المادة كاملة    
إن من رحمة الله تعالى الواسعة بالمؤمنين المقصرين أن جعل لهم موانع من دخول جهنم؛ ومن ذلك القنطرة التي تؤخذ فيها حقوق أهل الجنة، ويقتص فيها لبعضهم من بعض، ومنه شفاعة الشافعين لأهل الكبائر، وفوق كل ذلك رحمة أرحم الراحمين وعفوه تكرماً؛ فمن لم تدركه هذه الرحمة الواسعة بالعفو كان كير جهنم له بالمرصاد ليصفو إيمانه ويطهر من دنيء ما ارتكبه من جرائم.
  1. التكفير والتهذيب للمؤمنين على القنطرة بين الجنة والنار

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب التاسع: ما ثبت في الصحيحين (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة).
    السبب العاشر: شفاعة الشافعين كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها.
    السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، كما قال تعالى: (( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]، فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه؛ فلا بد من دخوله إلى الكير ليخلص إيمانه من خبث معاصيه، فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، بل من قال: لا إله إلا الله، كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه، وإذا كان الأمر كذلك امتنع القطع لأحد معين من الأمة غير من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، ولكن نرجو للمحسنين ونخاف عليهم]
    .
    يقول رحمه الله: (السبب التاسع: ما ثبت في الصحيحين)، والحديث ليس في الصحيحين ، وإنما هو في صحيح البخاري وفي مسند الإمام أحمد ، وهذا موضع من مواضع -ربما تصل إلى عشرة أو قريب ذلك- يكون الخطأ فيها في عزو الحديث إلى الصحيحين أو أحدهما، فلعله راجع إلى الشارح رحمه الله أو من ينقل عنه، والغالب أنه ينقل عن ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، فيكون الوهم قد جاء من أن الشيخ أو الإمام الحافظ أو من نقل عنه كتب ذلك من حفظه، وقد يكون تصحيفاً، وقد يكون الخطأ في الطباعة.
    فالحديث ليس في الصحيحين ، إنما هو في البخاري ، فتكون العبارة: (ما ثبت في الصحيح أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار).
    1. خطر المظالم المتعلقة بحقوق العباد

      وفي هذا تأكيد وتغليظ فيما سبق الحديث عنه من حقوق العباد، وهو الديوان الذي لا يترك الله تبارك وتعالى منه شيئاً، فحقوق العباد لا بد من أن يردها الإنسان إما في الدنيا وإما في الآخرة، وقد تقدم ذكر هذا، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين : ( من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها )، هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال أو شيء فليتحلله منها اليوم في الدنيا بأن يرد إليه مظلمته، أو بأن يطلب منه أن يعفو عنه وأن يحله منها قبل ألا يكون دينار ولا درهم، فيوم القيامة لا دنانير ولا دراهم، وإنما هي الحسنات، فيؤخذ من حسناته، فإن كفت وإلا أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار، نسأل الله العفو والعافية، وهذا كاف في أن ينزجر المسلم عن حقوق إخوانه المسلمين في الأعراض أو الأموال، وأشد من ذلك وأعظم الدماء؛ ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أول ما يقضى فيه يوم القيامة بين الخلائق في الدماء )، فالدماء أمرها عظيم، وكذلك الأعراض، وكذلك الأموال.
      فلا بد للمسلم من أن يحتاط وأن يتنبه لهذا الخطر العظيم، ولهذا الباب الكبير من أبواب البلاء، والسبب الذي هو من أسباب نزول العقوبة، فلا يجعل للشيطان عليه مدخلاً، بل يحتاط أولاً لئلا يقع منه مظلمة في حق أحد من المسلمين، وقل من ينجو من ذلك، فإن وقع فليتحلل من صاحبه، فإن لم يفعل ذلك فإنه يكون المفلس الذي ورد ذكره في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه: ( أتدرون من المفلس؟ ).
      وذلك من باب التربية والتنبيه على أن الناس لهم موازين ولهم معايير ولهم مصطلحات، ولكن هناك ما هو أولى بهذا الاسم وبهذا المصطلح، وهذا نوع من أنواع التربية اللطيفة الذكية، فالناس دائماً يتعارفون على أمور وعلى أسماء وعلى مصطلحات، فعند جميع الناس المفلس الذي لا درهم له ولا متاع، هكذا يظنون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة، ويأتي وقد شتم عرض هذا، وقذف هذا وأكل مال هذا )، فيأتي أهل الحقوق لأخذ حقوقهم منه، فلا يزالون يأخذون منه حتى تفنى الجبال من حسناته، فإن كفت وإلا أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، نسأل الله العفو والعافية.
      وهؤلاء القوم أهل القنطرة هم نوع آخر كما يظهر، فهذه حالة أخرى غير موقف الحساب والميزان وإعطاء الحقوق، فكأن هذه أمور أخف من تلك، فهي مما يقع بين أناس حسناتهم راجحة -بإذن الله- وكتب الله سبحانه وتعالى لهم السعادة والنجاة، لكن بينهم مظالم، فلا يريد الله تبارك وتعالى أن يدخلوا الجنة حتى يهذبوا وينقوا؛ كما قال تعالى: (( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ))[الحجر:47]؛ إذ لو دخل الإنسان الجنة وما يزال في قلبه على أخيه شيء أو كان عنده مظلمة؛ لكان هذا منغصاً لكمال النعيم؛ لأن الإنسان لو كان في أعظم نعيم ورأى من يشاركه فيه ممن بينه وبينه عداوة أو بغضاء لكان ذلك مما ينكد ويكدر وينغص عليه هذا النعيم، لكن أفضل شيء في مثل هذه الحالة هو أن يعفو وأن يصفح وأن يتحلل، فإذا ذهب ما في القلوب وزال هذا السبب، كان تمتعه بهذا النعيم أفضل، وهذا أمر مشاهد فيما جعله الله تبارك وتعالى في هذه الدنيا من أسباب الفرح؛ فإن الناس في الدنيا يفرحون في المناسبات الطيبة كالأعياد أو الزواج أو ما أشبه ذلك، فكيف يكون حال الإنسان إذا شاركه في عيده أو في فرحه بأمر ما من بينه وبينه نوع من العداوة؟! وهذا حال الدنيا، أما في الآخرة فإن هناك كمال النعيم، وكمال النعيم لا يكون إلا في الجنة، ومن استكمال ذلك ألا يكون في قلب أحد من أهل الجنة على الآخر غل أو حقد أو عداوة، بل تطهر وتنقى هذه القلوب جميعاً، فتدخل في دار الصفاء والنقاء صافية نقية.
      فهذه هي المناسبة الواضحة في هذا الأمر؛ ولذلك فإن إدخاله هنا في ضمن موانع دخول النار ليس مما اتفق عليه العلماء الذين كتبوا في هذا الموضوع، بل بعضهم على ما فعل الشيخ، وبعضهم لم يجعلوا ذلك من موانع دخول النار؛ لأن هذا في حق أهل الجنة فيما بينهم.
      لكن الشارح رحمه الله راعى أمراً، وهو أن هذا يكون قبل دخول الجنة في قنطرة بين الجنة والنار، فرأى أنه لو لم تكن هذه القنطرة ولو لم يكن هذا القصاص في هذا الموضع فلربما كان ذلك داعياً لأن يدخل أحدهم النار ولو مساً خفيفاً، فهذا وجه إدخال الشارح رحمه الله تعالى لهذا السبب وجعله سبباً تاسعاً من أسباب منع دخول جهنم.
    2. ذكر القنطرة وما يكون فيها

      فأول ما نفهم من هذا الحديث أن المؤمنين هنا هم الذين يستحقون دخول الجنة، وأكد هذا وبينه فقال: (إذا عبروا الصراط)، ومعلوم أنه لا يعبر الصراط إلا من نجا؛ فإن الهالكين تخطفهم كلاليب -نسأل الله العفو والعافية- فيقعون في النار، سواءٌ من كان منهم من أهلها الخالدين المخلدين فيها، أو من كان ممن شاء الله تبارك وتعالى أن يعذب فيها ويطهر ثم يخرج منها. فالمقصود أن هذا في حق من كان من أهل النجاة من النار، فقد جاوزوا الصراط، فلا خوف عليهم الآن من دخول النار، ولكنهم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، وهذه القنطرة هي المحطة الأخيرة؛ لأنه بعدها لا يكون إلا الجنة، وليس فيهم -إن شاء الله تعالى- من يدخل النار، ولكن هي عبرة وعظة للمؤمنين في الدنيا، وهي تنقية وتطهير لهم في الآخرة، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لم يجعل الجنة ولم يكتبها إلا لمن يلقاه نقياً خالصاً من الذنوب، وهؤلاء القوم ليس لهم ذنوب تجعلهم من أهل الهلاك وممن يدخل النار أو يستحقها، لكن بقي أمر آخر، وهو آخر ما ينقى منه الإنسان، وهو أن هؤلاء -وهم كلهم من أهل النجاة ومن أهل الجنة- كان بينهم مظالم، فلهذا يوقفون على هذه القنطرة فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فيتم تهذيبهم وتنقيتهم بهذا. وهذا واضح، والشاهد منه أنه جعل هذا أحد الموانع من دخول النار، فكأنه قال: لو لم يهذبوا ولو لم ينقوا لربما كان ذلك موجباً لدخولهم النار، وإن كان هذا -في الحقيقة- إنما يكون بعد أن يكتب الله تبارك وتعالى لهم النجاة.
  2. امتناع نفاذ الوعيد بشفاعة الشافعين

     المرفق    
    وأما السبب العاشر فهو شفاعة الشافعين.
    وقد تقدم فيما مضى بالتفصيل، وتحدثنا عن معنى الشفاعة، وألمحنا إلى شروطها، وتحدثنا عن الفرق التي خالفت فيها، والمقصود هنا في هذا الموضع هو بيان ذلك؛ لأن الفقرة التي نحن بصدد شرحها هي قول الطحاوي رحمه الله تعالى: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم ولا نقنطهم).
    1. مخالفة الخوارج والمعتزلة لأهل السنة في الشفاعة لأهل الكبائر

      فالقضية هنا هي نفس المشكلة التي تعرضنا لها عندما تحدثنا عن الشفاعة، وهي مشكلة من أنكر الشفاعة لأهل الكبائر وللمسيئين، والفرقتان اللتان أنكرتا ذلك الخوارج و المعتزلة ، وهم لا ينكرون الشفاعة العظمى في الحشر لفصل القضاء؛ لأن الخلائق تجأر وتصرخ وتذهب في أول الأمر إلى آدم، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الخلائق كلهم يريدون أن يفصل الله سبحانه وتعالى بين الناس، فيدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، يريدون الفصل في هذا الموقف المهيب الرهيب، حيث تدنو منهم الشمس مسافة ميل، ويلجمهم العرق ويشتد بهم الكرب، فيجدون النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يعتذر منها كل هؤلاء؛ فيقول: ( أنا لها أنا لها ) صلوات الله وسلامه عليه، فيكون سجوده تحت العرش ويثني على ربه تبارك وتعالى ويحمده بمحامد عظيمة، يفتح الله تعالى بها عليه في تلك الساعة، ثم يقال له: ( ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع )، وهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه المبين: (( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ))[الإسراء:79]، هذه هي الشفاعة العظمى، وهذا هو الذي نسأل الله تبارك وتعالى له أن يعطيه، ويؤتيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد كل أذان.
      هذه الشفاعة العظمى، وهذا المقام المحمود لكونه لا يختص بأصحاب الكبائر ولا بطائفة من هذه الأمة لم تختلف فيه الطوائف، اتفق عليه المسلمون؛ لأن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم في ذاته؛ لكونه نبياً رسولاً، فهذه لا يناقشون فيها.
      إنما خلاف الخوارج و المعتزلة الذي دار بينهم وبين أهل السنة في مسألة مرتكبي الكبيرة من هذه الأمة، وهذا موضوع آخر.
      فالشفاعة العظمى ليست موضع خلاف، بل متفق عليها بين طوائف الأمة وفرقها، أما المقصود هنا في موانع دخول النار فهو الشفاعة لمن استحق العذاب واستحق دخول النار.
      وهناك نوع آخر من أنواع الشفاعة لا يدخل هنا، وهو الشفاعة لمن تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وأهم من هذا وأولى الشفاعة في الذين دخلوا النار، ولا تدخل في موضوعنا هنا؛ لأن الكلام عن موانع دخول النار، فالشفاعة التي تكون لمن داخل النار ليخرج منها ليست بداخلة؛ لأن هذا قد دخل، وإنما نتكلم عمن لم يدخل، وإن كان في ذلك رد على الخوارج وعلى المعتزلة ، ولا شك في ذلك، لكننا نتكلم عن حالة أخرى، وهي أن يكون من أهل الوعيد، ومع ذلك لا يناله الوعيد أما أن يناله الوعيد فيدخل النار ثم يخرج أو لا يخرج؛ فهذا محل خلاف؛ ولهذا تكلم الشارح رحمه الله عن حديث الشفاعة، وبين أنه إنما لم يرو كاملاً أو اقتصر بعض الرواة أو بعض المحدثين أو بعض الأئمة على بعض ألفاظه دون بعض؛ لأن أصله في الشفاعة العظمى ثم ينتهي بالشفاعة الأخيرة، وهي أن يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكلتا الشفاعتين مذكورتان في الحديث، فاقتصر بعض الأئمة على ذكر الشفاعة الأخرى، أو روي الحديث بألفاظ لم يذكر فيها إلا النوع الأخير؛ لأن المقام مقام الاحتجاج على المعتزلة وعلى الخوارج ، فلا نحتج عليهم بما هم موافقون لنا فيه، وهو الشفاعة العظمى، بل نحتج عليهم فيما يخالفون، وهو أنهم ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر، فنقول: إذا ثبت أن من دخل النار يخرج منها؛ فما المانع في ألا يدخلها من استحق دخولها، فهذا أهون وأخف؟!
      أما عندهم فالمسألة لا وسط فيها، فأهل النار مخلدون فيها جميعاً العصاة منهم والكفار، وهذا هو المذهب الذي خالفوا به أهل السنة والجماعة .
      فموضوعنا هنا في موانع دخول النار، فلا كلام لنا في الشفاعة العظمى ولا في الشفاعة التي هي إخراج من دخل النار، وإنما نتكلم فيمن هو من أهل الكبائر ومن أهل الوعيد ولكن لا ينفذ فيه الوعيد بسبب الشفاعة.
    2. الأدلة على حصول الشفاعة لأهل الكبائر

      والدليل على هذه الشفاعة، وعلى أن من أهل الكبائر من يستحق دخول النار ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع له فلا يدخلها هو الحديث الصحيح من طرق عدة: ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )، وليس المقصود أن غيرهم لا شفاعة لهم، لكن هم أحق الناس بها، فأهل الشرك لا تنالهم الشفاعة مطلقاً، كما قال تعالى: (( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ))[الأنبياء:28]، ولا يرضى الله تبارك وتعالى أن يشفع للمشركين، فلا يشفع فيهم أحد، وأما الصغائر فمغفورة إن شاء الله تعالى، فيبقى من هو أحوج إلى هذه الشفاعة، وهم أهل الكبائر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: ( لكل نبي دعوة مستجابة ) وهذا فضل وكرم من الله تبارك وتعالى أنه جعل لكل نبي دعوة مستجابة، وهم أحق الناس وأولى الناس بأن يكرمهم الله على ما قاموا به من البيان والدعوة والصبر والهداية للعالمين، فجعل الله تعالى لكل نبي دعوة مستجابة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ) وهذا من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم، وهو من كرم الله عز وجل ومن إكرامه لهذه الأمة مع إكرامه لنبيها صلى الله عليه وسلم فادخر صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته إلى يوم القيامة ليشفع لأهل الكبائر، قال: ( فهي نائلة -إن شاء الله- من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً ).
      وهذا يبشر بأن ما دون الشرك مشفع فيه، وأعظم الذنوب دون الشرك هي الكبائر؛ لأن الذنوب على ثلاث مراتب: إما الشرك، وإما الكبائر، وإما الصغائر.
      فهذه الشفاعة يجعلها الله سبحانه وتعالى ويعطيها لنبيه صلى الله عليه وسلم، فيكون من عظيم فضله على هذه الأمة؛ فلذلك يكون الذي تناله هذه الشفاعة ممن استحق دخول النار ومع ذلك لا يدخلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع له.
      فحديث: ( لكل نبي دعوة مستجابة )، وحديث ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) يدلان على هذا النوع من أنواع الشفاعة التي تدل على ما أورده الشارح رحمه الله تعالى في هذه الفقرة.
      وأما شفاعته لأهل الجنة فليس هذا موضعها، سواءٌ شفاعته لهم في أن يدخلوها، أو شفاعته في رفع درجاتهم، فنحن نتكلم عمن يستحق الوعيد ومن كان يستحق دخول النار؛ فخرج بذلك الجهنميون، فالمقصود هم أهل الكبائر الذين يستحقون دخول النار ولكنهم لا يدخلونها استجابة لشفاعته صلى الله عليه وسلم، أما من تساوت حسناتهم وسيئاتهم فهؤلاء لا نجزم بأنهم من أهل الوعيد.
      فموضوع البحث هو مانع إنفاذ الوعيد، كما قال الشارح رحمه الله تعالى: (فإن فاعل السيئات يسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة)، يعني أن مرتكب الكبائر والخطايا والذنوب تسقط عنه عقوبة جهنم، فلا يدخل النار بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة، وهذه العشرة التي أوصلها إلى أحد عشر سبباً كلها فيمن كان مستحقاً لدخول النار ولكن لم ينفذ فيه هذا الوعيد.
  3. امتناع نفاذ الوعيد بعفو أرحم الراحمين

     المرفق    
    (السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة).
    لأنه ليس من فعل العبد ولا من فعل العباد الآخرين، بل هو محض فضل الله تبارك وتعالى، وهو عفو الله عمن ارتكب كبيرة، فيتجاوز الله تبارك وتعالى عنه فلا يدخل النار مع أنه كان مستحقاً لها من غير شفاعة، كما قال تعالى: (( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]، فوجه الاستدلال بهذه الآية أن أولها قوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48] فأخبر الله تعالى بأن الشرك لا يغفره، وقال تعالى: ((( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ))[المائدة:72]، فبقي ما دون الشرك، ويشمل الكبائر، وقد قال تعالى: (( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48] أي: يعفو ويصفح ويتجاوز ولا يؤاخذ من غير شرط شفاعة ولا غيرها.
    فهذا الإطلاق وهذا العموم يدخل فيه أصحاب الكبائر بشرط التوحيد، فإذا قلنا: ما دون الشرك يغفر؛ فمعنى ذلك أنه من انتفى عنه الشرك فإنه من أهل التوحيد.
    ومن الأدلة على ذلك (أن العبد المؤمن يدنيه الله تبارك وتعالى يوم القيامة فيضع عليه كنفه ويستره، ويقرره بذنوبه: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم يا رب! فيقول: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم).
    فهذا رجل قد جاء بخطايا وجاء بكبائر، ولكن الله تبارك وتعالى تجاوز عنه، وهذا هو الموقف الذي قال فيه بعض العلماء: واسوأتاه وإن غفر. واسوأتاه وإن غفر، وذلك حياء من الموقف ومن التقرير أن يقال له: فعلت وفعلت؛ لأن المؤمن الذي يستحي من الله لا يريد أن يلاقي الله بذلك، وإن كانت النهاية هي العفو والمغفرة والستر، لكن هؤلاء الذين قالوا مثل هذا القول قوم يريدون أن يكونوا ممن يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، يمرون على الصراط كالبرق الخاطف، وهذه درجة عالية.
    ومن الأدلة حديث: ( يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ).
    فهذا الحديث مضمونه هو نفس مضمون الآية، ومدلوله مدلول آية: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48].
    وهناك حديث أقوى من هذا ثبوتاً وأوضح منه، وهو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قال: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ... إلى آخره، قال: ( فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله ) يعني: لم يعاقب به في الدنيا ولم يقم عليه الحد ( فهو إلى الله، إن شاء عفى عنه وإن شاء عاقبه ) فهذا دليل أصح ثبوتاً؛ لأنه في الصحيحين ، وكذلك صريح في مقتضى ومضمون المسألة كالآية؛ لأنه ذكر فيه البيعة على عدم السرقة وعدم الزنا.
    وأما حديث أبي ذر رضي الله عنه: ( وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق رغم أنف ‎أبي ذر ) فليس صريح الدلالة؛ لاحتمال أن يدخل النار ثم يخرج منها، فهو دليل في الجملة لـأهل السنة والجماعة على الخوارج و المعتزلة ، ولا شك فيه.
  4. دخول عصاة الموحدين النار

     المرفق    
    ثم قال رحمه الله بعد أن ذكر الموانع الأحد عشر هذه: (فإن كان -يعني العبد- ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه، فلابد من دخوله إلى الكير) فهذا عبد أجرم وعظم جرمه -نسأل الله العفو والعافية- ولم توجد فيه الموانع، فلم يلق الله بتوبة ولا استغفار ولا حسنات مكفرة، ولا طهره الله تعالى بمصائب وذنوب، ولا طهره الله بعذاب القبر ولا بأهوال يوم القيامة، ولم تنفعه شفاعة أو دعوة أو قربات من المسلمين؛ لأن ذنبه أعظم، وميزان الخطايا والسيئات أعظم من هذه الموانع كلها، فهذا رجل غلبت آحاده عشراته، ولم يحصل على أي شيء من هذه الفضائل، وهي موانع عظيمة جداً، وكلها قد فاتته؛ فهذا لا بد من دخوله إلى الكير، يعني: إلى النار، وهذا استعارة من المؤلف رحمه الله.
    قال: (فلا بد من دخوله إلى الكير ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه، فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان)، فهذا ذنبه أعظم وأكبر من أن يطهر فيجازى بذلك، نسأل الله العفو والعافية، فلا يزال يطهر وينقى فيها حتى يصفو إيمانه من خبث الذنوب والدرن الذي كان على قلبه إلى مقدار ما يبقى في قلبه من إيمان، فينجو من بقي في قلبه ذرة من إيمان قبل من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، ومن كان كذلك ينجو قبل من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، لا يظلم الله تبارك وتعالى أحداً، فيؤخذ بقدر ذنوبه وبقدر أعماله.
    قال رحمه الله تعالى: (بل من قال لا إله إلا الله كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه)، وهذا يعني أن كل من قال: لا إله إلا الله صادقاً في ذلك لا بد من أن في قلبه شيء من الإيمان وإن قل، حتى لو لم يصل إلا إلى أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة فإنه لا يظلم أبداً، فيطهر ويمحص من الذنوب في النار حتى يخلص له هذا الإيمان وإن كان ضئيلاً، فيخرج بإذن الله فيكون من أهل النجاة ومن أهل الجنة.
  5. موقف أهل السنة والجماعة من الشهادة بالجنة أو النار لمعين

     المرفق    
    قال رحمه الله تعالى: (وإذا كان الأمر كذلك امتنع القطع لأحد معين من الأمة غير من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة).
    يعني: إذا كان الوعيد له موانع قد تحول دون إنفاذه، فلا نقطع نحن ولا نجزم لأحد معين من هذه الأمة بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار، فلا نقول: فلان هذا من أهل النار؛ لأنه زنى وسرق وفعل، بل نقول لقائل ذلك: وما أدراك أن يكون من أهل التوبة أو الاستغفار، أو أن له حسنات ماحية، أو نالته مصائب مكفرة، أو نالته الشفاعة أو دعاء المؤمنين، أو طهر بعذاب القبر؟! فلذلك نقول: لا نشهد ولا نقطع ولا نجزم لمعين مهما كانت ذنوبه ما دام من أهل التوحيد ومن أهل الإيمان في ظاهر حاله بأنه من أهل النار.
    فإن قيل: ماذا نفعل؟ فالجواب: نرجو للمحسنين وللمتقين ولأهل الخير والصلاح والفلاح، ونثني عليهم بذلك، كما في حديث الجنازة حين مر بها فأثنوا خيراً، فنرجو لهم ذلك ونثني عليهم به وندعو الله سبحانه وتعالى لهم بالخير، ونخاف على المجرم والمسيء والمذنب، لكن رجاءنا لهذا المحسن لا يجعلنا نجزم له بالجنة، وخوفنا على هذا المجرم لا يجعلنا نجزم له بالنار، هكذا عقيدة أهل السنة والجماعة ، فنرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو الله تعالى عنهم ويدخلهم الجنة برحمته؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنه لن يدخل الجنة أحدٌ بعمله! قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته ).
    إذاً: السبب -في الحقيقة- هو الرحمة، فالدخول يكون بالرحمة، والأعمال أسباب لا تنكر ولا تنفى، لكنها ليست عوضاً.
    وقوله: (ولا نأمن عليهم) أي: مهما فعلوا من الطاعات ومهما كانت درجاتهم في الخير والفضل لا نأمن عليهم ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم.
    قال: (ولا نقنطهم)، فالمسيء نخاف عليه، لكن لا نقنطه من رحمة الله، بل نحثه على التوبة وعلى الرجاء وعلى الاستغفار، أما من شهد له النص بالجنة أو بالنار فهذا نشهد له كما شهد له النص، كالعشرة وكثير غيرهم، نشهد لهم بالجنة، والذين شهد لهم بالنار -نسأل الله العفو والعافية- كـأبي لهب و أبي طالب وغيرهما من هذه الأمة.
    إذاً: هناك من نجزم له بالجنة وهناك من نجزم له بالنار بمقتضى النص الصريح عليهم بأسمائهم، وأما من عداهم فعقيدة أهل السنة والجماعة ومذهب السلف الصالح أنه يرجى للمحسن الثواب ويخشى على المسيء العقاب، لكن لا نشهد لهذا ولا لهذا، ولا يقنط أيضاً أصحاب الذنوب والمعاصي.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.