الهزيمة تمر بثلاث مراحل: مرحلة القلق والخوف والحيرة، ثم مرحلة اليأس وفقد الثقة، ثم مرحلة الاستسلام أو الموت وقد تأتي مرحلتان منهما معاً كما هو حال اليهود.
بعد خمسة شهور فقط من اشتعال الانتفاضة؛ ظهرت العلامة الكبرى على الانهيار المعنوي للعدو متمثلة في البيان الذي أعلنه الرافضون للخدمة العسكرية وهم مجموعة من (50) ضابطاً وجندياً الذين أعلنوا إنشاء حركة الشجاعة في الرفض، وعللوا موقفهم بأمرين:
أن الضفة والقطاع أرض محتلة فالقتال فيها غير شرعي.
أن الانتفاضة أدت إلى فيضان الدم !!
وظل المنضمون إلى الحركة يتكاثرون بالمئات حتى بلغوا الألف -كما ذكرت بعض المصادر الغربية- أما الجدل بشأنهم فقد تحول إلى مشكلة خطيرة لدى القيادات، وكشف ذلك عن هزيمة نفسية أخذت عدواها تتفاقم في الأمة كلها، وظهرت له أصداء في الإعلام المحلي والعالمي، حتى وصفت بعض التحليلات الرفض بأنه ثورة متنامية، وعلق آخرون بأنه بداية التمرد المدني والدخول في مرحلة الفوضى، ومما يؤكد هذه المخاوف: أن (180) منهم قد سجنوا ومع ذلك لم يتراجعوا عن موقفهم!! (البيان الإماراتية 10/11/2002)
في إمكان أي قائد عسكري أن يدرك عظم الكارثة من التعليلين المشار إليهما في الخطاب، أي كون القضية غير عادلة، وكون التضحيات كبيرة، وكل منهما كاف وحده.
فعندما يفقد المرء القناعة الداخلية بأمر ما فإنه يتخلى عنه، وعندما يفرض عليه أمرٌ ما تضحيات أكبر مما ينبغي فإنه يعدل عن تقديمها، أما إذا تظافر العاملان معاً فالرفض هو أدنى درجات الإنكار، فإذا أريد منه الرضوخ بالقوة فإن التمرد يغدو رداً طبيعياً؛ ومن هنا تنشق الجيوش أو تبدأ الحرب الأهلية بين الشعب.
ولذلك يدرك القادة أن هذا أشد على أي جيش من هزيمة حقيقية، بمعنى: أن مقتل ألف جندي في معركة هو خير من تمرد مثل هذا العدد أو نصفه؛ الأمر الذي يعدي بقية الجيش بالداء الذي لا دواء له.
والحقيقة: أن ما يحدث في الجيش اليهودي ما هو إلا مظهر من مظاهر الوهن الذي ضرب قلوب الأمة كلها، والهجرة المضادة مظهر ثانٍ، وتهريب رءوس الأموال مظهر ثالث، وإخلاء المستوطنات مظهر رابع، وانتشار الأمراض العقلية مظهر خامس .. وهكذا مما يجعل كل مظهر منها بحاجة إلى الحديث عنه؛ ولذلك فلا غرابة أن يربط المعلقون والكتاب اليهود بين بيان رفض الخدمة وبين بداية النهاية للدولة!!
ومن أقرب المظاهر إلى رفض الخدمة: مظهر التهرب منها بالتمارض أو التأجيل أو غيرها من الحيل التي يجيدها اليهود.
وكذلك: قلة الإقبال على الدخول في الأكاديميات العسكرية، حتى إن بعضها قد أقفل، ولم تُجد العقوبات العسكرية شيئاً .. بل ارتفع عدد الموُقَفين من المتهربين من الخدمة من (600) في أول عام (2002م) إلى (1000) بعد عشرة شهور.
وهذه الحال من الرفض أشد بكثير من سابقتها التي أدت إلى الانسحاب من جنوب لبنان، ولكن الخيار هذه المرة معدوم؛ لأنه يعني الاستسلام أو الرحيل !!
إن اجتماع هذه المظاهر يؤكد أن الانتفاضة المباركة أدخلت الدولة اليهودية في حالة من الرعب الدائم، وإن إدراك حقيقة هذا الوهن يفسّر هروب المستوطنين مع كل ما يحاطون به من التحصينات الهائلة، هذا مع أن البالغين منهم هم من المتدربين والمجندين .. بل إنه يفسر المنظر المتكرر الذي يثير عجب كل مشاهد في العالم وهو اندحار الدبابات وأشباهها أمام المقلاع والهراوة!!
وقد شاهد كثيرون هلع شارون وهو يصرخ في وجه " موفاز " عندما ارتقى فتى مؤمن دبابة يهودية وكاد أن يسوقها غنيمة للمجاهدين.
لقد حاول الإعلام اليهودي تعليل هذه الظاهرة الغريبة، فقالت جريدة معاريف: إن حياة الجنود في الدبابات جحيم لا يُطاق، فالأوامر الصادرة لهم تتضمن البقاء داخل الدبابة طوال الفترة المحددة لهم دون الخروج منها .. بل صدرت أوامر لهم تحظر عليهم حتى النظر من فوهات الدبابة خوفاً من تعرضهم لرصاصات طائشة تأتيهم من المناطق المحاصرة، كما لا يستطيع الجنود الخروج من الدبابة لقضاء حاجتهم كالذهاب إلى مرحاض أو إلى حمام، وذلك خوفاً من تعرضهم لقناص فلسطيني ينتظر خروجهم من الدبابة، وأوضح التقرير أن الجلوس لفترة طويلة داخل دبابة مع الشعور بالخوف من المحيط الذي توجد فيه الدبابة؛ يجعل الجنود في قلق دائم، بحيث ينتظر الجندي بفارغ الصبر انتهاء ورديته للخلاص من هذا الجحيم الذي لا يُطاق، وأضاف التقرير: أن وجود الجنود داخل الدبابة واحتكاكهم طوال الوقت بعضهم مع البعض يسبِّب مضايقات لهم، حتى إن نفسية الجنود أصبحت منهارة، وأصبحت العلاقة بينهم تتسم بالمشاحنات والمشاجرات، هذا إلى جانب الملل والضجر الشديدين.
وفي عدد آخر ضربت معاريف مثالاً لهذه الحالة النفسية بما حدث في مستوطنة (الحمراء)، فقد اقتحم أحد المجاهدين المستوطنة وقتل وجرح حوالي (10) من اليهود على مشهد من الحرس الذين بلغ بهم الذعر إلى حد الوجوم والعجز عن الكلام، وعن التبليغ عن الهجوم، أما الجنود الذين هاجمهم المجاهد فقد فروا، واعترف أحدهم بصراحة بالغة قائلاً: "حين بدأ القتال اختبأت تحت السيارة ".
وأشد من ذلك: حالة حاجز عوفرا، حين قتل المجاهد عشرة من اليهود ومضى بأمان، مع أن سبعة منهم جنود بكامل عتادهم!!
تأتي هذه الأمثلة -وهي كثيرة جداً- تصديقاً لما توقعه الخبير اليهودي المشار إليه، فقد قرر أن اليهود تحولوا إلى مجموعة من الجبناء والتعساء، بل من البكائين والنواحين على حد تعبيره .. يقول في بقية كلامه:
" والدليل الأول على ذلك كان في حرب الخليج، لقد كانت هذه أول حرب في التاريخ يقتل فيها الناس من جراء الخوف أكثر من عمليات العدو -يعني: الصواريخ العراقية- وكان فيها مصابون نفسياً أكثر بثلاث مرات من المصابين جسدياً، وكذلك اليوم .. ففي كل مرة تكون إصابات، فإنك تسمع عن (100) مصاب منهم ثمانون مصابون بالخوف " ويا لها من نسبة!!
إنها تعني أنه عند كل عملية صغيرة أو كبيرة يكون المصابون بالهلع والانهيار أو ما يسمى " الصدمة " أربعة أضعاف المصابين جسدياً. وهولاء المصابون بالصدمة منهم من يموت فوراً، ومنهم من يحتاج إلى علاج طويل أو قصير !!
والأمر الذي يجب قوله هنا أن يقظة العقل المؤمن .. بل مبادرته جعلت الرعب مستمراً، وهيأت له الدوافع التي لا تنقطع، ومن ذلك تفجير الدبابة (مركفا 3) التي تعد أكثر الدبابات متانة في العالم، وقد أحدث هذا العمل آثاراً مادية ومعنوية كبيرة، فالتقارير المنقولة آنفا مكتوبة قبل حدوث هذه المفاجأة وعليه نقول:
ما الظن بالجندي اليهودي الذي كان يرى الحياة في الدبابة جحيماً لا يطاق حين يراها فعلاً تنفلق وتشتعل في جحيم حقيقي؟!!
وقد دلت البيانات اليهودية على هذا الرعب بدقة الأرقام، فنشرت جريدة يديعوت أحرونوت: أن معدلات الخوف بين المستوطنين كانت (57%) في مطلع شهر أكتوبر (2001م) ثم بلغت (68%) في منتصف الشهر، ثم بلغت (78%) في مطلع الشهر التالي !!
وقد تحولت المستشفيات اليهودية إلى معامل بحث لدراسة هذه الظواهر الغريبة التي لا تكاد توجد لدى الطرف الآخر الأضعف مادياً، ومنها ما ذكر الخبير كرفيلد من الموت أو المرض بالرعب وحده!!
ويقول دبلوماسي يهودي في أمريكا :-
" أوضحت الانتفاضة جهلنا بالعرب، وعدم معرفتنا بمدى مقاومتهم وتضحياتهم .. كما كشفت عن ضعفنا المعنوي مع أننا نملك أقوى جيش في المنطقة " وضرب مثالا للروح المنهارة: "بأن مجرد دخول جريح جديد إلى المستشفى يؤثر على أحوال المعالجين من قبل، الأمر الذي أدى إلى تكاثر المرضى، بحيث يحشر في الغرفة الواحدة ما بين خمسة إلى ستة" اهـ.
وذكرت البيانات أن الإقبال على العيادات الطبية ارتفع بشكل كبير مع أنهم لا يعانون في الحقيقة من أي مرض عضوي وإنما يعانون من التوتر والضغوط النفسية، وأشارت إلى ارتفاع بنسبة (50%) في استهلاك المهدئات والمسكنات.
وهذا ما دفع وزارة الصحة اليهودية إلى إيجاد خدمة عامة قد تكون فريدة في العالم، وهي فتح مراكز استشارات هاتفية للمواطنين المحتاجين للمشورة النفسية!!
وقد صور الكاتب يغال سآرنا الوضع النفسي العام الذي فرضته الانتفاضة المباركة على الشعب اليهودي قائلا:
" ما كان يبدو في البداية كمرض سيهاجم ثم يختفي تحول إلى نمط حياة جديدة، الحارس على باب المطعم، جهاز كشف المعادن الذي يمشط أجسادنا عند المدخل، الرأي الواحد وانتهاء الاختلاف في الرأي " (يديعوت أحرونوت 15/1/2002).
أما المعلق الشهير "إتيان هابر" فيسخر من فكرة ما سماه "الأرض الموعودة المحمية "ويقول "لقد أصبح عدد الحراس مثل عدد الرمل " (يديعوت أحرونوت 18/4/2002).
و الأمثلة هنا كثيرة جداً -وقد تأتي لها بقية في الفقرة التالية- فلنكتف بهذا، غير أننا لابد أن نجيب عن إشكال أو تساؤل قد ينشأ هنا وهو: إذا كان اليهود يعيشون هذه الحالة فلماذا يزدادون عنفاً وشراسة ويفرطون في الانتقام والتشفي يوما بعد يوم ؟ هل لهذا من تعليل أو قاعدة؟
ونجيب: نعم. إن القاعدة التي يدل عليها كتاب الله، وواقع الكائنات الحية فضلاً عن تاريخ اليهود هو: أن الوحشية في الانتقام والعنف المفرط هما دليل واضح على بلوغ مرحلة اليأس التي تسبق عادة مرحلة الاستسلام أو الموت لدى الكائنات الحية.
والطواغيت حين يتصرفون بغريزة حب البقاء، ويتعامون عن الإقرار بالهزيمة، يلجئون في مرحلة اليأس إلى استنفار كل الطاقة والضرب بها في كل اتجاه بلا تفكير ولا هوادة، كما تفعل الوحوش أو الطيور إذا حشرت في زاوية، لكن ذلك يعقبه عادة النهاية المحتومة!!
هكذا بطش صاحب الأخدود وفرعون، وهكذا يفعل شارون وجنوده الآن.
فماذا تظنون بجندي يخاف أن تقتحم عليه رصاصة المجاهد من فوهة الدبابة، ألا تتوقعون أن يضرب بها يمنة ويسرة: الناس والبيوت والشجر وكل شيء أمامه؟!!
إن هذه الحالة المشاهدة تؤكد حقيقة الرعب الداخلي، ولا تدل على شيء من الثقة!!