المادة    
يقول المصنف رحمه الله: [ومن تأول فوق بأنه خيرٌ من عباده وأفضل منهم] مثل قوله تعالى: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ))[الأنعام:18].. ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ))[النحل:50] [وأنه خيرٌ من العرش وأفضل منه] ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] وكما في حديث: {والله فوق العرش} [كما يقال: الأمير فوق الوزير، والدنيار فوق الدرهم، فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة] أي: أن هذا القول وأمثاله مما لا يقول به عاقل، ولا يتلفظ به من يعرف قدر الله سبحانه وتعالى.
يقول: [فإن قول القائل ابتداءً: الله خيرٌ من عباده، وخيرٌ من عرشه؛ من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار، والجبل أثقل من الحصى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل من فلان اليهودي، والسماء فوق الأرض وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح] بل هو كلام ساقط لا قيمة له؛ وليس فيه بيان لأفضلية أو ميزة، وهذا يدل على أن الآيات التي فيها أن الله على العرش وأنه فوق خلقه ليس المقصود منها إثبات أن الله أفضل من خلقه، وأنه خير منهم، فهذا لا يحتاج إلى دليل عليه؛ بل هي دالة على علوه سبحانه على خلقه.
وقد قال المصنف: [بل هو أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه، فكيف يليق بكلام الله الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً؟!] فهذا لا يقوله العاقل من الناس، فضلاً عن البليغ الفصيح، فضلاً عن أن يكون في كلام رب العالمين عز وجل، [بل في ذلك تنقص كما قيل في المثل السائر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره            إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ولو قال قائل: الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك؛ لضحك منه العقلاء] فلو قال قائل: هذه الجواهر أغلى من قشرة البصل، لضحك منه العقلاء، بل لا يكاد يقول ذلك أي إنسان لديه مسكة من عقل، إلا على سبيل السخرية أو الاستهزاء أو التنقص.. فإذا قال ذلك فهم منه أن هذا جوهر رديء، لا يساوي قشرة البصل، [للتفاوت الذي بينهما، فالتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم].
وأفضل الخلق وأكملهم -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم- نقف في وصفه عند حد معين لا نجاوزه ولا نطريه؛ وذلك حفاظاً على مقام الألوهية؛ فالتفاوت في الصفات بين الله عز وجل وبين رسوله صلى الله عليه وسلم عظيم جداً، هذا وهو أفضل الخلق؛ فكيف بأدنى الخلق؟! فهل يقال بعد ذلك: إن معنى قوله تعالى: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ))[الأنعام:18] وما أشبه ذلك.. معناه أن الله خيرٌ من خلقه وأفضل؟ بل حتى لو قال قائل: إن الله أفضل من رسوله صلى الله عليه وسلم، وخيرٌ منه، ما كان في الكلام ثناء ولا مدح؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا شك أعظم من كل مخلوق، فكيف إذا قيل ذلك في عموم الناس؟!
إن التفاوت بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم من أن تقال فيه تلك العبارات وأمثالها، [بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك بأن كان احتجاجاً على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: ((يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ))[يوسف:39]] فهنا مجال لذلك؛ لإثبات التفاوت بين رب السماوات والأرض رب العالمين، الذي يعلم السر وأخفى، والذي خلق الأولين والآخرين ويجمعهم إلى يوم القيامة، وبين تلك الأرباب.
وانظر إلى محاورة فرعون مع موسى عليه السلام، وهي من أعجب المحاورات في القرآن، ففيها أن موسى عليه السلام قال لفرعون كما في سورة الشعراء: ((قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ))[الشعراء:26] وذلك لأن فرعون قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) فصدقه أصحاب العقول الضعيفة السقيمة.
ألم يكن فرعون صغيراً، وقبل ذلك كان جنيناً، وقبل ذلك لم يكن موجوداً؟! وإذا كان هو ربكم، فآباؤكم الأولون من ربهم؟! أفرعون أول؟! وفرعون الأول كيف مات كما يموت العبيد ؟! فلما انقطعت الحجج بفرعون قال: ((إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ))[الشعراء:27] وهذا هو أسلوب الطغاة حين عندما تنقطع بهم الحجج؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستمروا في الجدل العلمي.
فلهذا يقول يوسف عليه السلام: ((يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ))[يوسف:39] فمن كان له عقل؛ فكيف يعبد تلك الأرباب؟ أهي خير أم الله الواحد القهار؟!
ومن أوضح الأدلة على بطلان هذه الأرباب: تفرقها واختلافها، وهكذا كانت العرب في الجاهلية، فقد كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، ناهيك عن تلك التي في اليمن وبني تميم وغير ذلك من القبائل، لكن الله هو الواحد القهار، وهؤلاء الذين في السجن مقهورون، فقال لهم ذلك حتى لا يظنوا أن غير الله قهار، ولذلك صار يوسف بعد ذلك هو الملك.
ومما ورد عن السلف: أن امرأة العزيز بعد أن أذهب الله الملك عن زوجها، وأصبح يوسف عليه السلام هو الملك، مر بها ركب الملك، فقالت: من هذا؟ قالوا: هذا الملك يوسف، فقالت: سبحان الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته، وجعل الملوك عبيداً بمعصيته! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعزنا بطاعته، وألا يذلنا بمعصيته.
ثم قال المصنف: [وقوله تعالى: ((آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ))[النمل:59]] وهذا في معرض الرد على المشركين، مع بيان أنه لا مفاضلة أبداً ولا مقارنة بين الله وبين هؤلاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي جعل هذه الأرض قراراً، وهو الذي أنشأ فيها حدائق ذات بهجة، وهو الذي يجيب المضطر... فهل هناك مقارنة بين من يفعل ذلك كله وبين ما يعبدونهم من أرباب؛ ممن لم يخلقوا ولم يرزقوا، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟!