين لباسها وطيب رائحتها، فأشغلوا قلوبهم بالتعلق بتركها، وكان من إهانتها مؤاتاة الشهوات عند اعتراضها حتى لا يشتغل القلب بذكرها ويعظم عنده ما ترك منها وأعاد)، قال: (ورباح و كليب كانا يقولان بهذه المقالة).
    أي: يقولون: إن الإنسان إذا زهد عن الدنيا وكف عن المحرمات فإن قلبه يتعلق بها، فأفضل شيء أن يواقعها ويأخذ منها حتى لا يتعلق قلبه بها وحتى ينصرف إلى الله وهذا هو التمويه، وإلا فالحقيقة أنهم يعتقدون أنه ما في الوجود إلا هو، فالوجود واحد عندهم، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
  4. استتار زنادقة الصوفية بدعوى المحبة وإخفاؤهم بذلك عقائدهم الضالة

     المرفق    
    والمقصود أن هذه نماذج تبين أن هؤلاء الصوفية الذين يزعمون ويدعون المحبة، ويدعون أن الله لما أحبهم أسقط عنهم التكاليف، وأنهم يرون الله ويخاطبونه في الدنيا؛ هم في الحقيقة زنادقة، ولو بحثت في أي كتاب من كتب الصوفية التي تكلمت عن الأولياء أو عن الكرامات أو عن المقامات والأحوال لوجدت كلام هؤلاء القوم هذا، يقولون: إنهم أحبوا الله، فلما أحبوه أسقط عنهم هذه التكاليف، ولهذا استحلوا اللذائذ المحرمة، فاستحلوا الغناء والاختلاط بالنساء والخلوة بهن وبالمردان على أن ذلك من باب المحبة والتذكير بالمحبوب في نظرهم، وأنهم عندما أحبوا هؤلاء إنما أحبوا المحبوب الحقيقي وهو الله، ثم لا يتقيدون بعد ذلك بحلال ولا حرام، فمن هنا كان دينهم الرقص والسماع، فيفضلون سماع الألحان على سماع القرآن، وكان الغزل هو الستار الذي يتسترون به لإخفاء هذه العقيدة الضالة حتى ظهر بعد ذلك ابن الفارض و ابن عربي وأمثالهما فأظهروا هذا الغزل صريحاً مكشوفاً، فاستحلوا كل شيء، وأنكروا مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وتطاولوا على مقام الصديقين وأولياء الله الصالحين بما ادعوه وزعموه لأنفسهم، وجعلوا غاية الولاية هو الوصول إلى هذه المحبة المزعومة.
    فشوقهم للغناء والسماع كشفت عنه كلمة عظيمة للإمام الشافعي رحمه الله عندما سأل عن التغبير، والتغبير هو نوع من أنواع المعازف واللهو، فقال: إنما أحدثه الزنادقة، فالإمام الشافعي يطلق عليهم ما أطلقه عليه الإمام خشيش ، وهو أن هذا من فعل الزنادقة ومن إحداثهم؛ إذ ما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف الصالح أنهم عبدوا الله بالمعازف وآلات اللهو والطرب، وإنما يتعبد بها أولئك الزنادقة، ومع هذا لا يرضون بهذا الاسم، وإنما يعتقدون الولاية، ويزعمون أن من عبد الله بهذه العبادة فهو أفضل الأولياء وأعلى الصديقين مقاماً.
    فالقوم يسترون عقيدتهم الهندوسية القديمة التي يعتقدون بها أن الوجود واحد، أو أن غاية ما يسعى إليه العباد -كما يعتقد الهندوس - أن تتحد هذه النفوس بالنفس الكلية، وهي براهما الإله الكلي عند الهندوس ، ولما كانت هذه عقيدتهم جعلوا درجات الناس وأحوالهم ومقاماتهم بحسب منزلتهم من هذا، وتنكبوا الصراط المستقيم، ولم يعبدوا الله لا بالخوف ولا بالرجاء، وإنما يتسترون بهذه المحبة، ولو كانوا يحبون الله المحبة الإيمانية الحقيقية لأحبوا دين الله ولأحبوا رسول الله ولأحبوا سنته؛ لأن الله هو الذي شرع لنا كيف نحبه، ولسنا نحن الذين نحب الله كما نشاء.
    ثم إنا نقول لهم: إذا كنتم تقولون: إنكم تعبدون الله حباً فيه، ولا تريدون الجنة ولا تريدون النار؛ فقد كابرتم ما جبلت عليه النفوس؛ لأن النفوس جميعاً تعبد الله ترجو الثواب وتخاف من العقاب، وأنتم تقولون: لا تريدون شيئاً تلتذون به، وإنما تريدون رضاه فقط، وهو الذي يرضى لكم ذلك! لو تأملتم لوجدتم أنكم تلتذون بهذا السماع وبهذا الرقص الذي تتعبدون الله به، وتلتذون بارتكاب المحرمات والخلوة بالنساء وما أشبه ذلك! والأمثلة كثيرة جداً.
    فالحقيقة أنهم يطلبون حظ أنفسهم، ولهذا قال فيهم بعض العلماء مقالة عظيمة، قال: إن الناس يعبدون الله، وأما هؤلاء فإنهم يعبدون أنفسهم ولا يعبدون الله، فهم لا يتقيدون بأوامر الله ولا بنواهيه، وإنما يعبدون حظوظ أنفسهم.
    وهناك جانب آخر غير جانب السماع والرقص وما يتعلق به، وهو جانب التعظيم والرئاسة، فلو كانوا يعبدون الله حقاً ويحبون الله حقاً فلم يسعون إلى تعظيم أنفسهم؟! حتى إنهم يتقاتلون على المريد، فكل منهم يريد أن يكون المريد له وحده!
    والأمثلة على ذلك كثيرة جداً في حياتهم، فكل طريقة تفتخر على الطرق الأخرى وتزعم أنها هي الحق وأن الناس يجب أن يكونوا مريدين لها، والشيخ يتحكم في المريد، حتى قالوا: كن له كالميت بين يدي الغاسل، ولا تعترض على الشيخ حتى في سرك. وذكروا نماذج كثيرة لأناس اعترضوا على المشايخ في قلوبهم فكانت العقوبة أن محي العلم من قلوبهم حتى الفاتحة والعياذ بالله، فكيف يقال: إن هؤلاء يريدون الله ويريدون تعظيم الله؟! بل هم في الحقيقة إنما يعظمون أنفسهم ويريدون الإجلال لأنفسهم، نسأل الله العفو والعافية إنه سميع مجيب.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.