المادة    
هذه القضية السالفة مليئة بالعبر، منها: أن الإسلام يثبت للإنسان بأي خصيصة من خصائص الإسلام، فـعمر رضي الله تعالى عنه يقول: بسبب أن من خصائص المسلمين رفع اليد إلى السماء إعلاناً بالتوحيد، فمن فعل ذلك منهم فكأنه يقول: قد أصبحت منكم، فيقبل منه، وليس معنى ذلك أن هذا الرجل الذي أخرج يده قد أصبح إيمانه كإيمان أبي بكر وعمر، وإنما المقصود أنه يثبت له اسم الإيمان، ويأخذ أحكام المؤمنين بذلك.
وأول حكم وأعظم حكم في هذه الحالة هو عصمة الدم والمال، كما في الحديث: [[أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك -وفي رواية: فإذا قالوها- فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام]] كما ورد في حديث ابن عمر وغيره.
ونظراً لوجود الغلاة الذين يكفرون المسلمين بالذنوب من الخوارج وأتباعهم إلى قيام الساعة فنقول:
أولاً: الأصل في بني الإنسانية هو الإسلام عموماً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {كل مولود يولد على الفطرة} هذا هو الأصل؛ فالخروج من الإسلام إلى النصرانية أو المجوسية أو غير ذلك -كما قال صلى الله عليه وسلم: {فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}- يكون بسبب غلبة البيئة.
ثانياً: بما أن الإسلام هو دين الفطرة في حق البشر جميعاً، فبالنسبة للمسلم لا يجوز ولا يصح ما قاله المتكلمون والخوارج - من أن الطفل المسلم لابد أن يقال له إذا بلغ الحلم: قل: لا إله إلا الله. جدد إيمانك.
وأول من فعل هذا هم الخوارج ؛ لأنهم يريدون أن يتأكدوا من صحة عقيدة أتباعهم على مذهبهم الباطل في تكفير المسلمين، ثم تبعهم المتكلمون -في أكثر كتب الكلام- من معتزلة وأشعرية وغيرهم، والصحيح أن الطفل المولود من أبوين مسلمين مولود على الفطرة والإسلام، ولذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (يمسلمانه) وإنما أمر أن يعلَّم، فيعلم الصلاة، ويعلم الدين والعقيدة، لكنه في الأصل مسلم، فإذا قلت للطفل: (قل: أشهد أن لا إله إلا الله) فأنت لا تقولها له لتدخله في الإسلام، وإنما من باب التأكيد والتعليم.
وينبني على ذلك أنه لا يحكم بالكفر على أحد إلا من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبمعنى آخر: إذا قلنا بأن الإسلام يثبت للإنسان بأي شيء من خصائص الإسلام يفعله، فلا يصار عن هذا الأصل إلى غيره إلا بدليل قوي، مثل أن يطوف بقبر أو يدعو غير الله، أو يضع تشريعاً غير ما شرع الله سبحانه وتعالى وما أنزل في كتابه، أو يفتري على الله الكذب، أو يرد شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أو ينكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، فإذا وجدنا فيه ما يكفر به، فحينئذٍ نحكم بخروجه من الإسلام، وأما إذا رأيناه يعمل شيئاً من خصائص الإسلام، فإننا نقبل ذلك منه ونقره. بل إن بعض الفقهاء قالوا ما هو أبعد من ذلك، قالوا: إذا غرقت سفينة -أو سقطت طائرة- واشتبه من فيها من المسلمين بالكفار، ولم نجد علامة تميزهم؛ فإنه يصلى على الجميع؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
وقال بعض الفقهاء أيضاً: إذا رئي الإنسان يصلي في دار الحرب؛ فإنه يعصم دمه، ولو لم يأتِ إلينا، وإن كان الواجب عليه أن يهاجر إلى المسلمين، لكنه يثبت له حكم الإسلام، فيعصم دمه وماله.
وهذا مما يُرَدُّ به على أهل الغلو ممن يكفرون المسلمين -عافانا الله وإياكم- بغير حجة، أما تكفير المرتدين والمارقين والمشركين بالله سبحانه وتعالى، والذين تركوا دين الله عز وجل، وأعرضوا عنه بالكلية، فهذا أمر آخر، وسوف يأتي في هذه المسألة -بإذن الله تعالى- تفصيل أكثر في موضعه.
بقيت قضية أحب أن أنبه إليها وهي: أن المصنف -رحمه الله- قال: [بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه: (أين الله؟) في غير موضع] يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين الله؟) في غير موضع، فهل جاء موضع سأل النبي صلى الله عليه وسلم أحداً: (أين الله؟) غير حديث الجارية؟ فليبحث ذلك.