المادة كاملة    
يتصل بأحكام التوبة حكم توبة العاجز عن الذنب الذي قد حيل بينه وبين ارتكاب الذنب؛ فإن للعلماء في تحقق التوبة فيه وإمكانها منه مقالاً، كما يتصل بأحكام التوبة ما يتعلق بمظالم العباد في أموالهم وأعراضهم، فكيفية التوبة من ذلك محل تفصيل ونزاع بين الفقهاء يفهم منه العاقل اللبيب المدرك لعظم هذا الذنب أن السلامة لا يعدلها شيء.
  1. أحكام توبة من حيل بينه وبين المعصية وعجز عنها

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فيقول ابن القيم رحمه الله: (ومن أحكامها أن العاصي إذا حيل بينه وبين أسباب المعصية وعجز عنها بحيث يتعذر وقوعها منه هل تصح توبته؟) يعني أن المجرم أو المذنب إذا عجز عن الإتيان بالمعصية وأصبح تركه لها عن عجز وليس اختياراً منه لتركها، فهل له أن يتوب، أم لا توبة له؟
    وقد مثل رحمه الله تعالى لذلك بالكاذب والقاذف وشاهد الزور إذا قطع لسانه أو خرس لأي سبب فلم يستطع الكلام، وقد كان قبل كاذباً أو قاذفاً أو نماماً أو مغتاباً، فانقطع هذا العضو الذي يكون به الذنب، ولم يعد في إمكانه أن يأتي بهذا الذنب، وكذلك الزاني إذا جُب، ومثله الشيخ الهرم إذا كبر ولم يعد يستطيع الزنا، فتركه للزنا عن عجز وليس عن توبة، وكذلك السارق إذا قطعت أطرافه، والمزوِّر إذا قطعت يده، وشارب الخمر إذا فقدها في مكان لا يمكن أن يجدها فيه أبداً، ونحو ذلك.
    1. القول باستحالة التوبة في حق العاجز عن المعصية

      وقد ذكر رحمه الله أن هذه المسألة فيها قولان:
      القول الأول: قول من يرى أنه لا توبة لهؤلاء، ولا تصح التوبة منهم ولا تقبل؛ لأسباب:
      الأول: أن التوبة إنما تكون ممن يمكنه فعل الذنب وتركه، وهذا غير ممكن له أن يفعل، ولا يمكن أن يتأتى منه الذنب، بل هو من قبيل المحال.
      والثاني: أن التوبة إنما تكون بمخالفة داعي النفس والهوى والشهوة، والنفس هاهنا لا داعي لها، فلا تدعو هذا الهرم أو المجبوب إلى أن يزني، ولا تدعو ذلك المقطوعة يده إلى أن يسرق، ولا تدعو من قطع لسانه إلى أن يشهد الزور.
      والثالث: أن هذا الذي فقد هذا العضو حالته كحال المكره إذا أكره على أن يمتنع عن الذنب، فحيل بينه وبين الذنب بالقيود والأغلال والحبس، فكيف يكون تائباً؟!
      وقالوا أيضاً: إن المستقر في أعراف الناس وفي شعورهم أن هذه التوبة لا تعد توبة، وإنما هي انقطاع وحرمان من الذنب ليس إلا.
      ثم جاءوا بأدلة نقلية فقالوا: إن مما يدل على ذلك أن الله تعالى حدد للتوبة أهلاً، فقال تعالى: (( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ))[النساء:17-18].
      وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى معنى الجهالة في الآية فقال: (والجهالة هاهنا جهالة العمل وإن كان عالماً بالتحريم).
      يعني: ليس المعنى أن العبد الذي يقبل الله توبته هو الذي يرتكب الذنب وهو جاهل بالتحريم، وإنما المقصود الجهالة حال العمل.
      قال رحمه الله تعالى: (قال قتادة: [أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة، عمداً كان أو لم يكن، وكل من عصى الله فهو جاهل]. فالأمر الأول مما أجمع عليه الصحابة: أن كل ما عصي الله به فهو جهالة، فإن كان زناً فهو جهالة، وإن كان شرب خمر فهو جهالة، وإن كان غيبة أو نميمة فهو جهالة، فكل ذنب أو معصية أو تقصير في حق الله أو إخلال بما أوجب الله جهالة ممن فعله، ولا يعني ذلك أنه يجهل التحريم عند الفعل أو يجهل الإيجاب عند الترك، وإنما المقصود أن ترك الواجب أو فعل المحرم جهالة.
      والأمر الثاني مما أجمعوا عليه: أن كل من عصى الله فهو جاهل، حتى وإن كان عالماً بكل الأحكام المتعلقة بهذا الذنب، ولا نقول: إنه جاهل بالتحريم إذا قلنا: إنه عالم به وبأحكامه، ولكنه جاهل بقدر الله وبتعظيم الله، وجاهل -أيضاً- بقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير متأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا بهذا الواجب الذي تركه، أو نهانا عن الحرام الذي أتاه هذا الفاعل.
      قال رحمه الله تعالى: (وأما التوبة من قريب فجمهور المفسرين على أنها التوبة قبل المعاينة) أي: معاينة ملائكة الموت (قال عكرمة : [قبل الموت]. وقال الضحاك: [قبل معاينة ملك الموت]. وقال السدي و الكلبي: [أن يتوب في صحته قبل مرض موته]. وفي المسند وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) ) وهو حديث صحيح.
      فهؤلاء قالوا: إن التائب الذي تقبل توبته هو الذي يتوب من قريب، أما إذا دخل في سكرات الموت وعاين الملائكة فقال: إني تبت الآن؛ فإنه لا تقبل توبته، وذلك لأنها توبة اضطرار لا اختيار.
      والحقيقة أن الإنسان إذا عاين ذلك فقد عاين أول منازل الآخرة، وخرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حيث كان يؤمن بعذاب القبر وبالوعد والوعيد إيماناً بالغيب، كما ذكر الله في صفات عباده المؤمنين، أما وقد عاين ما عاين فقد أصبح الغيب في حقه شهادة، فلم يعد تصديقه إيماناً منه بالغيب، وإنما هو إيمان بما قد رأى ووقع فيه، كمن يقع في فخ فيرى الفخ قد بدأ ينقبض عليه، فهذا لم يعد مؤمناً بقول الذي أنذره وحذره، بل أصبح إيمانه بالمشاهد المحسوس، فتوبة مثل هذا توبة اضطرار وليست توبة اختيار، فهو مثل الذي يتوب بعد أن تطلع الشمس من مغربها أو يتوب يوم القيامة، أو عند معاينة العذاب، كما هو حال المشركين الذين حكى الله عنهم ذلك في آيات كثيرة، فلا ينفعهم أن يدعوا الله تعالى بأن يردهم أو يرجعهم، كما قال تعالى: (( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ))[المؤمنون:100]، وكما حكى تعالى عنهم قولهم: (( إِنَّا مُوقِنُونَ ))[السجدة:12] أي: فليس هذا هو وقت العمل الصالح، ولا وقت اليقين بعد أن رأيتم ما رأيتم وعاينتم ما عاينتم.
      قال رحمه الله تعالى: (قالوا: ولأن حقيقة التوبة هي كف النفس عن الفعل الذي هو متعلق النهي، والكف إنما يكون عن الأمر المقدور، وأما المحال فلا يعقل كف النفس عنه ... قالوا: ولأن الذنب عزم جازم على فعل المحرم يقترن به فعله المقدور، والتوبة منه عزم جازم على ترك المقدور يقترن به الترك) وهذا غير ممكن، هذا جملة ما استدلوا به، فعلى قول هؤلاء لا يتوب مثل هؤلاء الذين ذكرنا شأنهم.
    2. القول بإمكان التوبة وحصولها في حق العاجز عن المعصية

      وأما القول الآخر -وهو الراجح- فهو أن التوبة ممكنة؛ حتى لا يقول أحد: كيف أتوب وقد تعذر علي ذلك؟!
      فإذا كان هناك رجل يقارف الزنا -والعياذ بالله-، فلما انقطعت الشهوة وارتخت الأعضاء واشتعل الرأس شيباً ولم يعد فيه قدرة على هذا الذنب ولا إمكانية؛ فإنا نقول له: إن التوبة ممكنة، وهي واجبة عليك؛ لأن أركان التوبة مجتمعة فيه، فمن شروط التوبة الندم، وهذا يمكن أن يتأتى منه الندم وإن كان قد أصبح في مقام العاجز عن الإتيان بالذنب، فلو كان قد قتل أو زنى أو فعل ما فعل وهو في السجن ينتظر الموت، فإنا نقول: يتوب مما ارتكب ومما جنى، وإن كان لن يخرج من الزنزانة والأغلال والقيود، ولا يمكنه أن يفعل المعصية، لكنا نقول له: تُب واندم على ما فعلت وفرطت.
      قال رحمه الله تعالى: (وفي المسند مرفوعاً: ( الندم توبة ) ) وهذا الحديث حسن، ولا يعني ذلك أن الندم هو الشرط الوحيد، لكن الندم يلزم منه الإقلاع؛ ويلزم منه -أيضاً- العزم على عدم المعاودة، وإلا فلا يكون ندماً، فالندم مجمع ومعقد شروط التوبة الأخرى.
      فإذا تحقق ندمه على الذنب، وتحقق لومه نفسه لأنها فعلت ذلك؛ فهذه توبة، وإذا صحب ذلك البكاء والحزن والألم على ما فات فهذا حري بأن يكون قد وصل إلى درجة المقربين أو الأتقياء الصالحين وإن كان قد عجز بالفعل عن تكرار مثل ذلك الذنب.
      ومن الأدلة النقلية التي استدل بها أصحاب هذا القول: أن الشرع قد نزل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها، وهذا من تمام حكمة الله تعالى، بل من كمال رحمته ولطفه بخلقه أنه نزل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً ) وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن بـالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله! وهم بـالمدينة ؟! قال: وهم بـالمدينة ، حبسهم العذر )، أي: حبسهم العذر الذي عذر الله تعالى به الذين تخلفوا ممن ليس عليهم حرج، كالأعمى والمريض وسائر من عذرهم الله، ولو أن حامية أبقاها الإمام أو القائد عمداً لحراسة بلد ما، فقامت بالحراسة في تلك المدينة ؛ لكان لها من الأجر مثل أجور الذين جاهدوا إذا رابطوا طاعة واحتساباً وسداداً لثغرة من ثغور المسلمين حتى لا يأتوا من ظهورهم، فالكل شريك حال وجود النية الصالحة الصادقة، وأمثال ذلك كثير.
      قال رحمه الله تعالى: (فتنزيل العاجز عن المعصية منزلة التارك لها قهراً مع نيته تركها اختياراً لو أمكنه منزلة التارك المختار أولى).
      يعني: إلحاقه بالتارك المختار أولى من إلحاقه بالتارك المضطر، وليس كما قال الأولون: إن هذا الرجل تاب اضطراراً. بل نقول: تاب اختياراً.
      قال رحمه الله تعالى: (يوضحه أن مفسدة الذنب التي يترتب عليها الوعيد تنشأ من العزم عليه تارة ومن فعله تارة).
      يعني أن التوبة النصوح من كل الذنوب، التي أمر الله بها في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ))[التحريم:8] المطلوب فيها أمران: أن لا يعود إلى الذنب، وأن يعزم على أن لا يعود؛ لأنه إذا عزم على أن يعود إلى الذنب وإن لم يجده ولم يتيسر له فيكون قد نقض التوبة ونقض شرطها -كما ذكرنا- وهو العزم على أن لا يعود، فإذا عزم على أن يعود فقد نقض شرط التوبة، فهذا الذي لا يستطيع العود يبقى من شأنه العزم على العود، فيمكن أن يعزم على أن يعود إلى الذنب، أو يعزم على أن لا يعود، فيكون تائباً أو غير تائب بحسب العزم وإن كان قد تعذر منه الفعل، كما قال رحمه الله تعالى: (إن هذا تعذر منه الفعل، ولكن قد لا يتعذر منه التمني والوداد).
      وحقيقة الأمر أن حقيقة الذنوب هي إفساد القلب، كما أن حقيقة الطاعة وغرضها هو إصلاح القلب، فهو موضع نظر الرب من عبده، فالقلوب هي التي ينظر الله إليها، ولا ينظر إلى الصور والأجساد كما جاء في الحديث، وكما قال صلى الله عليه وسلم: ( التقوى هاهنا وأشار إلى صدره )، وحقيقة التقوى أن يزجر الإنسان نفسه وقلبه وجوارحه عن معصية الله، وأن يوقر الله ويعظمه ويجل أمره، والأعمال مطلوبة وواجبة، لكن الأساس هو إصلاح هذه القلوب، فالذي لا يفعل الذنب قد يتمناه ويهواه ويفكر فيه ويحدث نفسه به ويمنيها به، وهذا -في الحقيقة- إيمانه ضعيف، ويوشك أن يقع في الذنب وإن لم يفعله، والآخر غير قادر على أن يفعل، وهو في حقيقة الأمر قد انقطعت شهوته وأمانيه من ذلك الذنب، فلا يعرض له أبداً، ولكن إن عرض فإنما يعرض له الندم عليه والخوف منه وكراهيته وبغضه، فهذا عمل عظيم.
      فإذا كانت حقيقة العمل هي عمل القلب، فندمه هذا أعظم من الذي لم يفعل مع قدرته، وصحيح أن هذا لن يفعل؛ لأنه لا يقدر على أن يفعل، لكن ما يأتي به في قلبه من ترك تمنيه، بل من ضد ذلك -وهو الندم والخوف واستشعار الرهبة من ذلك الذنب- خير عظيم، وهو أنفع له.
      قال رحمه الله تعالى: (والفرق بين هذا وبين المعاين ومن ورد القيامة أن التكليف قد انقطع بالمعاينة وورود القيامة). يرد على الذين استدلوا بالآية بالفرق بين هذا التائب من الذنب لعدم قدرته عليه، وبين الذي عاين الموت أو مقدماته أو أراد التوبة يوم القيامة، ذلك أن هذا الذي رأى الموت أو يوم القيامة انقطع عنه التكليف، فصار الوقت في حقه وقت محاسبة وليس وقت تكليف، فزمن التكليف قد انقضى، إذ زمنه ما كان قبل الغرغرة والمعاينة، أما العاجز عن الذنب فهو لا يزال في زمن التكليف، فيتصور منه أن يندم وأن يتوب، وهذا وحده كاف لأن نقول: إن التوبة متحققة ومرجوة له إن شاء الله تعالى.
  2. الفعل المتصل بالمعصية الذي لا تتم التوبة إلا به

     المرفق    
    ثم ذكر رحمه الله تعالى القضية الثانية، وهي أنه إذا توغل الإنسان في ذنب ولم يمكنه أن يقلع عن الذنب وينسلخ منه إلا بفعل، فهل يعد هذا الفعل حراماً أم حلالاً؟! وذلك كمن توسط أرضاً مغصوبة دخلها عنوة وقهراً، فإن تاب وأراد أن يخرج منها؛ فما حكم هذا الخروج؟ وكذلك من زنى فأولج في فرج حرام ثم تاب أثناء ذلك وأراد أن ينزع، فما حكم إخراج عضوه؟ وكذلك سائر الأفعال التي لا يمكن أن تتم التوبة ولا تتصور إلا بها، فهل تكون واجبة؟ فإن كانت كذلك فكيف وهي جزء من الفعل المحرم؟! قال رحمه الله تعالى: الصحيح والراجح أن هذه أمور واجبة وهي مطلوبة، وذلك لاختلاف الحالين، فإن حال دخوله الأرض المغصوبة وأخذه منها وسكناه في دورها ليس كمثل حال خروجه؛ إذ عندما دخل كانت نيته الغصب والنهب، أما حال الخروج فهو حال الندم والإقلاع والكف، ولا يتأتى منه الندم إلا بهذا؛ ففي هذه الحالة يكون هذا الفعل واجباً، وهو مثاب ومأجور عليه. وهناك أمثلة أخرى، منها: موظف في بنك ربوي يريد أن يخرج من هذا البنك، ففي أثناء ذلك يراجع البنك ويأتي بالمعاملة ويقدمها وهو ما يزال موظفاً ولم يترك البنك بعد، ولم يستصدر القرار بالترك، فهل نقول: إنه لا يجوز له ذلك لأنه ما يزال في البنك؟! والجواب: أن تحريم ذلك قول، ولكن القول الصحيح أنه يكون بهذا العمل مطيعاً لله تعالى؛ لأنه لا يمكن التخلص من الإثم إلا به، ولأنه توبة، والتوبة واجبة عليه، فهو بذلك لا يعمل المحظور، بل يقوم بالواجب ليتخلص من ذلك الحرام. وكذلك أي وظيفة من الوظائف المحرمة في أثناء سعي الإنسان للخلاص منها. وكذلك من سافر إلى بلاد من بلاد الفساد والإلحاد والعياذ بالله، ثم تاب فقام يراجع ويستخرج الأوراق ليعود إلى بلاد الإسلام، فالذهاب كان حراماً لاشك فيه، ولكن العودة تكون طاعة بل واجبة، ويكون فيها من الخير بقدر نيته واجتهاده في أن يتخلص من هذا الحرام، وكذلك في حالة الزنا والعياذ بالله؛ لأنه لو اقشعر جلده من خوف الله تعالى واستشعر أن العذاب قد ينزل به وهو في هذه الحالة فتاب ونزع عضوه؛ لكان فعله هذا غير فعله في أول مرة حيث كان يتلذذ بالشهوة المحرمة التي حرم الله تعالى، فهذا الإخراج ليس هو الإدخال، فكل هذه الأعمال يكون حاله وموقفه النفسي عند ندمه وعودته وإقلاعه مختلفاً عنه عند إتيانه. إذاً: هذا يتصور في حقه التوبة، ويكون الفعل في حقه واجباً ويثاب عليه، فتكون توبته هي عين ما فعل وعين ما صنع، ويثاب ويؤجر عليها إن شاء الله تعالى.
  3. التوبة من حقوق الآدميين

     المرفق    
    القضية الثالثة -وهي قضية مهمة جداً- وهي ما يتعلق بالتوبة من حقوق وأحكام كثيرة من أحكام التوبة.
    قال رحمه الله تعالى: (ومن أحكامها أنها إذا كانت متضمنة لحق آدمي: أن يخرج التائب إليه منه إما بأدائه وإما باستحلاله منه بعد إعلامه به، وإن كان حقاً مالياً أو جناية على بدنه أو بدن مورثه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات ) وقد تقدم شرح هذا الحديث وأمثاله.
    قال رحمه الله تعالى: (وإن كانت المظلمة بقدح فيه بغيبة أو قذف فهل يشترط في توبته منها إعلامه بذلك بعينه والتحلل منه؟).
    إذا كان الحق من حقوق العباد، كأن أخذ منه مالاً أو سرقة، أو احتال عليه، أو غشه في البيع أو الشراء بأي نوع من أنواع الغش الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يجب عليه أن يرجعه إليه إذا عرفه، وإن لم يعرف عين صاحب الحق فإنه يتصدق به عنه، فالمقصود أن حق الآدمي إذا كان مالاً فالواجب أن يعطيه ويتحلل منه في الدنيا كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فيوم القيامة لا درهم ولا دينار، وإنما هي الحسنات، حيث يؤخذ من حسناته فيعطى لأصحاب الحقوق، فإن نفدت حسناته وقد بقي لهم حقوق أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، فيكون حينئذ من المفلسين الذين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنهم الصحابة فقال: ( أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ).
    1. القول بلزوم الإعلام والتحلل من الوقوع في العرض

      ومع أن رد الحقوق المالية ونحوها أمر معلوم فقد بقيت بعض الأمور التي أشكلت على العلماء، وذلك أن الإنسان إذا ذهب إلى صاحب الدكان أو المحل الذي عمل فيه فقال: يا أخي! أنا عملت عندك وأخذت من الدكان ألفاً أو عشرة آلاف، وهذه هي العشرة؛ فإن صاحب المحل يسر ويفرح ويدعو له ويحبه، وتكون بينهما علاقة طيبة، وهذا هو المعروف في حال الناس، أو يقول: يا أخي! أنا ضربتك يوم كذا، أو لطمت من أنت وليه، وأنا نادم مستغفر، فاقتص مني إن شئت وخذ مني ما شئت. فإن النفوس تنطوي بفطرة الله على أن هذا فيه خير وخصال طيبة حسنة.
      لكن المشكلة إذا كان اغتابه بكلام لا يليق، أو قذفه بالفاحشة، وهي الزنا أو اللواط، ففي هذه الحالة هل يذهب إليه ويعلمه إعلاماً عاماً يفصل له فيه فيقول: قلت فيك كذا وكذا، أو يقول: اغتبتك أو قلت فيك ما لا يليق؟ أم يعلمه إعلاماً مجملاً غير معين ولا مفصل؟ أم أنه لا يقول شيئاً من ذلك، وإنما يكتفي بالتوبة فيما بينه وبين الله؛ لأن هذه القضية تترتب عليها مفاسد عظيمة؟! ذكر رحمه الله تعالى أن الخلاف في هذه المسألة على ثلاثة أقوال، وأن الإمام أحمد رضي الله عنه روي عنه روايتان منصوصتان في توبة القاذف: هل يعلمه ويتحلل منه أم لا؟ (ويخرج عليهما توبة المغتاب والشاتم)، وذكر أن المعروف من مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك أنهم يشترطون الإعلام ويشترطون التحلل، فقال: (هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم) يعني أن المؤلفين في مذاهبهم من أتباعهم ذكروا ذلك، فهو لم يجد القول مسنداً إلى الأئمة الثلاثة بأعيانهم، لكن في كتب فقه الشافعية والحنفية والمالكية أنه لابد أن يذهب إليه ويقول له: قلت فيك كذا وكذا، ويتحلل منه.
      قال رحمه الله تعالى: (والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي، فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه).
      هذه حجتهم، يقولون: الرجل اغتابه وقذفه، فكيف يتصور أن تسقط عنه العقوبة بغير أن يذهب إليه ويقول له: اغتبتك بكذا وكذا، أو: قذفتك بكذا وكذا؟! فإن لم يفعل ذلك فإنه لا يقع العفو في محله؛ لأنه إن قال له على سبيل الإجمال: تكلمت فيك لقال: غفر الله لك، ولو علم حقيقة ما تكلم به فيه ما قال له: غفر الله لك.
      فهم يقولون: لا توجد في الإجمال فائدة، فلا بد من أن يوضح له ما قال فيه.
      قال رحمه الله تعالى: (ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول شرط إعلامه بعينه) قياساً على الحقوق المالية؛ لأنك حين تقول له: يا أخي! أخذت منك بعض النقود فأرجوك أن تسامحني؛ فإنه قد يقول: سامحك الله؛ لأنه يظنها عشرة أو عشرين أو مائة أو مائتين، أما إذا قلت له: أنا أكلت نصف المحل؛ فإنه لن يرضى؛ فلا بد من الإعلام؛ لأن البراءة من الحق المجهول لا تكفي لإسقاط العقوبة.
      واحتجوا كذلك بحديث: ( من كان لأخيه عنده مظلمة فليتحلله اليوم )، حيث فهموا من كلمة (يتحلله) على أن المقصود أن يعلمه على التفصيل ويطلب منه أن يعفو عنه وأن يسامحه.
      قال رحمه الله تعالى: (قالوا: ولأن في هذه الجناية حقين: حقاً لله وحقاً للآدمي، فالتوبة منها بتحلل الآدمي لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه).
      لأن ندمه هذا قد يسقط العقوبة بينه وبين الله، وهو قد أتى بحق الله الواجب على من اغتاب أو قذف، لكن حق الآدمي ما وفاه، فهو لا يزال مطالباً له به.
      قال رحمه الله تعالى: (قالوا: ولهذا كانت توبة القاتل لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه)، فالقاتل إذا قتل نفساً -والعياذ بالله- لا تتم توبته إلا بأن يمكن أولياء الدم من عنقه، فإن عفوا أو قبلوا الدية فبها، وإلا فلهم حق القصاص، وكذلك توبة قاطع الطريق.
    2. القول بتحقق التوبة بغير إعلام من وقع في عرضه

      والقول الآخر أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتابه، فكل بني آدم خطاء، ومما ينبغي أن يكون معلوماً أن أكثر ذنوب العباد فيما بينهم، فحال أكثر الناس أن يخطئوا وأن يذنبوا وأن يقصروا في حقوق العباد.
      قالوا: فالحل في مثل هذه الحالة هو التوبة والندم والاستغفار بين العبد وربه تعالى، ولا سيما في حالة الغيبة، والقذف وهو من أشد أنواع الغيبة، فهذا يكفيه أن يتوب بينه وبين الله وأن يستقيم ويستغفر الله تعالى، وأما ما يتعلق بحق الآدمي فالمخرج من ذلك أن تأتي المجالس التي اغتبته فيها وتذكره بكلام عكس ما قلت، وتنفي وتكذب ما قلت أولاً في نفس ذلك المجلس، سواء أكان عند زملاء العمل، أم في مجلس الحي، أم مجلس الجماعة، فيقوم ويقول بخلاف ما قد كان قال من الغيبة، فإن قال: هو بخيل وليس فيه خير؛ فإنه يقول: هو كريم ويفعل الخير، وإن كان قد قذفه بالفاحشة -والعياذ بالله- فتوبته من هذا أن يقول: إنه عفيف وإنه كذا، وما علمنا عليه من سوء، وإنه ما فعل فاحشة؛ حتى يرى أنه كافأ ما كان قد قاله في ذلك المجلس.
      وفي زماننا هذا أصبحت وسائل الفاحشة والغيبة والقذف أكثر من الزمن السابق، فالكلام في الزمن السابق ما كان يتعدى المجالس، وكان أقوى الوسائل الإعلامية في الماضي الشعر، فإذا هجى امرؤ آخر بقصيدة فهذه أكبر مصيبة؛ لأن الناس يتناقلون الأشعار، ولو كان المهجو مظلوماً، فإنه يعلق به البيت الذي قاله فيه فلان، ولذلك لما قال جرير في الراعي النميري :
      فغض الطرف إنك من نمير            فلا كعباً بلغت ولا كلابا
      أصبح كل رجل نميري يمر بمكان يقول له الناس هذا البيت، والقصيدة إنما قيلت في شاعر، حتى إن امرأة كان ينظر إليها رجل في الشارع ويتأمل مفاتنها، فقالت: عجباً! كيف تفعل هذا؟! فقال لها رجل: هذا من بني نمير. فقالت: هذا من نمير؟! لا أخذ بقول الله تعالى: (( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ))[النور:30] ولا أخذ بقول الشاعر:
      فغض الطرف إنك من نمير
      فالمهاجاة من شر ما يذكر، ولذا فإن علماء الجرح والتعديل رضي الله عنهم عندما يذكرون جريراً أو الفرزدق أو أمثالهما -كما في تهذيب التهذيب- يقولون: كان قذافاً للمحصنات.
      وكذلك أبو نواس الحسن بن هاني كما في ترجمته في تاريخ بغداد ، فالعلماء كانوا يعيبون فيهم أنهم كانوا يقذفون المحصنات ويتعرضون للأعراض، وهذه كانت أكبر وسيلة.
      أما في هذا الزمان فقد فتحت فيه الصحافة والتلفاز والعياذ بالله، ففيهما يغتابون ويقعون في الأعراض بحيث ينتشر ذلك إلى الملايين، وأكثر من يشتم ويقذف في الصحافة العالمية والعربية هم الدعاة وأهل الخير وحملة الرسالة وورثة الأنبياء، فالقذف ما أصبح في مجلس واحد، بل أصبح القذف على مستوى ملايين من الناس، فتسمع الصحافة تقول: الانتهازيون والفوضويون والمتعطشون للدماء والمنافقون يريدون الحكم شهوة، وما غرضهم الدين، بل يتسترون بالدين ويداهنون ونحو ذلك من الكلام الشنيع الذي فيه الكفر والزندقة، كل هذا يقال فيمن يدعون الناس إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكفارة ذلك لابد من أن تكون في نفس الجهاز وبنفس القوة وبنفس التكرار، ولهذا نحذر -وما زلنا نحذر- هؤلاء الصحفيين والإعلاميين، ونقول لهم: اتقوا الله؛ لأنه يصعب تدارك ما يفوت في هذه الأمور، لاسيما أن كثيراً من الناس قد يقرأ الجريدة التي فيها القذف، ولا يقرؤها بعد أن ينشر فيها النفي، وبعض الجرائد تحتال، فتجعل القذف بعناوين بارزة، وتجعل الاعتذار بشكل خفي، فهؤلاء ما حققوا التوبة المطلوبة منهم شرعاً، ولنفرض أن من اغتابوهم ليسوا دعاة، فإن أي إنسان تكلم فيه بغير حق في الجريدة يجب عليها أن توضح ذلك وتنفيه بنفس القوة ونفس التكرار وفي نفس الجريدة، وإن كان في التلفاز أو في الإذاعة فبنفس القوة وبنفس التكرار، وإلا فإن الذي اتَّهم أو قال مؤاخذ، ولا يزال مسئولاً بين يدي الله تعالى، فلذلك كان الأمر عليهم خطيراً؛ لأنه قد يقول القول ويكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، ولا يستطيع أن يردها، فيظل يندم ويبكي ويتحسر، ولكن الأمر قد فرط منه، كحال الممثلين والممثلات والمطربين، فقد تابت منهم طائفة، لكن كيف يتدارك المرء منهم ما فاته؟! إن بعض الممثلات تشتري كل الأفلام التي كانت تعرض فيها صوراً قبيحة ومناظر مقرفة، وأنى أن تتخلص منها وقد دخلت كل البيوت ورؤيت في كل مكان؟! إنه صعب جداً تلافي ذلك.
      إذاً: هذا يجعل المؤمن يحذر من أن يقع فيكون المخرج الصعب الذي يتعذر معه الخروج الكلي، فخير لك وقد عافاك الله -بل أولى وأحرى لك وواجب عليك وقد عافاك الله وسلمك- أن تحفظ نفسك عن هذا؛ لأنك لو وقعت وزلت بك القدم لا تدري كيف تخرج، وربما لا تعرف كيف تتخلص، فاحذر هذه المسألة، مع أن ما كان حقاً لله فإنه سبحانه يعفو عنه ولو كان ما كان إذا تاب العبد منه توبة نصوحاً.
      لكن المشكلة الحقيقية حاصلة في حق العباد، فبعض الصحفيين المأجورين أو المرتزقة يسألون عن كيفية التوبة؛ إذ إن بعض الصحفيين في مصر ظل عشرين سنة متخصصاً في التهجم على الدعاة وهو يعلم أن كل ما كان يقوله عنهم كذب وزيف وباطل، فهو ينظر إلى توجه الدولة وما تريده الحكومة، فإن كانت تريد أن يقال فيهم: إنهم عملاء لـأمريكا ألصق ذلك بهم في اليوم الثاني، وإن أرادت أن يقال: هم قتلة قال: هم قتلة، وقد حدث في مصر أن نشر في الأهرام وأخبار اليوم أن سيد قطب وإخوانه عملاء لـأمريكا ، وأعلن عن الاستعداد لإثبات ذلك، ولم يمض سوى أسبوعين إلا والصحف كلها تقول: إن منظمة سيد قطب إرهابية تريد اغتيال السفير الأمريكي حتى تعادي بين الدولتين، وهل أمريكا عاجزة عن قتل سفيرها حتى تستأجر هؤلاء ليقتلوه؟! المهم هو تركيب التهم.
      فمن هؤلاء من تاب وندم، وأرسل إلى بعض العلماء: كيف نتوب؟ لو كتب إلى الجريدة يقول: أنا كنت أكذب وألفق أيقبلون منه؟! الجواب: لا؛ لأنهم منشغلون بتهم أخرى، فلا حيلة إلا بعض المؤلفات، فالمقصود أن هذا لا يكافئ مقدار الذنب والعياذ بالله تعالى، وعلى كل حال لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فمن وقع وكان هذا حاله لا يجب عليه أن يفعل إلا ما يستطيع، لكن الكلام لمن لم يقع، فإذا اكتشف الواقع بعد حين وأنه كان مضللاً فكيف يكون المخرج؟! لاسيما أن بعض الناس لا يقبل التحليل، وقد ذكرنا فيما تقدم أن بعض السلف نظر من زاوية الرحمة ومن زاوية أنه لا يريد أن يخاصم مسلماً أبداً، فكان بعضهم يدعو الله قائلاً: (اللهم اغفر لكل من شتمني أو آذاني أو اغتابني)، هكذا بعض الناس، وبعضهم قال: والله لا أحل ما حرم الله أبدا، فشيء حرمه الله لا أحله له، فيوم القيامة أحتاج إلى الحسنات، وهذا رجل كان يقذفني ويشتمني ويشهر بي في الدنيا من دون عداوة مني له، فلم أحرم نفسي من الحسنات؟! فأنا آخذ حسناته، ووالله لا أحل ما حرم الله.
      وقد يكون كثير من الناس هذا حاله، أي: لا يحله أبداً، فالواجب على الإنسان أن يحذر من الوقوع، فإذا وقع فللفقهاء ما ذكرنا من الآراء، والرأي الثاني قال عنه ابن القيم رحمه الله: (وهذا اختيار شيخنا أبي العباس بن تيمية قدس الله روحه، واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة؛ فإنه لا يزيده إلا أذىً وحنقاً وغماً وقد كان مستريحاً قبل سماعه ... وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلاً عن أن يوجبه ويأمر به، قالوا: وربما كان إعلامه سبباً للعداوة والحرب بينه وبين القائل، فلا يصف له أبداً، ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف) فتكون العداوة والبغضاء أكثر، والشارع الحكيم إنما ينظر إلى المصالح والحكم، فالغيبة والنميمة والكذب حرمها الله لما يترتب عليها من الفساد في الأرض، والإيقاع بين الناس، فإذا قال له: قلت فيك وقلت وقلت أمام فلان وفلان على التفصيل تكون العداوة أكثر، ولا تتحقق الحكمة، بل تتحقق -في الحقيقة- مفسدة لا مصلحة فيها، وأسوأ من ذلك لو كان الأمر قذفاً بالزنا، وأسوأ من ذلك لو أنه زنى ثم جاء يتحلل منه بأنه فعل هذه الفاحشة بقريبته أو زوجته والعياذ بالله، فهذا لا شك أن فيه مفسدة عظيمة جداً، ولا يمكن أن ينشأ عنها مصلحة في أي حال من الأحوال.
      وقد قال أصحاب هذا القول رداً على الفريق الأول: ليس الأمر كما تقولون بالنسبة للقاتل ولغيره، ففرق بين الحقوق المالية وبين الحقوق المتعلقة بالعرض من وجهين:
      أحدهما: أن الحقوق المالية قد ينتفع بها إذا رجعت إليه، فلا يجوز إخفاؤها عنه، أما الغيبة والقذف ونحوهما فإخفاؤها وسترها عنه أولى، فلا انتفاع له بها ولا بشيء منها إذا رجعت إليه.
      والثاني: أنه إذا أعلمه بالحقوق المالية لم يؤذه، بخلاف ما لو أعلمه بما نال من عرضه وما اغتابه به، فإن ذلك يؤذيه.
      أما بالنسبة للربا فلا يتركه للمرابي؛ لأن تركه له إعانة عليه، فهذا له رأس ماله وهذا له رأس ماله، والحرام من الطرفين يُتخلص منه، فإذا اقترض رجل من رجل ألف ريال فقال له: أرجعها لي ألفاً ومائتين، فالمائتان في حق المرابي حرام، ففي هذه الحالة يرد له حقه فقط؛ لأن أخذ هذا حرام من غير وجه حلال، فيجب عليه أن يرجعه، وأما الآخر الذي يعطي الربا فإنه لا يجوز له أن يترك الزيادة للمرابي، وإنما يتخلص منها.
    3. كيفية توبة من وقع في عرض أخيه

      ونختم بشيء في هذه المسألة وهو أن الذي يبدو -والله تعالى أعلم- أننا لا نجزم فنقول: لا يعلمه مطلقاً، ولا نقول: لا بد أن يعلمه على التفصيل، فالذي يبدو لي -والله أعلم- أن الأولى في هذه الحالة أن المغتاب يتحلل تحللاً إجمالياً، ويمكن أن يكتب له رسالة أو يوسط رجلاً آخر، فلا نقول: إنه يتحلل منه مطلقاً، وليس بالضرورة أن يبين له عين ما قال فيه، وإنما يمكن أن يقول له: إنني قلت ما لا ينبغي أن أقوله. وخاصة إذا قرن ذلك بعذره وتلطف في الاعتذار وقال: قد خدعني من خدعني وغرني من غرني وكنت أسيء الظن بك قبل أن أعرفك على الحقيقة، ونحو ذلك من هذه الأمور التي تُلطف، فهذا تتحقق فيه المصلحة والعلاقة الطيبة ولا مفسدة فيه؛ لأنه ليس فيه من التفصيل ما يبعث على الحفيظة، والتلطف دائماً في الاعتذار يجعل المجني عليه يتكرم ويسامح وإن كانت الجناية كبيرة، فهذا الذي يبدو -والله تعالى أعلم- أنا نرجحه، وأظن أنه لا اختلاف بينه وبين ما رجحه واختاره؛ لأن المقصود هو الإعلام التفصيلي، أما ما يمكن أن تتحقق به المصلحة فحيث ما كانت المصلحة فثم شرع الله، والمصلحة تتحقق بالاعتذار المجمل المتلطف فيه.
    4. الحث على الابتعاد عن الوقوع في الأعراض

      والذي يجب أن نؤكده أن الوقاية دائماً خير من العلاج، وأن الكف عن حقوق الناس وأعراضهم ودمائهم وأموالهم وكل ما يمكن أن ينالك من جهتهم هو أعظم أبواب السلامة، ولا تعدل بالسلامة شيئاً مهما كانت الأدوية، فلا شيء يعدل السلامة من الأمراض، فأوصد هذا الباب، وإني لأعجب أشد العجب من وقوع بعض الناس في غيبة من لا يحتاجون إلى غيبته، فالغيبة حرام ولو احتجت إلى أن تغتابه؛ فالله تعالى يقول: (( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ))[النساء:148]، فكيف بغيبة من لا حاجة بك إلى غيبته بأي وجه من الوجوه؟! فتقول: فلان فعل وفلان فعل، وقد يكون بينك وبينه آلاف الأميال، وقد لا يكون لك علاقة في أي حال من الأحوال بما يفعل، فلا تسأل عما أجرم ولا يسأل عما تجرم، فلم تغتابه؟!
      وأنبه إلى ما قد أشرنا إليه فيما مضى، وهو أن هذا دليل على فراغ في القلب وعدم اهتمام حقيقي بما ينفع الإنسان، ويدخل هذا في حديث: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في الأمور العادية المباحة؛ فكيف بالأمور المتحقق بأنها ضارة بك وبأعمالك وبقلبك؟! وقد قال بعض العلماء: لو أن إنساناً رأى آخر يمشي في الطريق فقال له: السلام عليكم، أين تذهب؟ لكان سؤاله فضولاً، فمن حسن إسلامك أن تتركه، ولا تستفصل عن أحوال الناس وعن معايشهم مما لا خير فيه، ومن حسن إسلامك أن لا تبحث في أحوال الناس، هذا وأنت ما أسأت ولا اغتبت، فبالله عليك كيف إذا كانت غيبة لا خير فيها ولا مصلحة بأي حال من الأحوال؟! فهذا أدعى إلى أن لا يلج الإنسان هذا الباب أبدا، وقد قال بعض السلف: (علامة إعراض الله عز وجل عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه)، فدقق النظر في هذه العبارة ودقق النظر في أحوال الناس، وانظر إلى أكثر الناس إقبالاً على الله فستجدهم دائماً مشتغلين بما يعنيهم، بل تجد أوقاتهم تضيق بما يعنيهم ولا تستوعبه أبداً، وانظر إلى الذين هم معرضون عن الله والله معرض عنهم فستجد أكثر أوقاتهم يشغلونها بما لا يعنيهم وبما لا خير فيه حتى فضول العلم والمسائل العلمية الاستنباطية التي يفرعها العلماء.
      ولهذا نهى العلماء عن الأحاجي والألغاز الفقهية؛ لأنها إضاعة للوقت فيما لا خير فيه من العلم الذي لا ينفع، فهي منهي عنها وفيها علم، فبعضها يكون في الفرائض، وبعضها في أحكام الطلاق، ولكنها على سبيل الإلغاز والمحاجاة.
      فلذلك يجب على الإخوة الكرام أن يتنبهوا لهذا الأمر، وأن يكفوا ألسنتهم وأيديهم وقلوبهم، ولهذا أرشدنا الله إلى دعاء أهل الدين من مستحقي الفيء فقال: (( وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ))[الحشر:10]، فالغل والضغينة والحقد في القلب حرام ولو لم يقارنه قول باللسان ولا عمل باليد، وهو كبيرة من الكبائر، ولا يجوز.
      وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.