المادة كاملة    
إن من جرائر المعاصي والذنوب التفريط في حقوق الله تعالى وحقوق عباده؛ فإن ما سلف منه من تفريط محل نزاع بين الفقهاء في إمكان تداركه في غير وقته، ومن جملة ذلك الصلاة التي قد يتركها المرء معتقداً لعدم وجوبها عليه جهلاً أو تأولاً، وقد يتركها بالكلية مع زعمه اعتقاد وجوبها، وقد يتهاون بالمحافظة عليها، وكفى بهذا واعظاً للعبد.
  1. الرد على أدلة الموجبين

     المرفق    
    1. رد قياس المفرط على المعذور

      وقد رد هؤلاء على الموجبين فقالوا: أما قياسكم المفرط على المعذور فهذا عجيب، حيث استدل أولئك بقوله صلى الله عليه وسلم: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) قالوا: أتيتم إلى رجل ترك الصلاة عامداً متعمداً مفرطاً مجاهراً فقلتم له: صلها الآن كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم النائم أو الناسي أن يصليها خارج وقتها الأول، وهذا قياس فاسد غير معتبر، ولذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فهذه الحجة إلى أن تكون عليكم أقرب منها أن تكون لكم)؛ وذلك لأن الشارع إنما شرط في فعلها بعد الوقت أن يكون الترك لأحد هذين العذرين، فالمعلق على الشرط يعدم عند عدمه، وأنتم جئتم إلى من لا يتوافر فيه هذا الشرط فأبحتم له القضاء، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط في اليقظة، أن تُؤخَر صلاة حتى يدخل وقت أخرى ) فما نص الشارع على أنه لا تفريط فيه، قستم عليه ما هو ثبت عند الجميع أنه تفريط من صاحبه وثبت أنه تفريط بنص الشارع، وأي قياس في الدنيا أفسد من هذا؟!
      وقالوا أيضاً: إن المعذور لم يؤخر الصلاة عن وقتها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (فليصلها إذا ذكرها، فإنه وقتها)، فوقت الصلاة بالنسبة إلى النائم إذا قام، ووقت الصلاة بالنسبة إلى الناسي إذا ذكرها، فهذا المعذور أداها في وقتها، فكيف تقيسون عليه من أضاعها عامداً حتى خرج وقتها؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم لما نام هو وصحابته الكرام في الوادي فلم يوقظهم إلا حر الشمس؛ صلوا الفجر بعد طلوع الشمس، وهذا وقتها بالنسبة له ولأصحابه، ولا نقول: إنه صلاها بعد خروج وقتها. نعم ذلك هو وقتها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ومن ناموا معه معذورون، فوقتها هو الذي أدوها فيه.
      ومن الناحية التأصيلية قالوا: إن الأوقات ثلاثة: وقت للقادر المستيقظ الذاكر غير المعذور، وهو خمسة على عدد الصلوات، ووقت للذاكر المستيقظ المعذور، وهو ثلاثة؛ فوقت الظهر والعصر في حقه واحد، ووقت المغرب والعشاء واحد، ووقت الفجر واحد، فالمسافر إذا صلى الظهر في وقت العصر فإنه صلاها في وقتها، وإذا أدى المغرب في وقت العشاء فإنه أداها في وقتها، فهؤلاء كلهم ما خرجوا عن كونهم أدوها في وقتها.
      والوقت الثالث المشروع في حق غير المكلف، وهو النائم أو الناسي، ومثلهما المغمى عليه وما أشبه ذلك، فهذا وقته غير محدد ألبتة، إنما الوقت في حقه هو وقت زوال العذر، كأن يفيق أو يستيقظ، فلو أغمي على رجل قبل صلاة الفجر ولم يفق إلا بعد صلاة العشاء؛ فإنه يصلي كل الصلوات، ووقتها في حقه هو ذلك الوقت، فلا شيء عليه، وهذا هو المطلوب منه شرعاً، وهذا الذي دلت عليه قواعد الشرع.
      قالوا: وقد شرع الله تعالى قضاء رمضان لمن أفطر لعذر ولم يشرعه قط لمن أفطره متعمداً لغير عذر، والحديث الذي تقدم أحد الأدلة، وقلنا: إنه ضعيف، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أن أحداً من أصحابه أوجب على أحد ترك الصلاة عمداً أن يقضيها، أو ترك الصيام عمداً أن يصومه، وهذا من أعظم الأدلة، أي: عدم ورود شيء من ذلك مع وقوع هذه الحالات في زمن الوحي وزمن النبوة.
    2. الرد على القول بأن القضاء هو المستطاع المأمور به

      كما أنهم ردوا استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )، فأولئك يقولون: لا يستطيع الآن إلا أن يصليها خارج الوقت، فتقبل منه.
      فردوا عليهم فقالوا: إن هذا الدليل إنما يدل على أن المكلف إذا عجز عن جملة المأمور به أتى بما يقدر عليه منه، فإذا أمرنا الله بمأمور وعجز أحد عن الإتيان به كله؛ فإنما يجب عليه أن يأتي منه بما استطاع، فهذا شيء وكونه يتركه عامداً متعمداً ثم يؤديه في وقت آخر شيء آخر.
    3. الرد على دعوى التخفيف عن المفرط بإسقاط القضاء

      قالوا: وأما قولكم: إنه لا يظن بالشرع تخفيفه عن العامد المفرط وتكليف المعذور؛ فهذا الكلام بعيد عن التحقيق بين البطلان؛ إذ المعذور إنما فعل ما أمر به في وقته، ونحن لم نسقط القضاء عن العامد المفرط تخفيفاً، فليس الغرض أن نخفف عنه، ولكن أسقطناه لأنه غير نافع له ولا مقبول منه، ولا يجزئه ولا تبرأ به ذمته، ولذلك نقول: إن العامد لا يقضي.
    4. الرد على اعتبار الصلاة خارج الوقت بدلاً عن الصلاة في الوقت

      قالوا: وأما قولكم: إن الصلاة خارج الوقت هي بدل عن الصلاة داخل الوقت؛ فجوابه أن هذه هي الدعوى، فالخلاف بيننا وبينكم في هذه القضية، فلا يستدل على الدعوى بالدعوى؛ ولو أثبتم أن البدل يجوز لانتهت المشكلة، فنحن نطالبكم بذلك.
    5. الرد على القياس على دين الآدمي

      قالوا: وأما قولكم بالقياس على دين الآدمي الذي أخر عن وقته فغير صحيح؛ لأن وقت الوجوب بالنسبة للصلاة وقت محدود الطرفين، وهذا الوقت لا يمكن أن يعوض في وقت آخر أبداً؛ لأنه في هذا اليوم وفي هذه الساعة محدود الأول ومحدود الآخر، بخلاف الدين. وكذلك رمضان، فالله تعالى جعل رمضان محدود الطرفين، فيبدأ من رؤية هلال شهر رمضان إلى رؤية هلال شهر شوال، فهذا وقت محدد يجوز للعبد أن يصوم فيه، ولا يجزئ أن يصوم أحد قبله ولا بعده، أو أن يوقع هذه العبادة التي فرضها الله تعالى في غير وقتها، وكذلك اليوم الواحد من أيام شهر رمضان محدد من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فلا يمكن أن يوقع في غيره بدلاً عنه؛ لأنه إن أوقعه في رمضان فرمضان كله واجب، وإن أوقعه في غيره فقد أوقعه في غير رمضان، فلا يصح منه الأداء. أما الدين وما أشبهه فوقته فيه سعة، ولا يقال: إن رمضان يقضى بين رمضانين أو أكثر؛ لأنه لو أفطر يوماً من رمضان عامداً لا يقوم مقامه يوم آخر، أما القضاء ففيه سعة، فلو لم يقض اليوم لقضى غداً ما بين رمضان إلى رمضان، فإن جاء رمضان الآخر ولم يقض فإنه يستمر عليه الوجوب، ففرق بينهما، ولذا قال رحمه الله تعالى: (وسر الفرق أن المعذور لم يتعين في حقه أيام القضاء، بل هو مخير فيها)، فالمعذور الذي ترك الصيام لعذر مخير في أيام القضاء، ولو أنه فرط حتى جاء رمضان الآخر فلا شك في أنه فرط، ولكنه فرط في أيام هو مخير فيها، وليس كمن فرط في شهر رمضان الذي لا تخيير فيه، ففرق بين هذين.
    6. الرد على قياس القضاء على الظهر عند فوات الجمعة

      وكذلك فرقوا بين من ترك الجمعة فأوجبوا عليه الظهر وبين من ترك الصلاة عامداً؛ فقالوا: لأن الواجب في يوم الجمعة أحد أمرين: فإما أن يصلي الظهر وإما أن يصلي الجمعة، والواجب الأصلي هو الجمعة، فإذا فاتته الجمعة بقي الظهر، فهما واجبان يقوم أحدهما مقام الآخر، فالشرع نفسه الذي أوجب عليه الجمعة أوجب عليه إن فاتته الجمعة أن يصلي الظهر، أما ذلك فأمر آخر لم يرد فيه وجوب من الشرع.
    7. الرد على الاحتجاج بتأخير رسول الله صلاة العصر يوم الأحزاب

      قالوا: وأما تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر حتى ذهب وقتها فاختلف العلماء فيه: فقالت طائفة من العلماء: إن هذا كان قبل نزول آيات صلاة الخوف، أما بعد أن نزلت وأوجبها الله تعالى على المؤمنين بصفات معروفة مذكورة في مواضعها فإنها تؤدى على تلك الكيفيات ولا تؤخر بحال. وقالت طائفة من العلماء: ليس الأمر بسبب أنه لم يكن قد نزل الحكم، بل للمقاتل إذا حميت المعركة أن يؤخر الصلاة ويصليها عند تمكنه، وهو في هذه الحالة كمن نام أو نسي، فيكون وقتها في حقه عند إمكانه أن يؤديها، قالوا: وهذا أولى بأن يعذر من النائم أو من الناسي، خاصة إذا كان في حال الجهاد في سبيل الله. فقالوا: وعلى كلا التقديرين لا يصح أن نلحق العامد المفرط بهذا.
    8. الرد على الاحتجاج بتأخير بعض الصحابة لصلاة العصر يوم بني قريظة

      وأما تأخير الصحابة الكرام لصلاة العصر يوم بني قريظة فقد أجابوا عنه بقولهم: إما أن نقول: إن هذا التأخير مأمور به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة )، فالذي أمر هو النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا له دليل خاص استثناه واستخرجه من عموم الأوقات.
      وإما أن نقول: إن هذا كان عن اجتهاد وتأويل سائغ كما قالت طائفة أخرى من العلماء.
    9. الرد على دعوى التضييق على التائب بلزوم الذنب في عنقه

      ثم ردوا على أولئك من الناحية التربوية، حيث قالوا: إن تارك الصلاة إذا تاب وندم قد يكون عمر إلى الأربعين، بل بعضهم -عياذاً بالله- يعمر إلى الثمانين وهو لا يصلي، فكيف تقولون له: لا تقض ما فاتك من الصلوات، بل يجب عليك أن تصلي فيما بقي من عمرك؟! قالوا: فأنتم بذلك تضيقون عليه وتجعلون إثم ما فات من عمره كالطائر في عنقه لا يغادره، ولكنكم لو قلتم له صل واقض ما فاتك لارتاح وعلم أنه بقضائه ما فاته من الصلوات قد تاب وتدارك ما فرط به في جنب الله تعالى.
      فردوا عليهم بقولهم: نحن أولى منكم في هذه المسألة بالحق؛ فمعاذ الله أن نسد باب التوبة وقد فتحه الله تعالى لعباده المذنبين إلى قيام الساعة ولم يغلقه على الناس إلا أن يغرغر أحدهم، كما في حديث: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، أو أن تطلع الشمس من مغربها، للبشر جميعاً، ولكن الشأن في طريق توبته وتحقيقها، فالمقصود عندنا هو طريق التوبة، فنحن نطلب منه هذا وإن كان في الثمانين أو في المائة، ونبين له كيف يتوب، ولا نقول: إن التوبة مغلقة، لا نرى توبته أن يقضي ما فاته من الفرائض، بل إن توبته أن يستقيم فيما بقي.
  2. ترك الصلاة لعدم معرفة وجوبها أو وجوب بعض أوصافها

     المرفق    
    قالوا: وهذا حاله كحال الكافر الذي لا يجب عليه أن يقضي ما فات حال كفره.
    وبهذا الاستدلال نأتي إلى محور القضية، فقد قال رحمه الله تعالى: (فإذا كانت توبة تارك الإسلام مقبولة صحيحة لا يشترط في صحتها إعادة ما فاته في حال إسلامه أصلياً كان أو مرتداً -كما أجمع عليه الصحابة في ترك أمر المرتدين لما رجعوا إلى الإسلام بالقضاء-؛ فقبول توبة تارك الصلاة وعدم توقفها على القضاء أولى).
    أقول: هذا هو مفرق الطريق وهذا هو المهم، وحبذا لو أنه -رحمه الله- بدأ به، ولكننا سنعرض ذلك بإيجاز من كلام شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه سئل -كما في الفتاوى في الجزء الثاني والعشرين- عن تارك الصلاة من غير عذر: هل هو مسلم في تلك الحال أم لا؟
    وهذه قضية مهمة وواقعة، وما أكثر ما نسأل عنها في هذه الأيام مع كثرة التائبين الراجعين إلى الله، والحمد لله، فمن لم يكن يصلي ولا يصوم هل كان مسلماً فيجب عليه القضاء، أم كان كافراً فلا يجب عليه أن يقضي ما فاته.
    فقال رحمه الله: (أما تارك الصلاة فهذا إن لم يكن معتقداً لوجوبها فهو كافر بالنص والإجماع، لكن إذا أسلم ولم يعلم أن الله أوجب عليه الصلاة أو وجوب بعض أركانها) التي لا تصح إلا بها، أو شروطها (مثل أن يصلي بلا وضوء) إلى أن علم (أو يصلي مع الجنابة؛ فلا يعلم أن الله أوجب عليه غسل الجنابة؛ فهذا ليس بكافر إذا لم يعلم، لكن إذا علم الوجوب هل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان للعلماء: في مذهب أحمد و مالك وغيرهما قيل: يجب عليه القضاء. وهو المشهور عن أصحاب الشافعي وكثير من أصحاب أحمد ، وقيل: لا يجب عليه القضاء وهذا هو الظاهر).
    ثم ذكر أن أصل المسألة هو: هل يثبت التكليف في حق أي أحد من عباد الله المكلفين قبل أن يبلغه الخطاب؟ قال: الأظهر أنه لا يثبت على أحد الوجوب إلا بعد أن يبلغه أن الله أوجب عليه ذلك أو أن الله حرم عليه ذلك إذا كان في المنهيات؛ لقوله تعالى: (( لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ))[الأنعام:19]، ولقوله تعالى: (( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ))[الإسراء:15]، ولقوله: (( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ))[النساء:165]، فجعل الله تعالى الشرط في قيام الحجة على الخلق هو أن يبلغهم عن الله ما أمرهم به.
    قال رحمه الله تعالى: (ومثل هذا في القرآن متعدد، بين سبحانه أنه لا يعاقب أحد حتى يبلغه ما جاء به الرسول، ومن علم أن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فآمن بذلك ولم يعلم كثيراً مما جاء به لم يعذبه الله على ما لم يبلغه؛ فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ؛ فأن لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلاغ أولى وأحرى، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
    ونحن لا نتكلم عمن فرط ولم يسأل، بل الكلام عمن لم يبلغه شيء من الدين، لا عمن كان يمكنه ذلك ولكنه فرط ولم يتخذ إلى ذلك سبيلا، فالكلام في حالة تتحقق فيها الصورة من غير قيد، والصورة المفترضة هنا هي في إنسان لم يبلغه أن الله أوجب عليه الصلاة أو الزكاة أو حرم عليه الخمر ونحو ذلك من الأحكام، ما بلغه في ذلك شرع الله ولا بلغه دين الله، وهذا لا يستبعد أبداً، فأهل البوادي -مع ظهور العلم والمذياع والتلفاز- يتحقق هذا في كثير منهم، فكيف بأمثالهم في ذلك الزمن القديم؟!
    فنحن نتكلم عن القضية كقضية نظرية بغض النظر عن الوقوع، وأما لماذا يقع مثل هذا؟ ومن المفرط؟ ومن المؤاخذ بهذا؛ فهذه أحكام وأمور أخرى مهمة لا نغفلها، لكن الكلام الآن من الناحية الفقهية المجردة، فهل هذا الرجل معذور أم غير معذور؟
  3. النصوص الدالة على سقوط القضاء عمن لم يبلغه وجوب الصلاة أو بعض أوصافها

     المرفق    
    1. حديث فهم الصحابة للمراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود

      إن النبي صلى الله عليه وسلم ورد عنه في مواضع كثيرة نصوص تدل من تتبعها أنه لا يجب القضاء على من لم يبلغه الحكم، ومن ذلك ما روي بشأن قول الله تعالى في آية الصيام: (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ))[البقرة:187]، ففي صحيح البخاري حديثان: الأول حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وقد أسلم في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فمؤكد أن الآية قد نزلت والصيام قد وجب، ومع ذلك فهم الأمر على أنه يأتي بحبل أبيض وحبل أسود.
      والحديث الآخر حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، حيث روى أنه عندما أنزل قول الله تعالى: (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ))[البقرة:187] ولم ينزل قوله تعالى: (مِنَ الْفَجْرِ)، كان رجال من الصحابة إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله خيطاً أبيض وخيطاً أسود، وأخذ ينظر حتى يتبين له هذا من هذا، فأنزل الله تعالى بعدها (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أن المقصود بالخيطين خيط الضوء وخيط الظلام.
      يقول الحافظ رحمه الله تعالى: (ولا يحسن أن يفسر بعضهم) أي: هؤلاء الذين ذكروا في حديث سهل بن سعد (بحديث عدي )؛ لأن إسلام عدي كان متأخراً، وهؤلاء كان الأمر منهم متقدماً)، أي: تكرر من عدد من الصحابة أنهم فهموا الخيطين بمعنى الحبلين، وما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقضوا، بل بين لهم الحكم.
    2. خبر عمر وعمار فيما فعلاه حين أجنبا

      الدليل الثاني: أن عمر رضي الله عنه وعماراً لما أجنبا اجتهد كل منهما، فلم يصل عمر ، بل قال: لا أصلي حتى أدرك الماء، أما عمار فقال: (فتمرغت كما تتمرغ الدابة). ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما بالقضاء.
    3. خبر المستحاضة التي امتنعت باستحاضتها عن الصلاة

      الدليل الثالث: المستحاضة؛ فإنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أستحاض حيضة شديدة تمنعني من الصلاة). فهي كانت لا تصلي؛ لأن الدم كان ينزف بشكل كبير، فلما ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وعلمها كيف تفعل؛ لم يقل لها: واقضي ما كنت تركت من الصلاة، فتبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمر بالقضاء.
    4. خبر تكلم معاوية بن الحكم في الصلاة

      الدليل الرابع: حديث معاوية بن الحكم السلمي لما تكلم في الصلاة، والكلام في الصلاة عمداً لغير مصلحة لها يبطلها على التفصيل المعروف، فهو تكلم عامداً متعمداً، لكنَّه كان جاهلاً بالحكم، فلم يدرِ أن الله قد أنزل الأمر بالصمت فيها، فلما سلم بين له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ) ولم يأمره بأن يقضي الصلاة مع أنه ما يزال في الوقت، فلو كان الأمر أنه لا بد من القضاء لقال: قم فصل؛ فإنك تكلمت في أثناء الصلاة، لكن لعلمه صلى الله عليه وسلم أنه ما بلغه ذلك لم يأمره بإعادتها.
    5. الفرائض التي لم تبلغ البعيدين عن المدينة

      الدليل الخامس: أنه لما زيد في صلاة الحضر -كما في حديث عائشة رضي الله عنها: ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيد في الحضر وأقرت في السفر ).
      لما زيد فيها وأوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الزيادة؛ كان بعض المؤمنين بعيداً عنه، مثل من كان في مكة ومن كانوا في أرض الحبشة مهاجرين، فما بلغتهم الزيادة إلا بعد أمد طويل، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وكذلك لما فرض شهر رمضان لم يبلغ المسلمين الذين كانوا في أرض الحبشة حتى فات ذلك الشهر.
      ولم يوجب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضوا رمضان الذي فات؛ لأنه لم يكن قد بلغهم أمر الله تعالى في ذلك.
      وكذلك في تحويل القبلة، فإن الله لما أنزل تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة كان بعض المسلمين في مناطق بعيدة، ولم يعلموا أن الله أنزل ذلك الأمر، وإنما علموا بعد ذلك، ولم يأمرهم النبي بإعادة صلاتهم التي كانت إلى بيت المقدس .
    6. خبر المتضمخ بالخلوق في إحرام عمرته

      قال رحمه الله تعالى: (وثبت عنه في الصحيحين أنه سئل وهو بـالجعرانة عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وهو متضمخ بالخلوق، فلما نزل عليه الوحي قال له: ( انزع عنك جبتك واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت صانعاً في حجك )، وهذا قد فعل محظوراً في الحج وهو لبس الجبة، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بدم، ولو فعل ذلك مع العلم للزمه الدم)، أي: إنما فعله قبل أن يبلغه الخطاب بالتكليف.
    7. خبر المسيء صلاته

      والدليل التاسع: هو أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته: ( ارجع فصل فإنك لم تصل ) ثلاثاً؛ لأن ما صلاه ليس في الحقيقة صلاة مشروعة، فقال الأعرابي بعد الثالثة: (والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني) فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة المجزئة ولم يأمره بإعادة ما كان قد صلى قبل ذلك، وربما مضت سنون من الدهر على هذا الأعرابي وهو على تلك الحالة؛ فلقوله: (والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا) لم يأمره؛ لأن هذا قد فعل غاية علمه وقدر استطاعته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
      قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وإنما أمره أن يعيد تلك الصلاة لأن وقتها باق، فهو مخاطب بها)، فهذه الصلاة بعينها قد بلغه فيها الخطاب، ومن بلغه الخطاب وجب عليه الامتثال، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره بإعادة تلك الصلاة؛ لأنها كانت ما تزال في وقتها، فهو مخاطب بها، لكن الصلاة التي قبلها إلى أول صلاة صلاها لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة شيء منها، أما إذا كان الوقت باقياً وتلك الصلاة التي صلاها لا تبرأ بها الذمة؛ فإنها تبقى في ذمته ولو لم يبق من الوقت إلا مقدار ما يؤديها فيه أو يؤدي ركعة منها.
    8. الاستدلال على سقوط القضاء عمن لم يبلغه وجوب الصلاة أو بعض أوصافها

      قال رحمه الله تعالى: (ومعلوم أنه لو بلغ صبي أو أسلم كافر أو طهرت حائض أو أفاق مجنون والوقت باق لزمتهم الصلاة أداء لا قضاء)؛ فهؤلاء أراد شيخ الإسلام أن نتخذهم أنموذجاً ونقيس عليهم الذي لم يبلغه خطاب التكليف، فالصبي قبل البلوغ لا تجب عليه الصلاة وإن كان يندب إليها ويحث عليها ويعلمها، لكن الوجوب المتعين إنما يكون بعد البلوغ، فلو بلغ صبي في وقت فريضة من الفرائض، أو أسلم كافر في وقت فريضة من الفرائض، أو كانت امرأة حائضاً فطهرت في وقت فريضة من الفرائض، أو كان رجل مجنون فأفاق في وقت فريضة من الفرائض، وما يزال في الوقت متسع لأدائها، فإن عليهم أن يصلوها، وتكون أداءً لا قضاءً، كحال النائم والناسي الوارد حكمهما في حديث: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) فكذلك هنا، فوقتها متى ما ظهرت عليه علامة البلوغ إن كان صبياً، أو أسلم إن كان كافراً، أو طهرت إن كانت حائضاً، أو أفاق إن كان مجنوناً.
      قال رحمه الله تعالى: (وإذا كان بعد خروج الوقت فلا إثم عليهم)، وليس في ذمتهم أن يؤدوا تلك الفريضة التي ذهب وقتها، إذ التكليف لم يحصل بعد.
      قال رحمه الله تعالى: (فهذا المسيء الجاهل إذا علم بوجوب الطمأنينة في أثناء الوقت وجبت عليه الطمأنينة حينئذٍ ولم تجب عليه قبل ذلك، فلهذا أمره بالطمأنينة في صلاة ذلك الوقت دون ما قبلها) أي: التي قد صلاها ولم يطمئن فيها، وإلا لكان في ذلك من الحرج والمشقة ما الله به عليم، ولكن من لطف الله تعالى أنه ما جعل علينا في الدين من حرج، وأنه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، ولله الحمد.
      قال رحمه الله تعالى: (وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم لمن صلى خلف الصف أن يعيد، ولمن ترك لمعة من قدمه أن يعيد الوضوء)؛ لأن الصلاة تترتب على الوضوء (وقوله أولاً -أي: للمسيء في صلاته-: (صل فإنك لم تصل) تبين أن ما فعله لم يكن صلاة، ولكن لم يعرف أنه كان جاهلاً بوجوب الطمأنينة، فلهذا أمره بالإعادة ابتداءً ثم علمه إياها لما قال: (والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا) فهذه نصوصه صلى الله عليه وسلم في محظورات الصلاة والصيام والحج فيمن ترك واجباتها مع الجهل، وأما أمره لمن صلى خلف الصف أن يعيد؛ فذلك أنه لم يأت بالواجب مع بقاء الوقت، فثبت الوجوب في حقه حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم لبقاء وقت الوجوب، ولم يأمره بذلك مع مضي الوقت، وأما أمره لمن ترك لمعة في رجله لم يصبها الماء بالإعادة؛ فلأنه كان ناسياً فلم يفعل الواجب، فكان كمن نسي الصلاة وكان الوقت باقياً، فإنها قضية معينة بشخص لا يمكن أن يكون في الوقت وبعده، أعني أنه (رأى في رِجْل رَجُل لمعة لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة) رواه أبو داود ، وقال أحمد بن حنبل : حديث جيد.
      يعني أن هذا الرجل الذي بقي من رجله مثل الدرهم يعرف أن الوضوء واجب، وأنه شرط لابد منه للصلاة، ويعلم أن الوضوء لابد فيه من أن يكون سابغاً، فتوضأ ونسي ذلك المقدار، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعيد الوضوء وأن يصلي بوضوء كامل، فالفرق بين المسألتين أن الوقت في حق تارك اللمعة كان باقياً، وأن القضية شخصية تتعلق بهذا الرجل، فلا نأخذ منها قاعدة كما أخذ بعض الفقهاء، حيث قالوا: كل من ترك واجباً عليه أن يعيده، بل نقول: هذا حاله غير حال الذي لم يبلغه الخطاب بعد، وكذلك الذي لم يلتزم الخطاب ولو كان يعلم الحكم، لكن لم يلتزم به، وكان تاركاً له عن عمد وعن إصرار، فلا يقاس عليه.
      فقضية تارك اللمعة من غير وضوء حالة معينة تخص ذلك الرجل ومن كان مثله، فلو أنك رأيت أحداً ترك شيئاً من أعضاء الوضوء فأرشدته إليه، أو ترك واجباً من واجبات الصلاة أو ركناً من أركانها ولم يأت به فنبهته إلى ذلك؛ فإنه يجب عليه أن يأتي به.
      قال رحمه الله تعالى: (وأما قوله: ( ويل للأعقاب من النار ) ونحوه؛ فإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء، ليس في ذلك أمر بإعادة شيء).
      أي أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( ويل للأعقاب من النار ) ليس كما فهم منه بعض الفقهاء أنه يجب على الرجل أن يعيد كل صلواته التي صلاها ولم يكن يسبغ الوضوء، إنما يدل على وجوب تكميل الوضوء، فهذه حالة الجاهل الذي لم يبلغه الخطاب.
  4. أحكام توبة من تعذر عليه تدارك ما فرط فيه من حقوق الله تعالى

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
    فموضوعنا إكمال لبقية أحكام التوبة، والحكم الذي سيدور عليه الحديث -بإذن الله- هو من تعذر عليه أداء الحق الذي فرط فيه، ولم يمكنه أن يتداركه، ثم تاب، خاصة إذا كان من الذين لا يؤدون الصلاة ولا يصومون رمضان، فهل يجب عليه أن يقضي تلك الصلوات أم لا يجب عليه ذلك؟
    وهذا موضوع مهم بالنسبة لواقعنا اليوم؛ فكثيراً ما يسأل عنه التائبون العائدون إلى الله تبارك وتعالى، وترد فيه الفتاوى المختلفة، وبعض الذين يفتون في القنوات الفضائية ممن يشاهدهم الناس كثيراً ويسمعونهم يفتون بوجوب القضاء، ويحددون لذلك من الأمور ما لم يرد به شيء من الشرع؛ بل هي أقوال لبعض أهل العلم، وهي -في الحقيقة- مرجوحة -كما سنبين إن شاء الله- ولا دليل عليها، فيجعلون ذلك عائقاً كبيراً في طريق من يريد التوبة؛ لأنه إذا علم أنه يجب عليه أن يقضي صلاة عشر سنوات أو عشرين أو ثلاثين سنة، وأن يقضي صيام عشرة رمضانات أو ثلاثين أو أربعين أو ما أشبه ذلك لكي تتحقق توبته؛ فإن ذلك يحول بينه وبين التوبة غالباً، وفي هذا من الحرج ما فيه، وسوف نستعرض إن شاء الله الأدلة بإيجاز كما ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله، ثم نعرض لفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة، وسنبين قوة الاستدلال الذي أورده رحمه الله فيها.
    قال ابن القيم رحمه الله فيمن يتوب وقد تعذر عليه أداء الحق الذي قد فرط فيه: (يتصور هذا في حق الله سبحانه وحقوق عباده، أما في حق الله فكمن ترك الصلاة عمداً من غير عذر مع علمه بوجوبها وفرضها)، ثم ذكر أن المسألة خلافية بين العلماء، فمن العلماء من أوجب عليه القضاء ومنهم من لم يوجب عليه ذلك، وابتدأ بذكر حجج الموجبين للقضاء، ونحن نوردها إجمالاً.
    1. القول بعدم وجوب القضاء وأدلته

      وأما الطائفة الأخرى من العلماء -وقولهم هو الصواب- فإنهم قالوا: لا يجب على تارك الصلاة أن يقضيها إذا تركها عامداً، وإنما الوجوب على المعذور فقط، وردوا على أدلة الموجبين بما سنجمله إن شاء الله، وسنبين بعد ذلك سبب عدم وجوب القضاء عليه من خلال شرحنا لفتوى شيخ الإسلام رحمه الله.
    2. امتثال الأمر بالعبادة المقيدة بوصف أو وقت أو شرط لا يتم إلا بقيدها

      وقد احتجوا لما ذهبوا إليه بأن العبادة إذا أمر بها موصوفة بقيد معين أو في وقت معين لم يكن المأمور ممتثلاً للأمر إلا إذا أوقعها بذلك القيد على ما وردت في الشرع، أي: بشروطها وأركانها وواجباتها جميعاً، فإذا أخرجها عن وقتها فقد أخل بشرط مهم وهو شرط الوقت، فهو كمن صلاها إلى غير القبلة؛ لأن استقبال القبلة شرط من شروط الصلاة، أو كمن غير هيئة الركوع أو السجود فسجد على خده أو برك على ركبته وقال: هذا يقوم مقام الركوع! فقالوا: فهذا لا يقبل باتفاق؛ لأن الشرع أمرنا بهيئة معينة، فمن غيَّرها عامداً فلا ينفعه ذلك وإن ظن أنه يقوم مقام ما أمر الله تعالى به.
      وقالوا: إن العبادات التي جعل لها الشرع ظرفاً من الزمان لا بد من أن تؤدى فيه، كالعبادات التي جعل الشارع لها ظرفاً مكانياً، فلا بد من أن تؤدى هذه في زمانها وهذه في مكانها، مثل الحج والطواف، فلو أن أحداً وقف بغير عرفة عامداً لا يقبل منه ذلك، أو طاف بغير البيت لا يقبل منه ذلك، أو رمى غير الجمرات لا يقبل منه، قالوا: فكذلك من نقل الزمان إلى غير الزمان لا يقبل منه، كمن نقل المكان إلى مكان آخر.
      وكذلك قالوا في الصوم، فلو أن أحداً صام رمضان في شوال أو في ذي القعدة لا ينفعه ذلك ولا يقبل منه أبداً، قالوا: إذاً فإن حقوق الله المؤقتة لا يقبلها الله في غير أوقاتها، فكما أنها لا تقبل هذه الحقوق قبل دخول أوقاتها؛ فإنها لا تقبل بعد خروج أوقاتها. واستدلوا على ذلك بالكلمة المأثورة عن الصديق رضي الله عنه، وهي كلمة عظيمة تلقاها عنه الصحابة والسلف بالقبول، وكان بعضهم يوصي بها بعضاً، وهي قوله: [إن لله تبارك وتعالى حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل]، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى -لما سئل عن هذا الحق- أن من أمثلة ذلك صلاة الظهر وصلاة العصر، فهما حق الله تعالى بالنهار، فلو أنهما أديتا في الليل لم يجز ذلك، وكذلك لو أن أحداً صلى صلاة الليل بالنهار، كالذين يصلون الفجر بالنهار، فهؤلاء -أيضاً- تركوا حقاً لله بالليل لا يقبله في النهار، وغير ذلك مما أوجبه الله تعالى مشروطاً بوقته، قالوا: فصلاة العصر إذا صلاها بعد خروج وقتها لم تكن عصراً، وإنما تكون شيئاً آخر، فهي عبارة عن ركعات ولكنها ليست هي صلاة العصر، فصلاة العصر هي التي يؤتي بها في وقت العصر، واستدلوا على ذلك بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله )، وفي حديث آخر: ( من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله )، فالحديث الأول فيه أن من تركها حبط عمله، ومن حبط عمله فإنه لا ينفعه شيء، إلا أن يتوب وأن يعود إلى ما افترضه الله عليه، ولو كان هناك سبيل إلى التدارك لم يحبط العمل الماضي، ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( فكأنما وتر أهله وماله )، يعني أنه كرجل فقد أهله وماله في وقت واحد، فما الذي يمكن أن يعوضهما؟! فكذلك من ترك هذه الصلاة العظيمة.
    3. العبادة في غير وقتها عمل لم يكن عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم

      وقالوا: إن من ترك الصلاة عامداً متعمداً في النهار، ثم جاء ليؤديها في الليل ظاناً أنه بذلك يسقط الإثم؛ فهو داخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )؛ لأنه لم يكن من أمره صلى الله عليه وسلم أن تؤدى صلاة النهار بالليل.
      قالوا: ولأن الوقت شرط في سقوط الإثم وامتثال الأمر، فكذلك هو شرط في براءة الذمة كبقية الشروط التي جعلها الشارع للصلاة، كالطهارة واستقبال القبلة وستر العورة وما أشبه ذلك، ولذلك يذكر العلماء رضي الله تعالى عنهم -ومنهم شيخ الإسلام - أن الإنسان إذا لم يمكن أن يؤدي الصلاة في وقتها إلا بترك شرط من شروطها؛ فإنه لا ينتظر حتى يحقق الشرط ولو خرج الوقت، بل يصليها مع فقدان الشرط، كرجل عريان أدركته الصلاة -وهو لا يجد ثوباً، فلا نقول له: انتظر حتى تجد ثوباً ثم صل. بل نقول: لا يجوز لك أن تؤخر الصلاة عن وقتها، وصل وأنت عريان، فلا يجوز أن يؤخرها، ويقبل الله تعالى منه صلاته وهو عريان، حتى يجد ما يستر عورته.
      فهذا القول هو الصحيح الذي لا يجوز الذهاب إلا إليه، بل بلغ من شدة شيخ الإسلام على من قال بغير ذلك أن وصف قوله بأنه قول ضلال، وليس اجتهاداً يقال فيه: إنه اجتهاد مقبول.
      كما أنهم استدلوا بحديث، غير أن في الاستدلال به نظراً، وهو حديث: ( من أفطر يوماً من رمضان في غير رخصة رخصها الله لم يجزه عنه صيام الدهر )، وهذا الحديث كثيراً ما يستدل به في رمضان، لكن الحقيقة أن هذا الحديث ضعيف، فقد رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة ، ورواه كذلك الإمام الترمذي و أبو داود و ابن ماجه و النسائي ، وسنده عند الجميع واحد، ولو أن هذا الحديث صح لكان نصاً في المسألة، لكنّه بهذا اللفظ لم يصح، وقد ضعفه الشيخ ناصر الدين الألباني في ضعيف الجامع ، وكذلك في ضعيف سنن ابن ماجه ، وقال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على سنن أبي داود: (قال الدارقطني: ليس في رواته مجروح)، لكن هذه العبارة لا تنفي أن يكون فيهم مجهول لم يتعرض له بجرح ولا تعديل، والحقيقة أن فيه علتين: الجهالة والانقطاع، والذي رجحته من خلال البحث أن هذا الحديث ضعيف، وأنه لا يجوز الاستدلال به في هذه المسألة إلا إذا جبر ضعفه، وقد ذكر الشيخ الفقي تعليقاً على هذا الحديث لم أدر من أين أخذه وأين مصدره، كما أن الترمذي ذكر أن البخاري ذكره تعليقاً، وهو كذلك، وعلى كل حال فالمسألة موضع بحث وموضع نظر، والمترجح الآن أن الحديث ضعيف.
      إن العبادة إنما تكون صحيحة مقبولة إذا وافقت الأمر، ولا ريب في أن العبادة الواقعة في غير وقتها غير موافقة للأمر الذي أمر الله تعالى به، فلا تكون صحيحة، وأما إن فسر أداء العبادة بأنه سقوط القضاء؛ فإنما يسقط القضاء إذا وقع على الوجه المأمور به، وهذا لم يقع كذلك -أي: القضاء-، فلا يسقط الإثم؛ لأنه لم يقع على الوجه المأمور به، فلا تبرأ الذمة بهذه الصلاة التي أديت خارج الوقت.
    4. القول بوجوب القضاء وأدلته

      قال رحمه الله تعالى: (وحجة الموجبين للقضاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها )، قالوا: فإذا وجب القضاء على النائم والناسي مع عدم تفريطهما فوجوبه على العامد المفرط أولى.
      قالوا: ولأنه كان يجب عليه أمران: الصلاة وإيقاعها في وقتها) أي: فإذا فات الواجب الأول فلا نقول بفوات الواجب الثاني، بل يبقى عليه الواجب الآخر.
      (قالوا: ولأن القضاء إن قلنا: إنه يجب عليه بالأمر الأول) الذي هو الأمر الأساس في وجوب الصلاة (فظاهر، وإن قلنا: يجب عليه بأمر جديد فأمر النائم والناسي به تنبيه على العامد). أي: إذا كان الشرع قد أمر المعذور -أي: النائم أو الناسي ونحوهما- أن يقضي؛ فغير المعذور أولى بوجوب القضاء.
      وقالوا: إنه يمكن أن يتداركها ما دام الفعل يمكن أن يتدارك، فإن لم يتداركها في وقتها فإنه يمكنه أن يتداركها بعد خروج وقتها.
      وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )، وهذا لا يستطيع أن يأتي بالأمر إلا خارج الوقت، فنقول له: اقض ما فرض الله عليك وإن كان وقته قد خرج.
      (قالوا: وكيف يظن بالشرع أنه يخفف عن هذا المتعمد المفرط العاصي لله ورسوله بترك الوجوب ويوجبه على المعذور بالنوم أو النسيان!) وقالوا: إن الصلاة خارج الوقت هي بدل عن الصلاة في وقتها، فهذا البدل يقوم مقام المبدل، كما يقوم التيمم مقام الوضوء.
      وقالوا أيضاً من باب القياس: إن الصلاة حق لله، فهي -وإن أخرها عن وقتها- يجب عليه أن يؤديها، كما يجب عليه أداء ديون الآدميين، فلو كان لأحد على أحد دين وكان أجله آخر الشهر فجاء آخر الشهر ولم يؤد دينه؛ فإنه يجب عليه أن يؤديه، ولو في شهر آخر أو بعد أمد مهما طال، فيجب عليه أن يؤديه، ويظل الحق في عنقه وإن أخر وقته.
      وقالوا: إن غاية ما في الأمر أنه آثم بالتأخير، وإثم التأخير لا يعني أنه لا يجب عليه أن يقضي.
      وقالوا أيضاً: إن هذا مثل شأن الجمعة، فلو أن أحداً ترك صلاة الجمعة حتى أداها الناس وانتهوا منها فإننا نجبره على أن يصلي الظهر، فكذلك من خرج وقت الصلاة بالنسبة له، فإننا نقول له: لا بد من أن تأتي بها ولو بعد خروج وقتها.
      وذكروا من الأدلة أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق أخر صلاة العصر حتى ذهب وقتها، قالوا: فهذا دليل على أنه يمكن أن تؤدى بعد ذهاب الوقت وإن اختلف السبب.
      وقالوا أيضاً: لو كانت الصلاة خارج الوقت لا تصح ولا تقبل لما قبل الله صلاة الصحابة حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة )؛ فإن بعضهم صلاها في الطريق، وبعضهم أخرها حتى وصل إلى بني قريظة وكان وقتها قد فات.
      ولهم أيضاً دليل مهم من الناحية التربوية، ذلك أنهم قالوا: كيف نفعل بهذا الذي يريد أن يتوب إذا كان يريد التوبة وقلنا له إنه لا يجب عليك القضاء؟! فكأن في هذا تضييقاً عليه وسداً لباب التوبة؛ حيث يقول: كيف أتوب ولا مخرج لي من ذلك الإثم الذي لزمني؟! هذا بإيجاز مجمل أدلة الذين يرون أن من ترك الفرائض عمداً يجب عليه أن يقضيها.
  5. تارك الصلاة متأولاً غير معتقد لوجوبها

     المرفق    
    الحالة الثانية: حالة من تاب وأناب إلى الله تعالى وأتى إلينا وقال: أنا كنت تاركاً للصلاة، وأريد أن أتوب، فهل علي أن أقضي؟ فقلنا له: كيف كنت تترك الصلاة وأنت تعلم أنها الركن الثاني من أركان الإسلام، وأن الله تعالى قال فيها كذا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها كذا، فبين أنه كان يعتقد أن الصلاة تسقط عن الواصلين! وهذه بدعة الصوفية التي تملأ العالم الإسلامي اليوم، فالضلالة الكبرى والفرية العظمى أن يترك من الخلق فرائض الله مدعياً وزاعماً أنه قد وصل إلى الله، وأن التكاليف إنما تجب على العامة لأنهم لم يعرفوا التوحيد، أما الخاصة وخاصة الخاصة الذين عرفوا التوحيد فهؤلاء لا يحتاجون إلى أن يأتوا بهذه الفرائض؛ لأن هذه مرحلة يفعلها المريد، وهم قد وصلوا وعاينوا الحق -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- إذ في نظرهم أنه قد اتحد المخلوق بالخالق تبارك وتعالى عن ذلك.
    فإن كان الذي جاءنا تائباً منيباً من هذا النوع وقال: كنت أعتقد أنني بلغت درجة الواصلين، كما قال لي ذلك شيوخ الضلالة والطريقة التي كنت أنتمي إليها، والآن عرفت أن الصلاة لا تسقط عن أحد، ولو كانت ساقطة عن أحد لكمال علمه أو يقينه لسقطت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر و عمر و عثمان و علي وسائر الصحابة؛ لأنهم أعلم الخلق بالله وأكثرهم يقيناً وتصديقاً للرسول صلى الله عليه وسلم، وما تركها أحد منهم إلا عند سكرات الموت، وقبل ذلك يصلي قاعداً أو على جنب أو على أي حال من الأحوال، فلم يتركوا الصلاة أبداً، بل كانوا يوصون بها، فقد أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حال الاحتضار، وأوصى بها قبيل موته، وأوصى بها عمر ، فهذه أهمية الصلاة عندهم.
    ولا يمكن أن تسقط الصلاة عن مخلوق كائناً من كان ما دام حياً، وأما اليقين في قوله تعالى: (( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ))[الحجر:99] فهو الموت، فإذا مات سقطت عنه.
    قال رحمه الله تعالى: (ومن كان أيضاً يعتقد أن الصلاة تسقط عن العارفين أو عن المشايخ الواصلين أو عن بعض أتباعهم أو أن الشيخ يصلي عنهم) وهذه أيضاً من المصائب الكبرى التي ابتليت بها الأمة من شيوخ الضلالة، يقولون: إن الشيخ يصلي عنهم ويحفظهم، وبعض شيوخهم وصل به الحال كما فعل التيجاني وكما نسب إلى الشاذلي وإلى البدوي أنهما يقولان: من دخل أحد مريديه النار فليس بشيخ، ومن جاء مريده يستغيث به أو يدعوه عند قبره ولم يجبه فليس بشيخ! والتيجاني ينسبون إليه في كتبه أنه قال: لا يدخل النار من رآني أو من رأى من رآني أو من رأى من رأى من رآني إلى سابع راءٍ! والنبي صلى الله عليه وسلم رآه المشركون، ومنهم الذين آذوه في مكة وغيرهم من اليهود الذين رأوه في المدينة ، ومع ذلك هذا لم يكن له صلى الله عليه وسلم ما جعلوه للتيجاني ، حتى أبناء أبي بكر و عمر رضي الله عنهما وغيرهم من أبناء الصحابة ما ضمن لهم النبي صلى الله عليه وسلم الجنة لمجرد أنهم رأوا من رآه، ولم يقل: كل من رأى أبا بكر فهو حرام على النار، فكيف بغيره صلى الله عليه وسلم؟! إنما يقرب كل إنسان عمله وتقواه لله عز وجل.
    قال رحمه الله تعالى: (أو أن الشيخ يصلي عنهم، أو أن لله عباداً أسقط عنهم الصلاة، كما يوجد كثير من ذلك في كثير من المنتسبين إلى الفقر والزهد) والفقر عند الصوفية معناه غير الفقر الذي نعرفه في اللغة، وهو الحاجة، فالذي لا مال له ولا متاع فقير، بل الفقير عندهم هو في الحقيقة ترجمة لكلمة في دين الهندوس والبوذيين وأشباههم بمعنى: الزاهد المنقطع الذي انقطع للرهبانية على دينهم الذي يتعبدون به، ولهذا قال بعض الصوفية : إن الفقر هو الله! تعالى الله عن ذلك.
    فهؤلاء يعنون بالفقر مصطلحاً آخر غير ما يعرفه الناس، فلو أن أحداً منهم قال: إنا نحن -أهل الفقر وأهل الزهد- قد أسقط الله عنا الفرائض؛ فهذا نسميه تارك الصلاة متأولاً، وهذا من أقبح أنواع التأول في الحقيقة؛ لأنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يصل الجهل بمسلم أو سوء الظن أو الجهل المركب إلى أن يظن أن الصلاة تسقط بمثل هذا التأويل.
    قال رحمه الله تعالى: (فهؤلاء يستتابون باتفاق الأئمة، فإن أقروا بالوجوب وإلا قوتلوا)، أي: إن أقروا بالوجوب أجبروا على أدائها، ويكونون من جملة المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا )، ومن لم يفعل ذلك فليس له هذا الحق، وكما قال تعالى: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ))[التوبة:11]، فتبدأ الأخوة في الدين لهم منذ أن يصلوا، فإن أبوا وجحدوا وجوبها عليهم فإنهم يقاتلون قتال المرتدين.
    قال رحمه الله تعالى: (ومن تاب منهم وصلى لم يكن عليه إعادة ما ترك قبل ذلك في أظهر قولي العلماء)، فليس عليه أن يعيد الصلوات التي تركها تأولاً.
    قال رحمه الله تعالى: (فإن هؤلاء إما أن يكونوا مرتدين وإما أن يكونوا مسلمين جاهلين للوجوب)، يعني: أن تارك الصلاة لا يخلوا من أن يعلم أن الله تعالى أمره بهذا الركن العظيم ثم يتركه، فهذا مرتد، أو أن يكون جاهلاً بالوجوب.
    قال رحمه الله تعالى: (فإن قيل: إنهم مرتدون عن الإسلام فالمرتد إذا أسلم لا يقضي) يريد أن يلزم الفقهاء المخالفين الذين قالوا: إنه يجب عليه القضاء، فقال: إما أن نقول: إنهم مرتدون، وإما أن نقول: إنهم جهال، فإن كانوا مرتدين فالمرتد إذا أسلم لا يجب عليه القضاء، واستدل لذلك بأن الكافر لا يقضي إذا أسلم ما ترك حال الكفر باتفاق العلماء، وإنما يبتدئ عليه الوجوب منذ أن أسلم باتفاق، ولا نقول له: اقض ما تركت من الصلاة منذ أن بلغت إلى الآن. وهذه قضية متفق عليهما بين العلماء، أي أن الوجوب يبتدئ في حقه منذ إعلان إسلامه، فتبعاً لذلك قال جمهور العلماء: كذلك المرتد لا يجب عليه أن يأتي بما ترك في حال كفره وردته.
    قال رحمه الله تعالى: (ومذهب مالك و أبي حنيفة و أحمد في أظهر الروايتين عنه، والأخرى: يقضي المرتد كقول الشافعي ، والأول أظهر).
    ثم شرع يأتي بالأدلة على ذلك فقال: (فإن الذين ارتدوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كـالحارث بن قيس وطائفة معه أنزل الله فيهم: ((كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ))[آل عمران:86]، وكـعبد الله بن أبي سرح ، والذين خرجوا مع الكفار يوم بدر وأنزل فيهم: (( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ))[النحل:110]، فهؤلاء عادوا إلى الإسلام، وعبد الله بن أبي سرح عاد إلى الإسلام عام الفتح وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يأمر أحداً منهم بإعادة ما ترك حال الكفر في الردة)، وهذا معلوم وثابت في السيرة، بل عاملهم معاملة الكافر إذا أسلم.
    قال رحمه الله تعالى: (وقد ارتد في حياته -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- خلق كثير اتبعوا الأسود العنسي الذي تنبأ بـصنعاء اليمن ثم قتله الله، وعاد أولئك إلى الإسلام ولم يؤمروا بالإعادة)، فـالعنسي ارتد معه خلق كثير، وعظمت به الفتنة والمصيبة حتى سلط الله عليه من قتله وهو على فراشه، فعاد أولئك إلى الدين، وكان ذلك قبيل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يأمرهم صلوات الله وسلامه عليه بأن يعيدوا ما تركوا من الفرائض في حال ردتهم.
    قال رحمه الله تعالى: (وتنبأ مسيلمة الكذاب واتبعه خلق كثير)، وهؤلاء كانوا في اليمامة، وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهم ما يزالون على ردتهم، فجاء من بعده خليفته الصديق رضي الله عنه فقاتلهم هو والصحابة حتى أعادوا من بقي منهم إلى الإسلام، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء، وكذلك سائر المرتدين بعد موته صلى الله عليه وسلم.
    قال: (وكان أكثر البوادي قد ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام)، وذلك أنه عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر أكثر العرب وارتدوا، ولم يبق على الإسلام إلا ثلاث مدن، وهي مكة و المدينة و الطائف ، وكذلك في البحرين بنو عبد القيس ومزينة، وأما أكثر العرب -ومنهم أهل البوادي- فقد ارتدوا؛ لأن العقلية العربية والعقلية الجاهلية في كل زمان ومكان تربط دائماً المبادئ والعقائد بالأشخاص، فإذا مات الشخص قالوا: انتهى دينه، هكذا ظنوا هذا الظن الباطل بالدين الذي أنزله الله تعالى ليبلغ ما بلغ الليل والنهار وليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون، وهكذا ظنوا ظن السوء بالله تعالى وبدينه، فقالوا: مات محمد ومات دينه. وظنوا أن الأمر سوف يرجع جاهلية كما كان، فيرجعون إلى عكاظ ومجنة وذي المجاز والأشعار والأخبار ونهب الطرق وعبادة الأصنام، وأن أمر النبوة قد انتهى وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ملك رحل فماتت مبادئه معه، هكذا كان الغالب عليهم؛ لأن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، أما من آمن من أهل تلك المدن الثلاث وما حولها، وكذلك من كانوا في البحرين وغيرها ممن ثبت الله تعالى الإيمان في قلوبهم؛ فإنهم كانوا أكثر علماً بالله وأكثر يقيناً وثقة بوعده ونصره لدينه.
    فهؤلاء أيضاً تركوا دينهم وارتدوا، فقاتلهم الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم ولم يأمروا أحداً منهم بأن يقضي ما كان قد فاته من الصلوات.
    قال رحمه الله تعالى: (وقوله تعالى: (( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ))[الأنفال:38] يتناول كل كافر يتوب)، فمن تاب غفر الله له ما قد سلف، وهذا فضل من الله ونعمة، وهذا باب عظيم من أبواب الدعوة وتأليف القلوب، فإن كان كافراً أصلياً فإن باب الله تعالى مفتوح، فما عليه إلا أن يشهد شهادة الحق وأن يؤمن بالله حقاً ويدخل في هذا الدين عن صدق وإخلاص، فيكون كواحد من المسلمين ويغفر له ما قد سلف، وهذا -والحمد لله- دعوة وفضل من الله وتأليف للقلوب.
    وكذلك من غلبه شيطانه أو جهله وغيه وارتد بعد أن عرف الحق، فإنه يخاطب بذلك أيضاً، فيظل أمامه الأمل مفتوحاً وباب التوبة مفتوحاً ليعود إلى رشده ويتوب إلى الله، هذا على اعتبار أن هؤلاء حكمهم حكم المرتدين.
    وأما إذا كان حكمهم حكم الجهال -كهؤلاء الصوفية المتأولين الذين لا يصلون زاعمين أن الصلاة تسقط- فهؤلاء إن لم نقل: إنهم يلحقون بالمرتدين، فهم يلحقون بالجهال الذين لم يعلموا الحكم.
    قال رحمه الله تعالى: (وإن قيل: إن هؤلاء لم يكونوا مرتدين، بل جهالاً بالوجوب، وقد تقدم أن الأظهر في حق هؤلاء أنهم يستأنفون الصلاة على الوجه المأمور، ولا قضاء عليهم، فهذا حكم من تركها غير معتقد لوجوبها)، فهؤلاء يشملهم جميعاً أنهم كانوا غير معقتدين للوجوب وإن اختلف السبب، فهذا يعتقد أنها غير واجبة؛ لأن الشيخ يصلي عنه، أو لأنه من العارفين، والآخر يعتقد عدم وجوبها؛ لأنه لم يبلغه حكمها مثلاً.
  6. الإصرار على ترك الصلاة

     المرفق    
    قال رحمه الله تعالى: (وأما من اعتقد وجوبها مع إصراره على الترك فقد ذكر عليه المفرعون من الفقهاء فروعاً أحدها هذا، فقيل عند جمهورهم - مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم-: إذا أصر حتى يقتل فهل يقتل كافراً مرتداً أو فاسقاً كفساق المسلمين؟ على قولين مشهورين).
    1. حكم المصر على ترك الصلاة إلى الموت

      وهنا كلام طويل للعلماء، والذي يهمنا أن نعرفه أن الشخص إذا كان لا يعتقد أنها غير واجبة، بل يقول: الصلاة واجبة، ولكنه مصر على ألا يصلي، وإن سألناه أو ناقشناه في وجوبها أقر بذلك، ولكن يقول: لن أصلي. فجيء به إلى القضاء وقيل له تُب وأد ما افترض الله عليك، وإلا فاعلم أن جزاءك هو القتل، فنأتي بك إلى الساحة ليراك الناس ونفصل هذا الرأس عن هذا الجسد إن لم تصل، فقال: لن أصلي أبداً، فجيء به وضربت عنقه وهو على هذه الحالة، فما حكمه؟
      يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: من قال: إن هذا الأمر فيه خلاف؛ فهذا خطأ لا ينبغي أن يقال، بل هذه فروع فاسدة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينقل عنهم شيء من هذه الفروع وهم أكمل الناس فقهاً وعلماً.
      يقول: فإن كان مقراً بالصلاة في الباطن، أي يقول في باطنه: إن الله تعالى هو إلهي ومعبودي وربي وخالقي، وإنه قد أمرني بهذه الفرائض، وإنه يجب علي أن أؤديها، ويعتقد ذلك؛ فإنه يستحيل ويمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل، وهل يفعل ذلك مؤمن؟!
      قال رحمه الله تعالى: (هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم)، أي: لا يعرف من عادات بني آدم أن المرء يكون مقراً بشيء محباً له ثم يرغم عليه ولا يفعله، فإذا كان رافضاً له حتى يقتل دون أن يفعله فهذا دليل على كفره به وأنه لا يقبله أبداً، وإلا فكيف يفضل السيف عليه وهو في باطنه يحبه؟! هذا أولاً.
      ثانياً: قال رحمه الله تعالى: (لم يقع هذا قط في الإسلام)، فما وقع في الإسلام أبداً أنه جيء بأحد ليقتل وأصر على أن يترك الصلاة أبداً إلا من كان زنديقاً في الباطن، ولو كان جاهلاً فإنا نعلمه، والجاهل لا يعرض على السيف حتى يعلم.
      قال رحمه الله تعالى: (ولا يعرف أن أحداً يعتقد وجوبها ويقال له: إن لم تصل قتلناك، وهو يصر على تركها مع إقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قط في الإسلام ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقراً بوجوبها ولا ملتزماً بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين)، كما قال رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان: لو جئنا برجل قال: أنا من أهل السنة ، فقلنا له: إذاً ترض عن أبي بكر و عمر فقال: لا أترضى عنهما أبداً، فقلنا: نقتلك أو نضربك أو نعذبك، وظللنا نضربه ونعذبه فأبى أن يترضى عنهما، فهل يصدق أحد أنه في باطنه من أهل السنة ويحب أبا بكر و عمر ، أم نكتشف بهذا العمل أنه رافضي؟! لأن الرافضة من شدة حقدهم وعداوتهم للشيخين الكريمين خصوصاً ولعامة الصحابة الآخرين لا يمكن أن يفعل أحدهم ذلك لشدة حقده، لكن المؤمن من أهل السنة لا يمنعه من ذلك شيء، بل إذا قيل: إن أبيت أن تقول: رضي الله عنهما ضربناك؛ فإنه يقول: أأتحمل الضرب وأترك شيئاً أنا راض به ومقتنع به؟!
      إذاً: القاعدة التي يعرفها الناس جميعاً أن من تحمل الأذى أو الضرب أو القتل في سبيل شيء معين فهو معتقد له، ولولا أن هذا الأمر صار عقيدة عنده لما فضل الضرب أو القتل عليه، فهذا عقيدته تركُ الصلاة، وهذا وقع في الإسلام، أما الذي لم يقع هو أن يؤتى برجل يقر بوجوبها ويقال له: صل وإلا قتلناك ويأبى، فهذا منافق زنديق ملحد، كما حدث لبعض من درسوا في بلاد الغرب أو اعتقدوا العقائد الباطلة الكفرية كالشيوعية، فهؤلاء يصرون على أن لا يصلوا حتى يموتوا، فنعرف أنه قد تغلغلت في نفسه هذه العقيدة الخبيثة حتى أصبح يرى أنه من الواجب عليه أن يموت دون أن يرجع إلى الدين الذي هو دين الفطرة، فهذا لا بد من أن يموت كافراً ويقتل كافراً، ولا يجوز أن نختلف في حكمه فنقول: لعله يكون في الباطن مقراً بالوجوب فيكون مؤمناً.
      وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه، وقد أخذ هذا من حال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مع من تركوا شيئاً من الدين، ولذا قال رحمه الله تعالى فيمن هذا شأنه: (استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة ) رواه مسلم ، وقوله: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ) )، وقد تقدم الكلام مفصلاً في حكم تارك الصلاة وفي معنى الكفر هنا، فلن نعيده، إنما المقصود هنا بيان حكم التائب وكيف يتوب.
      قال رحمه الله تعالى: (وقول عبد الله بن شقيق : [ كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة ]، فمن كان مصراً على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط؛ فهذا لا يكون قط مسلماً مقراً بوجوبها، فإن اعتقاد الوجوب واعتقاد أن تاركها يستحق القتل هذا داع تام إلى فعلها).
      فهو -رحمه الله- يناقش القضية مناقشة نفسية، فيقول: إن أي إنسان يقوم في نفسه الدافع التام القوى لعمل معين، وجاء أيضاً ما يحضه عليه، ولم يكن هناك مانع، فلا بد من أن يفعل ذلك، فاعتقاد أن تاركها يستحق القتل وأن هذا من الدين، مع اعتقاد وجوبها هذا داع تام لفعلها، (والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور) أي: يستدعي وجوباً أن يوجد المقدور مع القدرة، فلم لم يفعل؟!
      قال رحمه الله تعالى: (فإذا كان قادراً ولم يفعل قط علم أن الداعي في حقه -يعني الدافع- لم يوجد)، ولو وجد لصلى، (والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل، لكن هذا قد يعارضه أحياناً أمور توجب تأخيرها وترك بعض واجباتها وتفويتها أحياناً).
    2. بيان وجه اللبس الداخل على القائلين بإسلام المصر على ترك الصلاة

      وقد أسفت كثيراً عندما وجدت شريطاً لداعية له إلمام بعلم الحديث ويدير أحد المراكز الدعوية يقرر فيه أن تارك الصلاة ليس بكافر، وأن الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، وتارك العمل ليس بكافر، وفصل هذه القضية -غفر الله لنا وله- وكأنه ينبه الناس إلى حقيقة غائبة عن أذهانهم من العقائد! ومثله الذي كتب كتاب: فتح من العزيز الغفار في بيان أن تارك الصلاة ليس من أهل النار .
      فعجيب أمر هؤلاء، لاسيما الأخ الداعية الذي تعجبت منه كيف غفل عن النقل الصحيح لإجماع الصحابة وإطباق أئمة الإسلام -لاسيما أهل الحديث- على ذلك؟! وعلماؤنا المعاصرون -والحمد لله- كلهم متفقون على أن تارك الصلاة عامداً بعد بلوغ العلم والحجة يكون كافراً، تعجبت في الحقيقة من هذا، لاسيما أنه قال بأن هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة ، وكأنه يقول: من اعتقد غير ذلك فإنه على غير عقيدة أهل السنة والجماعة ؛ وعلى عقيدة الخوارج الذين يكفرون بترك بعض الأعمال.
      فانظر كيف يقرر شيخ الإسلام رحمه الله هذا الأصل وهذه العقيدة الواضحة الجلية! وقد قررها في مواضع أخرى -ولاسيما كتاب الإيمان - بتوسع.
      فنقول: لعل اللبس جاء عند بعضهم لكون بعض الناس يصلي أحياناً ويترك أحياناً، ويؤخر أحياناً، وهذا ما نسأل عنه كثيراً، وقد تتصل بك امرأة وتقول: زوجي أحياناً يصلي وأحياناً لا يصلي، فهل أفارقه؟ فإني سمعت أن بعض العلماء يقولون: إن الرجل إذا كان تاركاً للصلاة فإن زوجته تحرم عليه، والعقد باطل، والأبناء كأنهم أبناء زنا. وما أشبه ذلك.
      وهؤلاء الكتاب ونحوهم قد يقرءون بعض الأدلة؛ كحديث عبادة الذي سنذكره، فيقولون: الذي لا يحافظ على الصلاة لا يزال مسلماً، ونحو هذه الشبهات، فيقع الإنسان في حيرة واضطراب، فيقول: كيف نقول: إن الإجماع قد انعقد على كفره ومع ذلك نسمع من يقول: لا يكفر؟! وإنما جاء اللبس من عدم التفريق بين التارك المطلق وبين الذي لا يحافظ، فالتارك المطلق الذي لا يصلي أبداً هذا كافر لا يجوز أن نتنازع فيه، لكن المتهاون هو الذي يصلي فريضة وأخرى ينام عنها وأخرى يتركها، وهذا في حقيقته ليس بغريب، ولا غرابة في أن نقول: إنه في الفجر كان كافراً بترك الفجر ثم جاء الظهر فصلى فأسلم، فهذه حالة ذكرها الله وكانت واقعة لكثير من الناس في زمن النبوة، وهم المنافقون، وهم درجات: منهم المنافق المحض الذي لم يدخل الإيمان قلبه أبداً، ومنهم الذي نفاقه على ضعف إيمان، فهو -وإن كان يسمى من المنافقين- لم يصل به الحال إلى أن يكفر، لكنه يصل أحياناً إلى الخيط الدقيق الذي يفصل بين الإيمان والكفر، وبين هذا الضعيف الإيمان الذي فيه النفاق العملي وبين ذلك المنافق نفاقاً أكبر، فبينهما - إذا تصورنا- خيط رقيق، فهو يخرج مرة ويعود أخرى، ويكون أحياناً قريباً جداً على حافة الكفر، فمرة يدخل في دائرة الكفر ومرة يعود إلى دائرة الإيمان، فهذا حال واقع عند كثير من الناس، فهذا الذي نقول له: كن مسلماً حقاً وحافظ على صلاتك، وإلا فقد يأتيك الأجل وأنت في الخط الآخر قد خرجت، ولذلك قد يموت كافراً، وليس هناك خاتمة أسوأ من خاتمة الذي يموت على الكفر، لاسيما وقد عرف الإيمان وهو يأتي إليه أحياناً ويعود إليه أحياناً، فلهذا نقول له: ابتعد ما استطعت عن دائرة الكفر بأن تحافظ على الصلاة في أوقاتها في الجماعة.
      فهذا هو الذي قد يسبب نوعاً من الخطأ في فهم القضية.
      يقول شيخ الإسلام : إن بعض الناس قد يعرض له أمور توجب تأخيرها، فتضعف الباعث أو الدافع للصلاة، فيضعف عنها بمانع من الموانع لغفلة أو لشهوة، فهو إما أن يؤخرها وإما أن يترك بعض واجباتها وإما أن يفوتها أحياناً.
      قال رحمه الله تعالى: (فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط ويموت على هذا الإصرار والترك؛ فهذا لا يكون مسلماً، لكن أكثر الناس يصلون تارة ويتركونها تارة) فيشتبه الحكم ويختلط الأمر (فهؤلاء ليسوا محافظين عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن؛ حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ) ) ففهم بعض الناس أن الذي لا يحافظ عليها هو الذي لا يصلي بالكلية، وهذا فهم خاطئ. قال: (فالمحافظ عليها الذي يصليها في مواقيتها كما أمر الله تعالى، والذي يؤخرها أحياناً عن وقتها أو يترك واجباتها، فهذا تحت مشيئة الله، وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه كما جاء في الحديث).
      فهذا الوعيد في حق المفرط المضيع الذي يترك بعض واجباتها أو يؤخرها أو يتكاسل عنها، أما من تركها واستدام ذلك واستقرت عليه نفسه؛ فهذا لا يكون مؤمناً قط، فإذا كان هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث تحمل على هذا، فلا خلاف -والحمد لله- ولا تعارض بين الأدلة في هذا الشأن.
      وقد يعترض البعض ويذكر كلام النووي رحمه الله تعالى وغيره من الشافعية، والكلام في هذا قد تقدم، لكن نقول: إن الخلاف موجود، وإنما نريد أن نبين حقيقة القول الراجح، والقول الراجح في هذه المسألة هو ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وأما غيرهم فيقول عنهم شيخ الإسلام رحمه الله -كما قرر ذلك في الإيمان الأوسط بشكل أوضح-: إن هؤلاء الذي يرون أن تارك الصلاة ليس بكافر دخلت عليهم شبهة المرجئة ، فإذا وجد قول القلب التام المطلوب شرعاً فإنه يستلزم عمل الجوارح بقدره، يعني: من كان عمل قلبه قوياً للغاية يقيناً وإخلاصاً وصدقاً وانقياداً؛ فلا بد من أن يصلي صلاة خاشعة منقادة يظهر فيها هذا الإيمان الذي في قلبه، ومن كان إيمانه أقل فإنه تكون صلاته كذلك وبقية أعماله، لكن من لم يؤد الصلاة مطلقاً فعمله دليل على أنه لا إيمان لديه في القلب مطلقاً، فهؤلاء دخلت عليهم شبهة الإرجاء كما قد عرضنا فيما مضى، ونرجو -إن شاء الله تعالى- عندما نتعرض لموضوع الإيمان أن نسهب هنالك في بيان هذه الشبهة وما طرأ بسببها عند المسلمين من خلل في العقيدة، فهذا حكم التائب الذي تاب وقد ترك الصلاة، وهو أننا ننبهه ونذكره ونقول له: عليك أن تصلي، ونقول: لا يجب عليك أن تقضي ما فاتك من الصلاة.
  7. القاعدة العامة في معاملة المتهاون بالصلاة والمستتر بزندقته وكفره

     المرفق    
    أما من كان يصلي أحياناً ويترك أحياناً فحكمه حكم المنافق، والمنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا حالهم، كانوا يصلون أحياناً ويتركون أحياناً، ويحافظون على بعض الفرائض دون بعض، فهم ما بين ضعفاء الإيمان إلى رءوس الكفر، وكلهم كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يعاملون معاملة المسلمين في الأحكام الظاهرة، فلا حاجة لأحد إلى أن يقول: ما علمنا أن مقابر خصصت لتاركي الصلاة؛ لأنا نقول: إذا قتل تارك الصلاة على الحالة التي ذكرها شيخ الإسلام -أي: مصراً على ألا يصلي-؛ فإنه يقتل مرتداً، فهذا لا يدفن في مقابر المسلمين ولا يورث وتنبني عليه كل الأحكام المعروفة، ولكننا نتكلم عمن كان مثل هؤلاء يصلي أحياناً ويدع أحياناً، فهذا وسائر المنافقين الذين يقولون: نحن مسلمون، ونحن محافظون، وهذه المقالات التي ننشرها لا نقصد بها الكفر والإلحاد، ونحن مخطئون، وإنما أردنا كذا. ويعتذرون كما كان يعتذر المنافقون في أيام النبي صلى الله عليه وسلم؛ نعاملهم بالظاهر ونكلهم إلى ربهم تعالى، فالأصل في هؤلاء جميعاً أن نعاملهم معاملة المسلمين، ولهذا قد يكون كثير ممن نعاملهم في الظاهر معاملة المسلمين كفرة عند الله في الباطن، لكن ما أمرنا أن نشق عن قلوب الناس، فمن استتر ببدعته أو زندقته أو كفره وقال: أنا من أهل السنة وأنا من المسلمين؛ قبلنا منه ذلك وألزمناه به في الظاهر، وحقيقته وسريرته إلى الله تعالى، ولهذا لا يجب على كل أحد إن علم أن أحداً من الناس منافق أو زنديق أو ملحد ولم يره مُعلِناً بهذا أن يفضحه أمام الناس كما قد يظن بعض الناس، فليسعنا ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وما وسع صحابته من بعده من إقرارهم الناس على الظاهر، فإذا أظهروا شيئاً مخالفاً أخذوا به، فلو رأيت الناس يذهبون بجنازة رجل إلى المسجد وأنت تعلم أنه لا يصلي فإنه لا يجب عليك في هذه الحالة أن تقف في المسجد وتقول: لا تصلوا عليه ولا تدفنوه في مقابر المسلمين، والدليل على ذلك ثابت في الصحيح من خبر حذيفة رضي الله عنه الذي أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنافقين بأعيانهم، فكان يعرفهم بأعيانهم، أما سائر الصحابة فكانوا لا يعرفونهم بأعيانهم، حتى [ جاءه عمر رضي الله عنه فقال: يا حذيفة ! بالله أنا من المنافقين؟ فقال: لا. ولا أقولها لأحد من بعدك. فكان عمر رضي الله عنه ينظر: فإن رأى حذيفة صلى على الرجل صلى عليه وإلا لم يصل ].
    فهذا دليل على أن نتركهم ليصلي عليهم من صلى أو يستغفر لهم من استغفر ما دام أنهم لم يعلنوا الكفر، وليس ذلك لكل أحد؛ لأن بعض الناس تقتضي المصلحة الشرعية الإفصاح عن حاله نصحاً للمسلمين، فلا بد من بيان الحق، ولكن المقصود أنه يسعنا في مثل هذه القضايا ما وسع الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وهذا أمر سنتحدث عنه -إن شاء الله- بالتفصيل في موضوع الإيمان.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.