ما أكثر آلام إخواننا في الأرض المحتلة، وما أشد معاناتهم، لكننا لن نتحدث عن هذا الجانب، فالإعلام اليومي كفانا هذه المئونة، والإعلام العربي كما أشرنا يحاول أن يجعل المعاناة هي المشكلة .. ربما لكي يكون إيقاف الانتفاضة هو الحل!!
أما الإيلام الواقع باليهود فهو مما لم يشهدوه في تاريخهم كله، وسوف نعرض ذلك مع الاهتمام بالجانب الأبلغ منه، وهو الألم بالقتل الذي هو أشد شيء على قوم هم أحرص الناس على حياة، وهنا نجد الخط البياني شاهداً بوضوح على أن الانتفاضة في تقدم وعلو، وأن العدو في انحطاط ودنو:
عند قيام الانتفاضة كانت نسبة القتلى من العدو (1 : 50) من الفلسطينيين، ومع ذلك فقد كان اندلاعها والإخفاق في إيقافها سبباً في إسقاط
باراك وترشيح
شارون، وهو أشقى المغضوب عليهم، وأشدهم وحشية وهمجية، وقد علق اليهود آمالهم عليه لذلك، وصدقوه حين وعد بالقضاء على الانتفاضة خلال مائة يوم.
فما الذي حدث؟!
استمرت الانتفاضة وتضاعفت آثارها، وارتفع معدل عدد القتلى من المستوطنين من (3) قتلى شهرياً أيام
باراك، إلى (17) قتيلاً بعد مجيء السفاح المخلص
شارون.
وبعد (400) يوم من الإفراط في العنف وجد
شارون أن القتلى من اليهود بلغوا في شهر واحد (إبريل 2002م) أكثر من (140) قتيلاً!! وهو ما يعادل خسائر العشرة الشهور الأولى من الانتفاضة كاملة، وهنا جُنَّ جنونه أو كما عبر عن ذلك رئيس الموساد: "اضطربت قواه العقلية " فجاء بمشروع الجدار الواقي واجتياح المدن الفلسطينية.
أما لماذا جن جنونه -وفي الواقع جن جنون المجتمع اليهودي والحكومة اليهودية-؟ فلأن العدو انسحب من جنوب
لبنان حين بلغ عدد قتلاه في ثلاث سنوات (75 قتيلاً) الأمر الذي أثار ضجة كبيرة في المجتمع اليهودي، وضغط على الحكومة لكي تنسحب، فكيف يحتمل الآن فقد (140) قتيلاً في شهر واحد؟!
إن هذا ما لم يحدث في القتال مع أي جيش عربي نظامي !!
وبعد ذلك حدثت معركة مخيم
جنين، حيث واجه المجاهدون بالسلاح الخفيف جيشاً مدججاً بكل أنواع السلاح - حتى الطائرات - ولم تنته المعركة إلا بنفاذ ذخيرة المجاهدين، ورأى العالم الجنود اليهود وهم يبكون، واعترف المراقبون والمحللون بأن هذه المعركة لم يشهد الجيش اليهودي لها نظيراً مع أي جيش نظامي عربي، ولا زالت منجماً للمؤلفات والأفلام والروايات!!
وفي شهر رمضان المبارك تقارب عدد القتلى من اليهود مع عدد القتلى من الفلسطينيين، أي: أن النسبة التي كانت (1 : 50) عند بداية الانتفاضة مرشحة الآن لأن تصبح (1:1) تقريباً، ولا سواء .. قتلانا في الجنة بإذن الله وقتلاهم في النار وبئس القرار. وهذا في المجموع العام، ليس مجموع المجاهدين المسلمين بالنسبة للعسكريين اليهود، فهذه النسبة دائماً لصالح المجاهدين.
وهنا تنبغي الإشادة بأكثر أنواع المقاومة نكاية في العدو، وإيلاماً له، وتحطيماً لمعنويته ونعني بها العمليات الاستشهادية، التي تعد نموذجاً فريداً في تاريخ المقاومة العالمية، وتقدم البرهان الجلي على تميز هذه الأمة المباركة، وتفوقها في الإيمان والإرادة واليقين، وأنها هي الأمة المختارة لولاية الله، ووراثة الكتاب، والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ولهذا جاء التحدي لليهود في سورة الجمعة التي هي سورة تفضيل هذه الأمة على بني إسرائيل: ((
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ))[الجمعة:6] إلخ الآيات.
كما جاء في سورة البقرة: ((
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ))[البقرة:94].
إن الأثر العظيم لهذه العمليات جعل المحللين والمفكرين يختصرون الانتفاضة كلها فيها ويرمزون بها إليها، وجعل العدو ينص في مطالبه وضغوطه على
أمريكا وحكام العرب على إيقافها ولو إلى حين!!
يقول الكاتب الصهيوني المعروف "
آريه شبيط " في صحيفة "
معاريف " 22/9/2002 في تعليقه على أثر العمليات الاستشهادية:
"إنه بفضل العمليات الانتحارية -هكذا يسميها- نجح الفلسطينيون في قلب الشوارع الإسرائيلية إلى موقع عسكري كبير ومرهق، وبفضل العمليات الانتحارية نجحوا في المساس بقسوة بالاقتصاد الإسرائيلي، وبفضل العمليات الانتحارية نجحوا في الحفاظ على اهتمام الأسرة الدولية بمشكلتهم، ولولا العمليات الانتحارية لكان القليل فقط من الإسرائيليين يكرسون التفكير بما يجري وراء الخط الأخضر، ولولا العمليات الانتحارية لكانت المعاناة والضائقة من نصيب الفلسطينيين فقط، ولكان قُدِّر لهم الاستسلام والخضوع بدون شروط "!!
ولبيان إيلام هذه العمليات نذكر أن الأرقام الرسمية الإسرائيلية تشير إلى أن حصيلتها قرابة (500) قتيل، وأكثر من (3500) جريح !! ولكن يجب أن نعلم أن الحقيقة أكبر مما يعلنون.
وقد ظهر ذلك بعد قضية الضابط
دانيال الذي أبلغت الحكومة أهله بوفاته في حادث مرور، ولكن زملاءه أخبروهم بأنه قتل، فأقام والده دعوى، وجرى الكشف على الجثة وظهر كذب الحكومة؛ الأمر الذي جعل الكثير من الآباء ينضمون إليه في إقامة الدعوى، وأفقد الثقة في أرقام الحكومة ومعلوماتها، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في كلام الخبير العسكري "
فان كرفيلد ".
وفوق هذه الأعداد من القتلى والجرحى نجد أن آثارها النفسية والمعنوية هائلة جداً، ومن ذلك: رفض الخدمة العسكرية والتحايل للإفلات منها بالأعذار الكاذبة، وارتفاع عدد المهاجرين إلى الخارج، وارتفاع عدد المطالبين بالانسحاب الفوري من الأراضي المحتلة بدون شروط، وسيطرة الرعب والهلع على المجتمع اليهودي، وغير ذلك مما قد يأتي تفصيله قريباً.
ونكتفي هنا بإيراد بعض الشهادات من إعلام العدو:
إن الانتفاضة -حسبما جاء في الصحف الإسرائيلية-: " ليست مجرد هَبّة .. بل هي حرب استنـزاف أغرقت إسرائيل في لجة من الدماء" (
هآرتس 1/2/2002) "وأدخلتها في دائرة دموية" (
يديعوت أحرونوت 29/1/2002) وتسببت في فيضان "أنهار الدم " حسب إعلان رافضي الخدمة العسكرية (
هآرتس 8/2/2002) كما أدت إلى الغوص في مياه راكدة، وإلى الغرق في " المستنقع الذي غرقت فيه قواتنا بدءا من الثمانينيات " في إشارة واضحة للمستنقع اللبناني.
وتشير الصحف الإسرائيلية إلى العام الأول للانتفاضة بأنه عام " مضرج بالدماء " (
معاريف 10/2/2002) وأنه " الأسوأ في تاريخ إسرائيل في كل ما يتعلق بمواجهة الإرهاب" (
معاريف 11/2/2002).
وقد وصف أحد الكتاب الموقف بهذه العبارة الدالة: "صغيرة هي المسافة بين الخوف والذعر، والجمهور الإسرائيلي يعيش بين هذا وذاك " (
معاريف 10/2/2002) وقد أكد
يوئيل ماركوس في
هآرتس (13نوفمبر2001) " الحقيقة المرة: أننا لم ننجح في تصفية الإرهاب ودحره بالقوة " بل إن الفلسطينيين نجحوا " في زرع الرعب في صفوفنا... وفشلنا في إخافته " وأكبر دليل على ذلك: أن الوزير
داني نفسه وأبناء عائلته أخلوا بيوتهم... خوفا على أمنهم، وذلك بناء على نصيحة جهاز الشاباك ( جهاز الأمن الداخلي )... وقال:
رعنان كوهين، عضو المعارضة، إن الوضع خطير جداً " أنا أنظر بخطورة بالغة إلى الوضع الذي لا يستطيع فيه الوزراء أن يتجولوا بحرية داخل الخط الأخضر، وإن لم نشعر نحن الوزراء بالطمأنينة، فكيف سيشعر الجمهور؟!"
واستمر كاتب المقال في القول:
"إنجاز الفلسطينيين لا يكمن في إخافة وزراء إسرائيل -الواقع أن وزيراً قد قتل فعلاً- إنجازهم الحقيقي يكمن في أنهم وضعوا علامة على كل المستوطنين والإسرائيليين كأهداف، وألحقوا الأذى باقتصاد إسرائيل وبالسياحة الوافدة إليها، وزرعوا من خلال أعمالهم الإرهابية أجواء من الخوف والجزع في الوقت الذي لم تنجح فيه إسرائيل في زرع خوف مشابه في أوساطهم".
ونشرت
يديعوت أحرونوت (14/3/2002) أن (78%) من الإسرائيليين لم يعودوا يسهرون في أماكن عامة خشية الإصابة في عمليات تفجير فلسطينية.
إن جمهور المستوطنين (63%) يعتقد أن الدولة الصهيونية قد دخلت طريقاً مسدوداً، فهي لا يمكنها القضاء على الانتفاضة بالقوة، مما يعني أن الانتفاضة لن تنتهي ". وفي الوقت ذاته لا يمكن التوصل إلى اتفاقات سلام مع الفلسطينيين، فكل محاولات وقف إطلاق النار باءت بالفشل (
الجيروساليم بوست 30/9/2001). أو كما يقول
أمنون دنكنر في مقال نشرته جريدة
معاريف : " أسوأ الأمور هو: أن من الواضح أنه لم يعد ثمة حلول سحرية يمكن التوصل إليها بضربة واحدة، ولم يعد السلام الشامل والنهائي مغرياً، بل ليس ثمة حلول عسكرية تتكلل بأناشيد المنتصرين، ومن الجهة الأخرى: لا يوجد أي إمكان للاستمرار في ظل الوضع الحالي من دون عمل شيء ".
وفي (25 يناير 2002م) أكد
يوئيل ماركوس في
هآرتس أن
شارون:
"أدخل الإسرائيليين في دائرة دموية مفرغة لا يمكن الخروج منها... الناس لا يخرجون إلا قليلاً خوفاً من الهجمات الإرهابية.. الجمهور متعب ومرهق ومتشائم.. طاقة إسرائيل تم تقويضها، ورغم أن إسرائيل عضو في نادي أقوى خمسة جيوش في العالم، ونادي الدول النووية الثمانية؛ فقد بلغت النقطة التي لا يمكن فيها أن تصل إلى حل عسكري مع الفلسطينيين".
وقد عبر
دانمار روبنشتاين -أحد أبرز المعلقين الإسرائيليين- عن نفس الفكرة، إذ قال في صحيفة
معاريف (20/9/2001): " إن طريقة مواجهة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية للانتفاضة لم تفشل قط، بل إنها أدت إلى انتقال حمى العمليات الاستشهادية إلى فصائل لم تتبنها من قبل، وحصلت إسرائيل على عكس النتائج التي راهنت على تحقيقها ".
وتقول
معاريف : " إن قوة الجيش تتآكل بمنهجية بعد أن غرقت في مستنقع الانتفاضة، وقد وصل الأمر إلى درجة أن المطلوب هو "جندي في كل دكان، وفي كل موقف سيارات، وفي كل محطة حافلات، وسبعة منهم في كل مفترق "، وبالفعل نشرت جريدة
معاريف (2/4/2002) أن اللجنة القطرية لأولياء أمور الطلبة في إسرائيل اتخذت قراراً بعدم استئناف الدراسة في المدارس بعد عطلة عيد الفصح إذا لم يوضع حراس مع أسلحة حول كل المؤسسات التعليمية.
ولكل هذا أعلن
أليكس فيشمان في مقال له في
يديعوت أحرونوت: أن سياسة الأمن الإسرائيلية تحتضر، وأشار إلى أن الوضع الأمني الذي تعيشه إسرائيل يعتبر إفلاساً أمنياً.
يقول الدكتور
عبد الوهاب المسيري تعليقا على هذا: "لقد وصل العقل الإسرائيلي مرة أخرى إلى حالة "اين بريرا". وهي عبارة تعني " لا خيار "، وكانت تعني في الماضي أن المستوطن الإسرائيلي محكوم عليه بالدخول في حروب مستمرة الواحدة تلو الأخرى لمدة طويلة، ولكن كان الاعتقاد الصهيوني الراسخ أن ثمة مخرجاً في نهاية النفق المظلم من خلال ما يسميه الفكر الأمني الإسرائيلي "الحائط الحديدي"، أي أن يبني المستوطنون حائطاً حديدياً حول أنفسهم لا يمكن للعرب اختراقه، مما يضطرهم للرضوخ للأمر الواقع والاقتناع بأنه لا يمكن هزيمة هؤلاء الوافدين من الغرب".
ولكن بدلا من الحائط الحديدي .. ظهرت عبارة "العجز الأمني " فهي حالة من "اين بريرا " دون أمل. أو كما قال أحد الكتاب في
معاريف (30/1/2002):
"إن المجتمع الإسرائيلي يشعر باليأس مثل قطيع بلا راعٍ محاط بذئاب مجنونة " نعم. مثل قطيع من الغنم بلا راع لكن محاط بأسود باسلة!!
ونختم هذه الشهادات بشهادة وزير المالية اليهودي التي أوردها في خطابه أثناء مناقشة ميزانية هذا العام فقد قال: " كنا نحارب ونحارب على الحدود، أما في هاتين السنتين فإننا نحارب ونحارب في كل مكان، في الشوارع، والفنادق، والمطاعم، والمستوطنات .. في البر، وفي البحر "
وصدق الله تعالى: ((
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ... ))[النساء:104] الآية.