المادة كاملة    
إهداء ثواب الأعمال الصالحة إلى الموتى مسألة من المسائل العظيمة التي كثر النزاع فيها بين أهل العلم، ولها تفصيلات فيما يتعلق بنوع العمل المهدى ثوابه عند المجيزين، وفيما يتعلق بالمهدى إليه من الموتى، ولا شك أن أصل الإهداء وحصول انتفاع الميت به ثابتان، غير أن ما ينبغي فعله هو الانشغال بالدعاء للموتى والأحياء من المؤمنين، إذ الدعاء هو الأمر الذي كان شائعاً بين السلف ومتعارفاً عليه بينهم، بخلاف الإهداء الذي يكتنفه من مجاوزة الحد عند خلق من الناس الشيء الكثير.
  1. وصول ثواب الأعمال إلى الميت

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب السابع: ما يهدى إليه بعد الموت من ثواب صدقة أو قراءة أو حج ونحو ذلك، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى].
    السبب السابع: ما يهدى إلى الميت من أعمال البر وأعمال الخير، وهذا الموضوع له أهميته من الناحية الإيمانية التربوية، وكذلك من الناحية العلمية والفقهية؛ إذ كثير من الناس يجهلون ما يتعلق بهذا الأمر من أحكام، بل إن هذا الأمر صار من أكثر البدع انتشاراً في بلاد المسلمين نتيجة جهلهم ومخالفتهم للحق في باب إهداء القربات والثواب إلى الموتى، وسبب ذلك هو البدعة من جهة والجهل من جهة أخرى، ولذلك فإن الموضوع مهم، وسوف نتحدث عنه -إن شاء الله تعالى- بالتفصيل في بابه من هذه العقيدة.
    وإنما نتحدث هنا عنه من جهة كونه مانعاً من إنفاذ الوعيد، والفرق بينه وبين المانع السابق، والاستدلال على تأثيره، إلى آخر هذه الموضوعات، وسننبه -إن شاء الله تعالى- على بعض ما يجب التنبيه عليه من النواحي التربوية المتعلقة بهذا الموضوع في مبحثه الخاص، وسنفصل القول في هذا الأمر ليتبين لطالب الحق ما يجوز إهداؤه من القربات والطاعات أو إهداء أجره وما لا يجوز، وما يترتب على مخالفة السنة في ذلك عند كثير من الناس، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يمن علينا وعلى إخواننا المسلمين جميعاً بالاستقامة والهداية واتباع السنة؛ إنه سميع مجيب.
    1. الفروق بين الدعاء والإهداء للميت

      أول ما ينبغي أن نتحدث عنه في هذا الموضوع هو الفرق بين مانع الدعاء ومانع الإهداء، والمقصود إهداء ثواب الطاعات أو القربات إلى الميت، سواء أكان قريباً أم كان رجلاً صالحاً يرى المهدي أن له عليه حقاً لأي سبب فما هي الفروق بين مانع الدعاء ومانع الإهداء؟ ولماذا جعلنا هذا مانعاً وهذا مانعاً آخر؟ إذ بالتفريق بين الأمرين يتضح الأمران ويتميز كل منهما تميزاً واضحاً. ‏
    2. الفرق من جهة نفس الدعاء والإهداء

      الفرق الأول: من جهة نفس الدعاء والإهداء، ففيهما من هذه الجهة فروق:
      أولاً: في الكيفية، فالدعاء يكون بالقول، وأما الإهداء فإنه يكون فعلاً.
      ثانياً: أن الإهداء فيه خلاف في مشروعيته، أما الدعاء فإنه ثابت بنص القرآن في قوله تعالى: (( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ))[الحشر:10].
      ثالثاً: أن الإهداء أن يتصدق الحي بثواب العمل وبأجر العمل، أما الدعاء فإنه يكون بذات العمل، فالدعاء ينفع بذاته إذا استكمل شروطه هو وآدابه.
      فمن جهة الانتفاع يكون الانتفاع بالدعاء نفسه، حيث يدعو العبد لأخيه فينفعه الله تبارك وتعالى بذلك الدعاء، كما تقدم في الشفاعة من المصلين على الجنازة، فكل من يدعو لغيره من المسلمين ويتقبل الله تعالى دعاءه ينتفع المدعو له بدعائه، أما القربات في حالة الإهداء فالانتفاع إنما يكون بأثرها، وهو الأجر والثواب.
    3. الفرق من جهة فاعل الانتفاع

      الفرق الثاني: من جهة فاعل الانتفاع، فالإهداء خاص بالآدمي المكلف المتعبد بالطاعات؛ لأنه يهدي ثواب أجر أو عمل صالح، فالذي يعمل العمل الصالح وينفع به وينتفع به هو الآدمي المكلف، أما الدعاء فهو أعم؛ إذ الدعاء يدخل فيه الإنسان المكلف -كمن يدعو لقريبه أو لأخيه المسلم كائناً من كان وهو من الآدميين المكلفين- ويدخل فيه غير المكلفين، مثل الملائكة يدعون ويستغفرون للذين آمنوا، كما في قوله تعالى عنهم: (( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ))[غافر:7]، والملائكة ليسوا من المكلفين إنما المكلفون هم الثقلان: الجن والإنس، أما الملائكة فلا يتصور منهم الإهداء وإنما يكون منهم الاستغفار، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى، حيث جعل هؤلاء العباد المكرمين الذين اختارهم واصطفاهم وأخبر عنهم بقوله تعالى: (( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ))[التحريم:6] جعلهم يدعون ويستغفرون ويترحمون للمؤمنين، بل إن الحيتان في جوف الماء تستغفر للعالم ومعلم الناس الخير، وكذلك النملة في جحرها، وهذا من عظيم فضل الله سبحانه وتعالى على دعاة الخير والهدى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر الذين يعلمون الناس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحدود ما أنزل الله على رسوله، فيحصل لهم الأجر والدعاء من دعاء المؤمنين المكلفين ومن دعاء الملائكة، وكذلك دعاء هذه العجماوات، والتمثيل بالحيتان والنمل دال على ما وراءهما، فيستغفر له كل شيء بإذن الله تعالى حتى هذه التي قد لا يتصور الناس أنها تستغفر.
    4. الفرق من جهة الشخص المراد نفعه

      الفرق الثالث: أن الإهداء إنما يكون لمن مات، فهو غير الوكالة، فلا يصح أن تعمل عملاً من أعمال الخير ثم تقول: أهدي هذا الأجر لفلان وهو حي، وفيه خلاف بين العلماء، إلا أن الصحيح أنه لا يصح، وإن صح فإنما يكون في حالات معينة مخصوصة فصلها بعض العلماء، أما أن يفتح الباب للإهداء فهذا يكون من دواعي وذرائع التواكل، فإن الحي مأمور بأن يجتهد في طاعة الله، ولا يتكل على غيره، فلو أن كل عامل للقربات قال: أهدي أجرها لفلان؛ لأدى ذلك إلى التواكل، وأما الميت فإنه قد مات ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، ولا يستطيع أن يزيد حسنة ولا أن ينقص سيئة، فهو محتاج إلى ذلك، فالأمر مفهوم المعنى في حقه، أما الحي فالواجب عليه أن يعبد الله تعالى وأن يجتهد في ذلك، فإذا أراد الإنسان أن يحسن إليه فليدع له، وهذا سائغ، أو يعطيه ما يتصدق به مثلاً، أو يستنيبه في أمر من الأمور، فإذا استنابه فقال له -مثلاً-: ادفع عني كذا، أو: جزاك الله خيراً إن أحسنت عني بكذا أو تصدقت عني بكذا وفعلت عني كذا؛ فإنه يحصل له الأجر؛ لأنه أنابه، وذلك قد وافق على هذه الإنابة.
    5. الفرق من جهة الثبوت بالنص

      الفرق الرابع: أن الدعاء ثابت بنص القرآن، ولا خلاف فيه بين العلماء، وينتفع المسلمون الأحياء منهم والأموات بدعاء بعضهم لبعض، وأما الإهداء فإن فيه مسائل تتوزع فيها، وبعضها الخلاف فيه قوي، وعمل الإنسان بما أجمع عليه أهل السنة والجماعة أولى من عمله بما لم يجمعوا عليه، ولا سيما إذا كان المراد والغاية والنتيجة واحدة، وهي حصول الرضوان والأجر والثواب.
      فالذي لا شك فيه هو الدعاء، فجدير بالمسلمين أن يتحروه وأن يجتهدوا فيه وأن يتواصوا به جميعاً، فيدعو بعضهم لبعض في ساعات الإجابة وفي كل المواطن التي ترجى فيها الإجابة بإذن الله تعالى، وهذا مما يجلب الخير والبركة للجميع، فيعم الله تعالى جميع المسلمين بنفع هذا الدعاء إذا صدر من بعضهم لبعض.
      أما الإهداء فإنه فتح معه باب عظيم من أبواب البدعة، فزاد الناس فيه على المشروع وتوسعت فيه شقة الخلاف حتى ابتدع في الدين، وأصبحت أحوال المسلمين اليوم يرثى لها في كثير من البلاد بسبب ما يصنع من الإهداء، فأصبحنا نرى الآن العجب العجاب، فإذا مات ميت جمع القراء ليقرءوا القرآن، ويقولون: نهدي ثواب هذه القراءة للميت، وأصبحنا نرى من يحج أو يعتمر ويقول: هذه العمرة أو الحج لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يهدي بثوابهما له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي دلنا على الخير كله، وما من عمل يعمله أحد منا إلا وله صلوات الله وسلامه عليه من الأجر مثل ما لذلك العامل، كما نص على ذلك الحديث، وليس هذا خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل كل من يدعو إلى الخير له من الأجر مثل أجر فاعله، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً )، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس محتاجاً إلى أن يحج عنه أو يعتمر عنه أو يتصدق عنه، أو يضحى عنه -مثلاً- كما يفعل بعض المسلمين، وربما كان ذلك عن حسن نية، ونحن لا نتهم النيات، لكن نقول: هل ذلك مشروع؟! ولو كان خيراً لسبقنا إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أعظم منا حباً له وأشد تعلقاً به وحرصاً إلى إيصال الخير إليه بأي طريق من الطرق، وهم الذين حموه صلوات الله وسلامه عليه بأنفسهم وأموالهم وبذلوا مهجهم وأرواحهم وكل ما يملكون فلم يستغلوا غالياً، بل استرخصوا كل شيء في سبيل المحافظة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيصال الخير بأي طريقة من الطرق إليه صلى الله عليه وسلم وإلى من أوصى أن يوصل الخير إليه.
      وكذلك سائر البدع التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي المسلمين وأن يبصرهم في الدين ليتخلصوا منها بإذن الله والتي سوف نأتي فيما بعد إلى الحديث عنها بإذن الله تعالى.
  2. هدي السلف الصالح في مسألة الدعاء والإهداء للميت

     المرفق    
    الأمر الثاني: هدي السلف الصالح، وهم خير الناس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )، فهم أفضل القرون وأكثرها طاعة لله تبارك وتعالى واتباعاً لما جاء من عند الله، وقد كان الشائع المنتشر بينهم والمتعارف عليه الذي يوصي بعضهم بعضاً به هو الدعاء لا الإهداء، والإهداء ثابت، وسنعرض -إن شاء الله تعالى- لأدلته في بعض ما ثبت، ولكن لم يكن هدي السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم الإكثار منه كما فعل المتأخرون.
    وهذه من الوقفات المهمة التي يجب أن نقف عندها ملياً، فليس ورود حديث أو نص معين، أو فعل لأحد السلف في أمر مسوغاً وحده للناس أن يفتحوا الباب على مصراعيه فيقيسوا على هذا الحديث أو على هذا النص، ويحاولوا أن يعمموا أحكامه ويزيدوا في تطبيقه على ما عمل به الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم.
    فهذه القربة -وإن كانت ثابتة وصحيحة عنهم- لا يزاد في عملها ما كان في عهدهم هو المنتشر والسائد، فما كان عاماً جعلناه عاماً، وما كان قليلاً جعلناه قليلاً، وإن كان هذا ثابتاً عنهم وهذا ثابتاً، لكن هذا ثابت ثبوتاً عمومياً بينهم، وهذا ثابت ثبوتاً خاصاً في حالات معينة، وهذا هو الاقتداء بهم.
    وليس شرطاً في كل مبتدع يبتدع في الدين أن يأتي بأمر لم يفعله السلف، فهذا نوع من البدعة معروف، لكن هناك نوع آخر، وهو إذا عمم ما خصصوا أو خصص ما عمموا، فهذا أيضاً من البدعة، وهو بدعة في الكيفية وفي الامتثال وفي التطبيق، فخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير الناس بعده صلى الله عليه وسلم هم صحابته، فلم يعهد في عهده صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة الكرام أنهم غلبوا الإهداء على الدعاء، ونحن لا نقول: إنه غير مشروع مطلقاً، ولا نرد قول من قال به، وسيأتي -إن شاء الله- شرح هذا، لكن نقول: إن الغالب في عهدهم الذي نوصي به الأمة أكثر ونحثها عليه ونربيها عليه هو الدعاء، وأما الإهداء فله مواضع مخصوصة، فما ثبت منها فإنه يصح بإذن الله.
    وأما التوسع الذي حدث من المتأخرين قياساً على ما ثبت فمحل خلاف بين العلماء، وحسب المؤمن أن يعلم أن هدي السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم هو التوسع في الدعاء وليس التوسع في الإهداء؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الأمر الذي كان معروفاً بين المسلمين في القرون المفضلة أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة فرضها ونفلها من الصلاة والصيام والقراءة والذكر وغير ذلك، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك لأحيائهم وأمواتهم).
    فإذا أهدي لميت ثواب صيام أو صلاة أو قراءة -على خلاف في القراءة- جاز ذلك، ومع ذلك لم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً أو صاموا أو حجوا أو قرءوا القرآن أن يهدوا ثواب ذلك لموتاهم المسلمين، ولا لخصوصهم، بل كان عادتهم كما تقدم.
    فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف؛ فإنه أفضل وأكمل، ولا يمكن أبداً -كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه-: (أن يخبأ شيء عنهم ونناله لخير فينا)، بل كل خير في اتباع ما فعله السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم.
    1. واقع المسلمين اليوم في مسألة الدعاء والإهداء للميت

      وعليه فإن ما نراه اليوم في واقع المسلمين من إهمال الدعاء -بل ولو كان الدعاء مساوىً بالإهداء- مخالف لهدي السلف الصالح. وهو أكمل الهدي وأفضله. فالواجب على دعاة المسلمين في كل مكان وعلمائهم ووعاظهم أن يبينوا هذا للمسلمين، فإن المشاهد الآن أن الناس يغفلون عن طاعة الله ويغفلون عن عبادة الله، وينظرون إلى العبادات وإلى الطاعات نظرة من لا يعبئون بها، إلا من شاء الله، حتى إذا مات الميت تذكر أهله أنه يحتاج إلى الأجر وأنه يحتاج إلى العمل الصالح، فابتدعوا تلك البدع، كاستئجار من يقرأ القرآن، وإقامة العزاء وذبح الذبائح، وما أشبه ذلك مما يدخل في باب النياحة أو غيره من أبواب البدع. فهنا فقط أحسوا بأن هذا الميت يحتاج إلى الأجر، مع أن التقصير كان كثيراً في حياته، فأين كان الابن الذي يهدي هذه الهدايا ويفعل هذه الأعمال على ما فيها من بدع في حياة أبيه؟ لم لم ينصحه؟ فكثير من الناس يهمل جانب النصيحة لأبيه أو لأخيه أو لقريبه، ويهمل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان أسباب تقوية الإيمان وزيادته، وأسباب الارتباط بالله سبحانه وتعالى وبعبادة الله، يهمل ذلك كثيراً ولا يبالي، فإذا وقعت الواقعة بدأ يعمل هذا، ومع مرور الزمن أصبح بر الأب وعمل الخير الذي تريد أن تعمله لأبيك كأنما يبدأ بعد موته، فإذا مات بدأ الناس يأتون بهذه الأعمال التي تخالطها البدع، مع أنه لو ذُكِّر بالله في حياته ودعي إلى الخير واجتهد هو في طاعة الله لكان ذلك خيراً له، فهذا هو الأصل، ولا يتعارض هذا مع الإهداء المشروع بعد الموت، فيكون خيراً إلى خير، أما أن يتكل على هذا ويغفل عن الأساس؛ فهذا هو الخلل الذي دخل في حياة المسلمين اليوم، وذلك بسبب أنهم تركوا وخالفوا منهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم في هذا الشأن، كما هو الحال في كثير من الأمور، نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين؛ إنه سميع مجيب.
  3. ذكر النزاع في وصول ما يهدى من ثواب الأعمال إلى الموتى

     المرفق    
    بقي أن ننظر إلى المسألة -ولو بإلمام على عجل- من جهة وصول ثواب الأعمال، فما صحة وصول ثواب الأعمال وإهدائها للموتى؟
    المسألة فيها نزاع بين أهل السنة والجماعة وبين غيرهم، فبعض المعتزلة والمتكلمين لا يرون أن العمل يصل إلى الميت مطلقاً، فيقولون: لا يصل إلى الإنسان إلا ما عمله هو، وأما ما عمله غيره فإنه لا ينتفع به مطلقاً ولا يصل إليه.
    وأما أهل السنة والجماعة فهم متفقون على أصل الإهداء، وإن كان هذا الاتفاق لا يمنع وجود خلاف قوي في بعض التفصيلات، كمسألة القراءة مثلاً، وسنفصل خلافهم إن شاء الله.
    فالمقصود أن القائلين بامتناع وصول الأجر مطلقاً هم فئة من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم، يقولون: إن الله سبحانه وتعالى يقول: (( وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ))[النجم:39]، وهذا من أقوى أدلتهم، فعمدتهم هذه الآية وما شابهها، فيقولون: ليس للإنسان إلا سعيه، وأما سعي غيره فلا.
    1. توجيه الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة في مسألة وصول ثواب الأعمال للموتى

      ونقول: إن الأصل في هذا الباب أن الإنسان لا يستحق ذلك استحقاقاً، وهذا يذكرنا بحديث معاذ في حق الله على العباد وحق العباد على الله، وفرق بين الحقين؛ إذ ما للعباد عليه تعالى حق واجب، لكن الله تعالى جعل حقاً لعباده عليه إن هم أطاعوه أن يجازيهم على طاعته، فهذا حق يسأله العبد ربه، ومن حقه أن يسأله وأن يطلبه، لأنه سبحانه وتعالى كتبه على نفسه وأوجبه على نفسه، كما أنه من جهة السيئات لا يستحق الإنسان أن يعاقب إلا على ما جنى واكتسبت يداه، لا على ما فعل غيره، كما قال تعالى: (( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ))[الأنعام:164].
      فهذا هو الفرق في منهج أهل السنة والجماعة ، فنحن نستدل بهذا فنقول لهم: إن الاستحقاق شيء، والانتفاع شيء آخر، فالله سبحانه وتعالى جعل ثواب العبد على الطاعة حقاً له، لكن ذلك لا يعني أنه لا ينفعه بعمل غيره، بل له عز وجل أن ينفع العبد بما يشاء وأن يثيبه بما يشاء ولو كان من عمل غيره، وهذا فضل منه سبحانه وتعالى، وأما امتناع العقاب بعمل غيره فعدل منه سبحانه، فالفضل ألا يمنع الإحسان إلى العبد وإن كان جاء هذا الإحسان من قبل غيره، وأما العدل فهو ألا يؤاخذه إلا بما عمل أو بما كان من آثاره، كما قال تعالى: (( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ))[يس:12]، أي: آثار ما قدموا وما عملوا في حياتهم، وهذه الآثار يمكن أن نفسرها بما جاء في الحديث الصحيح: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )، وليس ذلك محصوراً في هذه الثلاث، بل هناك كثير مثلها، لكن هذه أهمها وأوضحها، فهذه وأمثالها تدل على أن الإنسان ينتفع بأثر عمله، فالولد الصالح من آثار عمله، والصدقة من آثار عمله، والعلم من آثار عمله، فينتفع بعمله وينتفع بأثره بإذن الله.
      ولو لحق الإنسان عقوبة أو شر لم يكن إلا بما عمل أو بآثار ما عمل، كما لو كان مبتدعاً غير داع إلى البدعة في حياته ثم مات، فإنه ينقطع حسابه وتنقطع مؤاخذته وتنقطع عقوبته، فلا يكتب عليه إلا ما فعله في حياته، أما إذا خلف علماً يضل به الناس فإنه يحمل وزر ذلك، فكما أن العلم الذي ينتفع به لصاحبه أجر؛ كذلك الذي يضل به الناس ولا ينتفعون به يكون على صاحبه وزر نسأل الله العفو والعافية، وهذا كما جاء في الحديث: ( من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ...)، ولا يشترط أن يدعو إليها وهو حي، بل ما دامت آثاره أو كتبه تدعو إلى الضلالة فهو مأزور غير مأجور، وهو مؤاخذ.
      فالمرء لا يستحق العقوبة إلا بما عمل أو بآثار عمله، وكل ذلك داخل في عموم عمله، وهذا بالنسبة للسيئات أما الحسنات فإنه يستحقها استحقاقاً، ولا ينفي هذا أن ينفعه الله عز وجل بعمل عمله غيره من الناس، والنصوص في ذلك كثيرة والحمد لله.
  4. أقسام الأعمال من حيث جواز إهداء ثوابها من عدمه

     المرفق    
    وأما تقسيم الأعمال بحسب جواز الإهداء من عدمه، فنقول فيه:
    1. حصول مطلق الانتفاع للموتى بما يعمله الآخرون وأدلته

      إذا علم ذلك فإنا نقول: وردت نصوص شرعية تدل على أن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره، وهي -كما سبق- على نوعين: نصوص تدل على الانتفاع بأثر العمل ونصوص تدل على الانتفاع بنفس عمل الآخرين، وهي في الانتفاع على نوعين: الانتفاع المطلق والانتفاع الخاص بإسقاط الحقوق.
      أما الانتفاع المطلق فأدلته كثيرة ويمكن أن نستخرج قاعدة على ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلامه لـسعد بن عبادة بشأن أمه، وللمرأة الجهنية بشأن أبيها.
      أما حديث سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه ففيه أنه: ( توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله! إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها )، فانظر إلى الصحابة كيف كان يهمهم بر الوالدين إلى هذا الحد؟!
      فهذا دليل على عموم حصول الانتفاع، وهذا حقيقته أن الميت ينزل منزلة الحي، كما لو أن أم سعد رضي الله تعالى عنه وعنها كانت على قيد الحياة وتصدقت أو أنفقت ما في هذا البستان.
      إن النفع في العمل في حالة الدعاء يكون الداعي غير الميت، لكن في حالة الصدقة ينتفع الإنسان بعمل غيره بأن يقوم مقامه، فيصبح الميت كأنه هو الذي حج، وكأنه هو الذي اعتمر، وكأنه هو الذي تصدق؛ لأن نفس العمل انتقل إلى الميت، فلو أن رجلاً اعتمر -مثلاً- عن أحد والديه فإن هذه العمرة تأتي يوم القيامة في ميزان المهدى إليه، أما الدعاء فالذي يصل إلى الميت منه هو أثره وشفاعته وثوابه، ولا يتعارض هذا مع ما قد تقدم.
    2. أعمال لا يجوز أن تهدى أو تقبل إلا من فاعلها

      أولاً: هنالك أعمال لا يجوز أن تهدى، ولا تقبل إلا من الفاعل؛ فلا يهدى ثوابها ولا أجرها؛ لأنها مما لا تدخله النيابة، والأعمال التي لا تدخل فيها النيابة لا تصح شرعاً إلا من الفاعل المخاطب المكلف، مثل الصلاة والتوحيد والإيمان، فإذا مات رجل على الشرك فهل يصح أن يقول أحد أبنائه -مثلاً-: أنا أؤمن نيابة عنه وأوحد الله نيابة عنه؟! فهذا لا يصح ولا يقبل ولا يفعله عاقل، وإنما هذا مما هو متعين على العبد. وكذلك الصلاة، والصلاة من الإيمان؛ لأن من تركها كفر، فلو ترك الصلاة أيجوز لأحد أن يصلي عنه؟! إذاً: هناك أعمال لا تدخلها النيابة، ولا تصح ولا تقبل إلا من المكلف نفسه، مثل التوحيد ومثل الصلاة ومثل التوبة، فهذه لا بد من أن تكون من العبد المكلف نفسه، وهذا القسم الأول.
    3. أعمال يمكن فيها النيابة

      والقسم الثاني: ما يمكن أن تجوز فيه النيابة.
      وهذا فيه تفصيل؛ لأن الأعمال من جهة فعل العبد لها إما أن تكون بدنية، وإما أن تكون مالية، وإما أن تكون مركبة منهما، فالأعمال البدنية المحضة مثل الصوم، وكذلك القراءة، بغض النظر عن كون الخلاف قوياً في القراءة، لكن المهم أن القراءة هي عمل يعمله الإنسان بجوارحه، وليس فيه مال.
      وأما الأعمال المالية المحضة فهي مثل الصدقة عموماً، وقضاء الدين عن الميت، والوفاء بنذره إذا كان مالاً ونحو ذلك، والمركب منهما مثل الحج، فالحج مركب من هذا ومن ذاك.
      أما العبادات المالية المحضة فقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الإجماع على جواز الإهداء فيها، فإذا أردت أن تتصدق عن أمك أو عن أبيك أو عن أي مسلم أو تقضي عنه الدين؛ جاز لك ذلك، فهذه قاعدة عامة في العبادات المالية البحتة، حتى ولو كنت لا تعرف الميت وأردت أن تتصدق عنه بقليل أو بكثير، فإن ذلك ينفعه إن شاء الله، ولك الأجر، فهذه المسألة لا نقاش فيها.
      وأما الأعمال المركبة -كالحج والعمرة- ففيها خلاف، والراجح في الأعمال المركبة هو الجواز.
      وأما الأعمال البدنية المحضة فهي التي تنازع فيها العلماء.
  5. انتفاع الميت من إسقاط الحقوق الثابتة في ذمته

     المرفق    
    أما الحقوق الثابتة في الذمة فهل ينتفع الميت بإسقاطها؟
    1. انتفاع الميت من إسقاط حقوق العباد الثابتة في ذمته

      أما حقوق العباد، فهل يجوز للإنسان أن يقضي ديناً عن غيره من المسلمين وينتفع الميت وتبرأ ذمته به؟!
      نقول: دل على ذلك ما رواه الإمام البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أتي بجنازة ليصلي عليها ) وكان من شأنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوسع الله تعالى عليه ويفتح عليه إذا أتي بجنازة أن يسأل: هل على صاحبها دين أم لا؟ فإن كان عليه دين قال: صلوا على صاحبكم، وإلا صلّى عليه، فلما وسع الله تبارك عليه قال: ( أنا ولي كل مسلم )، فأصبح صلى الله عليه وسلم يقضي الدين عن المسلمين، فهل تتصور رحمة أعظم وأشمل من هذه الرحمة؟! وقد قال الله تعالى عنه صلوات الله وسلامه عليه: (( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ))[التوبة:128]، فكان يقضي ديون المسلمين من بيت المال، فهذه غاية الإحسان، أن يقوم إمام المسلمين ووالي الأمة -إذا وسع الله تعالى عليه في بيت المال- بقضاء دين من مات من المسلمين وعليه دين، ولا يعني هذا أن يتوسع الناس، فيستدين كل امرئ كما يشاء ويقول: إذا مت فإن الإمام سيقضي الدين عني. فلا ينبغي أن يستدين الإنسان إلا وهو عازم على الوفاء؛ لأن الشهيد -وهو شهيد- يغفر له كل شيء إلا الدين.
      فمن فعل من المسلمين ذلك وكانت نيته الوفاء، ولم يستدن إلا لحاجة؛ فإن إمام المسلمين يقضي دينه ما دام الله تعالى قد وسع عليه في بيت المال.
      وهكذا التوازن، فلا الرعية تفرط في حقوق الله وحقوق العباد، ولا الوالي يعدم الرحمة والإحسان إلى الرعية، وهذا غاية العدل الذي جاء به الإسلام ولم تأت به شريعة أخرى مهما زعم الزاعمون.
      ففي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة ليصلي عليها، فقال: هل عليه من دين؟! قالوا: لا. فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم )؛ لأنه مات وعليه دين، ( فقال أبو قتادة رضي الله تعالى عنه: علي دينه يا رسول الله )، فانظر إلى رحمة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتكافلهم وتعاونهم فيما بينهم كما أمر صلى الله عليه وسلم، قال: ( فصلى عليه ) فحصل بإذن الله براءة الذمة للميت وحصل الأجر إن شاء الله تعالى للحي وهو أبو قتادة رضي الله تعالى عنه، فدل ذلك على أن أداء الحقوق التي في ذمة للمسلم الميت المتوفى جائز وصحيح من أي مسلم، وأن فاعل ذلك مأجور، وأن المتوفى الميت يسقط عنه ما في ذمته من هذا.
      ولهذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (أجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمته ولو كان من غير تركته ولو كان من أجنبي) بعيد عنه، وليس شرطاً أن يكون وليه، قال: (وأجمعوا على أن الحي إذا كان له في ذمة الميت حق من الحقوق فأحله منه أنه ينفعه ويبرأ منه كما يسقط من ذمة الحي)، فلو تصورنا في حادثة أبي قتادة رضي الله تعالى عنه أن الرجل صاحب الدين قال: يا رسول الله! أنا صاحب الدين، وقد عفوت عنه.
      فسيصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ المقصود هو إبراء الذمة، وإبراء الذمة من صاحب الحق بإحلاله وتنازله إن لم يكن أولى فهو مثل أن يأتي غيره فيتحمله عنه، وهذا من عموم فضل الله سبحانه وتعالى.
    2. انتفاع الميت من إسقاط حقوق الله الثابت في ذمته

      نقول: هذه الحقوق إما أن تكون لله، وإما أن تكون للآدميين، فالتي لله هي التي تكلمنا عنها، وقد يكون في بعضها خلاف، ولكن بعضها ثابت كما سنعرض إن شاء الله تعالى، ومنها حديث المرأة الجهنية الصحيح الذي فيه: ( أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بأن أباها لم يحج، فهل تحج عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء )، ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لنا قاعدة؛ وهي: (الله أحق بالوفاء).
      وقال في الحديث الآخر: ( فدين الله أحق أن يقضى ) للتي سألت عن صيام أمها، ومعناه: أن الإنسان له أن يؤدي وللميت أن ينتفع بما أدي عنه من حقوق الله عز وجل، كما إذا مات وعليه نذر أو صيام أو حج أو ما أشبه ذلك.
      وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعليقاً على حديث المرأة الجهنية أنه (يلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك).
      وعليه فإن قيل: هل هذا خاص بالحج؟ نقول: لا، والدليل (الله أحق بالوفاء)، فيوفى ما في ذمة العبد بأن يفعل ذلك وليه، وكون الولي يفعل ذلك وجوباً أو ندباً مسألة أخرى، والمقصود أنه لو فعل فإن ذلك ينفع الميت.
      ومن ذلك الكفارات، فلو أن رجلاً كانت عليه كفارة يمين أو غير ذلك من الكفارات؛ فلوليه أو من أراد من المسلمين أن يتطوع فيؤدي الكفارة عنه، وكذلك النذر يدخل في هذا الباب؛ لأن الله سبحانه وتعالى أحق بالوفاء، ولأن دين الله أحق أن يقضى.
      والأدلة التفصيلية على هذه القاعدة كثيرة:
      منها: الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )، وكذلك الحديث الذي رواه مسلم قال: ( استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقضه عنها ).
      ويمكن أن يقال: إن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه من جهة تصدق عن أمه ومن جهة أخرى وفّى بنذرها، فيكون هذا دليلاً على الحالتين وعلى الأمرين.
      ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: ( بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت. قال: فقال: وجب أجرك، وردها عليك الميراث )، فانظر إلى فضل الله سبحانه وتعالى، فهذه تصدقت على أمها بجارية، فتوفيت الأم فورثت البنت الجارية، فقال: ( وجب أجرك، وردها عليك الميراث ) قال بريدة : ( قالت: يا رسول الله! إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج قط، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها ).
      فدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بإسقاط الحقوق التي لله سبحانه وتعالى عن الغير، وهذا ما يدل على ثبوت هذا العمل الذي هو أصل المسألة، وهو الإهداء، خلافاً لمن أنكر ذلك من المتكلمين أو غيرهم.
  6. الحكمة من إثبات أصل الإهداء والانتفاع به للموتى

     المرفق    
    نتبين من خلال هذه الأحاديث -والحمد لله- أن القضية أصلها ثابت، فأصل الإهداء ثابت، وأصل الانتفاع به ثابت إن شاء الله تعالى، وأن الحكمة في هذا هي من جهتين:
    الأولى: نفع المهدى إليه، وهو الميت، كما يدل عليه حديث ابن عباس : ( أينفعها شيء إن تصدقت عنها )، فدل ذلك على أن المهدى إليه ينتفع.
    الجهة الأخرى: انتفاع المهدي، فإن كان المهدي ابناً فهذا من بره بأبويه أو بأحدهما، وإن كان أخاً أو قريباً فهذا من صلة الرحم، وإن كان أجنبياً بعيداً فهذا من إحسانه إلى أخيه المسلم، كما فعل أبو قتادة رضي الله تعالى عنه، فهو مأجور بذلك، فبفضل الله سبحانه وتعالى تحصل الفائدة.
  7. أقسام أصحاب الذنوب بالنسبة للانتفاع بما يهدى إليهم

     المرفق    
    وبقي أن نقول: هل الانتفاع يؤثر في حق كل أحد أم هو مخصوص؟
    وجواب ذلك أن نعيد ما قلناه فيما سبق بالنسبة لأقسام الذنوب.
    فالذنب الأول الذي هو الشرك لا ينتفع صاحبه بما يهدى إليه من عمل؛ لأن المشرك لا تنفعه القربات والطاعات التي يعملها بنفسه، فكيف تنفعه قربة من غيره؟! وقد قال تعالى: (( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ))[الفرقان:23]، ولأن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فلا يمكن أن تحصل الفائدة للمشرك.
    فالذي ينتفع هم أصحاب الذنوب التي هي دون الكفر، ومنهم أصحاب الكبائر وأصحاب الصغائر.
  8. كيفية الانتفاع بما يهدى إلى الميت من ثواب الأعمال

     المرفق    
    وأما كيفية الانتفاع فهل تكون عن طريق التكفير أم عن طريق الموازنة، فنقول فيها: لا مانع أن يكون الأمران، وذلك أمر مرجعه إلى الله عز وجل، فإن شاء عز وجل كفر عن الميت خطاياه وما فعله بهذه الصدقة أو الإحسان أو القربى التي تقبلها من غيره حين أهداها إليه، وإن شاء الله عز وجل جعلها في ميزان حسناته، فيكون كما لو عملها هو في حياته، فربما رجح هذا وربما رجح ذاك. والمهم والخلاصة في هذا الموضوع هو: أن هذا الأصل ثابت إن شاء الله تعالى، وأنه من أعمال الخير التي يجب اغتنامها في حدود الشرع، فيجب أن يبادر الإنسان إلى أن يغتنم أي باب من أبواب الخير، ومنها هذا الباب، فينتفع هو وينفع -بإذن الله سبحانه وتعالى- بهذا العمل وليه الميت. وهذا -كما ذكرنا- لا يعني أن يتوسع الناس في هذا الباب فيأتوا بغير المشروع، أو أن يتوسعوا في هذا حتى يصبح همهم وأكثر عملهم هو الإهداء، وينسون الأفضل والأهم والأكثر نفعاً والأكثر تطبيقاً في حياة السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم، وهو الدعاء. ولعلنا -إن شاء الله- بهذا نكون قد انتهينا من هذا السبب بعد أن بينا الفرق بينه وبين الدعاء، ثم بينا الخلاف في أصل الموضوع، وبينا بعد ذلك الأدلة الخاصة والعامة والقاعدة في ذلك، ولم يبق إلا الحديث المفصل في أنواع العبادات التي ذكرنا أن الخلاف واقع فيها، كالصيام وقراءة القرآن وأكثر ما وقع الخلاف في قراءة القرآن هل يصل ثوابها أو لا يصل؟ وهذا ما نفصل الكلام عنه -إن شاء الله- في موضعه، وحسبنا هنا أن نقول: إننا لو تأملنا حال السلف الصالح فلن نجد نصاً واحداً صحيحاً يدل على أنهم قرأوا القرآن أو قرأه أحدهم وأهدى ثواب قراءته لغيره، وإنما غاية ما يعتمد عليه من يجيزون ذلك هو القياس على الصيام باعتبار أن كلاً منهما عبادة بدنيه محضة كما أشرنا، وهذا الجواب يكفي لمن يريد أن يعرف الخلاصة في هذا، لكن تفصيل أدلة الطرفين نعرض له في موضعه بإذن الله. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.