المادة    
يقول المصنف: [وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية] أي: معنى كون الله تبارك وتعالى خيراً من خلقه وأفضل منهم، [في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه]، أي: نثبت المعنى الأول وكذلك نثبت أن الله تبارك وتعالى له الفوقية المطلقة؛ فهو فوق العباد ذاتاً وقدراً ومنزلةً وشأناً وعلماً، وكل ما يمكن أن يدخل تحت هذا اللفظ ويصح احتمال اللفظ له فهو ثابت لله تعالى، والذي يعظم الله سبحانه وتعالى وينزهه ويقدره حق قدره هو الذي يثبت له العلو المطلق.
يقول: [فله سبحانه وتعالى فوقية القهر] لأنه قال: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ))[الأنعام:18] فله فوقية القهر ضمن المعنى العام المطلق للفوقية، [وفوقية القدر] أو الفضل، [وفوقية الذات] وهي التي يهربون منها ولا يثبتونها، ونحن نقول: بل هي ثابتة أيضاً، [ومن أثبت البعض ونفى البعض، فقد تنقص] أي: تنقص قدر الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يثبت له العلو المطلق، [وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه، فإن قالوا: بل علو المكانة لا المكان] يجب أن يعلم أولاً أن المنزلة عند المؤولة تستعمل في المكانات النفسانية والروحانية، فتقول: منزلتك عندي عالية، أي: معنوية، لكن لا بد أن يعلم أن هناك منزلة معنوية، وهناك منزلة حسية أو جسمية، فتستعمل المكانة والمنزلة في المكانات المعنوية، كما يستعمل لفظ المكان والمنزل في الأمكنة الجسمانية.
ثم قال: [فإذا عُرف أن المكانة والمنزلة تأنيث المكان والمنزل، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى، وتابع له، فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة، إذا كان مطابقاً كان حقاً وإلا كان باطلاً] ومعنى هذا: أنه لا منافاة بين قولي: مكانة الله ومنزلة الله في قلبي أعظم، وبين إثبات علو الذات له إذا كان مطابقاً له، أليست المكانة فرعاً عن المكان والمنزلة فرعاً عن المنزل؟! فالمعنى المعنوي تابع للمعنى الحسي، وهناك ترابط بينهما، فإذا أثبتنا لله تبارك وتعالى العلو المطلق من جميع الوجوه، دخل فيه المكانة والمنزلة، والقدر والقهر، وأهمها علو الذات، لكن هم ينكرون علو الذات.
قال: [كما جاء في الأثر: {إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله في قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه} ] قال الشيخ الألباني في أول الأمر: "لا أعرفه"، ثم قال: "ثم وجدته بدلالة بعض الإخوان جزاه الله خيراً في مستدرك الحاكم في الجزء الأول بنحوه، وصححه وتعقبه الذهبي بأن فيه عمر بن عبد الله مولى غفرة ضعيف، ومن طريقه أخرجه أبو يعلى وغيره، وهو مخرج في الضعيفة ".
والمقصود أن هذا الأثر من كلام بعض السلف، ومعناه صحيح، فإذا أردت أن تعرف منزلتك وقدرك عند الله، فانظر إلى منزلة الله وقدره وعظمته في قلبك ونفسك، كما في الحديث: {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} واستشعر أن الله سبحانه وتعالى عليك رقيب حسيب، مطلع على كل عمل من أعمالك، بل تحزن ويصيبك الأسى عندما ترى الله يعصى، كما قال بعض السلف: (وددت لو أن جسمي قرض بالمقاريض وأن أحداً لم يعص الله عز وجل).
وهناك تأويل آخر لأهل البدع؛ قالوا: المراد بعلو الله أنه تعالى عالٍ في القلوب، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء، ولا نثبت أنه عالٍ على العالمين بذاته! وهذه الشبهة من جنس ما تقدم، وجوابها كما تقدم. ثم قال: [وكذلك هو] أي: من جملة علوه في القلوب، وهذا حق. [وهذا العلو مطابقٌ لعلوه في نفسه على كل شيء] يعني علوه تعالى في القلوب على كل شيء مطابقٌ لعلوه في ذاته عز وجل على كل شيء، وإثبات هذا لا يقتضي نفي ذاك، بل هو تابعٌ له.
[فإن لم يكن عالياً بنفسه على كل شيء، كان علوه في القلوب غير مطابق، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى] ومعناه: أن الذين يقولون: إنه سبحانه عالٍ في القلوب لا بنفسه، وقعوا في الاضطراب والتناقض، إذ كيف يعتقدون أن الله تعالى أعلى من كل شيء، ومع ذلك يقولون: هو بذاته في كل مكان؟ فهذا تناقض، لكن إذا أثبت علو الذات مع علو المنزلة، كان هناك تطابق وتناسق واتفاق، ولذلك قال المصنف: [كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى] فلو أن شيئاً منزلته في القلوب أو في الواقع أدنى فجعلته أعلى، فقد جئت بما فيه انعكاس وخلل، وفيه قلب للموازين، وكذلك العكس، فلا يجعل ما هو أعلى أسفل، ولا سيما أن ذلك يتعلق بالله سبحانه وتعالى.