في كيان غريب ومحفوف بالأعداء، ودولة عنصرية لا هوية لها ولا دستور ولا حدود تكون علاقة الأمن الشخصي بالأمن القومي قوية إلى درجة عالية.
في الحالات العادية حين يقاتل الإنسان على أرضه عن دينه أو ماله أو أي قيمة يراها يكون أمنه الشخصي أقل ارتباطاً بالأمن القومي أو الأممي؛ لأن الجذور عميقة، والكيان قائم مهما بلغت التضحيات، وهكذا بقي الوطن في حالات مثل
فيتنام و
اليابان و
ألمانيا ودول كثيرة منيت بخسائر بشرية فادحة.
وأعظم من ذلك: بقاء المجاهد الجزائري والأفغاني والشيشاني وغيرهم ثابتين متشبثين بتحرير بلادهم من العدو، رغم كل التضحيات والفوارق في القوة.
أما في الحالة
اليهودية فالأمر يختلف جداً، حيث لا وجود في الأصل لكيان باقٍ أو وطن ثابت؛ وذلك أن الكيان نفسه إنما تركب عضوياً من آحاد المهاجرين الذين تجمّعوا في بيئة غريبة يجهلون عنها كل شيء تقريباً بدوافع عاطفية، وهذا التجمع لا هوية له، فحتى الآن لم يتفقوا على تعريف "اليهودي" .. بل إن عدداً غير معلوم من فقراء
الهند و
الحبشة و
روسيا دسوا أنفسهم بين اليهود المهاجرين رغبة في حياة أفضل.
وكذلك لا دستور له، فإسرائيل ليس لها دستور ولا حدود رسمية حتى الآن !! وهؤلاء الغرباء المهاجرون لا يزالون يحملون ذكريات بلادهم الأصلية، ولغتها وملامحها؛ وبالتالي يستيقظ هاجس العودة إليها كل حين، لا سيما حين الإحباط والذعر -كما في حالة ما بعد الانتفاضة- كما أن جنسيتهم تؤهلهم للعيش في بلاد كثيرة غنية وآمنة، وهكذا يؤدي تناقص عددهم بالهجرة خاصة -وبعوامل أخرى كالتكاثر السكاني لخصمهم- إلى أن يتقطّع الكيان في النهاية ويتناثر مثلما تتناثر الأشلاء في عملية تفجير قوية، وفي هذا إعادة للشتات الأول، الذي قال الله تعالى عنه: ((
و َقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَما)) [الأعراف:168] بل هو في هذه المرة أولى، فالعمر الزمني للمعركة لا يزال قصيراً جداً، ووسائل العودة متوفرة بما لم يكن يخطر على بال أحد من البشر قديماً، وعوامل التآكل الذاتي قائمة، فكيف والهدم يزداد والضربات تتوالى؟!
ومن هنا يظهر أثر "الردة" كما تقدم.
والتأكيد على هذا مهم؛ لأن بعض الناعقين من العرب -ومنهم منتمون إلى السلطة- يفصلون في أحاديثهم وتحليلاتهم بين الأمن القومي والأمن الشخصي، والفكرة أصلاً منقولة من التحليلات الأمريكية عن ضعف أثر الإرهاب على الأمن القومي الأمريكي، ونحن نقول: هبوا أن الأمر كذلك، لكن القياس خطأ؛ فـ
أمريكا كيان كبير قائم لا يتأثر بتأثر آحاد قليلة منه، أما في إسرائيل فالفرد الواحد له أهميته، والأسرة الواحدة في المستوطنات لها أهمية استراتيجية؛ ولذلك فإن ما يجتاح الكيان اليهودي هو تهديد مباشر لوجود الدولة ذاته، وبداية زوالها، وهل هناك دليل أكبر من هجرة ربع سكانها تقريباً وهي أصلاً كيان استيطاني لا جذور له؟!!
ولإيضاح ذلك نقول:
إن ربع سكان الدولة العبرية تقريباً هم من العرب، والربع الثاني وهو الأغنى والأرقى تعليماً وخبرة قد هاجر، فلم يبق من اليهود إلا النصف المذعور والأفقر!!
وهذا النصف إن بقي كله أو بعضه سيصبح أقلية في محيط من العداء المتلاطم والمتزايد يومياً، ولن يستطيع الصمود في حرب الاستنـزاف التي فرضتها عليه الانتفاضة المباركة.
تقول
يديعوت أحرونوت في (12/6/2002):
"يتبين من استطلاع أجراه المجلس الصهيوني: أن غالبية الإسرائيليين يفكرون أكثر من أي وقت مضى في مغادرة إسرائيل، وتشير نتائج الاستطلاع إلى أن (50%) من الإسرائيليين العلمانيين فكروا مؤخراً بالهجرة، والتقوا بإسرائيلي قد هاجر أو فكر بالهجرة ".
هكذا إذن يصبح الحديث عن أمن الدولة لا معنى له؛ لأن القضية هي قضية بقاء الكيان أو زواله، وهذا ما عبر عنه أكثر من مفكر سياسي يهودي!
إن موضوع نهاية إسرائيل مطروح الآن على قائمة الاهتمامات الفكرية والوجدانية
الصهيونية، انظر على سبيل المثال إلى
يديعوت أحرونوت (بتاريخ 27/1/2002) التي ظهر فيها مقال بعنوان "يشترون شققاً في الخارج تحسباً لليوم الأسود"، واليوم الأسود هو اليوم الذي لا يحب الإسرائيليون أن يفكروا فيه، ونفس الموضوع يظهر في مقال
ياعيل باز ميلماد (
معاريف 27/12/2001) الذي يبدأ بالعبارة التالية: "أحاول دائماً أن أبعد عني هذه الفكرة المزعجة، ولكنها تطل في كل مرة وتظهر من جديد: هل يمكن أن تكون نهاية الدولة كنهاية الحركة الكيبوتسية؟ من نقطة الزمن الحالية ما زالت هذه الفكرة مدحوضة، ولكن ثمة الكثير جداً من أوجه الشبه بين المجريات التي مرت على الكيبوتسات قبل أن تحتضر أو تموت، وبين ما يجري في الآونة الأخيرة مع الدولة ".
بل إن المستوطنين أنفسهم أصبحوا يستخدمون نفس العبارة، فرئيس مجلس السامرة الإقليمي أخبر
شارون -في مشادة لفظية معه-: نحن سنحارب بكل قوتنا، وسننـزل الشوارع، إن هذا الطريق الدبلوماسي هو نهاية المستوطنات إنه نهاية "إسرائيل" (
هآرتس 17/1/2002).
وقد لخص
جدعون عيست الموقف في عبارة درامية (
يديعوت أحرونوت 29/1/2002) " ثمة ما يمكن البكاء عليه إسرائيل ":
".إن
مجلة نيوزويك (2/4/2002) صدرت وقد حمل غلافها صورة نجمة إسرائيل، وفي داخلها السؤال التالي: "مستقبل إسرائيل: كيف سيتسنى لها البقاء ؟" وقد زادت المجلة الأمور إيضاحاً حين قالت: "هل ستبقى الدولة اليهودية على قيد الحياة ؟ وبأي ثمن ؟ وبأي هوية ؟ " ثم اقتبست المجلة قول الكاتب الإسرائيلي
عاموس إيلون:" إنني في حالة من اليأس؛ لأنني أخشى أن يكون الأمر قد فات .. وقد قلت لكم مجرد نصف ما أخشاه ".
ولا يختلف رأي الأمريكيين -أوثق حلفاء إسرائيل- عن ذلك، فقد عبّر (18%) عن رأيهم: أن إسرائيل ستختفي من الوجود، وقال (23%) إنها لو استمرت في البقاء فلن تكون دولة يهودية، وهذه نسبة عالية للغاية (41%)، خاصة وأن أحداً لم يكن يجرؤ حتى على طرح السؤال منذ عدة شهور ! أي قبل اشتعال الانتفاضة!!
نعم. إن هذه النهاية المرتقبة -بإذن الله- لن تكون سهلة التكاليف؛ لأن الحركة
الصهيونية المسيطرة على البيت الأبيض وغيره سوف تدفع بكل ما تستطيع لإنقاذ الكيان الصهيوني، لكن في آخر الأمر لن تستطيع أن تفعل أكثر مما فعلت في
فيتنام، وهو إرسال طائرة مروحية تحط فوق السفارة الأمريكية وتحمل فلول زعماء الكيان إلى
أمريكا.
وهذا بالنص عبر عنه الكاتب الإسرائيلي "
إتيان هابر " في مقال شهير بعنوان "ليلة سعيدة... أيها اليأس.. الكآبة تكتنف إسرائيل " !! (
هآرتس 24/1/2000).
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال " ولكنكم تستعجلون "!!