المادة كاملة    
عبادة الله تعالى هي بضاعة المتاجرين في سوق الآخرة، ولا يتم أمرها إلا باجتماع المحبة والخوف والرجاء فيها، والمراد بالخوف ما كان باعثاً على الطاعة غير موصل إلى اليأس من رحمة الله تعالى، والمراد بالرجاء ما بعث على العمل ولم يدع إلى الأمن والكسل والغرور، وإنما يؤتى المرء من باب الأمن من مكر الله تعالى من انعدام خوفه من الآخرة وجهله بربه وغروره بدنياه، وبذلك تتم خسارته ويكون هلاكه.
  1. لزوم الجمع بين المحبة والرجاء والخوف في العبادة

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينها لأهل القبلة): يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً، فإن الخوف المحمود الصادق ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط، والرجاء المحمود رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله فهو راج لمغفرته، قال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[البقرة:218]، أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل؛ فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب، قال أبو علي الروذباري رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا سار الطائر في حد الموت. وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: (( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ))[الزمر:9] الآية، وقال سبحانه: (( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ))[السجدة:16]، فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله تعالى فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه].
    تقدم أن تحدثنا عن منهج السلف الصالح في الجمع بين هذه الأمور الثلاثة: الخوف والرجاء والمحبة، وضلال من ضل بأن أخذ بأحد هذه الثلاثة أو باثنين منها فرضاً وترك الباقي على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى ونعيد التذكير به.
    وسنذكر هنا شيئاً مما جاء في كتاب الله عز وجل عن حال المؤمنين وحال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وهم أهل الاستقامة الذين جمعوا بين الخوف والرجاء، وأما المحبة فلا تتصور العبادة إلا بها، فإن من لم يحب شيئاً لم يعبده، وقد يأتي في بعض النصوص ذكر المحبة وقد لا يأتي، لكن أصل العبادة هو المحبة، فكل من عبد شيئاً فإنما عبده لأنه في الأصل يحبه، سواءٌ أكان ذلك المعبود هو الله تبارك وتعالى أم أحداً من خلقه، فلولا محبته إياه ما عبده، لكن العبادة تتضمن المحبة وزيادة، فهي تتضمن المحبة مع الخضوع والذل، فالعابد هو المحب الخاضع، وليس كل محب عابداً، لكن من عبد حتى اقترن بحبه الخضوع والذل للمحبوب فإنه يصبح عابداً له، وقد سبق أن استشهدنا على هذا بكلام العرب، وكذلك من واقع أحوال العابدين.
    فالمنهج القويم الذي أثنى الله تبارك وتعالى عليه في كتابه ومدح أهله -وهو منهج المؤمنين الصادقين جميعاً- هو الجمع بين الخوف من الله تبارك وتعالى وبين رجاء الله عز وجل، قال تعالى: (( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ))[الأنبياء:90] وهذه صفات عظيمة جليلة، أي: المسارعة في الخيرات وامتثال الأوامر واجتناب النواهي والتقرب إلى الله تبارك وتعالى، وهذا هو الأساس، فلم يتخلوا عنه، وكانوا يدعون الله ويعبدون الله تبارك وتعالى وهم يسارعون في الخيرات رغباً -وهذا هو جانب الرجاء فيما عند الله- ورهباً، وهو جانب الخوف، قال تعالى: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) زيادة على ذلك، فكانت عباداتهم كلها تعمل بخشوع؛ لأنه هو روح العبادة، فإذا انتفى الخشوع أصبحت العبادة مظاهر جوفاء لا قيمة لها ولا خير فيها، وبقدر الخشوع تكون العبادة أقرب إلى الله تبارك وتعالى، فهذه الآية في وصف حال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ومن سار على نهجهم من الصالحين.
    وكذلك قوله تعالى في سورة الإسراء: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ))[الإسراء:57].
    وفي تفسير هذه الآية وجهان:
    أحدهما: أولئك الذين يدعوهم ويعبدهم المشركون من الملائكة والأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين حالهم أنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب هذا أول ما وصفهم الله تبارك وتعالى به، وهذا معنى قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ))[المائدة:35]، فابتغاء الوسيلة المقصود في القرآن هو المبادرة بالأعمال الصالحة، والتوسل بالأعمال الصالحة التي شرع الله إلى مرضات الله عز وجل، فهؤلاء يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، وهذا فيه إشارة إلى نتيجة القرب، وهو المحبة، وكلما كان العبد أكثر حباً لله تعالى كان أكثر تقرباً.
    ثم قال تعالى: (( وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ))[الإسراء:57]، فتوازن الأمران، فدلت الآية على امتثالهم بهذه الثلاثة الأركان: المحبة والخوف والرجاء. ‏
    1. منزلة المحبة والرجاء والخوف من العبادة

      وقد شبه أبو علي الروذباري المحبة من العبادة بالرأس من جسد الطائر، وشبه الخوف والرجاء بالجناحين، فهم أولاً أتوا برأس الأمر، وهو التقرب إلى الله تبارك وتعالى ومحبته، ثم أتوا بالجناحين، فكانوا يرجون رحمته ويخافون عذابه، ثم أكد تعالى الخوف منه فقال: (( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ))[الإسراء:57].
      وفي هذا تنبيه على أنه مهما بلغ العبد في التقرب والمحبة لا يصح ولا يجوز له أن ينسى الحذر والخوف من عذاب الله، ولا أن يأمن من مكر الله عز وجل ويطمئن إلى عمله أو يركن إلى طاعته، أو يأخذه الغرور والإعجاب بما هو عليه من الخير والصلاح والهداية، فبذلك تزل قدمه ويشقى، نسأل الله العفو والعافية.
      فالله تبارك وتعالى أثنى على هؤلاء، ويدخل فيهم الملائكة المقربون، والرسل المصطفون، فهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فكلٌ منهم يرجو أن يكون الأقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه.
      ومما جاء في هذا المعنى قوله تعالى: (( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ))[السجدة:16]، فهذا الذي نريده أن يتحقق جانب الخوف وجانب الطمع، وهو الرجاء، فهذه الآية ذكر فيها الحالان جميعاً.
      وكذلك قوله تعالى: (( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ))[الزمر:9]، والخوف والحذر والوجل كلها معان متقاربة، وإن كان كل لفظ يذكر لنكتةٍ بلاغية يقتضيها السياق، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في موضوع الوجل والخوف، لكن الأصل في القضية هنا واحد، فهؤلاء جمعوا بين الجناحين اللذين يطير بهما المؤمن إلى مرضاة الله تبارك وتعالى، وهما الخوف والرجاء.
      فالله تبارك وتعالى يقول عن هذا القانت: (يحذر الآخرة) فلا يأمنها (ويرجو رحمة ربه) فلا يقنط ولا ييأس من رحمة لله تبارك وتعالى، وهذا هو حال العبد المؤمن دائماً.
      ومن ذلك قوله تعالى: (( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ))[البقرة:201]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -كما أخبر عنه خادمه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه في الحديث الصحيح- ممتثلاً لهذه الآية، فقد قال رضي الله عنه: ( كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ))[البقرة:201] )، فهذا يدل على أن حال النبي صلى الله عليه وسلم هو رجاء ما عند الله، وذلك بطلب الحسنة في الدنيا والآخرة وسؤال الوقاية من النار.
      وهذا الذي ذكره أنس رضي الله تعالى عنه نحتاج إليه لنرد به على من يزعم من الضالين أن الله سبحانه وتعالى لا يعبده خوفاً من عقابه إلا من نقص إيمانه ونزلت مرتبته، وأن الخلص الكمل من العارفين يعبدون الله لذاته، لا يرجون جنته ورحمته ولا يخافون ناره وعقابه!
    2. ما يحمد وما يذم من الخوف والرجاء

      فهذه الآيات كافية في الرد على هؤلاء، لكن المقصود أن ما ذكرنا يدل على هذا الأمر، ولهذا قال الشارح رحمه الله: (يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً؛ فإن الخوف المحمود الصادق ما حال بين صاحبه وبين محارم الله).
      وهذه حقيقة الخوف الواجب، فإن ترقى هذا الخوف حتى حال بين العبد وبين المكروهات أو المشتبهات، فهو الخوف الكامل، فإن زاد الخوف به حتى قنطه من رحمة الله وحمله على ترك ما أمر الله تعالى به من رجاء رحمته وثوابه والطمع فيما عنده أصبح خوفاً مذموماً.
      فالأصل هو الخوف الواجب، وهذا الخوف الواجب هو الركن الذي لا بد منه، وله كمال كسائر أنواع أعمال القلوب من الرجاء والمحبة والصدق واليقين، فكل هذه لها أصل لا بد منه، ولها كمال يتسابق فيه المتسابقون ويتنافس فيه المتنافسون، لكن الفاصل الدقيق إنما يكون بين كمال الخوف والوقوع في الخوف المذموم الذي يصبح قنوطاً ويأساً.
      قال رحمه الله تعالى: (فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط) يعني الخوف الواجب وما يتبعه من الخوف الكامل.
      والرجاء المحمود هو الرجاء الواجب، وهو (رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله) رجاء ثواب الله وخوف عقاب الله، فمن عمل بطاعة الله على نور من الله بدليل شرعي غير مبتدع راجياً ثواب الله خائفاً من عذاب الله فرجاؤه محمود، كما في آية الأنبياء. فهو يأتي بالطاعات وقلبه وجل لأنه راجع إلى ربه وسائله عما فعل، ولأنه قد يتقبل منه وقد لا يتقبل، وهذا حال المتقين، فهم يعملون الطاعات ويجتهدون فيها ويأتون بها على السنة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعملها، فلا يبتدعون في الدين، ويرجون من الله تبارك وتعالى أن يتقبلها، ويخافون أن يردها عليهم، وهذا حال السلف الصالح ومن تمسك بالصراط القويم.
      ثم ذكر جانباً آخر من جوانب الرجاء، وهو داخل فيما سبق، لكن ذكره لتتميم الأمر حتى لا يقنط قانط، فقال رحمه الله تعالى: (أو رجل) أي: رجاء رجل (أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله) توبة نصوحاً صادقة توافرت فيها الشروط التي تقدم ذكرها في موضوع التوبة، ومع ذلك فهو (راج لمغفرته) يرجو مغفرة الله نتيجة توبته، وفي هذا تنبيه من الشيخ رحمه الله على أن الإنسان لا يقنط مهما أذنب، وإنما عليه أن يتوب، فإذا تاب وجب عليه أن يعد هذه التوبة عملاً صالحاً، فيخلص فيه ويجتهد يرجو به ما عند الله، فلا يقنط من رحمة الله تبارك وتعالى، قال رحمه الله تعالى: (قال الله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[البقرة:218] )، فانظر إلى الصفات: إيمان وهجرة وجهاد! قال تعالى: (أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فهذا هو رجاء العاملين المنيبين المخلصين، وهو الرجاء المحمود؛ لأنهم يرون أنفسهم قد عملوا هذه الطاعات ويعلمون أن الله تبارك وتعالى لا يضيع أجر العاملين ولا يخيب أمل المتقين، فالذين سعوا إليه على نور منه رغبة ورهبة بصدق وإخلاص لا يخيبهم أبداً، وهذا من حسن الظن بالله تبارك وتعالى، وفرق بين حسن الظن بالله وبين إساءة الأدب مع الله تبارك وتعالى والاندفاع وراء الأماني الباطلة الكاذبة التي هي سبب وقوع الأمن المذموم.
      قال رحمه الله تعالى: (أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب).
  2. أسباب الأمن من مكر الله تعالى

     المرفق    
    والأمن الذي ذكره الشيخ الطحاوي رحمه الله في قوله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام) له سببان:
    1. انعدام الخوف من الآخرة

      السبب الأول: انعدام الخوف من الآخرة، فالذي لا يخاف الآخرة من المشركين يأمن عذابها وما أعد الله تعالى للمجرمين فيها، ولذا قال تعالى: (( كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ ))[المدثر:53]، وقال تبارك وتعالى عن هؤلاء: (( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ))[يونس:7-8].
      فالذين لا يرجون لقاء الله ولا يخافون الآخرة لا يخافون عذاب الله، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عن المؤمنين في أول سورة العنكبوت: (( مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ))[العنكبوت:5]، فالمؤمنون يرجون، أما الذين لا يرجون لقاء الله ورضوا بالحياة الدنيا فهم الكفار الصرحاء، ومن شابههم ممن ينتسب إلى الإيمان وهو في غفلة شديدة قد طبع على قلبه وختم عليه -نسأل الله العفو والعافية- فلا يرجو لقاء الله ولا يخاف الآخرة.
      فالله تعالى يقول عن هؤلاء: (( وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))[يونس:7] ولم يرضوا بها فحسب، بل (( وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ))[يونس:7]، ذلك أن الإنسان قد يرضى بالشيء لكن لا يطمئن إليه، فيكون عنده قناعة ورضا لكن يشوبهما شائب، فيقول: وماذا عند الله؟ وماذا بعد الموت؟ وهي حالات تأتي في النفس الإنسانية.
      لكن هذا الصنف من الناس -والعياذ بالله- اطمأن بها، فقطع نظره وعقله وفكره وهمه عن الآخرة، كحال أمم الكفر اليوم في العالم، كل همهم وكل شأنهم وفكرهم محصور محدود في هذا الحياة الدنيا، فيحق فيهم قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ))[النمل:4]، فكل ما يعملونه يرونه حسناً مزيناً، فهم في عمه لا يبصرون الحق ولا يرونه أبداً، هم الواحد منهم كيف يجمع المال، وكيف ينمي الثروة وكيف يستفيد منها، وكيف يرتاح في هذه الحياة الدنيا.
      فالتربية الغربية الكافرة -والعياذ بالله- بجميع أنواعها وصورها تربي الفرد وتربي الجماعة بوسائل الإعلام وبغيرها في كل مكان أينما اتجهت وأينما نظرت على تحقيق أكبر قدر من الربح والكسب والراحة في هذه الدنيا فقط، أما للآخرة فلا، وإن وجد شيء فهو في طريق (( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ))[الكهف:104].
      وحاصل ما يصنعونه مما يظنونه من أعمال الآخرة ذهابهم إلى الكنيسة، ومن شدة طغيان المادية ونسيان الآخرة أصبحت الكنائس نفسها تدعو الناس إلى المسيح ودخول الكنائس بالرقص والخمر والنساء ووسائل اللهو والمسابح، فهي شعوب تعلقت بالدنيا، فأصبحت الكنيسة تريد منك خيطاً رفيعاً دقيقاً تتمسك به في هذا الباب، فالمهم أن يقول: أنا منتسب إلى الكنيسة ويدفع لها الرسوم والتبرعات، كما يفعلون عندما يتبرعون بالمليارات لتنصير المسلمين، أما أن تكون في قلبه حقائق إيمانية فلا.
      وهذا لا يشكل؛ لأن بعض الناس قالوا: كيف نقول: إن الإنجيليين الأصوليين غير متعبدين وهم يعدون -كما ذكروا- أربعين مليوناً، ويقول ريجن : إنهم ثمانون مليوناً، وهو واحد من الأصوليين، أي: المنتمين إلى الاتجاه الأصولي المحافظ كما يسمونه؟ فلا تتصور أن هؤلاء كلهم رهبان عباد كحال النصارى الأولين، بل هؤلاء منتمون إلى الكنائس ويدفعون لها التبرعات، ويحضرون يوماً في الأسبوع إلى الكنيسة، أو يشاهدون الكنيسة المرئية -كما يسمونها- في التلفزيون، ويعيشون همَّ وقضية الكنيسة، لكن في حياتهم هم الخمر والقمار واللهو واللعب، وهذا الأمر لا نقاش فيه، نسأل الله العفو والعافية، فهم غير أولئك الآخرين الذين هم كالحمير وكالدواب، أولئك كالأنعام بل هم أضل، فهذه طائفة وتلك طائفة، وكلتاهما غارقتان في الضلال.
      ومما يذكرون على سبيل النكتة -هي نكتة عندهم في الفكر الغربي، لكنها تدلكم على هذا المعنى، وهي نكتة بالمعنى العرفي عندنا يعني سخرية- أن رجلاً من رجال الأعمال يرى نفسه من الحكماء المشهورين، رجل أعمال وتجارة في أمريكا قابل رجلاً من الهنود الحمر، وهم يضربون مثلاً أن الأمريكان عمليين، وأن الهنود الحمر لا يعملون، فوجد الهندي الأحمر قاعداً لا يشتغل ولا يفعل أي شيء، يعني: عنده دخل ضئيل جداً ويأكل منه، ولا يفكر في تطوير نفسه، فجاءه هذا وقال له: لماذا تعمل هكذا؟ قال: ماذا تريدني أن أعمل؟
      قال: كون مؤسسة أو شركة واشتغل، قال له: لماذا أفعل شركة؟ قال: لتجمع المال، قال: وإذا جمعت المال، قال: حتى يكثر مالك، وتكثر ثروتك، كذلك ما فهم، ورأى أنه ما يحتاج ويريد أن يوضح له لماذا يكثر ماله؟ وماذا يصير؟ قال: لما يكثر مالك ويتنمى بعدها ترتاح، قال: أنا الآن مرتاح، فإذا كنت مثلك رجل أعمال وعندي هم وغم وأتعب وأجمع أموالاً لكي أرتاح، فأنا الآن مرتاح ولا عندي أي مشكلة.
      فهذا مثال على الفرق بين الرجل العملي، والرجل الذي لا طموح له، لكن في الحقيقة إن كلام الهندي هذا له أصل؛ لأنه لو تنظر من ناحية عقلية إذا كانت النتيجة أني أكدح وأجمع المال حتى أرتاح في الدنيا، فأنا مرتاح، أما الآخر يمكن يموت وهو ما ارتاح، وهذا الواقع أن من يعمل ويكدح للدنيا دون الإيمان بالآخرة يموت وهو لم يرتح.
      فخيرٌ منه إذاً الذي ارتاح في الدنيا، يعني يعيش هادئاً وينام هادئاً، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية، كما ذكر الله تعالى زين لهم أعمالهم حتى أصبحت حياتهم كلها أرقام، يعني يقولون: كيف حياتهم كلها أرقام؟ يعني: أكثر ما يهم الرجل الغربي المادي في حياته الأرقام؛ لأنه عنده رقم طويل في التأمين، ورقم أيضاً طويل للبطاقة الشخصية، ورقم المستشفى، ورقم كذا، ورقم ورقم، كل حياته أرقام مجمعة؛ لأن لديه خوفاً هائلاً جداً، نسأل الله العفو والعافية.
      ولاسيما اليهود منهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ))[البقرة:96]، هذا بخلاف المؤمنين الذين يرجون الله واليوم الآخر، ويرجون لقاء الله، ما يخافون، ولذلك تجد عندهم مهما كان الإنسان مثقفاً حتى من أساتذة الجامعات الكبار، المشهورين عالمياً أو كذا، تجد عندهم الحرص على حياة -حياة نكرة، يعني أي نوع من أنواع الحياة- فبعض هؤلاء المشهورين يعدون العباقرة والعقول المفكرة دائماً يمشي ومعه شنطة يحملها هو أو أحد الخدم معه فيها أجهزة كثيرة جداً، لا يستطيع أن يفارق الشنطة ليلاً ولا نهاراً، فهذا جهاز لقياس الضغط، وهذا جهاز للسكر، وهذا جهاز لقياس نبضات القلب، و.. إلخ، لماذا؟ يقول: يمكن أن أموت، فقبل أن ينتشر المرض أتدارك نفسي، فكلما أصابه شيء يقيس.. فهو مشغول بهذا؛ لأنهم أحرص الناس على حياة.
      وهذا الذي تعرض له موريس بوكاي الذي أسلم وهداه الله، وهو كان يمارس مهنة الطب، وجدوا من التجربة، من استقراء الجم الغفير من الناس أن المؤمنين بالآخرة والمسلمين الذين يذهبون إلى الغرب للعلاج والحمد لله عندهم من الطمأنينة ما لا يوجد عند غيرهم أبداً، يعني يأتون بالمريض أياً كان، سبحان الله! فالمسلم حتى لو كان فيه من الذنوب والعيوب ما فيه، لكن يظل عنده هذا القدر من الإيمان بالقدر والآخرة لا يجده ولا يشعر به، ولا يحس به أحدٌ من الكفار، لا يذوق طعم هذه النعمة إلا المؤمن، على ما فيه من تقصير أو غفلة، فإذا قالوا له: نسبة نجاح العملية 50% يفرح، فهذه طبيعة المسلمين والعرب، وتقول: الحمد لله، افعلوها، يوقع على إجراء العملية هو وولي أمره، وهو مرتاح جداً.
      ويقول موريس بوكاي: المشكلة إذا كان الرجل فرنسياً أو غربياً وكان نسبة النجاح فيها (90%) يظل يجادل أيام، ويقول: الـ (10%) هذه يا دكتور، ماذا؟ يقول له: ما نقدر نضمن، يقول له: يمكن موت؟ يقول: ما نقدر، يمكن كذا؛ لأنه لو قال له: (100%) معنى ذلك أن النتيجة لابد أن تكون (100%) وإلا سيحاكم، ويعطى تعويضاً ومشاكل تحصل، فيظلون يقنعونه أنه لا يمكن أن نعطي احتمال (100%)، لو (99%) فرضاً أو شيئاً من هذا، لكنه هو يقول: لابد الدواء أو العملية تكون بهذه النسبة.
      لكن المسلم الـ (50%) يقبلها، أحياناً أقل من (50%) يقول: توكلنا على الله، فإذ قيل له: يمكن تموت، قال: الحمد لله، إذا جاء القدر يقع لا محالة، آمنا بالله، فهذه راحة عجيبة! يتعجبون ما سر هذه الراحة، فلما تكرست هذه القضية وهذه الشواهد لفتت نظر هؤلاء الأطباء، ومنهم هذا الرجل المشهور إلى أن هذا الإيمان بالآخرة شيء عجيب جداً يوجد عند المسلمين.
      فهذا دليل على عظيم نعمة الله تبارك وتعالى بأن هدى هذه الأمة للإيمان بالآخرة، ولم يجعلها كأولئك الذين ادارك علمهم بالآخرة، (( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ))[النمل:66]، فهم يتخبطون في الظلام بدون أي بصيرة، فالمغني المشهور سابقاً الذي أصبح -والحمد لله- من المسلمين وهو يوسف إسلام أو كات ستيفن، أصدق -سبحان الله- ما يعبر به؛ لأنه أخذه من تعبير القرآن عندما سئل في المقابلة التي أجرتها معه مجلة البحوث الإسلامية: صف لنا حياتك في أيام الكفر، وكيف كنت؟
      فقال: لا أستطيع أن أعبر أو أن أقول: إلا أنني كنت كإنسان في ظلامٍ مطبق داهم لا يرى شيئاً أبداً، فلما أسلمت أبصرت النور.
      سبحان الله! هذه الحقيقة، هي أوجز عبارة وأبلغ ما يمكن أن يقال، فظلام مطبق؛ لأن القلب مغلف تماماً، لا يفكر في الآخرة ولا يرجوها، فالله عز وجل لا يؤمن به، ولا رسول يتبعه، ولا هدي يهتدي به، فكيف يكون هذا، وكيف يعيش؟!
      ولذلك نقول: إنه لا تنافي، نزيد المسألة إيضاحاً: هؤلاء هذا حالهم في الإيمان بالله واليوم الآخر، ومع ذلك لا شك أنهم حققوا في الدنيا، كيف يحققون شيئاً من ملذات الدنيا وإيمانهم بالآخرة بهذا الشكل، وقلوبهم بهذا الشكل؟
      فنقول: إنهم اتخذوا أسباباً أخرى، أيضاً تجري وفق سنن الله تبارك وتعالى، هي حدود هذا الظلام، فهم يعيشون في الظلام، لكن من خلال هذا الظلام قامت الثورات؛ ثورة الفلاحين في ألمانيا ، بعدها الثورة الفرنسية، لكن محدود الثورة الإنجليزية، بعدها الثورة الإمريكية، ثورات، آراء اجتماعية، مذاهب، فلسفات، حصل آخرها ما ترون من انهيار الشيوعية، فهم قومٌ لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وليس لديهم هدى من الله، لكن عندهم تجارب كثيرة جداً، فهم مثل الذين يعيشون في الظلام، والظلام هذا كله حفر، لكنهم جربوا، هذه الحفرة وقعوا فيها، وضعوا علامة؛ حتى لا يقع من يأتي بعدهم، وهذه الحفرة وضعوا عندها علامة وهكذا.
      فالله تعالى جعل للإنسان وسائل -وإن لم يبصر- لكنه في حدود الظلام ومن خلال هذه العلامات يمكن أن ينجو، وطبعاً في حدود الظلام لا يصل إلى النور إلا بالإيمان، لكن ممكن أن يعيش في حدود الظلام، فالغرب الآن هذه حياته، الغرب يعيش لكن في حدود الظلام، ضمن دائرة الظلام والدنيا كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: الدنيا مظلمة، ملعونة إلا ما طلع عليها شمس الرسالة، فما لم تطلع عليه شمس الإسلام ويؤمن بالله تبارك وتعالى، ويؤمن بالآخرة فهم في ظلام دامس، وضعوا نوعاً من العلامات والأمارات، فأصبحوا يطالبون بحقوق الإنسان مثلاً، العدل هذا مما فطر الله تعالى عليه الأمم جميعاً، محبة العدل، محبة الخير، كما قال عمرو بن العاص رضي الله عنه عن الروم: [ أمنعهم من ظلم الملوك ] يعني أصبحت قاعدة عند الغرب الآن، يتمانعون من ظلم الدول إذا رأوا أن حكومةً طغت على أفراد أو على الشعب، طبعاً العالم الإسلامي لا يدخل فيه، لكن داخل حياتهم، داخل الظلام الذي يعيشون فيه لا يقرون البغي أو الظلم فيما بينهم، أعراف جاهلية وأوضاع تعارفوا عليها جعلت حياتهم تظل، وجعلت تقدمهم المادي يزداد رغم أنهم يعيشون في الظلام.
      إذاً: لا تنافي كما قد أوضحنا سابقاً بين الظلام وبين أن الإنسان يحقق وهو في الظلام بعض الأمور التي يمكن أن توصله إلى شيء من الراحة أو العدل أو الرفاهية، لكنها لا توصل أبداً إلى الحق الذي يريده الله إلا بالنور الذي أنزله الله، وأمر باتباعه والاقتداء به.
      لذلك فإن أكبر عوامل الأمن عندهم هو أنهم لا يؤمنون بالآخرة؛ لأن الكتب التي عندهم حرفوها وبدلوها، حذف منها ما يتعلق باليوم الآخر، إنك تعجب من ضخامة أسفار التوراة الموجودة الآن، حيث بلغتا تسعة وأربعين سفراً على اختلافهم في الأسفار، ومع ذلك حذف منها ما يتعلق باليوم الآخر، فأمر المعاد واليوم الآخر لا تجده فيها، حتى إن اليهود قبحهم الله هم وعلماءهم وأحبارهم ورهبانهم جعلوا كل ما وعد الله تعالى به من نعيم أو فضل مقصوراً على الدنيا، فمن عمل بالطاعات يجازى عليها بالخير في الدنيا، فبلغ بهم التحريف إلى هذا الحد، فلا تكاد تجد ذكراً في كل أسفار التوراة للآخرة، لا فيما ينسبونه إلى الله تبارك وتعالى بقولهم: إن الله قال أو أوحى، ولا فيما هو من كلام الرسل صلوات الله وسلامه عليهم من أنبيائهم ورسلهم، ولا فيما هو من كلام حكمائهم وأحبارهم ورهبانهم، ومن هنا نشأ عندهم هذا الأمن.
      وقد قال الله تبارك وتعالى عنهم: (( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ))[آل عمران:24]، ولهذا قال الله تبارك وتعالى: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ))[النساء:123]، وقال تعالى عنهم: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ))[المائدة:18]، فمقتضى الكلام: لن يؤاخذنا ولن يعذبنا، فإن أدخلنا النار فهي أيام معدودات، فنحن شعب الله المختار الذين أثنى الله تبارك وتعالى عليهم وفضلهم على العاملين، وهذا التفضيل في زمانهم، ولا ريب في ذلك، لكن هذا ليس وعداً أبدياً يستمر مهما نكثوا ونكصوا وانقلبوا على أعقابهم وغيروا وبدلوا، بل كما قال تعالى: (( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ))[محمد:38]، فاصطفى الله سبحانه وتعالى بعدهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ))[فاطر:32] أورثهم الكتاب وأورثهم النبوة، وفضلهم وبين فضلهم في سورة الجمعة، فقال تعالى: (( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ))[الجمعة:2] ثم بين بعد ذلك مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، وهذا دليل على سبب تفضيل أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن أولئك الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، فأصبح حالهم وشأنهم -عياذاً بالله- كمثل الحمار يحمل أسفاراً، أما هذه الأمة -والحمد لله- فإنها لا تزال فيها طائفة منصورة تزكي نفسها وتزكي غيرها بالحق وبما أنزل الله تبارك وتعالى من الدين، ولو كان من أهل الكتاب بقية لما نزعت منهم النبوة والكتاب، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب )، وهؤلاء البقايا ليسوا طائفة وأمة، وإنما هم أفراد، وربما كان آخرهم هو الذي ذكره سلمان الفارسي رضي الله عنه في القصة المشهورة: إنه لم يبق على وجه الأرض أحد. لأن صاحب إيلياء أحاله إلى صاحب دمشق ، وصاحب دمشق أحاله إلى صاحب بصرى، كل يحيله إلى الآخر، فقال له آخرهم: ما بقي على ظهر الأرض أحد، ولكن نبي آخر الزمان قد ظهر. فبفناء هؤلاء وانقراضهم يظهر نبي آخر الزمان، وهو في الفرع الآخر فرع إسماعيل عليه السلام، وأمته هي الأمة المصطفاة.
      والحاصل أن الأمن الذي ينقل صاحبه عن دائرة الإسلام يأتي ممن لا يؤمنون بالآخرة، وعلى رأسهم أولئك اليهود وأهل الكتاب قبحهم الله، الذين ظنوا أن الله لا يعذبهم إلا أياماً معدودات، ولهذا يأمنون من عذاب الله، ولا يخافون من عقوبة الله تبارك وتعالى، ويظنون أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولهذا رد الله تبارك وتعالى عليهم عندما قالوا: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ))[المائدة:18] فقال تعالى: (( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:18]، فلم يعذبكم بذنوبكم إن كنتم أبناء الله وأحباءه؟! وها أنتم تعذبون في الدنيا وستعذبون في الآخرة كذلك، فليس الأمر كذلك، (( بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ))[المائدة:18]، وهذا نقض ونسف كامل من الأساس لدعوى شعب الله المختار التي يدعيها هؤلاء الذين غفلوا عن الله وعن اليوم الآخر، وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمناً منهم من عقوبة الله، زاعمين أن عذابهم لن يكون إلا كذلك إن عذبوا، نسأل الله العفو والعافية.
    2. الجهل بالله والغفلة والغرور

      والسبب الثاني من أسباب الأمن المذموم: الجهل بالله، أو الغفلة أو الأماني أو الغرور، وهذه كلها يجمعها قوله تعالى: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ))[النساء:123] يعني الأماني الباطلة، وهي التي جاءت في الحديث على ما فيه من ضعف، ولكن المعنى صحيح إن شاء الله، وهو: ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ).
      وقد سبق أن ذكرنا طائفة كبيرة وجملة طويلة مما أورده المفسرون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة فمن بعدهم في قوله تبارك وتعالى: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ))[النساء:123] عندما تحدثنا عن السبب الرابع من موانع إنفاذ الوعيد.
      يقول رحمه الله تعالى: (أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطأ ويرجو رحمة الله بلا عمل؛ فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب) وهذا هو الجهل بالله، وسيأتي في كلام الحافظ ابن رجب -إن شاء الله تعالى- ما يؤكد ذلك، أي: الجهل بالله وعدم تقديره حق قدره، ولهذا قال بعض السلف: (لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت). فمن يقدر الله حق قدره لا يعصيه، بل يستحي منه.
      فمن قدر الله تعالى حق قدره عظم شأنه، ومن ثم تعظم في عينيه حرمات الله وتعظم في عينيه شعائر الله وتعظم في قلبه وفي حسه وفي وجدانه أوامر الله عز وجل وحدود الله، فلا يتعدى حدود الله ولا ينتهكها ولا يستهين بشعائر الله، وهكذا حال المؤمن الذي عرف الله تبارك وتعالى.
  3. وجوب الخوف من عذاب جهنم

     المرفق    
    وللحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى كلام نفيس لا بأس بأن نأتي على طائفة منه في كتابه المفيد النافع كتاب التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار ، وهو -رحمه الله تعالى- لا يخرج عن كلام ابن القيم ، ولكن فيه بعض التفصيل، ولأننا ذكرنا كلام ابن القيم فيما سبق آثرنا هنا أن نأتي بكلام الحافظ ابن رجب رحمه الله.
    يقول رحمه الله تعالى: (الخوف من عذاب جهنم لا ينجو منه أحد من الخلق) نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا وسائر إخواننا المسلمين منها، فلا يجوز لأحد أن يدعه (وقد توعد الله تبارك وتعالى خاصة خلقه على المعصية)، فما توعد الله سبحانه وتعالى المذنبين والمجرمين فقط. (قال الله تعالى: (( ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ))[الإسراء:39]، وقال في حق الملائكة المقربين: (( وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ))[الأنبياء:29])، وقال في حق الرسل: (( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ))[الزمر:65].
    فهذا الوعيد جعله الله تبارك وتعالى لخاصة خلقه من الأنبياء والرسل الكرام -ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم- والملائكة، فلا يأمن -إذاً- أحد من الوعيد.
    قال رحمه الله تعالى: (وثبت من حديث عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال: ( فيأتون آدم ... ) وذكر الحديث، وقال: ( فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه أمرني بأمر فعصيته، فأخاف أن يطرحني في النار، انطلقوا إلى غيري، نفسي نفسي ) وذكر في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى مثل ذلك، كلهم يقول: إني أخاف أن يطرحني في النار).
    أي: أنهم يذهبون إلى أبينا آدم عليه السلام؛ لأنه أول الخلق وأبوهم ومقدمهم من ناحية السن والوجود، وبعده يذهبون إلى أولي العزم من الرسل، وكل واحد من هؤلاء الرسل الكرام يقول: إني أخاف أن يطرحني في النار، نفسي نفسي. لا يسأل الله سبحانه وتعالى شيئاً غير ذلك، حتى يأتوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: ( أنا لها، أنا لها ) صلوات الله وسلامه عليه.
    فهذا دليل على أن الخوف من النار يجب أن يكون عند كل أحد حتى من كان هذا حاله وهذا شأنه.
  4. ما أثر عن بعض السلف من تغليب الخوف أو المحبة وما يمكن حمله عليه

     المرفق    
    وبعد أن ذكرنا حال الخوف، وأنه لا بد من أن يكون العبد خائفاً، وأنه لابد من أن يستوي عنده الخوف والرجاء، نرجع فنقول: إن هناك طائفة من محمودي الأمة ومن فضلائها ومن أهل الخير والعبادة فيها غلب عليهم جانب الخوف، وهناك طائفة غلب عليهم جانب الرجاء، وهناك طائفة من الأمة غلب عليهم جانب المحبة، ويدخل من هذا الباب الزنادقة والمرجفون والمفسدون، ومنهم زنادقة الصوفية المسمون بالفلاسفة الروحانيين، كما في كتاب خشيش بن أصرم وغيره من كتب السلف المتقدمة في الفرق، فيأتون ويدخلون من باب المحبة ويستشهدون بما جاء عن السلف في الكلام عن المحبة، والخوارج الذين عبدوا الله بالخوف يأتون بكلام من كلام السلف أيضاً ويستدلون به، ولذلك كان مرداس أبو بلال من التابعين، وكانت الطوائف كلها تدعيه كما يذكر المؤرخون في ترجمته، فالخوارج يدعونه، وأهل السنة يدعونه، وغيرهم يدعونه؛ لأن العادة أن كل من كان له شهرة أو مكانة أو مقام أو ذكر حسن تحاول كل طائفة أن تصرفه إليها وتأتي ببعض أقواله التي تجذبه إليها لتتقوى وتتكثر به، وهذا ملحظ قديم فيمن يريد أن يتكثر، وأغلب الناس هذا شأنهم.
    فعندنا نماذج من السلف في كل باب من الأبواب الثلاثة، فأنموذج الذين تكلموا في المحبة وحدها مروي عن وهب بن منبه ، وأنموذج الذين نسب إليهم أنهم غلب عليهم جانب الخوف مروي عن عطاء السلمي رحمه الله، وأنموذج تغليب جانب الرجاء -مع أنه يقتدى به في الخير، وله -إن شاء الله- خير وفضل- هو يحيى بن معاذ الرازي ، وليس من الصوفية الخلص، ولكن كان صاحب عبادة وصاحب خير وفضل، وإنما برز عنده وغلب عليه هذا الجانب، ولا نريد هنا أن نحكم على هؤلاء الثلاثة، ويمكن أن نعتذر لهم عن خطئهم، ولا نقرهم على الخطأ، ولن نعتذر أبداً لمن خالف السنة واقتدى بأحوالهم فغلب عليه جانب من هذه الجوانب.
    ويجاب عما نسب إلى من كان من أهل الخير والفضل والعبادة ومع ذلك غلب جانب المحبة بما أجاب به الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، فقد قال: (فأما ما يذكر عن بعض العارفين من عدم خشية النار؛ فالصحيح منه له وجه سنذكره إن شاء الله.
    قال ابن المبارك : أنبأني عمر بن عبد الرحمن بن مهدي ، سمعت وهب بن منبه يقول: قال حكيم من الحكماء: إني لأستحي من الله عز وجل أن أعبده رجاء ثواب الجنة -أي: فقط- فأكون كالأجير السوء إن أعطي عمل وإن لم يعط لم يعمل) يعني: أستحي من الله أن أكون مثل أجير السوء، إن أعطي الأجرة عمل وإلا لم يعمل، وهذا الكلام سنرد عليه.
    قال: (وإني لأستحي من الله أن أعبده مخافة النار -أي: فقط- فأكون كعبد السوء، إن رهب عمل، وإن لم يرهب لم يعمل)، فعبد السوء إن خاف من سيده عمل، وإن لم يرهب منه لم يعمل، يقول: أنا لا أريد أن أكون كأجير السوء ولا أريد أن أكون كعبد السوء.
    قال: (وإنه يستخرج حبه مني ما لا يستخرجه مني غيره) يعني: أن حب الله يستخرج مني من الطاعات والإقبال ما لا يأتي به الخوف ولا الرجاء.
    فهذا ليس فيه نفي وإلغاء للخوف والرجاء، لكن فيه تغليب لجانب المحبة.
    يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: (وفي تفسير لهذا الكلام من بعض رواته وهو أنه ذم العبادة على وجه الرجاء وحده، أو على وجه الخوف وحده، وهذا حسن).
    ثم أتى بكلام بعض السلف الذي سوف نذكره إن شاء الله فيمن عبد الله بالرجاء وحده أو بالخوف وحده أو بالحب وحده، ثم قال: (وكلام هذا الحكيم يدل على أن الحب ينبغي أن يكون أغلب من الخوف والرجاء).
    إذاً: يعتذر لهؤلاء بأنهم كانوا يرون أن الحب يكون أغلب.
    قال: (وقد قال الفضيل بن عياض) وهو المعلومة منزلته ودرجته في العبادة والنسك والزهد والرغبة في الآخرة، قال: (المحبة أفضل من الخوف. ثم استشهد بكلام هذا الحكيم الذي حكاه عنه وهب ، وكذا قال يحيى بن معاذ : حسبك من الخوف ما يمنع من الذنوب، ولا حسب من الحب أبداً).
    فهؤلاء رجحوا جانب الرجاء أو جانب المحبة، ولم ينفوا الخوف من الله أبداً، يقولون: يكفيك من الخوف ما يمنعك من الذنوب، لكن الحب لا يكفيك منه شيء، فحب الله، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب المؤمنين، وحب الطاعات مهما بلغ لا يقف عند حد.
    والصحيح أن نقول: بقدر ما تحب يجب أن تخاف وترجو، فلا يزداد الحب ويقصر عنه الخوف أو يقصر عنه الرجاء، فكلما تعمقت في الحب فليتعمق معه أيضاً الخوف والرجاء.
    قال رحمه الله تعالى: (فأما الخوف والرجاء) يعني بغض النظر عن المحبة (فأكثر السلف على أنهما يستويان، ولا يرجح أحدهما على الآخر إلا عند المرض وعند الموت) وهذا -إن شاء الله- سنتعرض له فيما بعد، قال: (قاله مطرف و الحسن) يعني مطرف بن عبد الله بن الشخير والإمام الحسن البصري رحمه الله. (وأحمد وغيرهم، ومنهم من رجح الخوف على الرجاء، وهو محكي عن الفضيل و أبي سليمان الداراني)، وأبو سليمان الداراني كان يضرب به المثل بين أهل الشام ؛ لأنه بعد عصر كبار التابعين.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.