المادة كاملة    
الأصل في العبادة أن يجتمع فيها أركانها الثلاثة: المحبة والخوف والرجاء على السواء، وهكذا كانت عبادة الأنبياء -وهم الأسوة- قائمة على الرغب والرهب، وإنما جانب طريقهم وحاد عن منهجهم فلاسفة اليونان وأتباعهم من عباد الهندوس ونحوهم؛ وذلك أنهم ينشدون اللذة العقلية والنعيم الروحاني كما يزعمون.
  1. محمل ما صدر عن بعض الصالحين من حصر العبادة في المحبة

     المرفق    
    ولذلك يقول الشيخ رحمه الله: (إنما صدر مثل هذا الكلام من بعض العباد في حالة استغراقه وغيبة عقله. ولذلك فإن أكمل الناس عبادة هم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ثم الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الصالحين، وما كان يصدر منهم مثل هذه العبادات ولا يعتقدون مثل هذه الاعتقادات، فإن صدر شيء من هذا ممن بعدهم ممن له خير وفضل وينسب إلى العلم والعبادة والزهد فإنه يعتذر له بأنه قال هذا في حال استغراقٍ وغيبة عقل، ولو كان كامل البصيرة وكامل الشعور لما قال هذا الكلام.
    ولذلك نجد أن الصحابة كمل لديهم جانبان: كمل لديهم التدبر في القرآن وفي ملكوت السموات والأرض، فترد عليهم المعاني والحقائق التي لا ترد على قلوب غيرهم، وكمل لديهم الصبر والتحمل لهذه الواردات.
    أما الذين جاءوا من بعدهم فإما أن يكون عندهم ضعف في هذه الواردات والحقائق اليقينيات؛ فلذلك يتبادر منهم أن يبكوا أو يخشعوا؛ لأنه ما دخل في قلوبهم ما يدعوهم إلى ذلك، وإما أن يكون العكس، فمن كان لديه واردات ويقينيات وفكر وذكر وتأمل أقوى من صبره وتحمله يضعف عنها، فإذا قوي لديه الوارد واشتد عليه ولم يكن عنده ما يتحمله به فإنه يسقط؛ ولذلك نجد أن الذين كانوا يسقطون ويصلون إلى درجة الإغماء من التابعين ثم من بعدهم إذا سمعوا ذكر الجنة أو النار أكثر ممن كان حاله هكذا من الصحابة، وليس هذا لأن أولئك أكثر خشوعاً، لكن الصحابة مع كثرة هذا اليقين والخشوع كانوا أكثر صبراً وأكثر تحملاً).
    فالصحابة ومن اهتدى بهديهم جمع الله لهم الكمالين: كمال اليقين مع كمال الصبر والتحمل لما يرد، وأما غيرهم فإنه لا بد من أن ينقص منهما أو من أحدهما كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله.
    فهؤلاء غاية ما في الأمر أنه يعتذر لهم في أقوالهم هذه، ونرجو الله أن لا يؤاخذهم بمثل هذا الكلام.
    قال رحمه الله تعالى: (ونحن نضرب لذلك مثلاً يتضح به هذا الأمر إن شاء الله تعالى، وهو أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة استدعاهم الرب جل وعلا إلى زيارته ومشاهدته ومحاضرته يوم المزيد، فإنهم ينسون عند ذلك كل نعيم عاينوه في الجنة قبل ذلك، ولا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من نعيم الجنة حتى يحتجب عنهم سبحانه، ويحقرون كل نعيم في الجنة حين ينظرون إلى وجه ربهم جل جلاله)، فكل النعيم ينسونه ويحتقرونه في هذه الساعة (كما جاء في أحاديث يوم المزيد)، وقد تقدم -والحمد لله- شرح موضوع الرؤية والأدلة عليه والرد على من خالف أهل السنة والجماعة في رؤية الله تعالى، وبيان فضل الرؤية، وتفاوت أهل الرؤية في الرؤية، فقد ورد أن بعض الناس يرى الله مرتين، وبعضهم لا يراه إلا مرة كل أسبوع، وورد في بعض الآثار أن منازل الناس في الرؤية تكون بمنزلتهم من الصلاة والمبادرة يوم الجمعة، فمن بكر وكان في الصف الأول وأقرب إلى الإمام كان أعظم رؤية لله تعالى من غيره، وهكذا تكون الدرجات، فهذه منزلتهم في الجنة عند الله تعالى.
    يقول: (فلو أنهم ذكروا في تلك الحالة بشيء من نعيم الجنة) من الحور، أو مما أعده الله مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لو أنهم ذكروا في حالة الأنس بالله والنظر إلى وجهه جل جلاله بهذا النعيم (لأعرضوا عنه ولأخبروا بأنهم لا يريدونه في تلك الحال)؛ لأنهم الآن متنعمون بما هو أجل وأعظم من ذلك كله.
    يقول: (وكذلك لو خوفوا عذاباً ونحوه لم يلتفتوا إليه، وربما لم يستشعروا ألمه في تلك الحال، وإنما يحذرون حينئذٍ من الحجاب)، عما هم فيه، والبعد عنه، فإذا رجعوا إلى منازلهم رجعوا إلى ما كانوا عليه، فتهدأ قلوبهم وتطمئن، فيرجعون إلى ما كانوا عليه (من التنعم بأنواع النعيم المخلوق لهم، بل يزداد نعيمهم بذلك مع شدة شوقهم إلى يوم المزيد ثانياً) وهذا من فضل الله تعالى، فهذا النعيم ينسي بنعيم لذة النظر، وهذه من دقائق الاستنباط لدى الحافظ رحمه الله.
    يقول: (فهكذا حال العارفين الصادقين في الدنيا) إذا لحظوا هذا الملحظ، فكأنهم ينسون الجنة وينسون النار، لا أنهم لا يعملون من أجلها، بل يعلمون أن أفضل ما في الجنة هو هذا، لكنهم يستشعرون مثل تلك الحالة من رؤيتهم الله.
    يقول: (فهكذا حال العارفين الصادقين في الدنيا إذا تجلى على قلوبهم أنوار الإحسان واستولى عليها المثل الأعلى، فإن هذا من شواهد ما يحصل لهم في الجنة يوم المزيد).
    لكن الفرق أن الرؤية في الآخرة رؤية مشاهدة وتنعم على الحقيقة، أما في الدنيا فإنما هي تذكر وتفكر وتدبر ويقين وخشوع.
    يقول: (فهم لا يلتفتون في تلك الحال إلى غير ما هم فيه من الأنس بالله والتنعم بقربه وذكره ومحبته حتى ينسوا ذكر نعيم الجنة ويصغر عندهم بالنسبة إلى ما هم فيه، ولا يخافون حينئذٍ أيضاً غير حجبهم عن الله وبعدهم عنه وانقطاع مواد الأنس به) كمثل رجل عابد ذكر الله وتفكر في آيات الله واستغرق في ذلك فكره كله؛ فنسي ما عداه فأغمي عليه أو سقط أو قال بعض العبارات، فإذا عاد إليه عقله ورشده بدأ كحال غيره من العباد، فيجدون أن إرادتهم باقية، وأن حبهم لنعيم الجنة باق، وأن خوفهم من النار ما يزال، وشدة بعدهم عنها ما تزال، فهذا المثل يوضح ذلك، وهو مثل عظيم لمن تدبره وتأمله.
    يقول رحمه الله: (وأيضاً فالعارفون قد يلاحظون من النار أنها ناشئة عن صفة انتقام الله وبطشه وغضبه، والأثر يدل على المؤثر، فالنار دليل على عظمة الله وشدة بأسه وبطشه وقوة سطوته وانتقامه في أعدائه)، كما قال تعالى: (( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ))[البروج:12] (فالخوف منها في الحقيقة خوف من الله، وإجلال وإعظام وخشية لصفاته المخوفة، مع أن الله تعالى يخوف بها عباده، ويحب منهم أن يخافوه بخوفها)، فنحن عبيد لله تعالى، وإن من محبة الله تعالى أن نحب ما يحب، ومما يحبه تعالى أن يتعبد بالخوف من عذابه والخوف من ناره، وبهذا لا نخرج عن المحبة، حتى لا يقول قائل: إنك تعبد الله خوفاً من ناره، أو طمعاً في جنته، فإني حينئذٍ أقول له: إني أعبد الله تعالى بما أحب لي، وهو تعالى يحب أن أخاف عذابه وناره وأرجو جنته، وبهذا نعرف أن الرسل هم أكمل ممن جاء بعدهم في هذا الأمر.
    ما دام أن أعلى درجات نعيم الجنة هو رؤية الله تبارك وتعالى، ولن يرى الله عز وجل أحدٌ إلا وهو من أهل الجنة، فإذاً من يعبد الله سبحانه وتعالى طمعاً في جنته ورغبةً فيها، ومن يسأل الله تعالى الجنة آناء الليل وأطراف النهار لم يخرج عن كونه عابداً لله تعالى بالمحبة، ولا يقال: إنه مجرد أجير، أو كالأجير كعبد السوء، كما تقدم في بعض الكلام، لا يقال ذلك؛ لأنه يريد الجنة، ومن جملة ذلك يريد أفضل ما فيها، وهو رؤية الله سبحانه وتعالى.
    فيا من تزعمون أو تظنون أن الله تعالى إنما يعبد محبةً، وأن العبد غاية النعيم عنده أن يحب الله ويتلذذ بالله وبمناجاة الله، ولا يفكر في جنة ولا نار، نقول: أنتم أخطأتم؛ لأن من يسألون الله الجنة يسألونه وأولى ما يسألون أعظم ما فيها من النعيم وهو رؤيته سبحانه وتعالى.
    والذين يستعيذون به من النار ويخافون من النار؛ هم يفعلون ذلك؛ لأنهم لو دخلوها عياذاً بالله حرموا من رؤية الله، وبالتالي حرموا أعظم نعيم الجنة.
    الذين كانوا كما أخبر الله تبارك وتعالى عنهم: (( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ))[الأنبياء:90] الذين كانوا كما في الحديث الصحيح: ( كان أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار ) من هذا الباب، فهم كانوا يرجون الله الجنة، ويخافون من النار، ويستعيذون بالله تعالى منها من هذا الباب، فاكتملت واجتمعت الأركان كلها، بلغوا غاية المحبة لله، وكذلك غاية الخوف من الله، وكذلك بلغوا غاية الرجاء والطمع فيما عند الله.
    ولا يجوز لأحدٍ أن يعبد الله تبارك وتعالى بواحدٍ من هذه الثلاثة فقط، بل لابد أن يعبد سبحانه وتعالى بالحب والخوف والرجاء معاً، هذا هو المقصود وبه يتضح المطلوب إن شاء الله تعالى.
    أما الحديث عن المحبة التي يدندن حولها بعض الطوائف ويرون أن الله تعالى يتعبد له لذاته لا للجنة ولا للنار؛ فإن من محبة الله تعالى محبة ما يحبه ومما يحبه سبحانه تعالى أن نحب الجنة ونرغب فيها وأن نخاف النار ونحذر منها.
  2. القدر الواجب من الخوف والمحمود منه والمذموم

     المرفق    
    يقول رحمه الله تعالى: (والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات) وليس في الفرائض فقط، (والانكفاف عن دقائق المكروهات) وليس عن المحرمات فقط، (والتبسط في فضول المباحات؛ كان ذلك فضلاً محموداً).
    فهذه درجة في الخوف أعلى من سابقتها، فهناك أناس من خوف الله يتركون التوسع في المباحات ويكتفون بالقدر الذي يكفي، كمسافر استظل تحت شجرة ورحل عنها، فيكفيهم هذا في دار العبور، وهذا الخوف درجة أعلى من درجة الخوف الواجب، فإن كان كذلك كان فضلاً، أي: زيادة محمودة.
    قال: (فإن تزايد على ذلك) أي: زاد الخوف من الله حتى تجاوز بالعبد فعل النوافل وترك المكروهات والتبسط في المباحات، قال: (بأن أورث مرضاً أو موتاً أو هماً لازماً بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل لم يكن محموداً).
    وطبيعة النفس الإنسانية جعلها الله سوية، وقد قيل: إذا زاد الأمر على حده انقلب إلى ضده فمن زاد خوفه عن حده الشرعي -وهو رتبة الكمال- فإنه يفوت على صاحبه كثيراً من الأمور التي هي مشروعة ومحبوبة.
    يقول: (ولهذا كان السلف يخافون على عطاء السلمي من شدة خوفه)، وعطاء السلمي الإمام المعروف لشدة خوفه وهمه نسي القرآن، وهذه مصيبة بلا ريب، وانقطع في الفراش، فترك العبادات وترك الطاعات، وليس ذلك بإرادته، ولكن أصبح هذا شأنه وديدنه.
    يقول في سبب كون هذا الخوف مذموماً: (وهذا لأن خوف العقاب ليس مقصوداً لذاته، إنما هو سوط يساق به المتواني عن الطاعة إليها)، وهذا تشبيه رائع، كأن هذه النفوس مثل الدابة، فالدابة إذا توانت في مسيرها احتاجت إلى سوط الراكب، فهذا الراكب كلما رآها توانت وتكاسلت ضربها بهذا السوط فسارت، فإذا ضربها وهي على أفضل ما يكون انطقعت به، ويكون بذلك متعدياً، فالخوف سوط يساق به المتواني عن الطاعة.
    قال: (ومن هنا كانت النار من جملة نعم الله على عباده الذين خافوه واتقوه) كما في سورة الرحمن: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))[الرحمن:13]، والآلاء: النعم، وهذه الآية جاءت بعد آيات النعيم وكذلك بعد آيات العذاب، فإذا تذكر الإنسان النار وما فيها من أهوال استقام على أمر الله؛ فكان ذلك دافعاً له إلى طاعة الله، فمن هنا لا تعارض بين كونها من عذاب الله وبين كونها من نعم الله في الحياة الدنيا.
    قال رحمه الله تعالى: (قال سفيان بن عيينة رحمه الله: [خلق الله النار رحمة يخوف بها عباده لينتهوا]. أخرجه أبو نعيم) فإذا انتهوا عملوا الصالحات، وإذا عملوا الصالحات دخلوا الجنة وفازوا برضا الله وبرؤية الله.
    قال رحمه الله تعالى: (ولا ننكر أن خشية الله وهيبته وعظمته في الصدر وإجلاله مقصود أيضاً)، فهذا أيضاً مطلوب، وهو أيضاً أن يكون لله تعالى الوقار والإجلال والهيبة والعظمة والحياء منه في النفوس مع الرغبة في الجنة ومع الخوف من النار.
    يقول: (ولكن القدر النافع من ذلك ما كان عوناً على التقرب إلى الله بفعل ما يحبه وترك ما يكرهه، ومتى صار الخوف مانعاً من ذلك وقاطعاً عنه فقد انعكس المقصود منه، ولكن إذا حصل ذلك عن غلبة كان صاحبه معذوراً، وقد كان في السلف من حصل له من خوف النار أحوال شتى لغلبة حال شهادة قلوبهم للنار، فمنهم من كان يلازمه القلق والبكاء، وربما اضطرب أو غشي عليه إذا سمع ذكر النار، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء من ذلك، إلا أن إسناده ضعيف)، ثم أخذ يذكر بعض ما جاء في كتاب الزهد للإمام أحمد وغيره من مرويات طويلة.
    والمقصود أن بعض السلف وقع لهم حالات كما أشرنا، ولكن ذلك لم يخرجهم عن الاعتدال وعن القصد الذي هو السنة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان في قلوبهم هيبة الله وإجلال الله تعالى والحياء من الله، مع شدة محبة الله والشوق إلى لقاء الله والتطلع إلى رؤية وجه الله، ومع شدة الرغبة والحرص والطمع في فضل الله وما عند الله عز وجل؛ وبذلك تجتمع هذه فتكون في القلب كالشجرة الواحدة وإن كان لها جذور، وهي شجرة الإيمان التي ضرب الله بها المثل، فقال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ))[إبراهيم:24-25]، وهذا الأكل هو الأعمال الصالحة، وهو مداومة ذكر الله وكف الجوارح عما حرم الله، وتسخيرها فيما يقرب إلى الله عز وجل، فتكون هذه الحالة باجتماع الأركان الثلاثة كما تقدم.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
  3. ذكر بعض من روي عنهم تقديم المحبة على الخوف والرجاء وملحظهم في ذلك

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال رحمه الله تعالى: (فأما الخوف والرجاء فأكثر السلف على أنهما يستويان، لا يرجح أحدهما على الآخر، قاله مطرف و الحسن و أحمد وغيرهم، ومنهم من رجح الخوف على الرجاء وهو محكي عن الفضيل و أبي سليمان الداراني ، ومن هذا -أي: من قبيل ترجيح أحد أركان العبادة الثلاثة المحبة والخوف والرجاء على الآخر- قول حذيفة المرعشي : إن عبداً يعمل على خوف لعبد سوء، وإن عبداً يعمل على رجاء لعبد سوء، كلاهما عندي سواء).
    يقول ابن رجب مبيناً مقصوده حتى لا يفهم على غير حقيقته: (ومراده: إذا عمل على إفراد أحدهما عن الآخر) كأن يعبد الله بالخوف المجرد، أو يعبده بالرجاء المجرد، فإنه عبد سوء.
    قال: (وقال وهيب بن الورد : لا تكونوا كالعامل يقال له كذا وكذا فيقول: نعم إن أحسنتم لي من الأجر)، أي: لا يكن أحدكم في عبادته كالعامل الذي يشترط زيادة الأجر ليزيد في العمل ويحسن فيه.
    يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: (ومراده ذم من لا يلحظ في العمل إلا مجرد الأجر).
    ثم قال: (وهؤلاء العارفون لهم ملحظان)، وهذا تخريج عام حسن أتى به رحمه الله، وهو أن هؤلاء الذين هم من خيار العباد أو الزهاد ممن كان له فضل وزهد وعبادة عندما يقولون مثل هذا الكلام لهم فيه ملحظان:
    الملحظ الأول: أن الله تعالى يستحق لذاته أن يطاع ويحب ويتقرب إليه، ولو لم تكن له جنة ولا نار، ولو لم يجعل ثواباً ولا عقاباً، قال: (ويبتغي قربه والوسيلة إليه مع قطع النظر عن كونه يثيب عباده ويعاقبهم، كما قال القائل:
    هب البعث لم تأتنا رسله             وجاحمة النار لم تضرم
    أليس من الواجب المستحق            حياء العباد من المنـعم)
    أي: لو لم يكن هنالك بعث ولا رسالات ولا نذارة أليس من الواجب على العباد أن يستحوا من الله الذي خلقهم ورزقهم ورباهم بنعمه، وتفضل عليهم وأسبغ عليهم النعم الظاهرة والباطنة، وأن يكفوا أنفسهم وينزجروا عما حرم، وأن يمتثلوا أوامره وما يرضاه؟!
    يقول رحمه الله: (وقد أشار هذا إلى أن نعمه على عباده تستوجب منهم شكره وحياءهم منه، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم لما ( قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟! ) ) فهو صلى الله عليه وسلم خير من يقدر النعمة ويستحي من الله تعالى ويتقرب إليه عز وجل، فالإنسان الكريم يستحي من الكريم، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربه عز وجل؟! فلذا قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟!) فيشكر ربه ويزداد من طاعة الله ومن عبادته وإن كان قد غفر له، فليس الغرض من العبادة أن ينال العبد المغفرة والرضوان فحسب، وإنما هناك ملحظ آخره يلحظه العارفون الذين عرفوا الله تعالى وقدروه حق قدره، وهو أن الله أهل لأن يعبد ويشكر ويثنى عليه ويطاع ويتقرب إليه.
    1. ملحظ تعلق الخوف والرجاء بالخالق دون المخلوق

      قال: (والملحظ الثاني) وهو مهم جداً؛ لأن كثيراً من الناس أخطئوا فيه (أن أكمل الخوف والرجاء ما تعلق بذات الحق سبحانه وتعالى دون ما تعلق بالمخلوقات في الجنة والنار)، فكيف يكون الخوف متعلقاً بذاته تعالى، وكيف يكون الرجاء متعلقاً بذاته تعالى؟
      يقول: فأعلى الخوف خوف العبد من البعد عن الله ومن أن يسخط عليه الله تبارك وتعالى ومن الحجاب بينه وبين الله عز وجل، وهؤلاء هم الذين وصلت بهم قوة الإيمان ودرجة اليقين إلى هذه الحالة من معرفة الله والأنس بالله تعالى ولذة مناجاة الله، ولذة ذكر الله كلما قعد المرء منهم أو قام أو راح أو غدا، فهؤلاء الناس أعظم ما يعذبون به أن يحال بينهم وبين ذكر الله، وتنقطع ألسنتهم عن ذكر الله، فيذهب ما عندهم من يقين وطمأنينة ولذة ونعيم، وهذا الذي يقصده بعضهم بقوله: (إنه ليمر بي حالات فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم).
      يقول: (كما قدم سبحانه وتعالى ذكر هذا العقاب لأعدائه على صليهم في النار في قوله: (( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ))[المطففين:15-16]) فأول ما عوقبوا به أنهم حجبوا عن رؤية الله تعالى، وهذا عذاب عظيم، ثم عقب على ذلك بأنهم سوف يدخلون النار ويعذبون بالعذاب الذي يخافه كثير من الناس، وهذا الذي ينبغي أن يكون: أن يخاف العبد من النار، والأولى ألا ينسى أن العذاب الأليم والخسارة الكبرى في عدم رؤيته تبارك وتعالى والتنعم بذلك، ويدل على ذلك أن أكبر نعيم في الجنة هو رؤية الله تعالى، وإذا كان هذا أكبر نعيم فذاك هو أكبر عذاب وعقوبة، والعباد إذا سألوا الله الجنة، وكذلك رسل الله الكرام، أو عملوا لأجل الجنة، أو عبدوا الله تعالى لأجل الجنة؛ فإنما يريدون من جملة ما يريدون أشرف ما فيها، وأعلى ما فيها وأفضل ما فيها وهو رؤية الله تعالى.
      ولا منافاة بين من يعمل يريد الجنة، وبين من يعمل لذات الله والنظر إلى وجهه الكريم؛ لأن أعظم وأشرف نعيم الجنة هو هذا النعيم.
      يقول: (وبقي هاهنا أمر آخر، وهو أن يقال: ما أعده الله في جهنم من أنواع العذاب المتعلق بالأمور المخلوقة لا يخافها العارفون، كما أن ما أعده الله في الجنة من أنواع النعيم المتعلق بالأمور المخلوقة لا يحبه العارفون ولا يطلبونه، وهذا أيضاً غلط، والنصوص الدالة على خلافه كثيرة جداً ظاهرة، وهو أيضاً مناقض لما جبل الله عليه الخلق من محبة ما يلائمهم وكراهة ما ينافرهم)، وهذا كائن في الخليقة حتى في الحيوان وفي النبات، فقد جعل الله فطرة الخلائق تميل إلى ما يلائمها وما يناسبها وتتلذذ به وترتاح إليه، وجعلها تنفر مما يضايقها ويزعجها ويؤلمها ولا يلائمها، وهذه الفطرة هي مغروزة في نفس الإنسان؛ فلذلك يأتي الثواب ويأتي العقاب، ويربط الله تعالى طاعته بالثواب ومعصيته بالعقاب، فالإنسان إذا كان يحب الجنة والحور العين والقصور وكل ما في الجنة من النعيم فعليه بطاعة الله تعالى، وإذا كان يكره النار وما فيها فعليه أن يجتنب ما حرم الله.
  4. ضلال من نشد بعبادته الضالة اللذة العقلية والنعيم الروحاني

     المرفق    
    أما القائلون بأن العبد يفعل الشيء لذاته تعالى لا لغيره ولو لم يكن يلائمه؛ فإنهم طائفة شاذة يسمون حكماء اليونان الذين أخذوا هذا عن عباد الهند فجاءوا بهذه الشبهة، وقالوا: إن الذي يميل إلى المحبوب الملتذ به هم ضعفاء النفوس وأوساط الناس، أما من ترقى في الحكمة وفي العقليات، فإنه دائماً ينظر إلى النعيم الروحاني، فأفضل نعيم عنده هو النعيم الروحاني واللذة العقلية، وليس اللذة الجسدية أو الحسية! هكذا يزعمون، ولذلك نجد أن عباد الهنود غاية ما يريدون من عبادتهم الاتحاد بـبراهما؛ فتجدهم يعذبون أجسادهم في الدنيا عذاباً شديداً جداً؛ لأنها بزعمهم تتصفى وتتنقى لتتحد بـبراهما ، وهو الإله الأكبر عندهم، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، فلا يطمعون في جنة ولا يخافون من نار، وحكماء اليونان وأمثالهم أخذوا هذا منهم، وأصبحوا يعتقدون ذلك، ثم انتقل هذا التصور عن طريق من يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، فأصبحوا يرون أن ذكر النعيم الذي أعده الله في الجنة، وذكر العذاب الذي أعده الله في النار إنما هو للعامة، أما هم فلذتهم لذة عقلية لا حسية، وعذابهم عذاب عقلي لا حسي.
    وهذه مكابرة للواقع؛ فإنهم في حياتهم الدنيا المحدودة لا بد لهم من أمور تلائمهم ويحبونها، ولا بد لهم من أمور لا تعجبهم ولا تلائمهم وينفرون منها.