فأما الأدلة التي تدل بعمومها وجملتها على أن العبد المؤمن يكفر الله تعالى عنه خطاياه وذنوبه بما يبتلي به من المصائب والآلام والهموم وأنواع الابتلاءات؛ فهي كثيرة وصحيحة. فمن ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث
عائشة وحديث
أبي سعيد الخدري وحديث
أبي هريرة رضي الله عنهم، وقد أشار الشارح رحمه الله تعالى إلى حديث
عائشة رضي الله عنها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (
ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها )، فقوله: (ما من مصيبة) يدل على العموم؛ لأن (ما) نافية، و(من) زائدة للاستغراق، وجاء بعدها (مصيبة)، وهي في سياق النفي، فدل ذلك على الاستغراق والعموم، أي: أيّ مصيبة، ثم زاد صلوات الله وسلامه هذا العموم توكيداً بقوله: (
حتى الشوكة يشاكها )، أي: فلا يظن ظان أن المؤمن إنما يثاب ويؤجر وتكفر خطاياه بقتل أو ضرب أو حرب أو سجن أو ما أشبه ذلك مما يعلم الناس جميعاً أنه ابتلاء وأنه مصيبة، بل نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المثال، وهو أمر عارض يعرض لأكثر الناس، ولا سيما إذا تصورت حياة الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان أكثرهم يمشي حافياً، وحيث كانت الطرق -كالحال في بعض البيئات وفي بعض القرى- محفوفة بالأشواك والأشجار، وحيث كان القليل منهم يجد النعل الجيدة، فهناك تجد الإنسان لا يكاد يسلم وهو في طريقه إلى مزرعته أو إلى أي مكان من أن تدخل في رجله شوكة فينتزعها ويمضي في طريقه، وهو حدث يومي عادي عارض، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ليستيقن المؤمنون ويستبشروا برحمة الله وفضله ويعلموا أهمية وفضل الصبر والاحتساب الذي به يوفون درجتهم كاملة ((
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ))[الزمر:10] فإن المصيبة الواحدة أو الهم أو الغم قد يشترك فيه اثنان أو أكثر بنفس الدرجة من الألم، ولكن يفرق بينهما أن أحدهما بلغ به الصبر واليقين والإيمان درجة عالية، فيؤجر أضعاف ما يؤجر الآخر ويكفر من خطاياه أضعاف ما يكفر عن الآخر، وهذا ما سننبه عليه -إن شاء الله- في كيفية التكفير أو في نوعيته. فالمقصود هنا بيان أهمية صبر المؤمن واحتسابه، وأن لا يأسى على ما يصيبه من الآلام والمصائب ما دام يعلم أنها من عند الله وأنها مكفرة لخطاياه. وهذا الموضوع له علاقة بمبحث القضاء والقدر، وقد سبق الشرح فيه مستفيضاً، وله علاقة -أيضاً- بموضوع الصبر الذي قد نتطرق له في القسم الثاني إذا أشرنا إليه، وهو موضوع عظيم من أعظم ما حث الله تبارك وتعالى عليه في كتابه، كما
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: تأملت القرآن فوجدت أن الله تبارك وتعالى ذكر الصبر في أكثر من تسعين موضعاً. فانظر إلى هذه المزية لهذا العمل العظيم من أعمال الإيمان والتقوى، وقد فصل الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى وجوه مواضع الصبر فوزعها على ستة عشر وجهاً، أي: جاء الصبر مذكوراً في القرآن بأساليب متنوعة على ستة عشر وجهاً، كالثناء على أهله، وذكر فضله، وذكر جزائه.. إلى آخر ذلك، وذكر رحمه الله أيضاً أقسام الصبر وفضل كل واحد منها، وهي الصبر بالله، والصبر لله، والصبر مع الله. فالله تعالى قال في القرآن: ((
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ))[النحل:127] فـ
الصبر بالله معناه: الاستعانة بالله تبارك وتعالى؛ لأنه إن لم يُصَبِّر العبد فلن يصبر، فالله تبارك وتعالى هو المعين وهو المصبر للعبد، فالمحظوظ من رزقه الله تعالى الصبر على ما يقدره الله تعالى عليه وعلى ما يبتليه ويصيبه به لينال هذه الدرجة العظيمة. و
الصبر لله معناه: أن تعمل كل عمل لوجه الله، أي: محبة لله، ومن أجل الله، وقياماً بأمر الله، وتبليغاً لدعوة الله، ونصحاً للأمة، كما أمر الله تبارك وتعالى بأن يكون كل عملك لله عز وجل، وتصبر على ما تلاقي لله تبارك وتعالى. و
أما الصبر مع الله فمعناه: أن تصبر على أوامر الله تبارك وتعالى، وأن تراقب الله تبارك وتعالى بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، وتصبر على ذلك. كما أن
الصبر ينقسم إلى صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله. وقد ذكر الله تبارك وتعالى ما يدل على الفضل العظيم للصبر في قوله عز وجل: ((
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ))[السجدة:24]، قال الإمام
سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى -وهو من هو علماً وفضلاً وصواباً وحكمة في الرأي-: (أخذوا برأس الأمر فجعلهم رؤساء على الناس) أي: لما أخذوا برأس الأمر وأعظم الأمر في هذا: الدين -وهو الصبر واليقين- جعلهم أئمة للهدى والتقى، فالصبر واليقين هما من أعظم حقائق الإيمان وأعمال الإيمان الباطنة، جعلنا الله من الصابرين ومن الموقنين؛ إنه سميع مجيب. وأخرج
البخاري من حديث
أبي سعيد الخدري و
أبي هريرة رضي الله عنهما: (
ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه ). وفي هذا الحديث زيادة في استغراق كل أنواع الألم، فإن النصب والوصب والهم والحزن يستغرق كل ما يتصور أن ينزل بالإنسان من البلاء؛ لأن بلاءه إما أن يكون ناتجاً عن مرض في جسمه من عند الله يبتليه به، وإما أن يكون ناتجاً عن ألم أو أذى خارجي عن الإنسان، كأن يضرب أو يؤذى من الناس، وإما أن يكون الأذى حسياً، وإما أن يكون معنوياً، فكل أنواع الأذى المتخيلة والمتصورة لا تخرج عن هذه الأنواع التي هي متقاربة في المعنى من حيث اللغة، وكلها متلازمة عادة، فالذي يمرض يناله هم المرض، والذي يهتم فإنه غالباً يتعب ويألم، وهكذا استغرق هذا البيان النبوي العظيم كل ما يمكن أن يصل إلى أن يؤذي الإنسان أو يؤلمه من الآلام المعنوية والآلام الحسية، وبشر صلى الله عليه وسلم بأنه يكفر الله تعالى به من خطاياه، وهذا فضل من الله تعالى عظيم. وأخرج
البخاري كذلك من حديث
ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
ما من مسلم يصيبه أذى مرض فما سواه )، فنص على المرض لأنه أكثر ما يؤلم الناس عادة، وإذا ذكر البلاء أو المصيبة فأول ما ينصرف إليه ذهن الإنسان هو المصائب التي تقع في بدنه، فقد فطر الله تبارك وتعالى الإنسان على أن يحب العافية لبدنه، ولا إشكال في ذلك، لكن الناس قد يغفلون عن أهمية عافية القلب وعن ضرورة الاهتمام بصحته ودفع كل الأسقام والأمراض عنه. فالمرض هو أكثر ما يخطر في بال المرء، فذكره صلى الله عليه وسلم نصاً لهذا السبب، وربما كان المقام يقتضيه، ولكنَّه عمم بعد ذلك فقال: (
فما سواه )، فلا يختص ما سيذكر من الفضل بالمرض، بل يشمل كل مصيبة أو ألم ينزل بالإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: (
إلا حط الله له سيئاته كما تحط الشجرة ورقها )، و(سيئاته) جمع مضاف يدل على استغراق كل أنواع السيئات ما عدا الكفر على ما سنوضح إن شاء الله، فالمقصود هنا المؤمن المسلم ما دام ثابتاً على ذلك لم يبدل ولم يرتد. ثم مثل النبي صلى الله عليه وسلم لزيادة الحط بقوله: (كما تحط الشجرة ورقها)، وأنت إذا رأيت أي نوع من أنواع الشجر الذي يحط ورقه إذا رأيته في فصول الخضرة وزيادة الطلع والورق تجد أنه يكاد يكون قطعة خضراء، وكأنه نسيج أخضر ملتف، ثم تنظر إلى هذه الشجرة إذا حطت ورقها فلا تجد إلا أعواداً جافة ليس عليها أي شيء. فهذا مثال عظيم وجلي يضربه النبي صلى الله عليه وسلم من واقع البيئة المشاهد الذي يراه الناس جميعاً مثلاً في حط الذنوب، وهذا دليل من الأدلة التي تدل على عموم التكفير بعموم المصائب.