المادة كاملة    
ما زال الحديث هنا عن الإسراء والمعراج، فقد تحدث هذا الدرس عن بعض ما وقع في تلك الليلة، ثم تحدث عن رواية شريك بن عبد الله، وبعد ذلك انتقل الكلام للحديث عن اختلاف روايات الإسراء والمعراج مع بيان الراجح منها، وفي نهاية الدرس دار الكلام حول مسألة الرؤية، وهل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عياناً تلك الليلة؟ مع الحديث عن بعض الروايات في الرؤية، وبيان ما هي الرؤية الصحيحة.
  1. بعض العبر في الإسراء والمعراج

     المرفق    
    نحن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ جميعاً سلفاً وخلفاً، نؤمن بكل ما ثبت عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الآيات الباهرات، والأخبار البينات، وما جَاءَ منها في الكتاب أو السنة، وذلك كافٍ لأن نؤمن ونصدق، سواء كَانَ ذلك مما ألفته عقولنا أم هو مما لم تألفه ولم تعهده، هذا هو القول الصحيح الذي عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ
    1. علو منزلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وعُروجه إلى السماء السابعة

      وهذه الآية الكبرى جعلها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى آيةً خارقة خاصة لنبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى أن نبي الله موسى -وهو كليم الرحمن وأحد أولي العزم، وهو من قص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا سيرته ودعوته وجهاده وصبره- بكى عندما رأى علو منزلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      حينما ارتفع إِلَى ما لم ولن يبلغه بشر قط إلا هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى أن جبريل الرَّسُول الأمين تضاءل حتى أصبح كالعصفور من خشية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ومن القرب والدنو من حضرة جلاله جل شأنه، ورَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بلغ تلك الدرجة فبكى نبي الله موسى، قيل: وما يبكيك قَالَ: أبكي لأن غلاماً بعثه الله من بعدي وقد بلغ ما لم أبلغه، فهذا فضل من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يختص به من يشاء.
      ويجدر بنا أن نتعلم ونتذكر سيرة هذا النبي العظيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنقرأ مثل هذه الآيات البينات، ونجعل سيرته وسنته قدوة لنا في أعمالنا جميعاً، وأن نعلم أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إذ شَّرفه بهذه المنزلة العظيمة، والدرجة الرفيعة، فإن من اتبع دينه واقتدى به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا إِلَى مثل ما دعا إليه خالصاً لوجه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإن الله سوف يرفعه ويكتب له من المنزلة والمكانة بقدر ما يجتهد في ذلك، ومن أعرض عن سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضرب صفحاً عنها، ولم يبالِ بأمره ولا بمحبته، فإنه مكتوب عليه الذل والصغار؛ لأنه حقر تلك الآيات البينات، ونكص عَلَى عقبيه، نسأل الله أن يعافينا وإياكم.
      فهذه الميزة العظيمة لو استعرضنا أحداث السيرة لوجدنا أنها وقعت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر عام الحزن بعد أن توفيت زوجته خديجة التي كانت نعم الزوج ونعم البار والمعين عَلَى الدعوة، وبعد أن توفي عمه أبو طالب الذي جعله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى رغم شركه درعاً للدعوة وناصراً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن الله قد يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء كَانَ مشركاً أم مسلماً فاجراً.
      وبعد أن رجع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الطائف ولاقى ما لا قى من الأذى، سلاه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وعوضه عن هذه العوالم السفلية، وعما لقيه فيها من عدم التقدير وعدم معرفة منزلته ومكانته؛ بأن بلغ به تلك الدرجات العلى.
    2. عظيم منزلة الصلاة

      ومما يجب أن نعتبر به وأن نجعله نصب أعيننا عظم شأن الصلاة، هذه الفريضة التي لم يشرعها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأرض ولو شاء لفعل ذلك، ولكن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكمة في أن تشرع في الملأ الأعلى، ويستدعى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك، ولا يكون ذلك إلا في أعظم المهمات، وأفضل الطاعات.
      فمثلاً: ولله المثل الأعلى، لو أن ملكاً أوسلطاناً أهمه أمر يحب أن يبلغه من يقوم في شأن من الشؤون، فإنه إذا كَانَ الأمر عظيماً فإنه سيستدعيه ليبلغ إياه، وبهذه العبرة العظيمة نعرف قدر الصلاة وشأنها، ورسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يدور في خلده، ولا يخطر بباله أن أمته سوف تضيع الصلاة، ولهذا سأل جبريل عَلَيْهِ السَّلام، أتترك أمتي الصلاة؟ وهي آخر ما يفقد من الدين كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تنقض عرى الإسلام عروة عروة، فكلما نقضت عروة تشبث النَّاس بالتي تليها فأولهن نقضاً الحكم بما أنزل الله وآخرهن الصلاة}.
      وفي الحديث الآخر: {أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخره الصلاة} هذه آخر ما يفقد من الدين وقد فقدت إلا من رحم الله، وقد ظهر التهاون في شأنها وعدم المبالاة بها.
      ومما يجب أن نستشعره ونستحضره ونحن نقرأ هذه الآيات البينات، ما جرى في الإسراء والمعراج من بيان عظمة الصلاة، وعظمة الدعوة إليها، وشأن الصابرين عليها، وضرورة أن يكون في هذه الأمة من يدعو إِلَى الصلاة ومن ينصح بإقامتها كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ))[الحج:41] فلو أقيمت الصلاة حق إقامتها وصليت حق صلاتها لتغيرت حياة النَّاس اليوم، ولكن ضيعت الصلاة.
      ثُمَّ إن كثيراً من الدعاة لا يبالي بتضييع الصلاة فلا يجعل الصلاة أكبر همه بعد التوحيد، وهذا مخالف لهدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، فإنه لما بعث معاذاً إلى اليمن، أخبره {إنك تأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا ألا إله إلا الله}، وفي رواية {توحيد الله} وفي رواية {عبادة الله عَزَّ وَجَلَّ} وكلها صحيحة؛ لأن عبادة الله لا تكون إلا بتوحيد الله وكلمة لا إله إلا الله هي كلمة التوحيد فالمعنى كله واحد.
      {فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} هذه درجة ثانية ندعو إليها بعد التوحيد.
      {فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم زكاةً تؤخذ من أغنيائهم فترد عَلَى فقرائهم} فدعوتنا إِلَى أن يعبد الله وحده فلا يُدعى ولا يُخاف ولا يُخشى ولا يُرجى إلا هو وحده لا شريك له، ولا ينذر ولا يذبح إلا له سبحانه، وتكون له الطاعة، ولا كلام لأحد بين يدي كلام الله، ولا بين يدي كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل توحيد مطلق، ثُمَّ بعد ذلك ندعو إِلَى الصلاة، فإنها من شعائر التوحيد، ومما يمكِّن التوحيد في القلوب.

      وليس من العبر الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج، إذ لو كَانَ مشروعاً لما فات الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه فعله، ثُمَّ يأتي خوالف في القرن التاسع أو العاشر فيقولون لا بد أن نحتفل.
    3. الكلام على رواية شريك بن عبد الله المدني

      وأما بالنسبة لرواية شريك فإن فيها ألفاظ غريبة وشاذة، وشريك نفسه اختلف في توثيقه وتضعيفه.
      وسبق أن ذكرنا رد الإمام ابن القيم في زاد المعاد (3/34) عَلَى من قَالَ: إن الإسراء والمعراج، وكلام المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ- هنا أكثره ملخص منه.
      وبمناسبة الكلام عَلَى رواية شريك هذا، فقد وجدت عبارة الحافظ ابن حجر في الجزء (13/486) في شرح كتاب التوحيد من الفتح يقول: إن ابن القيم في الهدي النبوي ذكر بأن في رواية شريك عشرة أوهام. لكنه يجعل مخالفته في مواضع الأَنْبِيَاء من السماء واحدة من أربع، ويبقى أنه زاد ثلاثة.
      ولم أجد في الزاد ذكراً بالتفصيل لمخالفات شريك بن عبد الله، وإنما وجدت نفس العبارات التي هنا وهي قوله: [وقد غلَّظ الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثُمَّ قَالَ: وقدم وأخر وزاد ونقص ولم يسرد الحديث وأجاد رَحِمَهُ اللَّهُ انتهى كلام الشيخ شمس الدين رَحِمَهُ اللَّهُ] نعم، انتهى كلام ابن القيم عند ذلك، ولم يذكر تلك المخالفات العشر، فالله أعلم هل هي في نسخة لم نطلع عليها، أم أن الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- قد وهم في ذلك ويكون قد قرأها من كتاب آخر.
      وشريك بن عبد الله هذا ليس هو القاضي؛ لأنهما اثنان وكلاهما إمامان تابعيان:
      أحدهما: شريك بن عبد الله النخعي من النخع قبيلة يمنية معروفة، منها إبراهيم النخعي وكان قاضي الكوفة، وليس هو هذا.
      فإن هذا هو: شريك بن عبد الله بن أبي نمر المدني، وهو الذي روى هذا الحديث عن أنس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
      وقد سبق أن قلنا: إن الروايات الصحيحة أثبتها متناً وأصحها سنداً وأتمها سياقاً روايتان:
      الأولى: رواية قتادة عن أنس؛ فإن الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في شرحه لكتاب التوحيد من فتح الباري يميل إِلَى تقديمها، وقد رواها الإمام أَحْمَد والبُخَارِيّ ومسلم.
      والثانية: رواية ثابت عن أنس رواها الإمام أَحْمَد ومسلم، إلا أنَّ رواية قتادة الأولى الوافية رواها قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، وأنس إنما روى الحديث عن مالك، لأنه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ صغيراً في المدينة، وهو من الأنصار وربما لم يدرك الواقعة، وربما أنها وقعت قبل ولادته كما يبدو من تاريخ حياته، فهو قطعاً رواها عن أحد الصحابة، لكن مرسل الصحابي مرفوع متصل لا شك في ذلك.
      وهذه هي أتم الروايات وأصحها سنداً وأتمها ألفاظاً، وليس فيها مخالفات، وكذلك رواية ثابت عن أنس وإن كَانَ بينهما اختلاف، فالاختلاف وقع بين الروايات، ويمكن أن يجمع بينها، إلا أن الرواية التي فيها الاختلاط والاضطراب هي رواية شريك بن عبد الله المدني وهي أكثر ما عول عليها الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الزاد وإن كَانَ لم يأخذ ببعض ألفاظها، والمصنف نقل تقريباً كلام ابن القيم بنصه، فلم يأتنا برواية كاملة منفصلة.
      وإنما ذكر من عنده رواية مدرجة، ذكر فيها من هنا وهناك، وإن كَانَ أكثر التعويل فيها في الحقيقة هي عَلَى رواية شريك، ويبدو أن فيها نوعاً من التفصيل، وهي الرواية التي علق عليها الحافظ في الجزء (13) في آخر الصحيح في كتاب التوحيد ونحن الآن نذكر إن شاء الله تَعَالَى ما ذكره المُصنِّف مما هو ملخص أو منقول حرفياً تقريباً من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
      قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
      [وكان من حديث الإسراء أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسري بجسده في اليقظة عَلَى الصحيح، من المسجد الحرام إِلَى المسجد الأقصى، راكباً عَلَى البراق، صحبة جبريل عَلَيْهِ السَّلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك ألبتة.
      ثُمَّ عُرِجَ به من بيت المقدس تلك الليلة إِلَى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، فرأى هناك آدم أبا البشر فسلم عليه، فرحب به ورد عَلَيْهِ السَّلام وأقر بنبوته.
      ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الثانية فاستفتح له فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، فلقيهما فسلم عليهما فردا عَلَيْهِ السَّلام، ورحبا به وأقرا بنبوته.
      ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلم عليه فرد عَلَيْهِ السَّلام ورحب به، وأقر بنبوته.
      ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.
      ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه ورحب به، وأقر بنبوته.
      ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السادسة فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له ما يبكيك؟ قال أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي.
      ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.
      ثُمَّ رفع إِلَى سدرة المنتهى.
      ثُمَّ رفع له البيت المعمور.
      ثُمَّ عرج به إِلَى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كَانَ قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إِلَى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر عَلَى موسى فقَالَ: بم أُمِرتَ؟
      قَالَ: بخمسين صلاة.
      فقَالَ: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إِلَى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إِلَى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن نعم إن شئت، فعلى به جبريل حتى أتى به إِلَى الجبار تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وهو في مكانه، هذا لفظ البُخَارِيّ في صحيحه.
      وفي بعض الطرق فوضع عنه عشراً، ثُمَّ نزل حتى مر بموسى فأخبره، فقَالَ: ارجع إِلَى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف.
      فقَالَ: قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم، فلما نفذ نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي] اهـ.

      الشرح :
      هنا إضافة بعد قوله: [وهو في مكانه، هذا لفظ البُخَارِيّ في بعض الطرق]، وهي في الحقيقة من طريق شريك بن عبد الله المنتقدة التي فيها ألفاظ شاذة مخالفة [فوضع عنه عشراً] هذه تكملة للكلام الأول وهو مجموع من عدة الطرق.
      لكن عَلَى القراءة من النسخة التي بتعليق الشيخ الألباني كأن هذا هو لفظ البُخَارِيّ في صحيحه وكأن ما بعده "في بعض الطرق" خارج البُخَارِيّ مثلاً، وهذا بالعكس، والطريقة السليمة أن يقول: هذا لفظ البُخَارِيّ في بعض الطرق، أما الطرق الأخرى عند البُخَارِيّ وغيره فليس فيها وهو مكانه، وسيأتي إيضاح هذا
      .
  2. تعدد روايات الإسراء والمعراج

     المرفق    
    قال المصنف-رَحِمَهُ اللهُ- تعالى:
    [وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه -عَزَّ وَجَلَّ-بعين رأسه وأن الصحيح أنه رآه بقلبه ولم يره بعين رأسه، وقوله: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)) [النجم:11] ((وَلَقَدْ رَآهُ نزْلَةً أُخْرَى))[النجم:13] صح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين عَلَى صورته التي خلق عليها.
    وأما قوله تَعَالَى في سورة النجم: ((ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى))[النجم:8] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عَائِِِشَةَ وابن مسعود رضي الله عنهما فإنه قال:((عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى))[النجم:5-8] فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوى، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء، فذلك صريح في أنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه.
    وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، فهذا هو جبريل رآه مرتين، مرة في الأرض ومرة عند سدرة المنتهى. ومما يدل عَلَى أن الإسراء بجسده في اليقظة قوله تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى)) [الإسراء:1] والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإِنسَان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح، فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلاً، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إِلَى إنكار النبوة وهو كفر] إهـ.

    الشرح:
    مكان وجود جميع الروايات في الإسراء والمعراج هو تفسير الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ، وأيضاً ابن جرير؛ لكن ابن كثير جَاءَ بجميع الروايات، ما في المسند، وما في الصحيحين، وما في تفسير ابن جرير، فهو جمع جميع الروايات.
    ومنها رواية قتادة، ورواية ثابت كلاهما عن أنس، وكذلك غيره من الصحابة كـأَبِي هُرَيْرَةَ وابن عباس وغيرهم عَلَى اختلاف وتفاوت في طول تلك الروايات أو قصرها
    .
    والمصنف هنا ذكر ملخصاً لذلك منقولاً من كتاب زاد المعاد، وهو أولاً: أنه أسري بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجسده في اليقظة عَلَى الصحيح، وقد سبق ذكر الأدلة عَلَى هذا، ومنها نص الآية: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى)) [الإسراء:1] راكباً عَلَى البراق: والبراق ورد بيان صفتها في نفس الحديث، وهي أنها دابة دون البغل وفوق الحمار، وهي آية من آيات الله -عَزَّ وَجَلَّ- جعلها تَبَارَكَ وَتَعَالَى دليلاً ومركباً لنبيه محمداً صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وقد ورد في بعض هذه الروايات ما يشعر بأنه قد ركبها غيره؛ لأنه لما أراد النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يركبها اضطربت، فَقَالَ جبريل: اثبتي فوالله ما ركبك بشر قط أكرم عَلَى الله منه، يعني: النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد يفهم من هذا أن غيره من الأَنْبِيَاء ركبها، وقد يفهم أن غيره لم يركبها، وإنما المراد بيان كرم رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يشترط في قوله: (ما ركبك بشر أكرم عَلَى الله منه) أن غيره قد ركبه، وإنما هي خاصة به صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله تَعَالَى أعلم بذلك.

    ولما حصلت له هذه الآية العظيمة ركب هو وجبريل، وقيل: "بصحبة جبريل" أو "وصحبه جبريل" كلا المعنيين صحيح
    فنزل هناك أي: في بيت المقدس وصلى بالأنبياء إماماً.
    1. الراجح في الروايات أن الصلاة بالأنبياء كان قبل المعراج

      والذي يترجح من الروايات أن صلاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأنبياء كانت قبل عروجه إِلَى السماء، وإن كَانَ قد ورد في بعضها أنها بعد رجوعه، لكن الذي يظهر أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أسرى به أولاً إِلَى المسجد الأقصى، ومن هناك إِلَى السماء، وعاد من السماء إِلَى المسجد الحرام هذا الذي يبدو.
      وصلاته بالأنبياء إماماً هذه فيها دليل عظيم واضح جلي عَلَى فضله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى ما هو معلوم من أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد أخذ العهد عَلَى كل نبي أن يؤمن بالنبي مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ))[آل عمران:81] فهذا عهد وميثاق أخذه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الأنبياء، أن يؤمنوا بمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أفضلهم، وهذا الموقف يذكرنا بما يجري يَوْمَ القِيَامَةِ حين يتراجع الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم، كلهم يتخلون وكلهم يقول: نفسي نفسي، فيتقدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للشفاعة العظمى ويقول: أنا لها أنا لها، ثُمَّ يكون بعد ذلك ما يكون من التكريم العظيم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقبول شفاعته في أهل المحشر، وذلك هو المقام المحمود الذي لم يجعله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لبشر غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
      (وربط البراق بحلقة باب المسجد) وقد ذكر الحافظ ابن كثير رواية وهي مما يذكر ويستأنس بذكرها هنا بهذه المناسبة وهي: حديث أبي سفيان مع هرقل عندما كتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع دحية الكلبي إِلَى ملك الروم هرقل بكتاب يدعوه فيه إِلَى الإسلام كما في أول صحيح البُخَارِيّ قَالَ: ائتوني بأي رجل من قوم هذا الرجل أو من أتباعه، فوُجد أبو سفيان وهو قائد قوى الشرك ورائده، فجيء به إِلَى هرقل وكانت المساءلة والمناظرة التي ذكرناها، في موضوع النبوات.
      وفي هذه الرواية يقول: إن أبا سفيان قَالَ: فهممت أن أقول له أمراً لعله مما يكذبه به، يعني يريد أن يقول لـهرقل شيئاً ليستفظعه ويصدق، فيكون ذلك مما يثبط عزمه فلا يؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يصدقه، فكان أن قال له: وقد أخبرنا أيها الملك أنه جَاءَ في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس، ثُمَّ عرج به إِلَى السماء، وترقى إِلَى السماوات السبع، ثُمَّ رجع في ليلة واحدة.
      فتعجب هرقل فقال له قسيس كَانَ جالساً عنده: إن ذلك قد وقع. فقال له هرقل: وما يدريك أن ذلك وقع؟ فَقَالَ القسيس وكان سادناً "مسؤولاً" لـبيت المقدس: أيها الملك أنا أخبرك بذلك: إني في ليلة من الليالي أمرت الحرس والعمال أن يوصدوا الأبواب، فأقفلوها إلا باباً من الأبواب، فإنهم قد حاولوا وبذلوا جهدهم، فلم يستطيعوا أن يقفلوه، فقلنا: نتركه إِلَى غد حتى نأتي بالنجار أو من يصلحه فبقي الباب مفتوحاً.
      فلما كَانَ الصباح جئنا فوجدنا آثار ناس قد صلوا، ورأينا في الصخرة نقرة وأثر مربط دابة من الدواب) وهذه الرواية مما يؤخذ من الأخبار التي لا نشترط صحة سندها، فهي منقولة عن قسيس نصراني، إِلَى ملك من ملوك النَّصَارَى، وليس فيها حكم من أحكام ديننا، ولكن فيها عبرة وعظة لإثبات صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أكرمه بذلك، وأن هذه الآية قد رآها أُولَئِكَ القوم هذا بالنسبة لقوله: (وربط البراق بحلقة باب المسجد).
      وقد قيل: إنه نزل بيت لحم وصلى فيه أتى ذكر ذلك في روايات ضعيفة، وكما قال ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- لم يصح ذلك عنه البتة.
      ثُمَّ عرج به تلك الليلة من بيت المقدس عَلَى البراق إِلَى السماوات السبع، فأتى أول سماءٍ وهي السماء الدنيا فاستفتح له جبريل الملائكة فقيل ومن معك قَالَ: مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: أوقد بعث قَالَ: نعم، قالوا: مرحباً بك وبمن معك ففتح لهم.
    2. دليل على كذب من يدعي الغيب

      من المعلوم أن الملائكة حراس السماوات الذين لا يتنزل الأمر من الله -عَزَّ وَجَلَّ-أو يصعد إلا ويأتيهم منه خبر، كما في الحديث {إن الله إذا قضى الأمر سمع له كضرب سلسلة عَلَى صفوان فيغمى عليهم فيكون أول من يفيق جبريل، فيتلقى الأمر ثُمَّ يمر جبريل عَلَى أهل كل سماء فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فَيَقُولُ: الحق وهو العلي الكبير} وهَؤُلاءِ يقولون: من معك؟ أوَ قد بعث؟ فلم يعلموا أنه قد بعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي ذلك دليل عَلَى كذب من يدعي علم الغيب ويقول: إنه من الأولياء، فهَؤُلاءِ عباد الله الصالحون في ذلك المكان العظيم حرس السماء لا يدرون من الذي مع جبريل، ولا يدرون أقد بعث أم لا، لكن يعلمون أنه رسول؛ لأن قولهم: أو قد بعث فيه دليل عَلَى أنهم يعلمون أن هناك نبياً سيبعث يقال له مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لا يدرون عنه شيئاً حتى جَاءَ يستفتح ومعه جبريل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم.
      فلما فتحوا له ورحبوا به رأى هناك آدم أبا البشر عَلَيْهِ السَّلام في السماء الدنيا، وفي روايات أخرى أنه رآه عَلَى تلك الحالة وعن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، وفسرها المُصنِّف -كما في نسخ أخرى- فقَالَ: الذين عن يمينه، هم أرواح السعداء، والذين عن يساره هم أرواح الأشقياء -عافانا الله وإياكم من الشقاوة ومن طريقها- فكان عَلَيْهِ السَّلام إذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر؛ لأنهم من ذريته، وهم من أهل السعادة، ومن أهل الجنة والنجاة -جعلنا الله وإياكم منهم- وإذا نظر إِلَى شماله نظر إِلَى أهل النَّار ممن استوجبوا غضب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعذابه، ومقته فيبكي أبونا آدم لمآل هذه الذرية الذين عصوا الله وأعرضوا عن دعوة الله وما جَاءَ عَلَى لسان أنبيائه، فكانت هذه عاقبتهم وهي النَّار عافنا الله وإياكم منها.
      ثُمَّ عُرِجَ به إِلَى السماء الثانية فاستفتح له جبريل، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، وفي وجودهما معاً شيء من الحكمة، وفيه شيء من الكرامة لهما؛ لأنهما كما جَاءَ في الرواية أبناء الخالة، وكانا معاً في السماء الثانية عيسى ويحيى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وأيضاً رحبا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقرا بنبوته.
      ثُمَّ عُرِجَ به إِلَى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف عَلَيْهِ السَّلام فسلم عليه فرد عَلَيْهِ السَّلام، وأقر بنبوته
      عليه وعلى نبينا مُحَمَّد أفضل الصلاة والتسليم.
      ثُمَّ عُرِجَ به إِلَى السماء الرابعة، فرأى فيها نبي الله تَعَالَى إدريس عَلَيْهِ السَّلام، فذلك قوله تعالى: ((وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً)) [مريم:57] كما جَاءَ في الروايات الأخرى، هذا المكان العلي هو السماء الرابعة، فسلم عليه رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرد عَلَيْهِ السَّلام ورحب به وأقر بنبوته.
      ثُمَّ عُرِجَ به إِلَى السماء الخامسة فرأى فيها هارون بن عمران أخا موسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السادسة فرأى فيها موسى بن عمران.
      وما تقدم من السماء الدنيا إِلَى الخامسة هذه هي الرواية الواضحة التي لا ينبغي أن تعارض بما جَاءَ في رواية شريك ولا غيره؛ لأن شريكاً اضطرب في الرواية.
      وفي رواية أيضاً للزهري أنه قَالَ: لم يضبط ولم يحفظ ولم يدر الأَنْبِيَاء في أي سماء وهذه أرجح وأوضح الروايات.
      ثُمَّ تختلف الروايات الصحيحة الثابتة التي يصعب علينا أن نرجح أحدها عَلَى الأخرى.
    3. هل موسى في السماء السادسة وإبراهيم في السابعة أم العكس؟

      هناك مسألة وهي: هل كَانَ موسى عَلَيْهِ السَّلام في السماء السادسة وإبراهيم في السابعة، أم العكس؟
      والجواب: أن إبراهيم كَانَ في السابعة وموسى في السادسة، ومما يرجح كون إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام في السابعة، أنه هناك عند البيت المعمور؛ لأنه هو الذي بنى الكعبة في الدنيا.
      وأيضاً قدر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام وكونه خليل الرحمن يرجح ذلك، وكون رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشبه النَّاس به، هذا أيضاً دليل مما قد يرجح علو إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام.
      وأما كون موسى عَلَيْهِ السَّلام أعلى من إبراهيم فيرجحه ما جَاءَ في آخر الحديث، أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فرضت عليه خمسين صلاة كَانَ يرجع، فيقابله موسى عَلَيْهِ السَّلام فيقول له: ارجع، فكأن موسى هو الذي في السماء السابعة فلذلك يراجعه في ذلك، حتى فرضت خمس صلوات، والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أعلم.
      والذي اختاره ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- تَعَالَى وتبعه المُصنِّف هنا أن الذي في السادسة هو موسى بن عمران عَلَيْهِ السَّلام، ولا يمنع ذلك أن ينزل من عند إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام ولا يعترض عَلَى شيء؛ لأنه لم يعالج الأَنْبِيَاء أممهم كما عالج موسى أمته، ثُمَّ إذا وصل إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام في السماء السادسة قال له: ارجع إِلَى ربك عَزَّ وَجَلَّ، أقول ذلك لا يمنع، ولكن الله أعلم ونسبة العلم إليه أكمل.

      فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قد اختص موسى بكلامه، وكتب له التوراة بيده.
      قوله: {بكى فقيل له: ما يبكيك، فقَالَ: أبكي؛ لأن غلاماً بعث بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي} وهو عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يريد أن تكون أمته أكثر الأمم، وكما في حديث السبعين الألف، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فنظرت فإذا سواد عظيم فظننت أنها أمتي فقيل: لا. هذا موسى وقومه، ثُمَّ رفع له سواد أعظم وأكثر، فقيل: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب} فأمة موسى عَلَيْهِ السَّلام أمة عظيمة ولكن شتان بين من أوحى الله إليه أن أخرج قومك من الظلمات إِلَى النور، وبين من أوحى الله إليه أن يخرج النَّاس من الظلمات إِلَى النور.
      فمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسالته إِلَى النَّاس كافة، هذا من حيث عموم المبعوث إليهم، ثُمَّ من حيث الزمان فثبوت رسالة موسى عَلَيْهِ السَّلام مؤقتة. أما رسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنها للزمان كله إِلَى أن تقوم الساعة، فمن الطبيعي إذاً أن تكون أمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر عدداً من أمة موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم.

      ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه فرد عَلَيْهِ السَّلام ورحب به وأقر بنبوته وهو كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أشبه النَّاس به عليهما الصلاة والسلام قَالَ: {وأما إبراهيم فانظروا إِلَى صاحبكم} أي: من أراد أن يعرف كيفية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، قَالَ: فانظروا إلي.
      ثُمَّ رفع إِلَى سدرة المنتهى، وهي سدرة عظيمة، أخبر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عنها، وأخبر بها الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نعلم عنها إلا ما في ذلك من الوحي، وهي آية من الآيات العظمى، التي جعلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في ذلك الملأ الأعلى.
      ثُمَّ رفع له البيت المعمور.
      ثُمَّ عرج به إِلَى الجبار، فوصل إِلَى مالم يصله أحد من البشر قط، حتى أن الرَّسُول الأمين جبرائيل عَلَيْهِ السَّلام تضاءل حتى أصبح كالعصفور من خشية الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فدنا منه حتى كَانَ قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إِلَى عبده ما أوحى.
      ونقف مع هذه الرواية عند هذه الجملة التي هي من ضمن الروايات الشاذة أو المنكرة، وهي رواية شريك بن عبد الله، وليس في بقية الروايات ما فهم منها المُصنِّف ما قاله بعد: [وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى وتدليه] وليس الأمر كذلك، فنتجاوزها؛ لأنها من ضمن الروايات المخالفة التي هي إما شاذة أو منكرة وسيأتي الكلام عليها فيما بعد إن شاء الله.
      وفرض عليه خمسين صلاة ثُمَّ خففت إِلَى خمس فرائض وقَالَ: {قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم، فلما قال ذلك نادى منادٍ من قبل الله -عَزَّ وَجَلَّ-أن قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي} فكان ما اختاره ورضي به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو ذلك الذي قضاه الله -عَزَّ وَجَلَّ-ولا مبدل لكلماته، ولا معقب لحكمه فهي خمس في العمل وخمسين في الأجر، وهذا فضل من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى هذه الأمة، وتكرمه لها ولنبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه أيضاً بيان عظمة الصلاة وأهميتها، ثُمَّ ينتقل المصنف-رَحِمَهُ اللَّهُ- بعد ذلك إِلَى قضية الرؤية.
  3. رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه والخلاف حولها

     المرفق    
    تقدم ذكر اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في رؤية النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه عَزَّ وَجَلَّ بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يره بعين رأسه وقوله: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))، ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)) [النجم:13].
    يقول: [صح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذا المرئي جبريل، رآه مرتين عَلَى صورته التي خلق عليها] ومر في مبحث الرؤية ذكر اختلاف الصحابة رضوان الله تَعَالَى عنهم، فلا نستطيع أن نجزم بخلاف الصحابة رضوان الله عليهم في رؤية النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه، لأن ما قيل عن ابن عباس مثلاً يحتمل، ونقل عن عثمان بن سعيد الدارمي -رَحِمَهُ اللهُ- اتفاق الصحابة عَلَى أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ير ربه بعين رأسه، وفي كلام الحافظ ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- ما يشير إِلَى ذلك.
    وأما الرؤية بفؤاده فإنها قد ثبتت في غير ليلة الإسراء والمعراج، وهي الرؤية المنامية التي ذكرها النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث اختصام الملأ الأعلى {رأيت ربي أو أتاني ربي الليلة في أحسن صورة فقَالَ: يا مُحَمَّد فيما يختصم الملأ الأعلى -فأخبره بعد ذلك- فقَالَ: في الكفارات والنذور} فهذه الرؤية رؤية منامية.
    1. توجيه ما نسب إلى ابن عباس أنه قال: "رآه العين"

      وأما ما نُسب إِلَى ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من أنه قَالَ: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)) [الإسراء:60] قال في هذه الآية: هي رؤيا عين أُوريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به كما في كتاب التفسير من صحيح البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
      فإن هذه تدل عَلَى أن الإسراء كَانَ بجسده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن كلمة الرؤيا هنا تطلق رؤيا عَلَى المنام، وعلى الرؤية الحقيقية البصرية، وأكثر إطلاقها عَلَى المنامية، فخشي عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أن يفهم أحد من قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ))[الإسراء:60] أن يفهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرج به في المنام فقَالَ: رؤيا عين أُوريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به، يعني: عرج به بجسده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أنه عرج في المنام.
      ولا يدل عَلَى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه -عَزَّ وَجَلَّ-أي: أنه لم يخالف في ذلك ابن عباس وسائر الصحابة والأدلة عَلَى ذلك واضحة، كحديث أبي ذر وغيره، والمقصود أننا لا نستطيع أن نقول: إن ابن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -بناءاً عَلَى هذا الحديث- يرى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بعينيه، وإنما يقول: رؤيا عين أي: كانت في اليقظة عَلَى الحقيقة، هي وكل ما وقع في ليلة الإسراء عامة، وليس خصوص رؤية الله عَزَّ وَجَلَّ.
    2. الأدلة على عدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بعينه

      وأما رؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه عَزَّ وَجَلَّ فإن من أصرح الأدلة عَلَى امتناعها وعدم وقوعها حديث أبي ذر في الصحيح، وهو سؤال صريح في محل النزاع: وهو أن أبا ذر سأل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ له: {هل رأيت ربك يارَسُول الله؟ فقَالَ: نور أنَّى أراه} وهذا تصدقه رواية أخرى وهي قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه}.
      ومن ذلك أيضاً الحديث المتفق عليه وهو حديث عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قالت: "ثلاث من حدثك بهن فقد أعظم عَلَى الله الفرية" تعني: ثلاثاً عظيمات جداً، والثنتين الأخريين أعظم من هذه؛ لأن هذه قضية خبريه لكن تلكما قضية اعتقادية وهي أهم.
      أما الأولى قالت: "من حدثك أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئاً مما أوحى إليه فقد أعظم عَلَى الله الفرية" فرية عظيمة لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ-يقول: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)) [المائدة:67] وفي ذلك رد عَلَى الذين يقولون بالعلم الباطن، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختص به بعض الناس، كما يقولون: إن عُمَر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: "كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحدث مع أبِي بَكْرٍ وكنت كالزنجي بينهما" يعني: مثل الأعجمي لا يفهم شيئاً؛ لأنهم يتكلمون في أمور الأحوال والمقامات كما تقول الصوفية.
      وكما تقول الروافض أنه كتب العلم في الجفر واختص بهذا الجفر علياً وبعض آل البيت، وهذا الجفر مخبوء وتناقلوه إِلَى جعفر ثُمَّ إلى مُحَمَّد بن الحسن العسكري صاحب السرداب ولا يعلم أحد ما فيه، سُبْحانَ اللَّه!
      إذاً: هذا علم مكتوم فهذا من أعظم الفرية عَلَى الله وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقول بأن شيئاً من الشريعة إما باطن وإما العلم اللدني أو الجفر كتمها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا لا بد فيه من أحد أمرين:
      إما أن يقول: إن هذا الشيء كتمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي ذلك ما قد قلنا.
      وإما أن يكون ذلك خرافة لا أصل لها، وهذا هو الصحيح، وذلك أنه لما سُئل عنه عَلِيّ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "هل خصكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم قَالَ: لا والذي فلق الحبة وبرء النسمة ما خصنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم"، فالمقصود أن هذه هي الأولى.

      وأما الثانية: فهي قولها رَضِيَ اللهُ عَنْها: (ومن أخبرك أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الغيب فقد أعظم عَلَى الله الفرية) لقوله تعالى: ((قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ))[النمل:65].
      وقولها: فقد أعظم عَلَى الله الفرية أي: افترى عَلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ-افتراءاً عظيماً، إذاً هل الأولياء أو السحرة أو الكهان يعلمون الغيب؟
      الجواب: لا. لأنه مادام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب فكيف يعلم الغيب هَؤُلاءِ؟ وأما ما يخبر به الكهان من أمور المغيبات فقد سبق الحديث عنه.

      وأما الثالثة: (ومن أخبرك أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه فقد أعظم عَلَى الله الفرية) فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذاً: لم ير ربه -عَزَّ وَجَلَّ-بعينه
      وأما آيات النجم فلو تدبرناها لعلمنا أنها واضحة الدلالة إن شاء الله والآيات هي: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)) [النجم:1-5] فالقضية قضية هذا الوحي، فالكفار يقولون: إنما يعلمه بشر، أساطير الأولين اكتتبها، ويقولون في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كاهن، ساحر، شاعر، كل ذلك قد قاله الكفار فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يُقسم بالنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، ومن الذي يعلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ تبين ذلك الآيات الأخرى ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)) [الحاقة:40]
      إذاً: الرَّسُول الكريم هو رَسُول ((شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))[النجم:5-11] فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أتاه جبريل بالوحي خاف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحصلت له فترة من الوحي، كما جَاءَ في الحديث الصحيح كما في كتاب بدء الوحي في البُخَارِيّ، فخاف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يدر ما هذا، فقد يكون شيطاناً وقد يكون ملكاً، وقد يكون ... فلا يعلمه لأول مرة، فمنّ الله تَعَالَى عليه في المجيء الثاني لجبريل بعد فترة الوحي بأن أتاه جبريل عَلَيْهِ السَّلام في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق، ويتقاطر منه مثل الدر والياقوت عَلَيْهِ السَّلام فرآه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حقيقته فاطمأنّ.
    3. رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام

      هذا الوصف ثابت لجبريل عَلَيْهِ السَّلام في صحيح البُخَارِيّ إِلَى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قد سد الأفق] كما في كتاب التفسير عند هذه الآية وفي الكتب الأخرى، فاطمأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك أن هذا رَسُول من عند الله حقاً، وأنه نبي لله حقاً، بعد هذه الهيئة التي نزل عليها، وجاء بها جبرائيل عَلَيْهِ السَّلام، وهذه هي المرة الأولى بالنسبة لرؤية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل عَلَيْهِ السَّلام عَلَى صورته الحقيقية.
      وهناك لطيفة في قوله تعالى: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)) [النجم:11] ذكرها الطّّحاويّ وسبق أن ذكرنا أنّ الأصل في هذه الآية أن يوضع محلها في الشرح قوله تعالى:((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) [النجم:17] لأن قوله تعالى: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))[النجم:11] في الرؤية الدنيوية، وهذه الدقيقة اللطيفة يوضحها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كَانَ في شعب أجياد، كما في هذه الرواية الصحيحة، ورأى جبريل عَلَيْهِ السَّلام في صورته التي خلقه الله تَعَالَى عليها استيقن فؤاده واطمأن، فالقضية هنا أنسب إِلَى نظر الفؤاد، وليس إِلَى نظر العين، نعم رأته العين لكن قوله:((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)) [النجم:11] فيها تواطئ القلب والعين فحصل بذلك اليقين عَلَى أن هذا وحي من عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذه هي الوجهة الأولى.
      ثُمَّ قال تعالى: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) [النجم:13-17] إذاً الإسراء والمعراج يناسبها ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) [النجم:17] فهناك ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى))[النجم:13] فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى جبريل عَلَيْهِ السَّلام عَلَى خلقته التي خلقه الله عليها مرتين:
      الأولى: هذه التي في أجياد بعد فترة الوحي.
      والثانية: عند سدرة المنتهى، وهذا من فضل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عليه،
      وفيها حكم يضيق المقام عن شرحها، ولكن نذكر منها: كونه يكون عَلَى خلقته التي خلقها الله تعالى، ومع ذلك يتقاصر دون درجة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا أعظم من أنه كَانَ عَلَى خلقة رجل ثُمَّ يكون أقل؛ لكن عَلَى نفس الخلقة التي هي أعظم خلقة له، ومع ذلك فإن رَسُول الله مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبلغ إِلَى درجة أعلى منه عَلَيْهِ السَّلام، فهذا تكريم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      وبعدها رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند هذه السدرة الآيات العظيمة العجيبة ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) كونه في الملأ الأعلى هذا، ولهذه المناظر المهيبة العجيبة مدعاة أن يزيغ البصر، أو أن يذل، أو أن يطغى، ويتجاوز الحد، فرأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك الآيات رؤية حقيقية بصرية
      . وبملاحظة هذا التفسير الموجز السريع للآيات نجد أنها جميعاً في جبريل عَلَيْهِ السَّلام، وليست في الجبار سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والروايات الصحيحة كرواية قتادة وأنس أيضاً تدل عَلَى ذلك، إذاً قول شريك هذا لا يعتد به.
      فمن الأخطاء التي في شرح العقيدة الطّّحاويّة هذا الخطأ، وهو أن قوله: [وأما قوله تَعَالَى في سورة النجم: ((ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى))[النجم:8] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في الإسراء] الواقع أنه واحد فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عَائِِِشَةَ وابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُما فإنه قَالَ: ((عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى)) [النجم:5-8] فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوي، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه، وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، فهذا هو جبريل رآه مرتين مرةً في الأرض ومرةً عند سدرة المنتهى] الواقع أن هذه العبارة: [وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه] هذه العبارة لو حذفناها بالمرة ثُمَّ قرأنا الكلام فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوي].
      ثُمَّ يقول: [وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، وهو جبريل رآه مرتين، مره في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى] فتكون العبارة صحيحة والكلام سليم ولا غبار عليه، وأُدخلت هذه العبارة نتيجة لرواية شريك، وهي الرواية المنتقدة التي لم يوافقه عليها بقية الرواة [فدنا منه فكان قاب قوسين أو أدنى] إلا أن الحافظ ابن حجر ذكر عن ابن عباس رواية قَالَ: إنها حسنة فيها إثبات ذلك؛ ولكن غاية ما في الأمر إذا صح سندها أن نقول: إنها شاذة، وإذا كَانَ المخالف ضعيفاً، قلنا: إنها منكرة عَلَى الاصطلاح المشهور في علم المصطلح.
      وقد ذكرنا الأوهام العشرة التي ذكرتها رواية شريك ذكرها المُصنِّف هنا نقلاً عن الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ، وكما قلنا: إن الحافظ ذكر أن ابن القيم ذكر أن فيها عشرة أوهام إذاً: لا يعول عَلَى رواية شريك هذه.
      والخلاصة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة الإسراء والمعراج لم ير ربه -عَزَّ وَجَلَّ-بعينه، ولم يثبت أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، وإنما هذه رواية شاذة أو منكرة، ونبقى عَلَى ما في الروايات الصحيحة، أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرب من ربه -عَزَّ وَجَلَّ- ودنى منه إِلَى درجة لم ولن يبلغها أحد، ففرض عليه الصلوات الخمسين التي أصبحت فيما بعد خمس، وما يتعلق بكون الإسراء بالجسد في اليقظة هذا قد سبق أن شرحناه.