المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ومن تأول فوق، بأنه خيرٌ من عباده وأفضل منهم، وأنه خيرٌ من العرش، وأفضل منه، كما يقال: الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم؛ فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة، فإن قول القائل ابتداءً: الله خيرٌ من عباده وخيرٌ من عرشه؛ من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار، والجبل أثقل من الحصى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل من فلان اليهودي، والسماء فوق الأرض. وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه، فكيف يليق بكلام الله، الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً؟! بل في ذلك تنقص كما قيل في المثل السائر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره            إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ولو قال قائل: الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك، لضحك منه العقلاء، للتفاوت الذي بينهما، فالتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم، بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك، بأن كان احتجاجاً على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: ((أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ))[يوسف:39] وقوله تعالى: ((آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ))[النمل:59].. ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى))[طه:73].
وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر، وفوقية القدر، وفوقية الذات، ومن أثبت البعض ونفى البعض، فقد تنقص.
وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه. فإن قالوا: بل علو المكانة لا المكان، فالمكانة تأنيث المكان، والمنزلة تأنيث المنزل، فلفظ المكانة والمنزلة يستعمل في المكانات النفسانية والروحانية، كما يستعمل لفظ (المكان والمنزل) في الأمكنة الجسمانية، فإذا قيل: لك في قلوبنا منزلة، ومنزلة فلان في قلوبنا وفي نفوسنا أعظم من منزلة فلان، كما جاء في الأثر: {إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله؛ فلينظر كيف منزلة الله في قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه} فقوله: (منزلة الله في قلبه) هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك، فإذا عُرف أن (المكانة والمنزلة) تأنيث المكان والمنزل، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى وتابع له؛ فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة، إذا كان مطابقاً كان حقاً، وإلا كان باطلاً.
فإن قيل: المراد علوه في القلوب، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء، قيل: وكذلك هو، وهذا العلوّ مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء، فإن لم يكن عالياً بنفسه على كل شيء، كان علوه في القلوب غير مطابق، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى]
ا. هـ.
الشـرح:
في هذه الفقرة يبطل المصنف الشبهات الواردة في تأويل علو الله تبارك وتعالى، وفي صرفه عن حقيقته ومعناه، ومن ذلك: قولهم بأن علو الله تعالى يعني أنه أفضل من خلقه، وأنه خيرٌ منهم، فقولنا: الله تعالى فوق خلقه؛ يعني أنه: فوقهم في الفضل والخير، وهذا هو المقصود بالعلو عند المؤولة، أنه علو المنزلة والمكانة، لا علو الذات. والمعنى الآخر: أن المراد علوه في القلوب، وهو تبعٌ لعلو المنزلة.
ويرد عليهم الشارح رحمه الله تعالى بما سبق أن رد به العلماء من قبل.
وقبل أن نشرح كلامه رحمه الله، نبيِّن أن ما قاله المصنف من أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل: "أين الله؟ في غير موضع" أمر يحتاج إلى بحث، وأنا لا أعلم حديثاً سأل فيه النبي صلى الله عليه وسلم (أين الله؟) أحداً من الصحابة إلا حديث الجارية.