المادة كاملة    
الذنوب والمعاصي تمنع المرء من سلوك سبيل المنعمين وتورده موارد الهالكين، إلا أن يكفرها مكفر يزيحها عن كاهله وينقضها عن ظهره، ومن جمل المكفرات ما يلاقيه المرء يوم القيامة من شدائد وأهوال، وما قد يصيبه من عذاب قبل الحساب لتطهيره من سيئات ارتكبها ولم يحدث لها توبة في الدنيا، ويكفي العبد يومها أن يتلقى تقريره من ربه بذنوبه في موقف عظيم لا يدانيه موقف في الحياء والخجل من الله تبارك وتعالى.
  1. بيان ما يتعلق بامتناع نفاذ الوعيد بما يحصل للمؤمنين من أهوال يوم القيامة

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب الثامن: أهوال يوم القيامة وشدائده.
    السبب التاسع: ما ثبت في الصحيحين (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة)]
    .
    السببان الثامن والتاسع هما مما يكون يوم القيامة، والشارح رحمه الله تعالى لم يرتب هذه الموانع بحسب تسلسلها أو وقوعها، فلم يتخذ ترتيباً معيناً لها، ولو أنه رتبها بحسب وقوعها أو تقاربها موضوعياً لكان ذلك جيداً، فيكون ما ذكره في السبب الثامن والتاسع مما يقع يوم القيامة عقب ما ذكره في موضوع عذاب القبر؛ لأنه -كما قلنا عند الحديث عن عذاب القبر- من مقتضى حكمة الله سبحانه وتعالى أن الناس الذين يموتون ولم يتوبوا ولم يطهرهم الله عز وجل بمصائب ومكفرات تكفر عنهم المعاصي والذنوب والخطايا قبل موتهم يعذبون بقدر ذنوبهم، فمن الذنوب ما لا يتجاوز عذاب القبر، ومنها ما يتجاوز ذلك إلى المحشر، ومنها ما يصل إلى الصراط، ومنها ما لا بد لأصحابه من أن يدخلوا النار عافاني الله وإياكم منها، ومنها ما يطول مكث أهله في النار فيكونون من آخر أهل النار خروجاً؛ لأن الداخلين في النار أيضاً على مراتب، فهم في دركات النار بحسب أعمالهم، فبعضهم يخرج قبل بعض.
    وقد تقدم أن عذاب القبر قد يكفر ذنوب أقوام، فإذا نفخ في الصور وبعث الله سبحانه وتعالى الناس للحساب يكون المرء منهم قد أخذ نصيبه وحظه من العذاب والعقوبة، فيلقى الله تبارك وتعالى وقد نقاه وطهره بما لقيه في قبره.
    مما يكون بعد مرحلة القبر ما أشار إليه في السبب الثامن، وهو أهوال وشدائد وكربات يوم القيامة، فقد تكفر بقية الذنوب والخطايا وبعدها ينجو العبد بإذن الله تعالى ويعبر الصراط ويكون من أصحاب الجنة، ممن يدخلونها ابتداء فلا يسقطون من فوق الصراط في النار، ولا تلتهمهم النار بتلك الحسك، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا وإياكم منها.
  2. بيان ما يتعلق بديمومة عذاب القبر

     المرفق    
    1. النوع الدائم من عذاب القبر

      وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح كلاماً قليلاً، ولكنه مفيد يؤيد ما سبق أن قلناه في هذا، فقد قال رحمه الله في المسألة الرابعة عشرة جواباً على سؤال: (هل عذاب القبر دائم أم منقطع)؟
      (جوابها أنه نوعان: نوع دائم، سوى ما ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين، فإذا قاموا من قبورهم قالوا: (( يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا ))[يس:52]، ويدل على دوامه قوله تعالى: (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا))[غافر:46]) أي: النار التي ذكرها الله تبارك وتعالى في حق آل فرعون، وقد تقدم في ذكر الأدلة على إثبات عذاب القبر، ودلالة الآية أن الله سبحانه وتعالى لم يستثن، وإنما قال: (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ))[غافر:46]، ففي هذا دليل على استمرار عذاب القبر إلى أن تقوم الساعة، فينتقلون من هذا العذاب الأدنى إلى عذاب أكبر منه وأغلظ وأعظم، وهو العذاب الدائم في الدرك الأسفل من النار.
      قال: (ويدل عليه أيضاً ما تقدم في حديث سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: ( فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة ) وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الجريدتين: ( لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا ) فجعل التخفيف مقيداً برطوبتهما فقط).
      يعني حديث اللذين يعذبان وما يعذبان في كبير، أي أنه كان في إمكانهما أن يحترزا على أقرب الأقوال في ذلك؛ لقوله في الأول: ( كان لا يستتر -وفي رواية: لا يتنزه- من البول ) فبإمكان الإنسان أن يتحرز من ذلك، وما الذي يمنعك من أن تستتر؟! فإذا كان الرجل -كما يفعل بعض الناس- يقضي حاجته أمام الناس فلماذا لا يستتر كما يفعل كل من رزقه الله الحياء من المسلمين؟! أو يتنزه بأن يتطهر بالماء أو بالحجارة كما شرع لنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا ليس بأمر كبير، ففي إمكان الناس أن يتحرزوا منه، ولكنهم لا يرونه مثل الزنا أو شرب الخمر أو أكل مال اليتيم أو أكل الربا، بل يرونه هيناً، لكن عامة عذاب أهل القبر منه، نسال الله العفو والعافية.
      و(أما الثاني: فكان يمشي بالنميمة)، وترك النميمة يسير، فما الذي يشغلك بالناس؟ وما الذي يجعلك تصرف وقتك وجهدك في أن تنقل لهذا عن هذا، وتنقل لهذا عن ذاك؟! أما كان لك غنى في أن تذكر الله أو تسبح الله أو تتأمل في ملكوت الله، أو تكف لسانك عن ذلك ليكون صدقة؟! إذا لم تستطع فعل ذلك فكف عن الناس شرك.
      فالحاصل أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجريدتين على قبريهما.
      وقوله: ( لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا ) فيه دلالة على أن عذاب القبر دائم، ووجه الدلالة: أنه لم يقل: لعل الله أن يقطع عنهما العذاب، وإنما يخفف عنهما تخفيفاً ما دامتا رطبتين، فإذا جفتا ويبستا عاد عليهما العذاب كما كان -نسأل الله العفو والعافية-.
      قال: (وفي حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( ثم أتى على قوم ترضخ رءوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء ) ).
      قال: (وفي الصحيح في قصة الذي (لبس بردين وجعل يمشي يتبختر فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، وهذا أيضاً مذكور في أبواب ذم الكبر والخيلاء، نسأل الله العفو والعافية، فهذا الرجل ما تكبر وتبختر من أجل قصور عالية ومناصب كبيرة وأموال طائلة وألقاب عريضة، بل لأنه لبس حلة مكونة من بردين، وكان يرى أنها جميلة، فتبختر بها في مشيته استكباراً وخيلاء، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، نسأل الله العفو والعافية، فعذاب القبر في حقه مستمر إلى قيام الساعة.
      قال: (وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: (ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة) وصاحب النعيم كذلك يفتح له باب إلى الجنة فيراها حتى تقوم الساعة.
      ولا إشكال في أن من فتح له باب النعيم يتبقى على ذلك إن شاء الله، وقد نجا وجاز القنطرة، كما أن هذا الكافر الذي يفتح له باب العذاب أيضاً يظل على ذلك إلى قيام الساعة، والحديث ليس في الكافر فقط كما ذكر هنا، بل يشمل الفاجر والمنافق، وربما شمل من عظمت ذنوبهم وكانوا في هذا يعاملون قريباً من معاملة الكفار، وإن كان لا بد من أن يتمايز الفريقان، ففي آخر الأمر يخرج الله سبحانه وتعالى من النار من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، أما الكفار الذين هم أهلها فإنهم لا يحيون فيها ولا يموتون فيها، ومخلدون فيها نسأل الله العفو والعافية.
      قال: (رواه الإمام أحمد ، وفي بعض طرقه: ثم يخرق له خرق إلى النار فيأتيه من غمها ودخانها إلى يوم القيامة).
      فهذا النوع الأول، ولا إشكال فيه، فالأدلة عليه كثيرة، ويأتي تفصيلها إن شاء الله في المبحث الخاص بذلك.
    2. النوع المنقطع من عذاب القبر

      قال: (النوع الثاني: إلى مدة ثم ينقطع).
      إذاً: هذا النوع الثاني لا يستمر عذابهم إلى النفخ في الصور وقيام الساعة، قال: (إلى مدة، ثم ينقطع فهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه، كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب).
      ولم يورد على هذا نصاً، وإنما ذلك مقتضى الحكمة ومقتضى القياس، أي: كما أن من يدخل النار يدخلها بحسب ذنوبه ومقدار عمله ثم يخرج منها ما دام من أهل التوحيد، وهذا هو الشرط الأساسي، فالمهم أن يكون من أهل التوحيد وأن يلقى الله تعالى غير مشرك به، قال تعالى: (( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ))[المائدة:72]، فهذا في حق أهل التوحيد.
      فكما أن أهل التوحيد يخرجون من النار ولا يخلدون فيها أبد الآبدين؛ فكذلك من يعذب في القبر منهم لا يخلد فيه، وإنما بقدر جرمه يعذب ثم يخفف أو ينقطع عنه العذاب.
      وقد وصل الحديث بـابن القيم رحمه الله إلى المسألة التي سبق أن عرضنا لها، وهي مسألة إهداء القربات، فيقال: (وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب حج ...) إلى آخره، يريد أن يؤكد ما سبق من أن مقتضى الحكمة ومقتضى القياس على من يدخل النار يستدل عليه أيضاً بهذا، فإنه قد يكون لديه من الذنوب ما يعذب بقدرها، فيعذب في قبره ما شاء الله أن يعذب، وربما يكون ممن يستحق بعمله وذنوبه أن يعذب في القبر عذاباً دائماً، بل ربما يستحق ما هو أكثر، ولكن الله سبحانه وتعالى ييسر له من غير عمله، فينقطع عنه العذاب بذلك، كما لو دعا له أحد واستجاب الله تبارك وتعالى له دعوته فيه، أو شفع له وقبل الله تبارك وتعالى شفاعته، أو تصدق عنه وقبل الله صدقته، أو حج عنه، ولا سيما إن كان العمل مما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث... )، فالصدقة الجارية ربما لا تكفي الإنسان في أن يتطهر قبل أن يموت، وربما لم يبدأ في استثمارها والعمل بها إلا بعد أن مات، فتكون في حياته ملكاً له ثم تصدق بها قبيل وفاته أو قبيل مرض موته فلا يزال أجرها يستمر وهو لا يزال في حاجة إلى الخير وإلى الحسنات، والله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً (( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ))[النساء:40]، وهذا مقتضى حكمته سبحانه وتعالى وعدله، (( وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ))[النساء:40]، يعني أنه يبارك ويزيد في الحسنات، بل ويؤتي من عنده من غير أن يعمل العبد، فيتكرم ويتفضل على من يشاء من عباده الصالحين، فإذا كافأ هذا الأجر ذلك الذنب انقطع العقاب وانتهى، ولا يزيد الله تعالى عليه ولا يظلمه، فيتحول صاحبه من العذاب إلى النعيم فينجو بإذن الله سبحانه وتعالى.
      وكذلك إذا كان له ولد صالح يدعو له، وهذا أيضاً يتصور، كأن يكون للرجل ولد فاسق ضال، أو صغير لا يعقل، وبعد حين من الزمن والأب المذنب يعذب في قبره أراد الله تبارك وتعالى توبة ذلك الشاب الضال فاهتدى واستقام وعرف الله وأخذ يصلي ويصوم ويدعو لأبيه ويتصدق عنه ويفعل الخير، ولا سيما الدعاء المنصوص عليه، فببركة استقامته وتقواه ونشأته في طاعة الله تبارك وتعالى ودعائه لأبيه يخفف الله تعالى العذاب أو يقطعه عن أبيه.
      وهذا من الأمور التي يجب أن يتنبه لها المسلمون، فمن الناس من لا يبالي بأبنائه من بعده، فغاية ما يهمه أن يكون لديهم الأموال والأراضي والعقارات والوظائف، ويهمه -كما يعبرون بعبارة موجزة- تأمين المستقبل، والله تعالى يقول: (( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ))[الأنبياء:1]، هذا حال أكثر الناس، حتى من يقرأ منهم كتاب الله ويعيش في بلاد الإسلام بين المسلمين، معرضون وفي غفلة عن هذه الأمور، فلم تهتم بمستقبله؟! إن مستقبلك أنت ومستقبله في الآخرة، عندما يقول: (( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ))[الفجر:24]، فهذه هي الحياة وهذا هو المستقبل، فلو أن الأب اهتم أولاً بالعمل الصالح، ومع ذلك اهتم بتربية أبنائه تربية صالحة تكون صدقة جارية من بعده، واهتم بعلم نافع من بعده وأثر حسن في العالمين وهدى يدعو إليه فيكون له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة؛ لكان له في ذلك الأجر العظيم، ولا يعني هذا أن يترك الدنيا، فنحن لا نقول: دعوا الدنيا أي اتركوها بالكلية كما قد يفهم بعض الناس، إنما نريد أن يتركوا التعلق بها، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في الصحيح-: ( فإنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فيَّ امرأتك ).
      فلا بد للإنسان أن يعلم أجر ما ينفقه على أهله، وأن يهتم بالجانب الآخر وبالأمر الأعظم والأهم، وهو ما يقدمه لهم عند الله، فإن ذلك ينفعه وينفعهم وينفع المجتمع والأمة بلا ريب.
  3. بيان مأخذ القياس في انقطاع عذاب القبر عن بعض المعذبين

     المرفق    
    ثم أخذ رحمه الله تعالى في الشروع في القياس، ومعلوم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وتليمذه ابن القيم رحمه الله ممن جمع غاية المنقول مع غاية المعقول، فبعض العلماء يبلغ الغاية في المعقول، ولكنه ينقصه جانب المنقول، وهذا لا يصح أن يسمى عالماً في الحقيقة، وإن كان قد يسمى بذلك.
    وقد كان بعض علماء الكلام بلغ بهم الحال في الضعف في الحديث ومعرفة طرقه وعلله -وكذلك التفسير- إلى حدٍ لا يكاد يصدقه الإنسان إذا علم مقامهم ومنزلتهم، وقد ذكرنا هذا فيما سبق عند الحديث عن الغزالي و أبي المعالي الجويني وأمثالهما ممن يعدون أئمة علماء في الأمة، ولكن بضاعتهم في الحديث مزجاة.
    أما الشيخان رضي الله تعالى عنهما فقد بلغا الغاية في هذا الباب، فهما في المنقول حجة، وفي المعقول لا يستطيع أحد من أهل الكلام والمنطق والجدل أن ينازلهما، فتجد ابن القيم في إغاثة اللهفان وفي مدارج السالكين وفي سائر كتبه يأتي بهذا وهذا متسقين كأفضل ما يكون الاتساق، وهكذا ينبغي لطالب العلم أن ينمي نفسه بإذن الله، فينميها على تعلم النصوص النقلية من قرآن وسنة، وعلى فهمها والتفقه فيها ومعرفة معانيها ومراميها.
    يقول رحمه الله: (وهذا كما يشفع الشافع في المعذب في الدنيا فيخلص من العذاب بشفاعته، لكن هذه شفاعة قد لا تكون بإذن المشفوع عنده، والله سبحانه وتعالى لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه).
    يعني أن هذا هو الفرق بين من يشفع عند سلاطين الدنيا وملوكها وبين من يشفع عند الملك العزيز الجبار سبحانه وتعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل في كتابه لهذه الشفاعة شرطين لا بد من أن يتحققا:
    أحدهما: الرضا عن المشفوع له، كما في قوله تعالى: (( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ))[الأنبياء:28].
    فمن لا يقبل الله تعالى الشفاعة فيه، ولا يشفع عنده فيه لا يتجرأ ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا عبد صالح ولا ولي من الأولياء على أن يشفع فيه، فلا يشفعون إلا لمن ارتضى.
    ثانيهما: إذن الله تعالى للشافع: (( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ))[البقرة:255]، فلا يستطيع أحد أن يتجرأ على أن يشفع عنده إلا بإذنه، وهذا -إن شاء الله تعالى- سنفصله في موضعه، أعني موضوع الشفاعة.
    لكن المقصود هنا أن أكثر ما يتعلق به الناس ممن لم يستقيموا ويجدوا في طاعة الله عز وجل، وضل به الكثير في الجاهلية والإسلام هو موضوع الشفاعة، حيث يظنون أنه سيشفع لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أو أقرباؤهم أو آل البيت أو الصالحون، فيتكلون على هذا، مع أن هذين الشرطين العظيمين يجب على كل مؤمن ألا يغيبا عن باله، وأن ينتبه لهما، فربما كان ممن لا يأذن الله تعالى في أن يشفع له، نسأل الله العفو والعافية، وهذا في أهل الشرك خاصة.
    يقول: (فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحم المشفوع له، ولا تغتر بغير هذا؛ فإنه شرك وباطل يتعالى الله عنه) يعني: ما يزعمه عباد القبور وأصحاب الشركيات والتوسلات الشركية.
    يقول: (لأن الله تعالى يقول: (( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ))[البقرة:255]، (( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ))[الأنبياء:28]، (( مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ))[يونس:3]، (( وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ))[سبأ:23]، (( قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ))[الزمر:44]).
  4. دلالة الرؤى والأحلام في انتفاع الموتى بأعمال صالحة تقدم إليهم

     المرفق    
    ثم ختم ابن القيم رحمه الله تعالى هذا المبحث بمسألة لا بأس بأن نذكرها، وهي الرؤى والمنامات، والرؤى ليست دلائل مستقلة، فلا يرجع إليها في أخذ الأحكام الشرعية ومعرفة الحرام والحلال، وإنما درجتها في الدين هي ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث جعلها من المبشرات، فهي مبشرات لأنها (جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)، فليست دليلاً مستقلاً، إنما هي مبشرات يأنس بها الإنسان ويستبشر، وإذا كانت الرؤى من رجل صالح، ودلت العلامات التي يعرفها أهل التأويل على صحتها؛ فإنه يعمل بها بقدرها، كما في الأمانات، كمن يموت فيرى بعض الناس هذا الميت يخبره أن لديه أمانة لفلان مثلاً، ويتفرس في هذا وينظر فيوجد كذلك، وهذا كثير، وقد عمل بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذا.
    فالمقصود أن الرؤى مبشرات، وأن التواتر حاصل في أن بعض الناس ينتفع في قبره بعمل صالح يقدم، أو يرتفع عنه العذاب أو يخفف بسبب من الأسباب في قديم الدهر وفي حديثه، كأن ييسر الله تعالى أو يقيض له من يدفع عنه دينه، أو يزيل منكراً صنعه، أو يذهب الله تعالى على يديه سبب العقوبة التي حلت به ويريد الله تعالى له الخير في ذلك.
    1. الأدلة من السنة على حصول التكفير ببعض أهوال يوم القيامة

      فالإنسان إذا فكر في هذه وجد أنها بإذن الله تعالى يمكن أن تكفي وأن تكفر عن بعض الناس، ومن أوضح الأدلة في هذا المقام الحديث الذي في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تاركي زكاة بهيمة الأنعام، وفيه أن الإبل التي لم يؤد صاحبها حق الله تعالى فيها ( تأتي يوم القيامة كأغذ ما تكون وأكثره وأسمنه وآشره ) كمثل أكثر ما تكون في الدنيا سمناً وقوةً وبدانة، ( يبطح لها بقاع قرقر )، أي: يبطح صاحبها الذي كان في الدنيا يرعاها، وانظر إلى الخسارة، (( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))[الزمر:15] ففي كل حياته كان يجمع هذه الإبل ويذود عنها ويسقيها ويرعاها ويهتم بها، ولم يؤد حق الله فيها وهو قليل، فيموت فيؤتى به يوم القيامة فيبطح لها بقاع قرقر، أي: في أرض منبسطة، وهي أسمن ما تكون وأبدن ما تكون، فتأتي جموعاً وراء جموع ( فتطؤه بأخفافها ) نسأل الله العفو والعافية ( فإذا جاءت أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) نسأل الله العفو والعافية.
      إذاً: يمتد العذاب بتارك الزكاة إلى أن يعذب بها خمسين ألف سنة، وبعد ذلك يرى سبيله، فإما من أهل الجنة وإما من أهل النار، فمثل هذا يحتمل أنه من أهل التوحيد ومن أهل النجاة وممن يدخلون الجنة ابتداءً، لكن وطأها له في الخمسين ألف سنة يكون قبل دخوله الجنة؛ لأنه قال: (فيرى سبيله) يعني: بعد هذا يرى سبيله، فهذا العذاب الذي حصل له والهول والكرب في المحشر يكون تكفيراً له ووقاية من دخول النار؛ لأنه قد يكون فيه الخير والصلاح، كأن كان يصلي أو يجاهد أو يذكر الله لكنه قصر في هذا الباب، فأهمل وسوَّف في زكاة ماله، فجاءه الموت وهو على هذه الحالة، ولم يمكن أن يطهر الله تعالى عنه بأعمال صالحة ولا بدعاء، ولم يجد من يدعو له، وكان بحكمة الله وبالميزان والعدل والقسط أنه لا بد من أن يعذب، ولكن ليس عذاباً يستمر به إلى أن يدخل النار، وإنما هو عذاب محدود بمدة الموقف في يوم كان مقداره خمسين ألف، سنة نسأل الله لنا ولكم الحفظ والحماية.
    2. ذكر بعض الرؤى لأهل الجنة أو النار من الأموات

      وذكر بعض الرؤى، منها: (ما رواه ابن أبي الدنيا قال: حدثني محمد بن الصائغ ، حدثنا عبد الله بن نافع قال: مات رجل من أهل المدينة فرآه رجل كأنه من أهل النار، فاغتم لذلك، ثم إنه بعد ساعة أو ثانية رآه كأنه من أهل الجنة -فرآه مرتين: الأولى رآه فيها أنه من أهل النار، والأخرى رآه فيها أنه من أهل الجنة- فقال: ألم تكن من أهل النار -نسأل الله تعالى أن يعافينا منها-؟! قال: قد كان ذلك، إلا إنه قد دفن معنا رجل من الصالحين فشفع في أربعين من جيرانه، فكنت أنا منهم) وليس على الله بعزيز أن يقع ذلك، فالله سبحانه وتعالى جعل بعض الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر في الدنيا وفي الآخرة، وجعل بعض الناس على العكس فنسأل الله العفو والعافية.
      فمن الناس من يكون له مثل هذا بإذن الله، وليس على الله تعالى بغريب أن يشفع رجل صالح تقي في أقربائه أو في جيرانه أو فيمن يحب، فهذا من فضل الله عز وجل.
      (قال ابن أبي الدنيا : وحدثنا أحمد بن يحيى قال: حدثني بعض أصحابنا قال: مات أخي، فرأيته في النوم، فقلت: ما كان حالك حينما وضعت في قبرك؟ قال: أتاني آت بشهاب من نار، فلولا أن داعياً دعا لي لرأيت أنه سيضربني به)، فانظر كيف أتاه آت بشهاب من نار فما حال بينه وبين أن يضربه به إلا أن داعياً دعا له، أي: أطلعه الله على أن داعياً دعا له من المؤمنين ممن شيعوه أو دفنوه أو علموا بموته، فدعا الله تعالى له فشفعه الله تعالى فيه وقبل الله دعاءه.
      وهذا يدل على الفرق بين المؤمنين وغيرهم، فالمؤمنون يعيشون وقلوبهم متعلقة مرتبطة بالآخرة، فلا ينساها المؤمن أبداً، إن قام تذكر الآخرة والقيامة والبعث والنشور، وإن نام تذكر ذلك أيضاً، وكل ما يراه أمامه يذكره بالآخرة، فإن رأى أرضاً خضراء تذكر قوله تعالى: (( كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ))[الزخرف:11]، وقوله تعالى: ((كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى))[البقرة:73]، وتذكر الموت وتذكر يوم القيامة، وكذلك إذا رأى السموات والأرض.
      ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل ويقرأ آخر الآيات من سورة آل عمران: (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ ))[آل عمران:190-191] فنزهوا الله عن أن يكون قد خلق هذا باطلاً وقالوا: (( فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ))[آل عمران:191]، فتذكروا الآخرة.
      فالمؤمن يرى هذا الكون وهذه الكواكب المتلألئة وهذا السواد العظيم الهائل ويتأمل في سعة ملك الله، وينظر إلى الأرض وما فيها وما فوقها فيعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق كل ذلك، ويعلمه، ولا يخفى عليه من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار (( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ))[الأنعام:38]، وكل دابة فإن الله تعالى يرزقها أينما كانت ويغذوها، وكل ما نسمع عنه فهو عالم، ولهذا قال: (أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ).
      والدارسون اليوم في كليات الأحياء ودراسات الأحياء يدرسون أن النمل عوالم، وكل نوع من النمل عالم مستقل بحياته وطرائقه، وأن الحشرات عالم هائل كبير، وكل نوع من الحشرات له حياة خاصة، فسبحان الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
      وفي كل شيء له آية                         تدل على أنه الواحد
      فهذا هو الفرق بين من يؤمن بالله ويؤمن بالآخرة، وبين من قال تعالى عنهم: (( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ))[النمل:66]، وقوله: (( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ))[النمل:4].
      فالأمم الغربية اليوم ومن تفرنج من أبناء المسلمين وتلقى علومه منهم زين الله لهم هذه الأعمال، فكل كلامهم في الدنيا والحضارة والتنمية والترفيه والصحة والطعام والسياحة، وكل شيء في حياتهم يغمسك في الدنيا فقط، فهم في عمىً عن الآخرة لا يفكرون فيها أبداً، وهم مع شدة حرصهم وعنايتهم بالدنيا التي بلغت الشيء العجيب لا يلتفتون إلى الآخرة في شيء، فعندهم اهتمامات بالطفولة، فمن أول ما يولد الطفل ومن قبل الولادة ومن أول الحمل يهتمون اهتماماً عظيماً به وبطفولته، ثم بتعليمه، والعجزة عندهم لهم بهم اهتمام عظيم، وعندهم دراسات تخصصية في كل شيء، ومع هذه الجهود وهذه الدراسات والبلايين مما ينفق لا يلتفتون إلى اليوم الآخر، فهم في غفلة عظيمة جداً، ولا يتحدث عندهم عن الآخرة أحد حتى القساوسة والرهبان العمي الذين لا يعرفون عن الله ولا عن دين الله إلا عادات ورثوها وبدعاً ابتدعوها، ثم يذكرون الناس ويعظونهم كما يقولون، ولهذا لا يزدادون إلا عمى، وهم قلة قليلة، ولا يكاد يُسمَع لهم خاصة في أمر الآخرة.
      ثم يأتي كثير من المسلمين فيشاركون الكفار في هذه الغفلة العظيمة، فتوضع الخطط والبرامج في تنمية الأمة عامة، وتوضع للمجتمع خاصة، وتوضع للطفل، وتوضع للحي، ولا يحسب لليوم الآخر حساب، وهذا -والله- عجيب، فنعيش وكأننا لا نؤمن بالله ولا باليوم الآخر والعياذ بالله.
      انظر إلى وسائل الإعلام أربعاً وعشرين ساعة، وانظر إلى الصحافة لترى نصيب التذكير بالآخرة، مع أن هذه الحياة الدنيا ممر قصير إلى تلك الحياة الأبدية، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع، (( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى ))[النساء:77] فيترك الناس الأزكى والأبقى والأنعم، ويشتغلون بهذا الفاني القصير القليل الذي هو متاع الغرور، فيشترك في هذا المسلمون مع من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر مطلقاً، نسأل الله العفو والعافية.
      ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى إحياء القلوب وربطها باليوم الآخر، لا أن يستمع الناس لدعاء القنوت فيتذكرون أن لذائذ الدنيا ستنقطع عنهم فيبكون لفقدها كما قال بعض العلماء، لا نريد أن يتذكر المرء أن اللذات ستنقطع فيبكي عليها، ليس هذا هو المقصود، بل كما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وكما كان أصحابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )، فالغريب ليس معناه أنه لا يأخذ شيئاً ولا يحمل زاداً، بل الغريب كراكب استظل تحت شجرة، ولا أحد ينزل تحت شجرة فيأتي بأنواع الترف كالفرش الوثيرة والمكيفات وهو تحت شجرة سيتركها ويمضي، لا يتصور هذا.
      وحال المسلمين اليوم أشبه بالراكب الذي بلغ به الترف والبذخ حالاً ويزري بعقله ويضحك من يمر عليه ويراه فيه.
      فيجب أن يحيا القلب إحياء عاماً من خلال ربط قلوبنا وقلوب الناس عملياً بالله وباليوم الآخر في أقوالنا وفي أفعالنا وفي حركاتنا، فيتذكر الإنسان هذا اليوم فلا يغفل عنه، وإن قل قيامه بالليل، وإن قلت صدقته، وإن حرم من الدنيا لكنه لم يحرم من بعض معرفة أو علم بالخير والنوافل المستحبات وما أشبه ذلك، لكن هذا اليقين إذا وقر في قلبه فإنه إذا أمسى لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح لا ينتظر المساء، وإنما يفكر دائماً فيما عند الله، فهذا وحده من أعظم وأرجى الأعمال وأفضلها عند الله عز وجل، مع قيامه بالواجبات وما استطاع مما لا بد له من أن يفعله من نوافل الطاعات والعبادات.
      وبهذا يفترق المؤمن عن الكافر والتقي عن الفاجر، أما أداء الصلوات فلا شك في أهميته، والناس يصلون والحمد لله، لكن الصلاة قد تتحول إلى عادة، فقد يفعلها الإنسان وقلبه في قسوة، وقد يفعلها وشعوره في غفلة؛ لأنه لم يجد من يحيي ويوقض فيه الشعور الدائم، ولهذا كان القرآن أعظم واعظ وأعظم مذكر؛ لأنك إذا استعرضت القرآن لا تكاد تجد فيه موضعاً إلا وفيه تذكير -إما تصريحاً وإما تلميحاً- باليوم الآخر وبلقاء الله وبوعد الله وبوعيد الله، كما في سورة (إذا الشمس كورت) و(إذا السماء انشقت) و(إذا السماء انفطرت)، والقارعة، والزلزلة، والحاقة، والمعارج، وفي الطوال أكثر من ذلك، ففيها ذكر اختصام أهل النار، ومجادلة أهل الجنة أهل النار، وما تقول الملائكة لهم، وما يقولون لها، وما يقول لهم الله عز وجل، وما يقوله بعضهم لبعض، وهكذا في صور وأشكال ومشاهد كثيرة مؤثرة.
      ولذلك كان جدير بكل مسلم ألا يدع قراءة كتاب الله ما استطاع، فيقرؤه ويتزود من علومه ومعارفه؛ فإنه يدخل في قلبه الإيمان واليقين وهو لا يشعر، حتى العوام إذا قرءوا القرآن أو سمعوه يجدون حقائق إيمانية لا يستطيعون أن يعبروا عنها، ولا يدركون حقيقتها، لكنها تقع في قلوبهم، وهذا هو المقصود.
      ولكن الله سبحانه وتعالى يكرم العلماء بأن يعبروا؛ لأن علمهم يتضمن البيان، ولكن بعض الناس يسمع الآية فيكون كما قيل عن أبي الفرزدق غالب : إنه أراد أن يتعظ فسمع قارئاً يقرأ: (( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ))[الزلزلة:7-8] فتعجب وقال: حسبك حسبك؛ فهذه الآية تكفيني، فماذا أريد بعدها من موعظة؟! وصدق، فيكفيك أن تعلم أن أي خير وإن قل فهو في ميزانك، وأن أي شر وإن قل فهو في ميزانك.
      وهكذا كثير من الناس يتصدع قلبه من آية واحدة، ويدخل فيه من حقائق الإيمان ومعانيه ما يعجز عن التعبير عنه فطاحل العلماء والبلغاء فضلاً عنه لكونه عامياً.
    3. قلة رؤى الصالحين في هذا الزمان لأهل الجنة أو النار

      ولنضرب على الغفلة عن الحقائق الإيمانية في أمورنا بمثال، وهو النوم الذي يدرسه الناس ويتعجبون منه، فهناك دراسات نفسية هائلة عن النوم، لكن ليس هناك من يدرس النوم أو الأحلام من زاوية إيمانية، ولذلك نلحظ في هذا العصر قلة رؤى الصالحين بالنسبة لمن قبلنا، ونحن لا نريد أن تصبح الرؤى من الكثرة بحيث يتجاوز بها الحد، فلو سألت أحدنا: هل رأيت في المنام أحداً من أهل الجنة أو من أهل النار مرة في عمرك؟ لأجابك بالنفي؛ لأنه ليس هناك اهتمام بالآخرة، فلا يفكر إلا في الدنيا؛ لأنه ينطبع في القلب صورة ما أنت مهتم به دائماً، كحال أهل الكرة وأهل اللهو وأهل اللعب وأهل الفسق والعياذ بالله.
      وانظر إلى دواوين الشعر وما ألف وكتب فيها عن طيف الخيال وأن الإنسان إذا عشق ينام ليرى من يحب وما أشبه ذلك، فكل إنسان تكون رؤياه من خلال ما يعتقد ومن خلال ما يقع له على الحقيقة.
      والحديث عن الرؤى والأحلام حديث طويل، ولكن أردنا استغلال هذه المناسبة لأن نقول: إن الإنسان ليعجب من قلة رؤى الصالحين في هذا الزمن، وما ذاك إلا لأمرين:
      الأول: أن الناس قل اهتمامهم بها، ولا يعلمون أن لها قيمة وأنها جزء من النبوة، فالنبوة ليس في هذا الوجود أعظم درجة منها، وهذا جزء منها، فجدير أن يهتم بها.
      الثاني: وهو المشكل والسبب الأكبر: هو انصراف الناس إلى المادة وإلى الحياة الدنيا وإلى الإيمان بالمحسوس انصرافاً جعلهم يتناسون أو ينسون هذا، ولذلك تجد بعضهم إذا رأى رؤيا ليس فيها ما يثير أو يستغرب يتصدع لها قلبه ويكثر من سؤال المعبرين والعلماء والمشايخ؛ لأنها غريبة عليه ما تعودها ولا عهدها.
      يقول ابن القيم رحمه الله تعالى نقلاً عن ابن أبي الدنيا: (وقال عمرو بن جرير: [إذا دعى العبد لأخيه الميت أتاه بها ملك إلى قبره فقال: يا صاحب القبر! هذه هدية من أخ عليك شفيق] ) وهذا أثر وليس حديثاً.
      قال: (وقال بشار بن غالب : رأيت رابعة في منامي، وكنت كثير الدعاء لها، فقالت لي: يا بشار بن غالب! هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل الحرير ...) إلى آخره، والمقصود أن هذا شاهد من شواهد الرؤى.
      قال: (قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو عبيد بن بحير قال: حدثني بعض أصحابنا قال: رأيت أخاً لي في النوم بعد موته، فقلت: أيصل إليكم دعاء الأحياء؟ قال: إي والله، يترفرف مثل النور ثم يلبسه).
      فالرؤى هذه وغيرها تدل على ذلك، فكم من معذب في النار رؤي بعد حين وقد انقطع عنه العذاب، أو أخبر أنه كان معذباً ثم انقطع عذابه بصدقة أو دعاء أو عمل صالح أو شيء من فعل الخير.
      الشاهد أن هذا -إن شاء الله تعالى- لا غبار عليه، وأنه حق بإذن الله، وهو أن العذاب ينقطع عن بعض الناس في قبره.
    4. أهوال القيامة وتكفيرها لبعض أصحاب الذنوب

      هناك من تقوم عليه الساعة وينفخ في الصور وهو لا يزال في حاجة إلى أن يتطهر، بحيث لا يبلغ به ذنبه أن يدخل النار، فهؤلاء يتطهرون ويكفر عنهم بأهوال يوم القيامة من الصعق والفزع والنفخ في الصور، وهذا الحدث العظيم كيف تتصوره؟ لو كنت في عمارة فانهدمت كلها -نسأل الله أن يحفظنا وإياكم- بلغم أو صاروخ يأتي عليها كما يقع في الحروب نعوذ بالله من ذلك، فكيف لو أن المدينة بأكملها هزها بركان عنيف -والعياذ بالله- وهدت الجبال والعمارات وخدت الأخاديد؟!
      ولذا لما حدث زلزال في الجزائر كان مندوب إذاعة لندن -وهو ليس مسلماً- يقول عندما وصف الزلزال وهو في الجزائر : كأنه يوم القيامة. يعني أنه شيء عظيم جداً، وهذا في حدود منطقة أو مدينة أو إقليم، فكيف بزلزال يهد الأرض كلها ويبس الجبال بساً وينسفها نسفاً؟! وكيف إذا كان الزلزال في كل ما يسمى بالمجموعة الشمسية؟! وإذا كان الأمر كذلك فكيف بكل ما في هذا الوجود من كواكب وشموس وجبال وأنهار وبحار؟! فالبحار تسجر: (( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ))[التكوير:6] فتشتعل ناراً، وهذا ما لا يتصوره الإنسان، فلو فكر الإنسان في هذا الأمر لوجد الهول العظيم والكرب الشديد.
      ثم بعد ذلك الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى وما فيه من أهوال، يحشر الناس حفاة عراة غرلاً، يلجمهم العرق فمنهم من يلجمه فلا يستطيع أن يتكلم، ومنهم من يبلغ إلى منكبيه، ومنهم من يبلغ إلى ثدييه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ولا يعلم طول هذا الموقف إلا الله جل جلاله، وقد تأتي النار تتلظى وتزمجر وتستأذن الله سبحانه وتعالى في أن تجتاح وتجتث الناس، وكم من الأهوال في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة على من طول الله عليه الحساب، نسأل الله لنا ولكم التيسير والتخفيف والرحمة، وأن يجعلنا جميعاً من الزمرة الأولى الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
      وفي إمكان كل إنسان أن يجتهد بإذن الله ليلحق بهم، فمن فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة أن جعل مع كل واحد أو مع كل ألف سبعين ألفاً رحمة من الله تعالى وتكرماً.
      فعند الميزان والصراط وتطاير الصحف لا يذكر الحبيب حبيبه، وينسى كل أحد صديقه كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة رضي الله عنها، فهناك مواضع ومواطن يتلاقى فيها الناس ويتحدثون، ولكن هناك مواقف ينسى الإنسان فيها كل أحد، فلا يذكر أحد أحداً، ولا سيما في هذه الثلاثة المواطن.
    5. مخاطبة الله للعبد وتذكيره بذنوبه وأثرها في تكفير بعض الخطايا

      ولعل مما يدل على ذلك أيضاً أنه إذا كان هناك من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب؛ فذلك دليل بلا ريب على أن هناك من يدخل الجنة بغير حساب بعد جدال ومعاذير، ولو لم يكن إلا أن يدني الله سبحانه وتعالى العبد فيقرره بذنوبه لكفى، فإن هذا ليس بالهين، ولهذا كان بعض العلماء يقول: أكثر ما أخاف حيائي من الله يوم ألقاه. أي: يخشى الحياء من الوقوف بين يديه فيقول له: يا عبدي! فعلت وفعلت.
      وكان بعض السلف يقول: واسوأتاه! -وإن غفر- من الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى.
      فالعبد في الدنيا يستخفي من الناس الذين يرى فيهم الخير والصلاح، ولا يحب أن يطلعوا على ما قصر في طاعة الله، فكيف بالعزيز الجبار المتكبر الذي يدني عبده المؤمن؟! وإن كان يختم ذلك بقوله جل جلاله: (قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك اليوم).
      فهذا الموقف وحده كافٍ في أن يخاف المؤمنون منه، ويتمنى كل واحد منهم ويسعى ويجتهد ويحرص على أن يكون ممن يجوز بلا حساب ولا عذاب، وربما كان هذا حال من لا يتعرض لذلك الموقف مطلقاً، لكن هذا وحده أقل ما يكون وفيه ما فيه، وقد تصدعت له قلوب أقوام من السلف.
      وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.