المادة    
لـسليم الهلالي مؤلف بعنوان أين الله وفيه نقاط تستحق أن نقف عليها؛ فقد قال الكاتب في (ص:31): "نقل شيخ الإسلام في كتاب الإيمان ( ص:243 ) عن الإمام أحمد قوله: "ليس كل واحد يقول: إنها مؤمنة. يقولون: أعتقها، قال -أي: الإمام أحمد -: ومالك سمعه من هذا الشيخ -هلال بن علي - لا يقول: فإنها مؤمنة. وقد قال بعضهم بأنها مؤمنة، فهي حين تقر بذاك، فحكمها حكم المؤمنة. هذا معناه".
قال الهلالي: "وهذا يشعر بشذوذ وضعف قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {فإنها مؤمنة}، والجواب من وجوه:
أولاً: رواه يحيى بن أبي كثير عن شيخ مالك بزيادة: {فإنها مؤمنة} أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم، ويحيى بن أبي كثير ثقة حجة؛ فزيادته مقبولة، لأنها زيادة ثقة.
ثانياً: وهذه كبوةٌ من الإمام أحمد رحمه الله، فإن هذه الزيادة أخرجها أحمد نفسه في مسنده: (5/ 448، 449). من طريق يحيى بن أبي كثير وصرَّح عنده بالتحديث.
ثالثاً: جاءت هذه الزيادة من طرق أخرى عن بعض الصحابة، وقد سقنا أحاديثهم، فهي زيادة صحيحة مقطوعٌ بها".
رابعاً: "وإن كان مالك -يعني الإمام مالكاً - جبلاً في الحفظ، فله أوهام في أحاديث الجارية نبهنا عليها في التعليق رقم (8)" انتهى كلامه.
وأقول: أولاً: النبي صلى الله عليه وسلم حين سألها إنما سألها سؤال من يستثبت ويتبين أنها تجزئ في العتق؛ لأن الصحابي رضي الله تعالى عنه سأله ليرى هل تجزئ في الإعتاق أم لا -والذي يجزئ هو الرقبة المؤمنة- سواء كان يريد أن يعتقها لأنه صكها، أو عن أمه، لأن أمه كان عليها نذر، وقد يجتمع السببان فيها، فاختبرها النبي صلى الله عليه وسلم في معرفة الله: أين الله؟ وفي معرفته صلى الله عليه وسلم: من أنا؟ وهذان هما أصل الدين: أن يعرف الإنسان ربه ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يُمتحن به الإنسان في قبره ويوم القيامة، فلما أجابت قال: أعتقها.
ولو تأملنا قول الإمام أحمد برزت لنا قضيتان، القضية الأولى: قوله: "ليس كل واحد يقول: إنها مؤمنة" ثم قوله: "ومالك سمعه من هذا الشيخ". ومعناه أن الإمام مالكاً روى عن هلال بن علي قوله: (أعتقها) ووقف. فهذا الكلام من الإمام أحمد لا يعني أنه يطعن في رواية يحيى بن أبي كثير عن هلال ؛ وعليه فلا داعي لأن نستدرك على الإمام أحمد ونقول: رواها يحيى بن أبي كثير وهي زيادة مقبولة! والإمام أحمد رضي الله تعالى عنه ذكر هذا الكلام في كتاب الإيمان، ويريد بذلك أن يرد على المرجئة الذين يقولون: إن من أقر يكون إيمانه كاملاً؛ ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد بالإيمان لجارية أعجمية بمجرد إقرارها أن الله في السماء وأن محمداً رسول الله، فقالوا: هذا دليل على أن الإيمان الكامل يحصل بالإقرار، وما عدا ذلك فهو زيادة غير داخلة في ماهية الإيمان وحقيقته؛ فأراد الإمام أحمد أن يرد عليهم بقوله: (ليس كل واحد يقول: إنها مؤمنة) بل يقول: (أعتقها)، فلا حجة لمن ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لها بكمال الإيمان، لأن مورد السؤال ليس في معرض كمال الإيمان أو نقصه، وإنما في الإجزاء أو عدمه سواء قال: (أعتقها) وكفى، أو قال: (أعتقها فإنها مؤمنة).
ثانياً: قوله: (وهذه كبوةٌ من الإمام أحمد ) والحقيقة أنه لا ينبغي أن نطلق على الأئمة كلمة (كبوة) وإن كان كل إنسان قد يكبو، لكن ينبغي أن نجلَّ الأئمة ونحترمهم ونقدرهم، هذا إذا ثبت أنه أخطأ.
فقوله رحمه الله: (ليس كل أحد) يعني أن هناك أناساً رووا هذه اللفظة وأناساً لم يرووها، وهو من الناس الذين رووها، ويزيد ذلك إيضاحاً: أن الإمام أحمد ذكر هذه الرواية في المسند، وذكر هذا الكلام في كتاب الإيمان، فلو فرضنا أن الإمام رحمه الله أخطأ أو نسي ونفى هذه الرواية وقال "لم يروها أحد" ثم وجدناه رواها في المسند . فهل نقول: إن هذه كبوة منه؟! بل نقول: لعل الإمام أحمد حين كتب كتاب الإيمان لم يكن قد بلغه هذا الحديث، أو لعله نسي؛ فكان الأولى أن يكون أسلوب الرد فيه إجلال الإمام أحمد والتماس العذر له.
وهكذا ينبغي لنا ألا نتسرع في تخطئة العلماء حتى نتأكد ونتأنى، فإن ثبت في نظرنا يقيناً أنهم أخطئوا، فإننا نبين وجه الخطأ بعبارة مهذبة لطيفة، ونذكر ما يصلح عذراً لهؤلاء العلماء.
وقوله: (ليس كل أحد) حق، وهو دليلٌ على إحاطته رضي الله تعالى عنه وسعة علمه وتبحره في السنة، وأنه يعلم أن حديث الجارية روي بالزيادة وبغير الزيادة.
والغرض أن من أدلة علو الله على خلقه هذا الحديث الذي هو من رواية معاوية بن الحكم السلمي في صحيح مسلم وغيره، وهي صريحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أين الله؟
والروايات الضعيفة التي أوردت لهذا الحديث -والتي احتج بها الكوثري وغيره من أهل البدع- لا صحة لها.
والذي يهمنا هو ثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بنفسه: (أين الله؟) وأنه صلى الله عليه وسلم شهد لمن أجاب بقوله: (في السماء) بأنه مؤمن.
وقال الإمام أحمد: "وقد قال بعضهم بأنها مؤمنة؛ فهي حين تقر بذاك، فحكمها حكم المؤمنة" ومعنى كلام أحمد أن قوله صلى الله عليه وسلم: (مؤمنة) لا يعني أنها كاملة الإيمان، وإنما معناه: أن حكمها حكم المؤمنة؛ لأن السؤال كان: هل حكمها الإجزاء أم غيره؟ فما دام ظاهرها الإيمان فهي مؤمنة تجزئ، وكذلك حال كل من أظهر الإسلام وأقر به، فحكمه الإسلام، فيؤخذ بظاهره، ويعطى حكم المسلمين.
وهذا الحديث من أعظم الأدلة على إثبات علو الله تبارك وتعالى وفطريته وبداهته؛ لأن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في موضع امتحان كمال الإيمان، وإنما كان لإثبات الحد الأدنى منه، يشبه هذا أن تختبر طفلاً لترى: هل يصلح أن يدخل مدرسة ابتدائية أو لا؛ فتسأله سؤالاً واضحاً، مثل كأن تسأله عن اسمه أو عن حفظه لحروف الهجاء، وهذا من أجل أن يلتحق بالمدرسة فقط. وهكذا كان سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية في الأمر الواضح البدهي ليثبت لها حكم الإسلام.