المادة كاملة    
من جملة أحكام التوبة ما يتعلق بالتوبة من أخذ أموال العباد ظلماً إذا تعذر عليه ردها لأهلها؛ وفي هذه المسألة نزاع عظيم بين العلماء يفيد العاقل البصير أن يتحاشى إيراد نفسه مثل هذه الموارد المهلكة، وأعظم من ذلك القتل العمد، وفي حكم توبته نزاع بين العلماء أشد من نزاعهم في سابقة هذه المسألة، وما أورده مانعو توبته من الأدلة من القوة بمكان، الأمر الذي يجنح بالتقي إلى البعد عن هذه الجريرة وعن كل سبب مفض إليها.
  1. ما يبقى على القاتل من حق بعد تسليمه نفسه لأولياء القتيل

     المرفق    
    هنا مسألة أخرى، وهي فيما يبقى على القاتل من حق إذا سلم نفسه لأولياء الدم، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (واختلفوا فيما إذا تاب القاتل وسلم نفسه) لأولياء المقتول (هل يبقى عليه يوم القيامة للمقتول حق؟) فقال بعض العلماء: ما تريدون أن يفعل أكثر من أنه يذهب ويسلم رقبته لأولياء الدم ويقول: افعلوا ما شئتم؟! قالوا: (لا يبقى عليه شيء؛ لأن حده هو القصاص، والحدود كفارة لأهلها، وقد استوفى ورثة المقتول حق مورثهم وهم قائمون مقامه في ذلك، فكأنه قد استوفاه بنفسه) إذ لا فرق بين أن يستوفي الإنسان حقه بنفسه أو يستوفيه له وليه أو وكيله، فهذا كما لو أن القتيل بنفسه قتله أو عفا عنه أو أخذ الدية، فبذلك ينتهي الأمر، ولا مطالبة بين يدي الله تعالى.
    قال رحمه الله تعالى: (يوضح هذا أنه أحد الجنايتين، فإذا استوفيت منه لم يبق عليه شيء، كما لو جنى على طرفه فاستقاد منه فإنه لا يبقى له عليه شيء) كما لو كان قطع يده أو رجله فأخذ بالقود فقطعه.
    قال رحمه الله تعالى: (وقالت طائفة من العلماء: المقتول قد ظلم وفاتت عليه نفسه ولم يستدرك ظلامته، والوارث إنما أدرك ثأر نفسه) إذ الحقوق ثلاثة: حق لله لأنه حرم القتل، وحق للمقتول لأنه قتل بغير حق، وحق للورثة لأن قتل مورثهم ووليهم أغاظهم وأحزنهم، فحق الله يسقط بالتوبة، وحق الورثة يسقط بأن يقتصوا منه أو يأخذوا منه الدية أو يعفوا عنه، ويبقى حق المقتول.
    قال رحمه الله تعالى: (وحق الوارث قد استوفاه بالقتل، وهو مخير بين ثلاثة أشياء: بين القصاص والعفو مجاناً أو إلى مال، فلو أحله أو أخذ منه مالاً لم يسقط حق المقتول بذلك، فكذلك إذا اقتص منه؛ لأنه أحد الطرف الثلاثة في استيفاء حقه، فكيف يسقط حق المقتول بواحد منها دون الآخرين؟! قالوا: ولو قال القتيل: لا تقتلوه لأطالبه بحقي يوم القيامة، فقتلوه، أكان يسقط حقه أو لم يسقطه؟! فإن قلتم: يسقط فباطل؛ لأنه لم يرض بإسقاطه، وإن قلتم: لا يسقط؛ فكيف تسقطونه إذا اقتص منه مع عدم العلم برضا المقتول بإسقاط حقه؟!) فألزموهم إلزاماً عقلياً.
    يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهذه حجج كما ترى في القوة لا تندفع إلا بأقوى منها أو بأمثالها، فالصواب -والله أعلم- أن يقال: إذا تاب القاتل من حق الله وسلم نفسه طوعاً إلى الوارث ليستوفي منه حق موروثه سقط عنه الحقان)، فيسقط عنه حق الله وحق الوارث، (وبقي حق المقتول لا يضيعه الله، ويجعل من تمام مغفرته للقاتل تعويض المقتول؛ لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله، والتوبة النصوح تهدم ما قبلها، فيعوض هذا عن مظلمته ولا يعاقب هذا لكمال توبته) وهذا من كمال حكمة الله تعالى، حيث يعوض هذا عن مظلمته ولا يعاقب هذا لكمال توبته.
    قال رحمه الله تعالى: (وصار كالكافر المحارب لله ورسوله إذا قتل مسلماً في الصف ثم أسلم وحسن إسلامه، فإن الله سبحانه يعوض هذا الشهيد المقتول من عنده ويغفر للكافر بإسلامه) والإسلام يجب ما قبله، ولا يؤاخذه بقتله ذلك المسلم أيام كفره.
    قال: (وعلى هذا إذا سلم نفسه وانقاد فعفا عنه الولي وتاب القاتل توبة نصوحاً؛ فالله تعالى يقبل توبته ويعوض المقتول، فهذا الذي يمكن أن يصل إليه نظر العالم واجتهاده، والحكم بعد ذلك لله: (( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ))[النمل:78])، هذا غاية ما نستطيع أن نقوله في هذه المسألة، ولا شك في أن ما قاله رحمه الله هو اللائق بحكمة الله وهو اللائق بعدل الله؛ فإن الله لا يحرم أحداً من حقه في الدنيا أو في الآخرة، كما أن بابه تعالى للتوبة مفتوح لا يمنعه عن أحد، ففي هذا القول الجمع بين تحقيق ما أراده الشرع من مصالح عظيمة في التوبة وقبول توبة التائبين وفتح الباب لهم، وتحقيق ما وعد الله تعالى به وأوجبه على نفسه من أنه لا بد من أن يجازي وأن يرحم وأن يتفضل، وأنَّه لا يرضى بأن يظلم سبحانه أحداً، ولا بأن يظلم أحداً أحد من المخلوقين مثله، وهذا من فضل الله تعالى على عباده.
    وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام في أحكام التوبة، وهي المانع الأول والأكبر من موانع إنفاذ الوعيد، وبعد ذلك سيكون الكلام في مانع آخر قريب منها ومتداخل معها، وهو مانع الاستغفار.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
  2. توبة من أخذ أموالاً من غير حلها وتعذر عليه ردها إلى أهلها

     المرفق    
    1. ذكر مذهب القائلين بتعذر التوبة في حقه

      الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد بقي من موضوع التوبة مسائل: الأولى: مسألة من أخذ أموالاً من حقوق العباد من غير حلها، ولم يستطع سبيلاً إلى ردها، كأن يكون أصحابها قد ماتوا ولا يعرف ورثتهم أو يجهلهم، أو حصل أي مانع من الموانع التي تحول دون معرفة أصحاب هذا المال، فلم يستطع أن يؤدي إليهم حقهم، فكيف يتوب مثل هذا؟ والجواب أن هذه مسألة خلافية، حيث قالت طائفة من العلماء: لا توبة من مظالم العباد وحقوقهم إلا بأدائها ودفعها إلى أربابها، وعلى هذا فمن تعذر عليه أداء حق العبد إليه فقد تعذرت عليه التوبة، فلا سبيل إلى التوبة، وليس أمامه إلا الانتظار إلى يوم القيامة ليأخذ أولئك من حسناته مقابل ما أخذ من حقوقهم. وقال هؤلاء: إن الله تعالى لا يترك حقاً لمخلوق أبداً، فحقوق العباد لا يتركها الله عز وجل، ولا بد من أن يوفيها أهلها ولو كان الحق لطمة أو كلمة أو رمية بحجر أو ما أشبه ذلك مما قد يحتقره بعض الناس، فإن الله تعالى يأخذ للمظلوم حقه من الظالم يوم القيامة. وقالوا: إن الحل أن يتدارك أمره بالإكثار من الطاعات. أي: إذا كان لا حل له إلا بأن يأخذ أولئك من حسناته يوم القيامة؛ فالمخرج أن يكثر من الطاعات والقربات وكل ما من شأنه أن يكفر سيئاته ويكثر حسناته ويثقل ميزانه، حتى إذا أخذ أولئك حقوقهم يوم القيامة بقي له شيء من العمل الصالح فاضلاً عما يأخذه أهل المظالم. قالوا: ومن جملة ذلك أنه يصبر على ما يظلمه به غيره من الناس، أي: كحال الدين الدنيوي؛ فإنه إن كان لك في الدنيا دين وعليك دين؛ فإنك تحيل من له عليك إلى الذي عنده لك، فكذلك يصبر هذا على أذى الناس وعلى غيبتهم وظلمهم له، فإذا كان يوم القيامة فإنه بدل أن يدفع من حسناته يحيل إلى أولئك، فيأخذ من حسناتهم ويعطي، فيخرج بذلك سالماً. وأما الأموال التي معه من الحرام فقد أجاب بعض العلماء بأنه يوقف أمرها ولا يتصرف فيها مطلقاً؛ لأنه لا يحل له أن يتصرف فيها. وقال بعضهم: بل يدفعها إلى الإمام أو نائبه؛ لأنه وكيل أربابها، فيحفظها لهم الإمام أو نائبه.
    2. ذكر مذهب القائلين بصحة توبته وبيان كيفيتها

      وخالفهم في ذلك طائفة من العلماء فقالوا: ليس هذا القول بالقول السديد، والصحيح أن باب التوبة مفتوح، وأن على هذا الرجل وأمثاله إذا تعذر عليه طريق إيصال الحق إلى أهله أن يتصدق بذلك الحق عن صاحبه، ثم إن عاد صاحبه فهو بالخيار: فإما أن يقره على ما تصدق به وله أجره، وإما أن يأخذ العوض، فيأخذ حقه ويكون الأجر للمتصدق الذي كان عليه الحق؛ إذ لا يجتمع العوض والمعوض.
      قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهذا مذهب جماعة من الصحابة، كما هو مروي عن ابن مسعود و معاوية و حجاج بن الشاعر) وذكر [أن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه روي عنه أنه اشترى من رجل جارية، فدخل ليزن له الثمن فذهب رب الجارية ولم يعد، فانتظره، فلما يئس من لقائه وعودته تصدق بالثمن وقال: اللهم هذا عن رب الجارية]، فإن رضي فالأجر له وإن أبى فالأجر لي، وله من حسناتي بقدره.
      وذكر كذلك [أن رجلاً غل من الغنيمة، ثم تاب فجاء بما غله إلى أمير الجيش في أيام معاوية رضي الله عنه، فأبى أن يقبله وقال: كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا؟! فرده فذهب إلى حجاج بن الشاعر فقال له: يا هذا! إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم، فادفع خمسه إلى صاحب الخمس وتصدق بالباقي عنهم؛ فإن الله يوصل ذلك إليهم. ففعل، فلما أخبر معاوية بفتوى حجاج بن الشاعر قال: لأن أكون أفتيت بذلك أحب إلي من نصف ملكي، فأقره معاوية] ، فهؤلاء ثلاثة من السلف عملوا بذلك.
      ويقيس ابن القيم ذلك على اللقطة، فمن التقطها ثم عرفها فلم يجد ربها فإنه إما أن يتملكها، وإما أن يتصدق بثمنها عنه، فإن ظهر المالك خير بين الأجر وبين الضمان.
      وهذا هو القول الراجح -إن شاء الله تعالى- في هذه المسألة، وأما إنكار بعض الفقهاء على من يفتي به بقولهم: إن هذا من تصرفات الفضولي -إذ الفضولي هو الذي يتصرف في مال غيره بغير إذنه أو بغير وكالته-؛ فقد رد عليه ابن القيم بأن الإذن العرفي كالإذن اللفظي، ومن المعلوم أن صاحبه أشد رضاً بوصول نفع ماله الأخروي إليه، وأكره لتعطيله أو إبقائه مقطوعاً عن الانتفاع به دنيا وأخرى، فكيف يقال: إن مصلحة تعطيل هذا المال عن انتفاع الميت والمساكين به أرجح من مصلحة إنفاقه شرعاً، وهل ذلك إلا محض المفسدة.
      وقد أورد في ذلك قصة طريفة لـابن تيمية رحمه الله تدل على أن القائلين بهذا القول لا حجة لهم، ولا حكمة ولا مصلحة في أن يعمل الناس بفتواهم، حيث قال رحمه الله تعالى: (سئل شيخنا أبو العباس قدس الله روحه، سأله شيخ فقال: هربت من أستاذي وأنا صغير إلى الآن، ولم أطلع له على خبر، وأنا مملوك، وقد خفت من الله عز وجل وأريد براءة ذمتي من حق أستاذي من رقبتي) يعني: أنه كان مملوكاً لرجل فهرب منه ثم لم يعثر له على خبر، ويريد أن يتحلل منه، قال: (وقد سئلت جماعة من المفتين فقالوا لي: اذهب فاقعد في المستودع. فضحك شيخنا) رحمه الله، أي: ضحك من فتوى بعض الذين يفتون ولا يتأملون في الحكم والمصالح التي جاء الشرع لتكميلها، قال: (وقال: تصدق بقيمتك أعلى ما كانت عن سيدك) يعني: في وقت من الأوقات كانت الرقاب فيه أغلى ما كانت، وكنت أنت في شبابك أغلى ما يمكن، فتصدق بقيمتك عن سيدك (ولا حاجة لك بالمستودع تقعد فيه عبثاً لغير مصلحة وإضراراً بك وتعطيلاً عن مصالحك، ولا مصلحة لأستاذك في هذا ولا لك ولا للمسلمين) رضي الله تعالى عن شيخ الإسلام وأرضاه.
      فبهذا نعلم أن الحكم الشرعي في هذه الحالات هو أن تتصدق بالمال عن صاحبه.
  3. توبة القاتل عمداً

     المرفق    
    المسألة الثالثة: هل التوبة تقبل من كل ذنب، أم أن هنالك من الذنوب ما لا تنفع فيه التوبة ولا تقبل؟ هذه المسألة مهمة، وحاصل ما فيها أن هناك ذنباً واحداً فقط اختلف العلماء في قبول توبة صاحبه، وهو القتل العمد؛ لقوله تعالى: (( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ))[النساء:93].
    وهذه عقوبة مغلظة، حيث جعل الله جزاءه جهنم أولاً، ثم قال: (خالداً فيها)، فلم يكتف بالوعيد بالنار حتى جعله خالداً فيها، ثم قال: (وغضب الله عليه)، وهذه العقوبة الثالثة، ثم قال: (ولعنه)، وهذه العقوبة الرابعة، ثم قال: (وأعد له عذاباً عظيماً)، فهذه خمس عقوبات مغلظة جاءت في حق القاتل، فاختلف العلماء من السلف في قبول توبته.
    فأما الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء فقالوا: إن التوبة تأتي على كل ذنب، وتقبل من كل مذنب، ولم يفرقوا بين القاتل وغيره.
    1. مذهب القائلين بعدم صحة توبة القاتل وأدلتهم عليه

      وذهبت طائفة من السلف إلى أن القاتل لا توبة له، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهذا مذهب ابن عباس المعروف عنه، وإحدى الروايتين عن أحمد)، ومن المعلوم أن الإمام أحمد إذا وجد في المسألة حديثاً مرفوعاً أخذ به، وإذا وجد فيها قولاً لأحد الصحابة يرى أنه قوي فإنه يقول به، فلذا تتعدد الروايات في مذهبه رضي الله عنه.
    2. آية النساء في قاتل المؤمن متعمداً

      قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقد ناظر ابن عباس في ذلك أصحابُه فقالوا: أليس قد قال الله تعالى في سورة الفرقان: (( وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ))[الفرقان:68] إلى أن قال: (( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ))[الفرقان:70] فقال كانت هذه الآية في الجاهلية) يعني: في أهل الجاهلية، (وذلك أن أناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة. فنزل: (( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ... ))[الفرقان:68] الآية، فهذه في أولئك) يعني: في المشرك إذا تاب وآمن (وأما التي في سورة النساء -وهي قوله تعالى: (( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ))[النساء:93]- فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم).
      هكذا رأى رضي الله عنه، ووافقه جمع من السلف منهم زيد بن ثابت رضي الله عنه، فإنه قال: (لما نزلت التي في الفرقان (( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ))[الفرقان:68] عجبنا من لينها؛ فلبثا بعدها سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة)، والغليظة هي آية النساء.
      والنسخ عند السلف أعم من مفهومه عند علماء الأصول، حيث يطلق عندهم على تخصيص العام أو تقييد المطلق.
      قال رحمه الله تعالى: (قال ابن عباس : آية الفرقان مكية، وآية النساء مدنية نزلت ولم ينسخها شيء).
      وقد ذكر الحافظ ابن كثير -وهو أوسع من فصل في المسألة- بعد أن ذكر حكم القتل العمد وما جاء فيه من التغليظ أن الذين روي عنهم أنه لا يتوب هم هؤلاء، وذكر كلام ابن عباس الذي تقدم، وذكر عنه ما رواه سالم بن أبي الجعد قال: (كنا عند ابن عباس بعدما كف بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس ! ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال: جزاؤه جهنم خالداً وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه! وأنَّى له التوبة والهدى؟! والذي نفسي بيده! لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمداً جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بيده الأخرى يقول: يا رب! سل هذا فيم قتلني. وايم الذي نفس عبد الله بيده! لقد نزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدها من برهان)، قال أحمد شاكر : صحيح الإسناد.
      ثم قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر من رواه: (وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة، وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف: زيد بن ثابت و أبو هريرة و عبد الله بن عمر و أبو سلمة بن عبد الرحمن و عبيد بن عمير و الحسن و قتادة و الضحاك بن مزاحم ، ونقله ابن أبي حاتم) يعني: نقله ابن أبي حاتم في تفسيره المطول إن لم يكن أطول التفاسير في الأثر، حيث ذكر بأسانيده آثاراً عن هؤلاء من السلف الذين لا يرون توبة القاتل.
    3. حديث مغفرة الذنوب سوى الكفر والقتل العمد

      ومن أقوى ما يعتمدون عليه الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن معاوية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً )، وهذا الحديث صحيح أيضاً، وهو كقوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48].
      وأما الآيات التي تدل على أن الله يغفر كل ذنب فإنها تحمل على من تاب، وأما ما كان دون الشرك مما لم يتب منه فيتفق مع الآية: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]، فهذا الحديث هو أقوى ما يحتجون به.
    4. حديث: (إن الله أبى على من قتل مؤمناً)

      ومما يستدلون به ما رواه النسائي وغيره من حديث عقبة بن نافع الليثي أن رجلاً من الصحابة قتل رجلاً من الناس في غزوة بعدما شهد أن لا إله إلا الله، قال: فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقام الرجل فقال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً من السيف، يقولها ثلاثاً ويعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل تعرف المساءة في وجهه فقال: ( إن الله أبى على من قتل مؤمناً ثلاثاً ) فاستدلوا بذلك على أن المعنى: أنه أبى أن يتوب عليه، إذاً: فلا توبة للقاتل.
    5. تعذر التوبة في حق القاتل من جهة النظر

      ثم قالوا من جهة النظر العقلي: إن توبة من قتل المؤمن عمداً متعذرة؛ لأنه لا سبيل إليها إلا بأن يستحل من المقتول أو بإعادة نفسه التي فوتها عليه إلى جسده؛ إذ التوبة هنا من حق آدمي، ولا تصح أي توبة من حق آدمي إلا بأحد هذين الأمرين، وكلاهما متعذر على القاتل، فهو لا يستطيع أن يستحله، ولا يستطيع أن يعيد نفسه إليه.
      قالوا: ولا يرد على هذا مسألة المال إذا مات ربه ولم يوفه إياه؛ لأنه يتمكن من إيصال مثله إليه عن طريق الصدقة، أما النفس فكيف يمكن أن يردها؟!
      قالوا: ولا يرد على هذا -أيضاً- أن الشرك أعظم من القتل وتصح التوبة منه؛ لأن ذلك محض حق الله، فالتوبة من الشرك توبة من حق الله تعالى المحض، فيقبلها الله تعالى متى ما وقعت، أما في حق الآدمي فالتوبة موقوفة على أدائه إليه أو استحلاله منه، وكلاهما متعذر.
      فانظر كيف عظم الله هذا الشأن! وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود أنه قال: ( أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء )، ولو كان المقتول ابنك، كما قال تعالى: (( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ))[الأنعام:151]، وقال تعالى: (( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ))[الإسراء:31]، وقرن تعالى القتل بالشرك في غير ما آية، وجعله تعالى من أكبر الكبائر، وهو الذي استحله كثير من الناس فقتلوا شعوباً وقتلوا دعاة وقتلوا شباباً صالحين في كل مكان، وما أكثر جرائم القتل في الدنيا! ولاشك في أن من علامات الساعة أن يكثر الهرج -والهرج هو القتل- حتى لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل! وهذا من الواقع، فنسأل الله أن يرحمنا ويرحم هذه الأمة، فهذا ذنب عظيم بلا ريب.
    6. القول بصحة توبة القاتل عمداً وأدلته

      قال الحافظ ابن كثير: (والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل).
      ولعلنا بهذا نصل إلى إمكانية التوفيق بين القولين، فالقاتل له توبة فيما بينه وبين الله، ولا يمكن لأي أحد أن يحول بين العبد وبين الله تعالى.
      قال رحمه الله تعالى: (فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملاً صالحاً بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طُلابته)، أي: يتكرم الله تعالى على المقتول فيرضيه بما يشاء، ويمن بالتوبة والقبول على القاتل.
    7. الإخبار في آية سورة الفرقان بقبول توبته

      قال رحمه الله تعالى: (قال الله تعالى: (( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ))[الفرقان:68] إلى قوله: (( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا.. ))[الفرقان:70] الآية، وهذا خبر لا يجوز نسخه)؛ إذ النسخ إنما يدخل الأحكام كالأمر أو النهي، أما الأخبار فلا يجوز النسخ فيها؛ لأن النسخ في الأخبار تكذيب لها، ولا يمكن أن يخبر الله بخبر ثم يغيره؛ فإن هذا يكون تكذيباً، وحاشاه سبحانه وتعالى أن يقول إلا الحق.
      قال رحمه الله تعالى: (وحمله على المؤمنين) أي: حمل الوعيد الذي في آية النساء على المؤمنين: (وحمل هذه الآية) أي: التي في الفرقان (على المشركين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل) يرد بهذا على ابن عباس ، وقد وافقه على ذلك أكثر العلماء والفقهاء فقالوا: وإن صح ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وإن كان رضي الله عنه حبر الأمة وترجمان القرآن إلا أن هذا اجتهاد منه ورأي له. فخالفوه وقالوا: إن حمله آية الفرقان على المشركين الذين تابوا، وحمله آية النساء على من عرف الإسلام وشرائعه خلاف الظاهر، ولا نقره -وهو حبر الأمة- على ذلك، وهو من أعلم الناس بالقرآن وبالتأويل.
      والخلاف لا يتنافى مع الإجلال والاحترام والتقدير، فما من أحد إلا ويجل عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ولكن إذا رأى أحد أن الحق بخلاف ما قاله العالم أو المفتي وإن كان من الصحابة فإنه يذهب إلى ما يرى أن النص يدل عليه ولا يأخذ بكلام ذلك العالم، ولا حرج عليه في ذلك ولا يعد ذلك تنقصاً من قدر العالم أو من قيمته هذا ما كان السلف الصالح يعرفونه وكان هذا من بدهيات طلب العلم عندهم.
    8. عموم المغفرة في آية الزمر

      ومما استدل به لهذا المذهب قول الله تعالى: (( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ))[الزمر:53].
      قال ابن كثير: (وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك، كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه، قال الله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]، فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء، والله أعلم).
    9. حديث قاتل المائة نفس

      وذكر رحمه الله أن مما استدلوا به من السنة حديث قاتل المائة، فإن قيل: إن هذا الرجل من الذين من قبلنا، وحكمه في شرع من قبلنا، فكيف نستدل به في ديننا؟!
      فالجواب أن ظاهر إيراد النبي صلى الله عليه وسلم للحديث إقرار، ثم إن القاعدة في مثل هذه الأمور أن شرعنا دائماً أرحم وأخف من شرع من قبلنا؛ لأن الله رفع الأغلال ورفع الآصار عن هذه الأمة، فإذا هناك أمران فالأقرب لشرعنا في العموم هو الأخف، فكل ما أباحه الله لمن قبلنا أو رحمهم به أو خفف عنهم به، فالأصل أن لنا فيه مثل ذلك أو أوفر منه نصيباً، ولذلك يقول ابن كثير رحمه الله: (وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى؛ لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم وبعث نبينا بالحنيفية السمحة) وهذا من فضل الله تعالى.
    10. تخريج الوعيد الوارد في حق القاتل عمداً في سورة النساء

      وقد يقال: كيف خرج هؤلاء مثل هذا الوعيد العظيم في الآية التي في سورة النساء، حيث ذكر تعالى فيها خمسة درجات من درجات الوعيد؟!
      والجواب: ما قاله أبو هريرة وجماعة من السلف في هذه الآية، حيث قالوا: [هذا جزاؤه إن جازاه]، والأثر بهذا اللفظ روي مرفوعاً، لكن لا يصح رفعه، إنما هو من كلامه رضي الله عنه.
      ولذلك قال العلماء: الصحيح أن هذه القاعدة سارية في آيات الوعيد ونصوص الوعيد كلها، مثل قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ))[النساء:10]، وكذلك قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .. ))[النور:19]، وقوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ))[البقرة:159].
      فنصوص الوعيد عند العلماء تبقى على إطلاقها وتبقى على عمومها، ولا نقول: إنها جاءت للتغليط، ولا نقول: إنها جاءت في المستحل، ولا نذهب -كما ذهبت المعتزلة و الخوارج - إلى أنه لا بد لكل من فعل ذلك من أن يعاقب، أي أنه كافر أو في منزلة بين المنزلتين، بل نقول: تبقى الآية والحديث على عمومهما وعلى إطلاقهما، ولكن لا يتحقق الوعيد ولا يقع للمعين إلا بتحقق الشروط وانتفاء الموانع.
      وذلك هو معنى كلام أبي هريرة رضي الله عنه: (هذا جزاؤه إن جازاه)، فتكون آيات وأحاديث الوعيد دالة على أن حكمه هو هذا، وأما نفاذ الحكم فموضوع آخر، فقد ينفذ في أحد ولا ينفذ في آخر؛ لأن شرطاً لم يتحقق، أو لأن مانعاً قد وجد. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: (وكذا كل وعيد على ذنب، ولكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قولي أصحاب الموازنة والإحباط، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب).
      والقول بالموازنة والإحباط يقصد به أن الرجل قد يفعل ما يستحق به الوعيد، كأن يشرب الخمر أو يزني، وفي نفس الوقت يكون له من الأعمال الصالحة ما يزيد على تلك السيئة، فبذلك ترجح كفة الحسنات فيكون من أهل الجنة، فيتخلف الوعيد في حقه.
  4. ذكر ما أجاب به القائلون بصحة توبة القاتل عن أدلة مخالفيهم

     المرفق    
    ثم أجاب أصحاب هذا المذهب عن كلام أولئك الذين خالفوهم فقالوا: أما حديث معاوية : ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً )؛ فإن (عسى) فيه للترجي، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين فإنه لا ينتفي وقوع ذلك في إحداهما، وهي القتل؛ لما ذكرنا من الأدلة، أما من مات كافراً فالنص ثابت في أن الله لا يغفر له أبداً، وأما من كان ذنبه القتل وليس الكفر فهذا نحكم فيه أيضاً ما جاء من آيات الشفاعة وأحاديث الشفاعة، ونحو حديث دخول من قال: لا إله إلا الله الجنة، وكذلك النصوص الكثيرة التي تدل على أن من كان من أهل التوحيد لا يخلد في النار إن دخلها، فإما أن لا يدخلها، وإما أن يدخلها ولا يخلد فيها تخليد الكافر، وإنما الخلود مقيد بأمد معين.
    وقالوا في الجواب عن استدلالهم: هناك فرق بين قبول التوبة وبين سقوط المطالبة، فقد يتوب القاتل بأن يصدق مع الله ويخلص لله ويندم على ما فعل ويستقيم إلى آخر عمره وهو تائب نادم على ما فعل، بل قد يسلم نفسه إلى ورثة المقتول ليقتصوا منه.
    فهذا شيء ومطالبة المقتول إياه شيء آخر؛ إذ إن مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة حق من حقوق الآدميين لا يسقط بالتوبة، ولا فرق في حقوق الآدميين بين المقتول والمسروق منه، وكذلك سائر الحقوق الأخرى، فإذا كانت القضية عندكم قضية المطالبة يوم القيامة فإنا نقول لكم: هذا ليس في القاتل وحده، بل كل من أخذ حقاً من حقوق العباد فإنه قد يتوب ويقبل الله توبته في الدنيا، لكن لا تسقط عنه يوم القيامة مطالبة المأخوذ منه حقه، فلا بد من أداء حقوق العباد إليهم.
    قالوا: لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة، فمن رحمة الله تعالى أنه يقبل التوبة منه إذا تاب وصدق، ولا يوقع عليه الجزاء، وفي نفس الوقت يفتح باب المطالبة للمقتول، فيكون قد تحقق الأمران: التوبة لهذا والمطالبة لهذا، وهذا من عدل الله وحكمته تبارك وتعالى، وقد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ثم يفضل له أجرٌ يدخل به الجنة، أو يعوض الله المقتول من فضله بما يشاء من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته ونحو ذلك، فالله يعوضه كما يشاء ويعطيه كما يشاء حتى يرضى عن القاتل؛ لأن القاتل عبدٌ صالح منيب تائب في مثل هذه لحالة، هذا مجمل تخريجهم الأول لنصوص امتناع توبة القاتل.
    والتخريج الثاني تخريج لقول من قال: إنه لا توبة له، حيث أورد عن سفيان أنه قال: إذا جاءنا القاتل يسأل عن التوبة قبل أن يفعل قلنا: لا توبة لك، فإذا جاءنا وقد فعل قلنا له: تُب.
    أي: يترك الأمر على التغليظ، فإذا قلنا له توبة استهان الناس بالدماء وهي أعظم من قطع عضو أو أخذ شيء من المال، فإذا جاء المرء يسأل قبل أن يقتل قلنا: لا توبة لك تغليظاً عليه، أما إذا جاءنا وقد فعل فإنا إذا قلنا له: لا توبة لك كان ذلك كفتوى الراهب لقاتل التسعة والتسعين، والحل أن يقال له: تب، فيظل الزجر والتغليظ عاماً للأمة، ومن فعل لا يضيق عليه، بل يفتح له باب التوبة.
    وهذا دليل على فقه وحكمة السلف الصالح، فقد كانوا يعلمون كيف يتعاملون مع النفوس، ولا يقال: هذا نفاق، بل من جهلنا نحن ومن قلة فهمنا أن نقول مثل هذا الكلام؛ فأولئك ربانيون يربون الناس على الحق والخير والهدى، وفرق بين أن تقول للناس على العموم: إن القاتل متوعد بكذا وكذا، وبين قولك لمن قتل: تب، لا كحال الذين يفتون ويعممون، كالذين يقولون: لا تأخذوا بفتوى من يقول: إن تارك الصلاة كافر، بل الصحيح -أيها الناس- أن تارك الصلاة لا يكفر، ومذهب أهل السنة والجماعة هو هذا! فما حاجة الأمة إلى مثل هذا الكلام؟! فهذا الكلام ليس فيه حكمة، والصواب أن يقول المرء كما يقول العلماء، فإذا جاء إليه رجل تارك للصلاة تائباً وسأله فيمكن أن يقول له: استغفر الله وتُب، وأرى أنك لا تجدد عقد الزواج، ولكن يجب عليك أن تصلى، فالصلاة أمرها كذا. فلو فعل ذلك هانت المسألة وتقاربت وجهات النظر في الخلاف، لكن المشكلة أن بعض الناس إذا رأى من يخالفه كان لا بد له من أن يعلن، وقد يشهر، وهذه مشكلة الفقه إذا كان فقهاً بالمسائل ولم يكن فقهاً بحكمة الدعوة وبواقع المدعوين، والله تعالى إنما أنزل علينا هذا الدين ليعالج به أمراض قلوبنا ويصلح به أحوالنا، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج هذا بما لا يعالج به هذا، مع أنه يأتيه الأمر عاماً من عند ربه، ومع أنه يعظ الناس موعظة عامة إذا وعظهم في مجمع عام.
  5. توبة من أخذ عوضاً مقابل فعل محرم

     المرفق    
    المسألة الثانية: إذا عاوض أحدٌ غيره على محرم، كزانية أخذت عوض الزنا، أو مغنٍّ أخذ العوض على الغناء، أو شاهد زور أخذ عوض شهادته، فإذا تاب هذا فماذا يفعل؟ قال بعض العلماء: توبة هذا أن يعيد المال إلى صاحبه. وقال بعضهم: هذا لا يجوز ولا ينبغي؛ لأنه قد أدى إليه المنفعة المحرمة، فيضيف إلى ذلك أن يرجع إليه الثمن، وهذا لا يليق وليس من الحكمة في شيء، وإنما التوبة في حقه أن يتخلص من هذا المال الحرام فينفقه، ولا يرده إلى صاحبه أبداً.