المادة كاملة    
الرجاء منزلة من المنازل الشريفة، إذ به يتعبد الله تعالى بمقتضى أسماء بره ورحمته وعفوه، وإنما يشرف ويحمد إذا صحبه العمل، حيث يكون العبد حسن الظن بربه بحسن عمله، وهو أمر لازم للعبد يجب عليه تحقيقه في حياته ويتأكد عليه عند الموت؛ ليقدم على ربه قدوم الكريم عليه الذي يلقى بعد الموت الثواب والجزاء من ذي الرحمة الواسعة تبارك وتعالى.
  1. عظم منزلة الرجاء والرد على الهروي في حط منزلة الرجاء

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: (وقال صاحب منازل السائرين رحمه الله: الرجاء أضعف منازل المريد).
    وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء ) وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه )].
    هذه عبارة صاحب منازل السائرين الهروي ، وقد تحدثنا عن الرجاء وحقيقة الرجاء، وهناك تعرضنا لقول الحسن رحمه الله تعالى في الرجاء وما هي حقيقته، وذكرنا أن الرجاء يستلزم العمل، وذكرنا الفرق بين الرجاء وبين الأماني.
    وقد ذكر الإمام ابن القيم في مدارج السالكين منزلة الرجاء، وعقب على كلام الهروي عند قوله: (إن الرجاء أضعف منازل المريد).
    فقال ابن القيم رحمه الله -بعد أن تلطف في العبارة في أول كلامه-: (قال شيخ الإسلام حبيب إلينا -يعني الهروي -، ولكن الحق أحب إلينا منه) وفي آخر كلامه أيضاً تلطف وقال: (إنني في هذه المنزلة أو في هذا الانتقاد بمنزلة -معنى كلامه- الهدهد من سليمان عليه السلام حين قال: (( أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ))[النمل:22])، يعني من حسن كلام ابن القيم رحمه الله مع الهروي، مع أن الهروي لم يكن شيخاً مباشراً لـابن القيم ، تلقى على يديه، وإنما قرأ في كتبه، ومع ذلك فإنه من حسن أدبه وتطلفه معه؛ لأنه يرى أنه علمٌ من أعلام أهل السنة والجماعة لا يجوز أن يغض أو ينال من قدره، وإن أخطأ فالخطأ مردود، ولا أحد يقر على الخطأ إذا خالف الحق، ولكن كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وقد بدأ رحمه الله تعالى بتفسير كلامه وحمله على أحسن المحامل، ثم عاد فرده، وغاية ما قاله الهروي في كون الرجاء أضعف منازل المريد أن فيه وجه معارضة، ويقصد بذلك: أن الراجي يريد شيئاً غير مراد المحبوب، وهو الله الذي يجب أن يكون عند الإنسان أحب إليه من كل شيء، فكأن الراجي الذي يرجو رحمة الله وفضل الله وما عند الله يريد خلاف مراد المحبوب ويعترض على القدر، بمعنى أنه لو لم يقدر له الأجر ولو لم يقدر له الخير لكان غاضباً أو ساخطاً.
    وقد اعترض على هذا الكلام ابن القيم رحمه الله اعتراضاً شديداً، فقال: كيف يكون كذلك والرجاء في حقيقته هو تعبد لله بمقتضى أسمائه، مثل البر، والوهاب، والرزاق، والرحيم، والمحسن، فهذه عبودية من عبوديات العبد، فيتعبد الله تعالى بمقتضى هذه الأسماء كما يتعبده بمقتضى كونه العزيز الجبار المتكبر المنتقم.
    ثم إن الرجاء ليس منافياً لمراد المحبوب؛ لأن الله تعالى أمرنا أن نتخذ الأسباب لندفع بها قضاءه وقدره، فليس مراد الله أن يعذبنا أو أن يعاقبنا حتى إذا رجوناه أو طلبنا منه شيئاً كنا قد أردنا خلاف مراده، وإنما يجب علينا أن ننتهج عبودية تقربنا إلى رضاه وتوصلنا إلى ما يريد منا سبحانه وتعالى، ولا أدل على ذلك من الدعاء؛ فإنه لو كان الأمر كذلك لكان الدعاء أكثر اعتراضاً؛ لأن الدعاء فيه رجاء وزيادة، وهي الطلب، أما الرجاء فهو أمل، لكن الدعاء طلب تحقيق مراد العبد وحظ العبد، ومع ذلك لا حرج في الدعاء، بل العباد مأمورون بأن يدعوا الله تعالى: (( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ))[غافر:60]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، وقد جاء في حديث آخر: ( من لم يسأل الله يغضب عليه )، وهذا الذي يعبر عنه بعض الشعراء بقوله:
    الله يغضب إن تركت سؤاله            وُبَنَّي آدم حين يسأل يغضب
    فالله إنما يغضب ويؤاخذ إذا لم يسأل وإذا لم يدع، وكلما كان العبد أكثر دعاءً لله كان ذلك دليلاً على عبوديته، فإذا كان هذا في الدعاء فالرجاء من باب أولى وأحرى أن يكون العبد محققاً له؛ ولذا يقول الله في الحديث القدسي: ( يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي )، فالمطلوب من العبد الأمران: الدعاء والرجاء، وإذا فعل العبد ذلك نال هذه الدرجة العظيمة، وهو أن يغفر الله عز وجل له ولا يبالي بذلك.
  2. الفرق بين الرجاء والتمني

     المرفق    
    يقول ابن أبي العز رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ( (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[البقرة:218]: فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إيمانهم بهذه الطاعات!) يعني: إذا تجرد الرجاء من الأعمال فهو أمان كاذبة لا خير فيها، وهي التي أبطلها الله بقوله: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]، وأما الرجاء المحمود المطلوب فهو الذي يقارنه العمل.
    يقول: (فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله وشرعه وقدرته وكرامته).
    ثم ضرب مثالاً ليوضح الفرق بين الراجي والمتمني برجل له أرض يؤمل أن يعود له منها النفع الكثير من غلتها، فهو إما أن يجتهد فيحرثها ويسقيها ويعتني بها، ومع ذلك يرجو أن ينال منها خيراً، وهذا هو الراجي، وإما أن ينام عنها ويكسل ويتركها قاحلة ومع ذلك يرجو أن يرزقه الله منها أفضل الثمرات وأفضل الفواكه، فهذا لا يكون أبداً، وهو التمني.
    وكلمة الحسن البصري رحمه الله: (لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل) قاعدة عظيمة في هذا الباب، فحقيقة الفرق بين الراجي والمتمني تظهر بالتدبر في هذه القاعدة، فإن قوماً ينتهكون محارم الله ويقولون: نحن نحسن الظن بالله. وكذبوا؛ فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، وهذه حقيقة يشاهدها الإنسان من نفسه، فإنك إن كنت أجيراً عند من ترجو ثوابه وكرمه وإحسانه وأنت واثق من أنه يعطي ويتفضل ويجود على من يعمل عنده؛ فإن حسن ظنك هذا يدفعك إلى مزيد من الإتقان والاجتهاد والإخلاص في العمل، أما إذا كان الإنسان يعمل عند من يعلم أو يظن أنه لا يعطي الأجير ولا يوفيه حقه ولا يجود عليه؛ فإن ذلك بالضرورة ينعكس ضعفاً في العمل وفتوراً وتكاسلاً وتقاعساً عنه، وهذه حقيقة مشهودة، ولله المثل الأعلى، وكذلك العباد مع الله تعالى، فمن كان حقاً واثقاً بجود الله وكرمه فإن ذلك يورثه اجتهاداً في العمل وحياءً من الكريم ذي العطاء والجود والنعم المتواصلة أن يقابل فضله بالتقاعس والفتور فيما أمره أن يقوم به، أما من كان سيء الظن بربه -والعياذ بالله- أو كان لا يحسن الظن بالله، وإنما يعيش في أمان خادعة وغرور من السراب يأتي به الشيطان إلى النفوس الضعيفة فيضعف همتها في طاعة الله ويثبطها عن التشمير لما أمر الله، فهذا هو المذموم الذي لا يجوز لمسلم بحال من الأحوال سلوك طريقه.
  3. عظيم مكانة ظن العبد بربه تعالى

     المرفق    
    ثم ذكر الشيخ الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء )، والحديث بهذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد ، أما الذي في الصحيح فهو: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ).
    فالإنسان إذا ظن بالله الخير فإنه لا يحرمه ولا يخيب ظنه، وإذا ظن غير ذلك فإنه يجازى على ذلك بما يتحقق؛ فلهذا يجب أن يحسن العبد الظن بالله، ولا شك في أنه عندما يكون هذا هو حال الرجاء فإنه لا يجوز أن ينتقص منه ويقال: إنه أضعف المنازل، كيف والله تعالى يقول: ( أنا عند ظن عبدي بي )؟! فماذا تظن بربك؟! إن ظننت به الخير والإفضال والإحسان والنعمة فكذلك يكون بإذن الله، وإن ظننت بالله ظن كثير من الجاهلين الذين يظنون بربهم الحيف والجور والغمط، فلا ترى أحدهم إلا متسخطاً شاكياً من أقدار الله، يشكو الخالق إلى المخلوقين، فإن نزل به أمر أو انتقص شيء من دنياه أو حدث به حادث أخذ يشكو إلى المخلوقين: فعل بي وجرى لي. وهذا حال كثير -والعياذ بالله- ممن لا يؤمنون بالله حق الإيمان، فظنهم بالله ظن السوء.
    ثم تأمل قوله: ( فليظن بي ما شاء )، وكأن الأمر يرجع إليك أيها العبد، فما دام الأمر أنه تعالى عند ظنك فالواجب أن تظن به خيراً.
    وبين ذلك فقال: ( وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي )، وهذا فضل عظيم، أن الله تعالى العزيز الجبار المتكبر الذي له ملك السماوات والأرض وهو غني عن العالمين جميعاً يذكر هذا العبد الضعيف الفقير المحتاج المنقطع الذي لا حيلة له ولا قوة ورجاء إلا بالله.
    قال عز وجل: ( وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم )، وهذا لا شك فيه أنه أعلى درجة من سابقه؛ فإنه إذا كان ذاكراً لله في الملأ سيكون ذاكراً له في نفسه بطبيعة الحال، فإذا ذكر العبد الله في ملأ وذكرهم بالله وذكر الله بما هو أهله؛ فإن الله يذكره ويثني عليه في الملأ الأعلى عند الكرام المصطفين عند الله الذي لا يعصون الله طرفة عين؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر: ( إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه. فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في الملائكة: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه الملائكة، ثم يوضع له القبول في الأرض ) والإنسان يحبه الله بقدر ما يحب الله، ويثني الله عليه بقدر ما يثني على الله، ويتقرب الله إليه بقدر ما يتقرب إلى الله، وهو سبحانه الغني، كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ))[فاطر:15]، ( يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ) فلا تنفعه طاعة المطيعين ولا تضره معصية العاصين أبداً، وإنما من يعمل خيراً: (( فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ))[الروم:44] ومن يعمل شراً فعلى أنفسهم يجنون وبما عملوا يجازون.
    يقول: (وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه ) ) فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سوء الظن بالله، وبين لنا أنه لا بد من إحسان الظن بالله، ولا سيما بقوله: (لا يموتن)، مع قوله: (قبل موته بثلاث)، وهذا الذي استنبطه العلماء وأشار إليه الشارح بقوله: (ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه).
  4. أقسام الرجاء والخلاف في المفاضلة بينهما

     المرفق    
    فالإنسان الراجي -كما تقدم- أحد رجلين:
    إما محسن عمل الطاعات واجتهد في فعلها، فهو يرجو ثواب الله.
    وإما تائب أقلع عن الذنوب وكف عنها، فهو يرجو قبول توبته، وهذا رجاء العاملين، لا الأماني الكاذبة.
    وقد اختلف السلف في أي هذين الرجاءين أفضل: رجاء المحسن المطيع أم رجاء التائب؟
    فقال بعض السلف: رجاء المحسن أولى؛ لأنه عمل طاعات ويرجو ثوابها من الكريم المنان الذي لا يجازي على الإحسان إلا الإحسان، كما قال تعالى: (( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ ))[الرحمن:60]، ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها؛ ولما في الحديث الذي ذكرناه آنفاً ( وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً )، فرجاء هذا أولى.
    وقال الآخرون: رجاء التائب أولى؛ لأن المحسن يرجو وهو ناظر إلى عمله وما قدم من خير، أما التائب فهو حال رجائه ينظر إلى رحمة الله؛ لأنه ما عمل إلا الذنوب والمعاصي، فهو مستشعر التقصير وذله حين يرجو من ربه أن يقبله وأن يفتح له الباب وهو الذي تلوث بالخطايا وتدنس بالذنوب والمعاصي، فرجاء هذا يدل على أفضليته على ذاك، وكلاهما وارد.
    وقد ذكرنا أن يحيى بن معاذ الرازي غلب رجاء التائب، وقد قال: (كيف لا يكون رجائي فيك أقوى وأنت بالإحسان معروف وأنا بالتقصير موصوف) والمقصود أن الرجاء ما دام على هذين الحالين فالعبد عند موته يكون قد فاته العمل، ولكنه يستطيع أن يصدق التوبة مع الله وأن ينظر إلى عمله، وأن يستشعر ذنوبه وخطاياه، فينظر من خلال انكساره وذله إلى سعة رحمة الله مع هذه الذنوب ومع هذه الخطايا، فحال الانكسار المقترن بالثقة من رحمة الله، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأن رحمته غلبت وسبقت غضبه؛ هذا هو الذي يليق به في تلك الحالة، لكن تطبيق الأعمال لم يعد في مستطاعه، ولم يعد في الإمكان أن يعمل أو يتقرب بالصالحات، ولا يعني ذلك أنه لا يتقرب ولا يعمل، ولكن الكلام عن الأحرى والأولى في هذا الوقت.
  5. لزوم حسن الظن بالله تعالى مع الخوف والمحبة وتأكد ذلك عند الموت

     المرفق    
    فعلى الإنسان أن يجتهد في أن يكون حسن الظن بالله طيلة عمره مع خوف الله ومحبته، وعند الموت يغلب حسن الظن، وهذا ما قاله بعض السلف أخذاً من هذا الحديث، وأشار إلى هذا ابن القيم في المدارج .
    ولذا قال الشارح: (ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه)، فلربما دعاه الخوف حال المرض إلى نوع من القنوط، وفي تلك اللحظات يأتيه الشيطان فيجده في تلك الحالة من عدم الرجاء فيقنطه من رحمة الله، لكنه إذا لقي الله وهو يحسن الظن به؛ فإن الله لا يخيب رجاءه، بل يجعله في المنزلة التي يظنها به.
    قال: (بخلاف زمن الصحة فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه)؛ لأنه لو ترجح الرجاء في زمن الصحة لكان ذلك أدعى إلى التواني والتكاسل في الطاعات، لكن إذا كان الخوف أرجح كان ذلك دافعاً إلى أن يجتهد، وأن يعمل وأن يشمر، وعليه فترجيح أحد الجناحين يراعى فيه الحال أيهما يكون أنفع.
    فأقوال السلف دائرة بين من يفضل الأول ومن يفضل الآخر ومن توسطوا في الأمر فجعلوه كالدواء، فمن الناس من ينفعه الرجاء لأجل اشتداد خوفه، ويخشى عليه من القنوط، ومنهم من ينفعه الخوف لما هو عليه من الاتكال والتقصير.
    ويبدو أن هذه الحالة -والله أعلم- هي التي يجب أن يستشعرها المؤمن دائماً، وأن المسألة ليست خلافاً حقيقياً؛ فالإنسان يجب عليه أن يستصحب الخوف والرجاء والحب في كل مرحلة من حياته، لكن إذا خشي على نفسه أن تزل أو تحيف إلى جانب فليوازن بالجانب الآخر، إلا ساعة الاحتضار عند الموت؛ ولذلك كان من آداب زيارة المحتضر أن يذكر بالخير، وبما أعد الله للمتقين، ويذكر بما عمل من أعمال صالحة، مع دعوته وترغيبه في التوبة وحسن الخاتمة؛ فإن ذلك أدعى إلى أن يلقى الله وهو يحسن الظن به، فيكون جزاء الله عند ظن العبد به؛ وبذلك يكون المرء قد عمل بكل الأحاديث، بحديث: ( أنا عند ظن عبدي بي )، وحديث: ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه ).
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
  6. من فوائد الرجاء

     المرفق    
    ثم بين رحمه الله تعالى كثيراً من فوائد الرجاء غير ما علل به الهروي ، فـالهروي رحمه لله يقول: (إنما ذكر الرجاء في التنزيل؛ لأنه يبرد حرارة الخوف).
    وقد بينا أن بعض السلف وصل بهم الخوف إلى حد المرض، وربما قاربوا اليأس أو الجزع، وهذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يقول: فائدة الرجاء إبراد حرارة الخوف، فإذا اشتد خوف الإنسان من الله عز وجل فإنه يبرد هذه الحرارة بالرجاء؛ ليستقر وتسكن نفسه.
    غير أن للرجاء مع هذه الفائدة فوائد كثيرة جداً:
    منها: أن المحبة التي يتفق الجميع على أنها أعلى الدرجات قرينة الرجاء، وأن الرجاء قرين المحبة، فإن العبد لا يرجو إلا من يحب، وهذا أمر معروف في طبائع الناس وفي حقائق القلوب، فلا ترجو إلا من تحب، أما من تكرهه وتبغضه فإنك لا ترجوه، فيكفي الرجاء فضلاً أن يكون ملازماً للمقام المتفق على فضله، وهو المحبة.
    ومن فوائده: تحقيق عبودية الله الذي أمرنا أن نرجوه؛ ولهذا أثنى الله على عباده الصالحين بقوله: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ))[الإسراء:57]، وهذه هي الغاية، وهؤلاء هم أفضل الناس عبادة، وهم الذين عبدوا الله بهذه الثلاث جميعاً، ولا يقال: إن أحداً منها هو دون الأخرين، بل كلها سواء.
    وذكر ابن القيم رحمه الله فوائد كثيرةً من فوائد الرجاء، وأنه ليس كما ذكر الهروي رحمه الله أنه من أضعف منازل المريد، بل قال: (هو من أعلى الدرجات) وإن كان الهروي كما ذكر ابن القيم رحمه الله، يقول: (إن الهروي لا يعني بهذا أن ينتقص مقام الرجاء في ذاته، ولكن يقلل منه بالنسبة للمريد) أي: كأنه يقول: الرجاء بذاته كالمحبة والخوف، لكن بالنسبة للمريد لا يعول عليه، ولا ينبغي له أن يجعله غايته أو همه.
    ولكن على كل حال هذا الكلام يلاحظ ويؤاخذ عليه ما تقدم، وقد فصل ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الكلام ما لا يحتاج إلى إعادته، وقد ذكرناه من قبل. وإنما كما فصلنا الكلام في الخوف والرجاء، أو وضحنا حقيقة الرجاء وحقيقة الخوف، فلابد أن يعلم الفرق بين الرجاء وبين الأماني الكاذبة، وهذا ما تقدم في الشرح هنا.