المادة كاملة    
رحمة الله تعالى بعباده عظيمة، وإرادته الخير بالمؤمنين منهم أمر مقطوع به في مسلمات النصوص، ولا أدل على ذلك من تمحيصه جل جلاله أوزارهم وتكفيره سيئاتهم ومحوه لذنوبهم بما يبتليهم به من المصائب والهموم والأحزان؛ وهو الأمر الذي توافرت دلائل الوحي على بيانه ترغيباً للعباد في احتساب ما ينزل بهم عند ربهم تبارك وتعالى إن كانوا مؤمنين؛ إذ ليس للمشرك بربه من هذا الحظ العظيم نصيب، وإنما يراد من هذا الباب قرب العبد من مولاه بما لم يبلغه عمله، وأنى لمشرك أن يحظى بقرب؟!
  1. تمحيص المصائب الدنيوية وتكفيرها لذنوب المؤمن

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال الشارح رحمه الله تعالى: [السبب الرابع: المصائب الدنيوية، قال صلى الله عليه وسلم: ( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا غم ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر بها من خطاياه )، وفي المسند : ( أنه لما نزل قوله تعالى: (( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123] قال أبو بكر : يا رسول الله! نزلت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟! فقال: يا أبا بكر ! ألست تنصب؟! ألست تحزن؟! ألست يصيبك اللأواء؟! فذلك ما تجزون به )، فالمصائب نفسها مكفرة، وبالصبر عليها يثاب العبد، وبالسخط يأثم.
    فالصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه، ويكفر ذنبه بها، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله، والصبر والسخط من فعله، وإن كان الأجر قد يحصل بغير عمل من العبد، بل هدية من الغير، أو فضلاً من الله من غير سبب، قال تعالى: (( وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ))[النساء:40]، فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم، وكثيراً ما يفهم من الأجر غفران الذنوب، وليس ذلك مدلوله، وإنما يكون من لازمه]
    .
    1. أقسام النصوص الواردة في التكفير بالمصائب

      إن النصوص التي جاءت في المصائب التي تصيب المؤمن وما يناله من فضل في ذلك كثيرة، ويمكن أن نقسمها بحسب موضوع التكفير إلى قسمين كبيرين:
      القسم الأول: ما يدل على التكفير نصاً وصراحة، كما سنبين أنواعه إن شاء الله تبارك وتعالى، أعني النصوص الدالة على أن المصائب التي تنزل بالعبد المؤمن يكفر الله تبارك وتعالى بها عنه خطاياه.
      القسم الآخر: النصوص الدالة على أن المصائب التي تنزل بالعبد المؤمن يؤجر عليها ويثاب وينفعه ذلك، فهي لا تدل صراحة على تكفير الذنوب ومحوه الخطايا، لكنها تدل على حصول الأجر للمصاب، وحصول الأجر للمصاب هو فرع عن قبول الله تبارك وتعالى لصبره على المصيبة وتحمله لها، أو هو فرع عن تكفير الله سبحانه وتعالى له ذنوبه بالمصيبة، لكنه لا تصريح فيها بذلك التكفير، وهذا إذا فهم يجلي -إن شاء الله تعالى- ابتداء ما في كلام الشارح رحمه الله مما يشبه الغموض، ففي كلامه شيء من الاضطراب أو الغموض فيما يتعلق بهذين النوعين، فإذا قسمنا النصوص إلى هذين القسمين يتضح -إن شاء الله- الحديث فيهما، ولا سيما عندما نفصل.
      أما القسم الأول -وهو ما يتعلق بتكفير الذنوب- فإن النصوص الدالة عليه -أي: على أن المصائب تكفر الذنوب وتحط الخطايا- ثابتة وصحيحة، فهذا أصل عظيم وقاعدة عظيمة دلت عليها نصوص شرعية كثيرة والحمد لله.
      فمن ذلك نصوص وأدلة شرعية تدل بعمومها على تكفير الخطايا عامة، أي أن هذه الأدلة تدل على أن المصائب في الجملة دون تخصيص نوع منها تكفر الذنوب، وهذا هو النوع الأول من هذا القسم.
      النوع الثاني: دل على أن مصائب بعينها تتضمن لمن ابتلي بها أو أصيب بها أن يكفر الله تعالى عنه خطاياه.
    2. النصوص الدالة بعمومها على تكفير ذنوب المرء بما يبتلى به من المصائب والهموم

      فأما الأدلة التي تدل بعمومها وجملتها على أن العبد المؤمن يكفر الله تعالى عنه خطاياه وذنوبه بما يبتلي به من المصائب والآلام والهموم وأنواع الابتلاءات؛ فهي كثيرة وصحيحة.
      فمن ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وحديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم، وقد أشار الشارح رحمه الله تعالى إلى حديث عائشة رضي الله عنها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها )، فقوله: (ما من مصيبة) يدل على العموم؛ لأن (ما) نافية، و(من) زائدة للاستغراق، وجاء بعدها (مصيبة)، وهي في سياق النفي، فدل ذلك على الاستغراق والعموم، أي: أيّ مصيبة، ثم زاد صلوات الله وسلامه هذا العموم توكيداً بقوله: ( حتى الشوكة يشاكها )، أي: فلا يظن ظان أن المؤمن إنما يثاب ويؤجر وتكفر خطاياه بقتل أو ضرب أو حرب أو سجن أو ما أشبه ذلك مما يعلم الناس جميعاً أنه ابتلاء وأنه مصيبة، بل نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المثال، وهو أمر عارض يعرض لأكثر الناس، ولا سيما إذا تصورت حياة الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان أكثرهم يمشي حافياً، وحيث كانت الطرق -كالحال في بعض البيئات وفي بعض القرى- محفوفة بالأشواك والأشجار، وحيث كان القليل منهم يجد النعل الجيدة، فهناك تجد الإنسان لا يكاد يسلم وهو في طريقه إلى مزرعته أو إلى أي مكان من أن تدخل في رجله شوكة فينتزعها ويمضي في طريقه، وهو حدث يومي عادي عارض، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ليستيقن المؤمنون ويستبشروا برحمة الله وفضله ويعلموا أهمية وفضل الصبر والاحتساب الذي به يوفون درجتهم كاملة (( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ))[الزمر:10] فإن المصيبة الواحدة أو الهم أو الغم قد يشترك فيه اثنان أو أكثر بنفس الدرجة من الألم، ولكن يفرق بينهما أن أحدهما بلغ به الصبر واليقين والإيمان درجة عالية، فيؤجر أضعاف ما يؤجر الآخر ويكفر من خطاياه أضعاف ما يكفر عن الآخر، وهذا ما سننبه عليه -إن شاء الله- في كيفية التكفير أو في نوعيته.
      فالمقصود هنا بيان أهمية صبر المؤمن واحتسابه، وأن لا يأسى على ما يصيبه من الآلام والمصائب ما دام يعلم أنها من عند الله وأنها مكفرة لخطاياه.
      وهذا الموضوع له علاقة بمبحث القضاء والقدر، وقد سبق الشرح فيه مستفيضاً، وله علاقة -أيضاً- بموضوع الصبر الذي قد نتطرق له في القسم الثاني إذا أشرنا إليه، وهو موضوع عظيم من أعظم ما حث الله تبارك وتعالى عليه في كتابه، كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: تأملت القرآن فوجدت أن الله تبارك وتعالى ذكر الصبر في أكثر من تسعين موضعاً.
      فانظر إلى هذه المزية لهذا العمل العظيم من أعمال الإيمان والتقوى، وقد فصل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وجوه مواضع الصبر فوزعها على ستة عشر وجهاً، أي: جاء الصبر مذكوراً في القرآن بأساليب متنوعة على ستة عشر وجهاً، كالثناء على أهله، وذكر فضله، وذكر جزائه.. إلى آخر ذلك، وذكر رحمه الله أيضاً أقسام الصبر وفضل كل واحد منها، وهي الصبر بالله، والصبر لله، والصبر مع الله.
      فالله تعالى قال في القرآن: (( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ))[النحل:127] فـ الصبر بالله معناه: الاستعانة بالله تبارك وتعالى؛ لأنه إن لم يُصَبِّر العبد فلن يصبر، فالله تبارك وتعالى هو المعين وهو المصبر للعبد، فالمحظوظ من رزقه الله تعالى الصبر على ما يقدره الله تعالى عليه وعلى ما يبتليه ويصيبه به لينال هذه الدرجة العظيمة.
      والصبر لله معناه: أن تعمل كل عمل لوجه الله، أي: محبة لله، ومن أجل الله، وقياماً بأمر الله، وتبليغاً لدعوة الله، ونصحاً للأمة، كما أمر الله تبارك وتعالى بأن يكون كل عملك لله عز وجل، وتصبر على ما تلاقي لله تبارك وتعالى.
      وأما الصبر مع الله فمعناه: أن تصبر على أوامر الله تبارك وتعالى، وأن تراقب الله تبارك وتعالى بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، وتصبر على ذلك.
      كما أن الصبر ينقسم إلى صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله.
      وقد ذكر الله تبارك وتعالى ما يدل على الفضل العظيم للصبر في قوله عز وجل: (( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ))[السجدة:24]، قال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى -وهو من هو علماً وفضلاً وصواباً وحكمة في الرأي-: (أخذوا برأس الأمر فجعلهم رؤساء على الناس) أي: لما أخذوا برأس الأمر وأعظم الأمر في هذا: الدين -وهو الصبر واليقين- جعلهم أئمة للهدى والتقى، فالصبر واليقين هما من أعظم حقائق الإيمان وأعمال الإيمان الباطنة، جعلنا الله من الصابرين ومن الموقنين؛ إنه سميع مجيب.
      وأخرج البخاري من حديث أبي سعيد الخدري و أبي هريرة رضي الله عنهما: ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه ).
      وفي هذا الحديث زيادة في استغراق كل أنواع الألم، فإن النصب والوصب والهم والحزن يستغرق كل ما يتصور أن ينزل بالإنسان من البلاء؛ لأن بلاءه إما أن يكون ناتجاً عن مرض في جسمه من عند الله يبتليه به، وإما أن يكون ناتجاً عن ألم أو أذى خارجي عن الإنسان، كأن يضرب أو يؤذى من الناس، وإما أن يكون الأذى حسياً، وإما أن يكون معنوياً، فكل أنواع الأذى المتخيلة والمتصورة لا تخرج عن هذه الأنواع التي هي متقاربة في المعنى من حيث اللغة، وكلها متلازمة عادة، فالذي يمرض يناله هم المرض، والذي يهتم فإنه غالباً يتعب ويألم، وهكذا استغرق هذا البيان النبوي العظيم كل ما يمكن أن يصل إلى أن يؤذي الإنسان أو يؤلمه من الآلام المعنوية والآلام الحسية، وبشر صلى الله عليه وسلم بأنه يكفر الله تعالى به من خطاياه، وهذا فضل من الله تعالى عظيم.
      وأخرج البخاري كذلك من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من مسلم يصيبه أذى مرض فما سواه )، فنص على المرض لأنه أكثر ما يؤلم الناس عادة، وإذا ذكر البلاء أو المصيبة فأول ما ينصرف إليه ذهن الإنسان هو المصائب التي تقع في بدنه، فقد فطر الله تبارك وتعالى الإنسان على أن يحب العافية لبدنه، ولا إشكال في ذلك، لكن الناس قد يغفلون عن أهمية عافية القلب وعن ضرورة الاهتمام بصحته ودفع كل الأسقام والأمراض عنه.
      فالمرض هو أكثر ما يخطر في بال المرء، فذكره صلى الله عليه وسلم نصاً لهذا السبب، وربما كان المقام يقتضيه، ولكنَّه عمم بعد ذلك فقال: ( فما سواه )، فلا يختص ما سيذكر من الفضل بالمرض، بل يشمل كل مصيبة أو ألم ينزل بالإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: ( إلا حط الله له سيئاته كما تحط الشجرة ورقها )، و(سيئاته) جمع مضاف يدل على استغراق كل أنواع السيئات ما عدا الكفر على ما سنوضح إن شاء الله، فالمقصود هنا المؤمن المسلم ما دام ثابتاً على ذلك لم يبدل ولم يرتد.
      ثم مثل النبي صلى الله عليه وسلم لزيادة الحط بقوله: (كما تحط الشجرة ورقها)، وأنت إذا رأيت أي نوع من أنواع الشجر الذي يحط ورقه إذا رأيته في فصول الخضرة وزيادة الطلع والورق تجد أنه يكاد يكون قطعة خضراء، وكأنه نسيج أخضر ملتف، ثم تنظر إلى هذه الشجرة إذا حطت ورقها فلا تجد إلا أعواداً جافة ليس عليها أي شيء.
      فهذا مثال عظيم وجلي يضربه النبي صلى الله عليه وسلم من واقع البيئة المشاهد الذي يراه الناس جميعاً مثلاً في حط الذنوب، وهذا دليل من الأدلة التي تدل على عموم التكفير بعموم المصائب.
    3. النصوص الدالة على التكفير بمصائب معينة

      وهناك أدلة خاصة تدل على مكفرات خاصة من الذنوب، منها ما رواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم ).
      فالمصيبة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هي فقد الإنسان لأحب الناس إليه، والغالب أن الإنسان يكون أبناؤه أحب شيء إليه، ولهذا ابتلى الله تبارك وتعالى وامتحن الخليل عليه السلام بذبح ابنه، فإذا فقد المرء المسلم ثلاثة من ولده؛ فإن الله تبارك وتعالى يكفر بذلك عنه خطاياه، فلا يدخل النار إلا تحلة القسم.
      وهناك مكفر آخر نص عليه، وفيه من الرحمة والحكمة الربانية الشيء العظيم، فقد روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم ( دخل على أم السائب -أو أم المسيب - فقال: مالك يا أم السائب -أو أم المسيب - تزفزين؟! -أي: ترتعدين- قالت: الحمى لا بارك الله فيها )، وهكذا يألم الناس حتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكل إنسان لا يريد الألم ولا يريد أن يتعرض لهذا الشيء، وإذا أصابه ألم فقد يخرج من العبارات ما يدل على ألمه، فهي لم تتحمل ولم تطق الحمى، فقالت: لا بارك الله فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبي الحمى؛ فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد ).
      فانظر إلى هذه الرحمة الربانية، فالحمى من أكثر الأمراض شيوعاً؛ لأن الغالب أن الحمى وزيادة الحرارة مصاحبة للمرض، وإن كان هناك أمراض -نسأل الله أن يعافينا وإياكم منها- قد يكون فيها انخفاض للحرارة، لكن الغالب على الناس هو ارتفاع الحرارة في أبدانهم إذا مرضوا، وهذا دليل على سعة رحمة الله سبحانه وتعالى، فهذه من المكفرات التي تقع وتعرض لكثير من الناس وهم في غفلة عنها لا يعلمون أنها رحمة من الله سبحانه وتعالى، وأن عموم الابتلاء بها من مقتضى رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، فـ كلما كان البلاء أعم كانت الرحمة به أعم، وهذا من عظيم رحمة الله سبحانه وتعالى وسعتها وشمولها، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن لله تعالى مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ) والذي نراه كله من آثار الرحمة التي لا يسع مقام لتفصيلها، إنما هو أثر من آثار رحمة واحدة من رحمة الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال تعالى: (( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ))[الأعراف:156]، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمنا برحمته.
      فالحمى هذه يكرهها أكثر الناس، ويسارعون إلى العلاج منها، ولا ينكر السعي للعلاج منها، لكن المقصود أن من ابتلي بها عليه أن يصبر ويحتسب، وليثق بوعد الله كما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وماذا تريد من أمر يقدم لك هذه الهدية العظيمة وهذا الفضل الكبير فيذهب الخطايا كما يذهب الكير خبث الحديد أكثر من ذلك؟!
      ومناسبة ذكر الكير لكونه حاراً، والحرارة تصهر الحديد فيتطاير ويذهب عنه الخبث، ويبقى النقي منه، وكذلك هذه الحرارة كأنها كير يوقد على جسم الإنسان فيتطاير منه الذنوب، وهي تعم جميع الجسد، فتخرج ذنوب الرأس -وما أكثرها- وما وعى، والبطن وما حوى، وذنوب السمع وذنوب البصر: (( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ))[الإسراء:36]، وذنوب اليدين، وذنوب الرجلين، وذنوب الفرج، فهذه الحمى تعم جميع الجسد، فتعم -بإذن الله تبارك وتعالى- جميع الخطايا فتذهبها وتنقي الإنسان منها كما ينقي الكير الحديد فيذهب خبيثه ويبقي جيده، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى.
      وهناك أدلة أخرى كثيرة، والمقصود من هذه الأحاديث الصحيحة التنبيه على كلا النوعين؛ أعني: ما دل على التكفير بعموم المصائب، وما دل على التكفير بمصائب خاصة.
  2. بيان ما تكفره المصائب من الذنوب

     المرفق    
    1. خروج الشرك من دائرة التكفير بالذنوب

      بقي أن نقول: ما نوع الذنوب التي تكفرها المصائب؟
      أما أعظم الذنوب وشر الذنوب وأخطرها -وهو الشرك بالله- فلا تكفره المصائب والابتلاءات من الأمراض والهموم والحزن والوصب والنصب وغير ذلك، فالشرك بالله لا يكفره شيء غير التوبة منه، فلا بد من أن يتوب العبد من الشرك ويدخل في التوحيد إن كان كافراً أصلياً، أو يعود إلى الإيمان والتوحيد إن كان مرتداً بعد إيمانه نسأل الله العفو والعافية.
      وإذا أصيب المشرك بمرض أو مصيبة وصبر واحتسب فإنه يعطى أجره في الدنيا ثناءً من الناس أو ذكراً عندهم بعد موته، أو يعطى أجره بالطمأنينة، أو براحة المرض أو خفته، أو بأن يرزق الصبر على المرض، ولا شك في أن الصبر يعطي المريض طمأنينة وراحة وارتياحاً، بخلاف حال القانط مسلماً كان أو كافراً، فإن من يقنط أو يتسخط من المرض أو البلاء يزداد ألماً، وأما من يصبر فإنه يطمئن ويرتاح ولو كان كافراً، فالله تعالى لا يضيع عمله في الدنيا، بل برحمته وفضله يجازي الكافر على ما عمله من صدقة أو إحسان أو صبر أو شجاعة، فيعطيه جزاءه في هذه الدنيا، أما في الآخرة فقد قال تعالى: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ))[هود:16]، ولا ينفعهم أي قربة يتقربون بها إلى الله، كما قال تعالى: (( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ))[الفرقان:23].
      ولذا يجب أن نؤكد جميعاً -الخطيب والداعية والمعلم- على خطر الشرك وضرره دائماً وأبداً، ويجب أن لا يمل هذا التأكيد أبداً؛ لأن الشرك أخطر الذنوب وأعظم الذنوب، وقد أكد الله تعالى خطره وضرره، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم.
    2. جواب إشكال في حديث عبادة على قاعدة امتناع تكفير الشرك بالمصائب

      وهناك ما قد يشكل على ما قررناه بشأن تكفير المصائب للشرك، وهو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الصحيح: ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له ).
      قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في هذا الحديث الشرك مع كبائر أخرى ثم قال: ( فمن وفى منكم فله الجنة )، ولا إشكال في أن من بايع النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، أو دخل في دين الله تعالى ووفى فلم يشرك بالله ولم يزن ولم يسرق، بل اجتنب كل ما حرم الله، وأتى بما أمر الله به من الواجبات، لا إشكال في أن جزاءه الجنة، لكن الإشكال في قوله: ( ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب فهو كفارة له )؛ إذ قوله: ( ومن أصاب شيئاً من ذلك ) كأنه يشمل كل ما تقدم ومن جملته الشرك، وعليه فمن أصاب شيئاً من الشرك يكفر عنه بالعقوبة، سواء كانت عقوبة قدرية من المصائب، أم عقوبة شرعية كأن يقتل -مثلاً- أو يضرب وما أشبه ذلك.
      ولا ريب ولا شك في أن الشرك لا يدخل أبداً في التكفير بالعقوبة، ولكن كيف يجاب عن هذا الحديث؟
      لقد أجاب العلماء رضي الله تعالى عنهم بأجوبة:
      منها: أن المخاطب بهذا الحديث هم المسلمون، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخاطب المسلمين، وقرينة الحال تدل على عدم العموم.
      ولذا ينبغي أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنَّه بايع أصحابه المؤمنين، فمبايعته صلى الله عليه وسلم من يدخل في الإسلام حديثاً شيء معلوم، لكنه كان يبايع المؤمنين أيضاً إما على الدين كله كما في هذا الحديث، وإما على نوع منه، كما بايع الصحابة رضي الله عنهم تحت الشجرة.
      فالمبايعة قد تحصل لهم وهم مؤمنون، والنبي صلى الله عليه وسلم يخاطبهم وهم مؤمنون، فقرينة الحال تدل على أن الشرك لا يدخل في ذلك؛ لأنه بايع أناساً غير مشركين.
      وهذا الجواب لا بأس به، لكن يرد عليه أنه قال: ومن أصاب شيئاً من ذلك، فيحتمل أن يقع منه الشرك، فقرينة الحال ضعيفة في هذا الجواب.
      وقال بعض العلماء: نحمل الشرك هنا على الشرك الأصغر، فنقول: إذا كانوا مؤمنين وبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يشركوا؛ فمراده صلى الله عليه وسلم أن يبايعوه على أن لايراءوا أو يرتكبوا الشرك الأصغر، فمن ارتكب الرياء فإنه يكفر عنه إذا عوقب بعقوبة شرعية أو قدرية.
      وهذا الجواب فيه نظر؛ لأن الأصل أنه إذا ذكر الشرك فهو الشرك الأكبر، فالنبي صلى الله عليه وسلم -وإن كانوا مؤمنين- أراد أن يؤكد لهم خطر الشرك ويبايعهم على تركه.
      وقد قلنا في مبحث الحكم بغير ما أنزل الله وموضوع إطلاق كلمة الكفر: إن الأصل أنه إذا وردت كلمة الكفر أو الشرك -ولاسيما في القرآن- فالمراد بها الأكبر، ويحتاج من يخرج شيئاً من ذلك إلى دليل خاص.
      وأما الجواب الثالث فهو جواب سهل على ضوء القواعد الأصولية، ولا غرابة فيه، وهو أن يقال: نحمل بعض النصوص على بعض، فنقيد إطلاق بعضها ببعض، ونخصص عموم بعضها ببعض، فعموم قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ومن أصاب) يخصصه قوله تبارك وتعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48].
      وهذا الجواب هو الذي قواه الإمام النووي واختاره الإمام ابن حجر رحمهما الله تعالى، ونستطيع أن نقول: إنه كالبداهة؛ إذ لا يخفى على من عرف الأدلة أن هذا يخصص ذلك، لكن العلماء الآخرين أرادوا أن يستخرجوا من نفس الحديث أنه لا يدل بالضرورة على ما قد يفهم من ظاهره، وهو أن الشرك يمكن أن يكفر عن صاحبه بمصيبة أو ابتلاء.
      إذاً: هذا النوع الأول من أنواع الذنوب، وهو الشرك، فـ الشرك لا يكفر بالمصائب، والوعيد الذي جعله الله سبحانه وتعالى للمشركين في القرآن أو في السنة نافذ في حقهم ولا بد: (( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ))[المائدة:72].
    3. تكفير الكبائر بالمصائب

      النوع الثاني: الكبائر، فهل تكفر المصائب الكبائر أم لا تكفرها؟
      الصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة أن المصائب تكفر الكبائر، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذا: (يجوز عندهم)، ومعنى الجواز أن المسألة ليست مطلقة، فلا نقول: إنه لا يدخل النار أحد من أهل الكبائر مطلقاً، ولا نقول: لا بد من أن يدخل النار كل أهل الكبائر، وإنما نقول: الواقع أن الله سبحانه وتعالى يعذب بعضهم وقد يعفو عن بعضهم.
      أما الذين يقولون: يجوز أن لا يدخل النار من أهل الكبائر أحد فهؤلاء هم المرجئة ، وقولهم مردود.
      والذين قالوا: إن كل أهل الكبائر سيدخلون النار ولن يبقى منهم هم الخوارج وأهل الغلو.
      فهنا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (يجوز عندهم -يعني: عند أهل السنة والجماعة - أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب، إما لحسنات تمحو كبيرته) وهذا ما تقدم في المبحث الماضي (وإما لمصائب كفرتها عنه) وإما لغير ذلك من أنواع التكفير بالخطايا كما تقدم، فلا إشكال -إن شاء الله- في أن الكبائر تكفر بالمصائب؛ لعموم ما ذكرنا من الأدلة، كالهم والوصب والحزن حتى الشوكة يشاكها، فهذه المكفرات تدخل فيها أيضاً الكبائر ولا شك في هذا.
    4. جواب إشكال تقييد إطلاق التكفير بالمصائب بحديث (ما اجتنبت الكبائر)

      وقد يقول قائل: إن هذا التكفير خاص بالصغائر، ويستدل لذلك بما قررناه سابقاً في حديث: ( الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر )، فيقول: نحمل المطلق على المقيد، فنقول: إن هذه الأحاديث في فضل المصائب وتكفيرها للذنوب محمولة على حديث: ( ما اجتنبت الكبائر )، وعليه فلا تكون المصائب مكفرة إلا للصغائر.
      والجواب عن ذلك: أنه لا يحمل المطلق على المقيد -ولا سيما في مثل هذا الموضع- لأن سبب التكفير مختلف، فالتكفير في حديث: ( ما اجتنبت الكبائر ) واقع بفعل الحسنات، وموضوع التكفير بفعل الحسنات شيء، وموضوع التكفير بوقوع المصائب شيء آخر، فليس السبب واحداً، ولا بد في حمل المطلق على المقيد من اتحاد السبب والحكم حتى نحمل هذا على هذا، فالمصائب شيء غير الطاعات.
      ومما يقوي هذا أننا نقول لهم: أوليس الذي يرتكب الكبيرة يعاقب شرعاً؟! فهناك عقوبات شرعية قدرها الشرع، وأخرى لم يقدرها لكن دل على أصلها، أعني الحدود والتعازير، فلو أن إنساناً اختلس مالاً أو نهبه أو غش أو خلا بامرأة؛ فإنه يقرع ويعنف ويعاقب، وإن كان ما أتاه حداً فالحدود تقام كما شرع الله وكما أمر، وهي عقوبة يألم بها، وبهذا الألم تكفر عنه الخطيئة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من عوقب في الدنيا ومن أقيم عليه الحد فهو كفارة له.
      فـ إذا كانت العقوبة قدرية لأنه زنى أو سرق، ولم يعاقبه الله تعالى بأيدينا، وإنما بمصيبة نزلت عليه -نسأل الله العفو والعافية من الذنوب ومن المصائب- فألم به مرض أو امتحن، كرجل زنى -عياذاً بالله- ولم تقم عليه العقوبة، لكن الله تعالى ابتلاه على ذلك وعاقبه بمرض من الأمراض الخبيثة التي تصيب الأعضاء التناسلية، فحصلت العقوبة بشكل آخر؛ فما المانع أن تكون كفارة لذلك الذنب؟!
      إن اللائق بحكمة الله وعدله وفضله ورحمته أن تكون هذه المصيبة مكفرة لما قد اقترف، وهذا هو الراجح، ولا سيما -كما قلنا- أن السبب مختلف، فلا يصح حمل تكفير الكبائر بالمصائب على حديث: ( ما اجتنبت الكبائر ).
      وهنا شيء آخر، وهو قوله تعالى: (( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ))[النساء:31]، فهذا موضوع آخر، وهو دليل على أن من اجتنب الكبائر غفر الله له الصغائر وكفرها عنه، لكننا هنا نتكلم عن سبب من فعل العبد، وهو أن يفعل الحسنات، أو أن يصاب بمصيبة فيصبر.
      فالمقصود هنا التكفير بسبب، سواء كان من عند الله سبحانه بمصيبة وقعت على العبد، أم كان من فعل العبد، ولفعل العبد علاقة به.
      أما أن يكفر الله تعالى عنه لمجرد أنه اجتنب الكبائر فذلك واضح إن شاء الله، فترك الكبائر في ذاته خير كبير، ويبشر صاحبه بأن تكفر عنه الصغائر.
    5. تكفير الصغائر بالمصائب

      ???? ??? ???? ??? ?? ????: ?? ???? ???? ?? ????? ??????? ????????? ??????? ??? ??? ????? ?? ??????? ???? ????????? ??? ?????? ?? ???? ??????? ????? ???? ???? -?????? ???- ?? ???? ??? ??? ??????? ????? ???? ?????.
  3. كيفية التكفير وأهمية ما يقوم بقلب العبد في التكفير حال وقوع المصيبة

     المرفق    
    وإذا عرفنا أنواع الذنوب، وعرفنا الأدلة على التكفير بالمصائب؛ فقد بقي أن يقال: فما كيفية تكفير الذنوب بالمصائب؟
    فنقول: إن كيفية التكفير ترجع إلى مسألة الموازنة التي تحدثنا عنها سابقاً، بمعنى أن الخطيئة أو الكبيرة بقدر كبرها وعظمها تحتاج إلى مصيبة تساويها في الكبر، فالذنوب الصغيرة تكفرها المصائب الصغيرة، والذنوب الكبيرة تكفرها المصائب الكبيرة، وهذا قد لا يكون موضع خلاف.
    لكن هناك نظرة أخرى، وهي أنه قد يصاب الإنسان أو يألم بألم يسير، ويكون أجره عظيماً جداً وكبيراً عند الله تبارك وتعالى، وربما أصيب بمصيبة كبيرة فلم يحصل له منها فائدة ولا تكفير نسأل الله العفو والعافية، وهذا هو المهم من الناحية التزكوية والتربوية، فالمهم هو: ما الذي يجعل هذا يثاب ويؤجر وتكفر خطاياه بابتلاء يسير، ويجعل ذاك يبتلى بتلك البلايا الكثيرة فلا يحصل له ذلك الأجر؟
    والجواب أن ذلك مبني على ما في قلب كل منهما، فالمرجع إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ( التقوى هاهنا )، والتقوى هنا تشمل -كما ذكرنا في مبحث الألفاظ المطلقة والمقيدة- كل عمل من أعمال الخير، كاليقين والإخلاص والصدق والصبر والإنابة والضراعة، فكلها تدخل في التقوى ويشملها عمومها وهي من لوازمها، فبحسب ما يقوم بالقلب من حقائق الإيمان يكون أجر المرء، ولذلك لم يكن شرطاً في أي نبي -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- أن يضرب ويجرح كل يوم أو مرات كثيرة ويقتل حتى تعلو درجته، لكنه إذا ابتلي بأمر صبر واحتسب بقلبه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى الطائف رموه بالحجارة حتى أدموا عقبه الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وإدماء العقب أخف من القتل، لكن أجر النبي صلى الله عليه وسلم عليه عظيم جداً، فهو أعظم من أجر من سواه ممن قتل من الناس؛ لما يقوم في قلبه صلوات الله وسلامه عليه من الإيمان ومعرفة الله وتبارك وتعالى واحتساب الأجر في ذلك.
    وهذا ملحظ عظيم يجب أن نتنبه له في الفرق بين الصحابة ومن بعدهم، والفرق بين المخبتين المنيبين والخاشعين وغيرهم، فـ ليس كل مصل كأي مصل، وليس أي مجاهد أو منفق كغيره، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( سبق درهم ألف درهم )، وربما سبقت ركعة ألف ركعة، وربما سبقت كلمة في سبيل الله ألف كلمة، وربما سبقت وقفة لله ألف وقفة، وهكذا، بحسب ما يقوم في قلب القائل أو الواقف أو المجاهد من حقائق الإيمان، ولهذا غفر الله لبغي بسقيها كلباً، وليست كل بغي يكفر عنها بأي شربة أو إطعام أو نفقة، لكن هذه البغي من بغايا بني إسرائيل التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم كان في قلبها من الإيمان والاحتساب وإذلال نفسها لله والابتعاد عن الكبر مع حصول البعد عن الناس في جملة دواعٍ كثيرة جعلت سقيها للكلب مغفوراً به ما كانت تفعله من الزنا الذي عظم الله تعالى أمره وحذر منه.
    فالقضية هي قضية ما يقوم بقلب الإنسان من ذلك، وليست القضية قضية صورية، بمعنى أن تقع مصائب أو ابتلاءات فيكفر عن الإنسان بنوع ما من أنواع التكفير المذكورة، وإنما لا بد في ذلك كله من مراعاة قلبه وحاله، فـ المرجع في هذا التفضيل بين مكفر ومكفر للذنوب والمعاصي هو النظر إلى قلب صاحب المصيبة أو المبتلى بها.
    وهنا نقول: إن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم سبقوا من بعدهم ولم يلحقهم من جاء خلفهم؛ لأن حقائق الإيمان كانت في قلوبهم أعظم من غيرهم، فصبرهم ليس كصبر غيرهم، فما صبر أحد كصبرهم، ولا أيقن أحد كيقينهم، ولا جاهد أحد كجهادهم، وإن كانت الصورة سواء، وما كانوا يصلون أكثر مما صلَى من بعدهم، بل الثابت من سير العلماء -كما في حلية الأولياء أو صفة الصفوة أو الطبقات لـابن سعد وغير ذلك من الكتب التي تتحدث عن أحوال العلماء والأئمة والصالحين -أن التابعين فمن بعدهم نقل عنهم من قيام الليل ودوام الذكر وقراءة القرآن أكثر مما نقل عن الصحابة، ولا يعني ذلك أنهم أفضل؛ لجملة أسباب، منها: أن الصحابة كانت الحقيقة الإيمانية عندهم من حقائق الإيمان كاليقين أو الصبر أو الإخلاص؛ تساوي تعب ذلك العمر كله، فربما تعادل قيام ذلك الليل كله ركعة واحدة من ركعات أحد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
    فمن هنا كان التركيز على أهمية القلب وعلى ضرورة إصلاح القلب، فقال صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: (القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا صلح الملك صلحت الجنود) هكذا وإذا فسد الملك فسدت الجنود.
    ولذلك كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أكثر الناس إيماناً وأعلاهم درجة في هذا، ومن دلائل قوة إيمانهم أنهم كانوا يحتملون الوارد عليهم من هذه الحقائق، فـ الصحابي إذا ذكر الله تعالى وتأمل في ملكوت السماوات والأرض وقرأ شيئاً من كتاب الله ينزل على قلبه من حقائق الإيمان الشيء العظيم، ومع ذلك يظل ثابت الجنان، وهذا دليل على قوة الإيمان وقوة التحمل؛ إذ إن هذه الحقائق لو نزلت على قلب أحد ممن بعدهم ما احتملها؛ لأنها تكون عليهم أشد وفوق طاقتهم، ولهذا كان يكثر في حياة التابعين فمن بعدهم أن يسمع الواحد منهم الآية فيغمى عليه أو يسقط، وهذا في الصحابة قليل، فهل يقال: إن هؤلاء أكثر إيماناً بهذه الحقائق أو الواردات التي وردت على قلوبهم من الصحابة؟!
    والجواب: لا، لأن احتمالهم أضعف، أما الصحابة رضوان الله تعالى عنهم فإنهم كانوا يتحملون أقوى ما يرد على قلوبهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، فإذا عرض لأحدهم عارض من الإغماء ونحوه فعلى سبيل الندرة، وليس هو الأصل عندهم. كما حدث ذلك لمن بعدهم، حتى نقلت عجائب من هذا عن بعض العباد، فبعضهم كان إذا سمع القرآن لا يطيقه حتى يسقط، وبعضهم مات بسبب سماعه لبعض الآيات، ولا شك في أن هذه -إن شاء الله- خاتمة خير وعاقبة حسنة، لكن أقوى من ذلك وأفضل هو حال ذلك الذي إذا سمع القرآن استطاع أن يتحمل ما يرد على قلبه من المعاني، ومن هنا لا يمكن أن يقول أحد: إن من بعد الصحابة كانوا أفضل منهم، وبذلك نرد على الصوفية الذين يدعون أن أولياءهم وصلوا في العبادة إلى اليقين والدرجة العليا، ويستدلون بمثل هذه الأمور، حتى دخل بعضهم في النفاق -والعياذ بالله- من هذا الباب، وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس عجائب من هذا، وأن مما يلبس به الشيطان عليهم أنهم يكون أحدهم في المسجد بين عامة الناس فتتلى آية من آيات العذاب فيسقط أو يشهق أو يصيح، فيحمله الناس إلى البيت ويغمى عليه، ويتحدثون بذلك عنه، وهذا باب من أبواب الفتنة -نسأل الله العفو والعافية- لبس به الشيطان على بعض العباد.
    أما الصحابة رضوان الله تعالى عنهم فكانوا كما كان صلى الله عليه وسلم، كان صدره كأزيز المرجل يغلي، ولكن لا يكاد يشعر به أحد، وأحياناً لا يشعر به أحد ولا يكون له حتى الأزيز.
    فهؤلاء هم في الدرجة الأفضل والأمثل، وقد سلموا من تلبيس إبليس، وسلموا من الفتنة، وسلموا من أنفسهم من أن ترى أنها أقرب إلى الله كما قد يزين الشيطان، فإنه عدو ماكر لا يُؤمَن، فنسأل الله أن يعافينا أجمعين منه، ويعيذنا من شره وخبثه.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.