القاعدة الثانية: فـ(َأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)
لقد قلبت هذه الانتفاضة معايير الحروب، وغيّرت منهج التفكير الاستراتيجي العسكري الذي ظل العالم الحديث ينتهجه ويطبقه؛ حيث خرجت بالحرب من مفهومها التقليدي -معركة بين جيشين- ووضعتها في قالب جديد، ويمكن أن نعبر عن هذا في شكل نظرية تقول:
" حينما تنهار الجيوش النظامية أو لا توجد، فإن المقاومة تنتقل إلى مجموعات تتشكل ذاتياً، وتؤمن بالقضية إلى حد التضحية المطلقة؛ وبذلك يدخل العدو في مرحلة الحرب غير المتوازية".
و(الحرب غير المتوازية) مصطلح جديد وضعته لجنة من الخبراء الأمريكيين للتعبير عن النوع الآخر للحرب غير المتوازنة.
ومثال الحرب غير المتوازنة: ما حدث بين التحالف الدولي والعراق، في حين كانت الحرب بين حلفي الناتو ووارسو لو نشبت- نوعاً من الحرب المتوازية.
أما الحرب غير المتوازية فهي كما عرفتها اللجنة:
" التفاف قوة خفية على جيش تقليدي، وضربه في مقاتله، وتحطيم روحه المعنوية، وشلِّ قدرته على المقاومة" وهذا هو أخطر أنواع الحروب!
هذا التعريف لم يستنتجوه عقلياً، بل هو وصف لما حدث في فلسطين، ولما هو متوقع في أمريكا، لو تطورت الأعمال الإرهابية فيها على يد مواطنيها أو غيرهم.
فالانتفاضة هي المثال الحي الشاهد على هذا النوع من الحرب، فقبل قيامها تخلت الجيوش العربية النظامية عن واجبها، ووجد الجندي العربي حاله كما قال الشاعر:
خندقي قبري وقبري خندقي وزنادي صامت لم ينطقِ
بل الواقع أن الحال أشد من ذلك؛ فزناده ناطق على من يعبر الحدود من المجاهدين لقتال العدو!!
والجيش اليهودي أقوى جيوش المنطقة، وخامس جيش في العالم -كما يقول كثيرون- بل إن الشعب اليهودي كله جيش، وقد عبر عن ذلك أحد المراقبين اليهود قائلا: " كل شعوب العالم تملك جيشاً إلا في إسرائيل فإنها جيش يملك شعباً"!!
وحينذاك رسخت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، والذي لم يعد يهدد الجيوش العربية وحدها .. بل بلغت غطرسته إلى حد التحرش بالجيوش الإسلامية القوية كالجيش الباكستاني مثلاً، فقد جرى التفاهم بين اليهود والهنود على ضرب المفاعلات النووية في هذا البلد، أما تهديد إيران فتحول إلى ما يشبه اللازمة المتكررة!!
لكن الانتفاضة المباركة أدخلت هذا الجيش في نفق الحرب غير المتوازية وجعلته في أسوأ حالة له منذ نشوئه!!
كيف حدث ذلك؟ حدث من خلال:-
- تحويل التفوق النوعي له (بالقنابل والصواريخ المتطورة وغيرها ) إلى قوة محايدة !!
- وتهشيم بنية الردع العسكري.
- وإحباط نظرية المجتمع الآمن، وإحلال مفهوم المجتمع المذعور محلّها.
فقد انتهجت الانتفاضة أسلوب ضرب كل هدف في كل مكان بأي شيء ممكن، وهكذا فقدت الأسلحة التقليدية من وسائل الهجوم أو الردع قيمتها أو كادت، فالصاروخ المطور بمعونة أمريكية يمكنه تهديد عاصمة عربية، أو تدمير قاعدة عسكرية عربية، لكنه لا يستطيع التقاط استشهادي من مستوطنة أو حافلة !! والمفاعلات النووية تتحول من مركز القوة الأعظم إلى هدف مفضل للمهاجمين الاستشهاديين، وإلى مصدر خطر هائل على الدولة وهلم جرا.
وهكذا يصدق على الدولة اليهودية قوله تعالى عن أسلافهم: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ))[الحشر:2].
وإن مما يؤكد هذا من فم العدو: أن المحللين اليهود يلجئون إلى اللغة المجازية والتمثيلية في الحديث عن هذا النوع الجديد من الحرب الذي فرضته عليهم الانتفاضة:-
فمثلا يعبر "يوري أفنيري" الذي كان عضواً في الكنيست عن هذا بمثال:
"دخل ملاكمان الحلبة: واحد منهما بطل الوزن الثقيل، والآخر وزن الريشة، ويتوقع الجميع أن يقوم البطل بتسديد ضربة قاضية تقضي على غريمه الهزيل في الجولة الأولى.
ولكن بأعجوبة تنتهي الجولة الأولى، والضربة القاضية لم تسدد بعد، ثم الجولة الثانية، ويستمر نفس الوضع، وبعد الجولتين الثالثة والرابعة لا يزال خفيف الريشة واقفاً، مما يعني أنه هو الرابح الحقيقي، لا بالضربة القاضية ولا بالنقط، وإنما لمجرد أنه لا يزال واقفاً ومستمراً في الصراع مع غريمه القوي".
ويعبر آخر عن هذا بأنه:
"معركة بين قوة لا يمكن مقاومتها، وشيء لا يمكن تحريكه "
أي كما لو كان الجيش اليهودي مدفعاً عملاقاً ولكنه يضرب جبلاً من الفولاذ !!
والواقع أننا لا نحتاج إلى هذه الأمثلة؛ فنحن نشاهد الأمثلة الحية واقعياً بين الشباب الأبطال الذين يواجهون الدبابات بالحجارة!!
أما تدمير الدبابة الخرافية (مركفا) فدلالته أكبر من هذا، إنها علامة على أن العقل المؤمن أفاق، وأن في إمكانه أن يخترع ويصنع من المواد البدائية ما تحتاج الدول الكبرى إلى مصانع باهظة التكلفة لإنتاجه.
وعن هذا التحول الخطير في نوع الحرب يتحدث الخبير اليهودي السابق ذكره "فان كرفيلد " فيقول:
"لا نجد جيشاً نظامياً نجح في مواجهة انتفاضة كالتي نواجهها، ما يحدث معنا اليوم هو ما حدث مع الأمريكيين في فيتنام، والإسرائيليين في لبنان، والروس في أفغانستان، وهذا ما سيحدث معنا مرة أخرى، وهذا ما سيحدث للأمريكيين في أفغانستان".
فيقول له الصحفي: ألا يوجد لديك مثال مخالف؟
قال: أنا لا أعرف مثالاً مخالفاً، إننا ندير حرباً للطرف الآخر فيها كل الإيجابيات، فنحن نقاتل في ملعبه ... الجيش اليوم موجود في الجانب غير الصحيح، في الجهة التي سيحكم عليها بالفشل".
ويقول: " لدينا قوة كبيرة، ولكن معظم هذه القوة لا يمكننا أن نستعمله، وحتى لو استعملناه فثمة شك في نجاحه، فالأمريكيون أنـزلوا ستة ملايين طن من القنابل على فيتنام، ولا أذكر أن هذا الأمر نفعهم"!!
وحين سأله: حالياً تشير الأرقام إلى أننا نقتل منهم أكثر مما يقتلون منا ؟
قال: " هذا غير موضوعي .. في هذه الحرب يقتل الكثير من المنتفضين لكنهم يكسبون الحرب، لقد قتل (50) ألف أمريكي و(3) ملايين فيتنامي، وعدة آلاف من الفرنسيين مقابل (300) ألف جزائري، وفي البلقان قتل عشرات الآلاف من الجنود الألمان مقابل (800) ألف يوغسلافي، فالأرقام شيء غير مهم، هذا إلى جانب أن الفلسطينيين لم يدفعوا ثمناً باهظاً على عكس ما نسمع عندنا".
ويفهم الصحفي من هذا أن الحل هو إعادة نمط الحرب التقليدية فيقول:
" ربما الأفضل لإسرائيل أن تقوم للفلسطينيين دولة ذات جيش نظامي وضعيف يمكننا أن ننتصر عليه؟
فيجيب الخبير: " ليس عندي أدنى شك بذلك،، تحدثت بالأمس مع صديق أمريكي وهذا ما قاله لي: لماذا لا تسمحون لهم أن يقيموا دولتهم، وبعد ذلك يمكنكم أن تقذفوا بهم إلى الخارج متى أردتم خلال خمس دقائق .. هذا صحيح"؟!
أما عندما سأله عن: " ماذا سيحدث للجيش إذا دعي لمقاتلة جيش نظامي كـسورية أو لبنان "؟!
قال: " تخميني أنه سيهرب، فإذا ما انفجرت حرب مثل حرب (1973م)، فإن غالبية الجيش -وليس كله- ستضع رجليها على ظهرها وتولي هاربة ".
وعن الطرف الآخر يقول:
" فيما يتعلق بالفلسطينيين فإن هذا الأمر يعمل بشكل عكسي تماماً، فهم يملكون دائماً ثقة بالنفس عالية... ويمكنك أن تلاحظ تردي الأوضاع عندنا من خلال السنوات المنصرمة، كيف أن فضيحة تتبعها فضيحة، وفشل يتبعه فشل، فالرجال يرفضون الخدمة العسكرية والجنود يبكون على القبور، في نظري أن هذا البكاء أحد أغرب الأمور، ولو كان بوسعي فعل شيء لمنعت بث هذه المشاهد وهذه الصور، ومن الجهة المقابلة أنت ترى رغبة شديدة في الانتقام، ومعنويات عالية، وما عليك إلا أن تقارن الجنازات حتى تفهم لمن توجد همة عالية أكثر، ومعنويات أعلى: عندنا ينوحون، وعندهم يطلبون الانتقام.. إننا نقترب من نقطة سيفعل الفلسطينيون بنا ما فعله المجاهدون الأفغان بالجنود السوفييت في أفغانستان، وما فعلته جبهة التحرير الوطني الجزائرية في الفرنسيين في الجزائر".
ويقول زئيف شيف -أهم معلق عسكري في إسرائيل- في وضوح كامل في هآرتس (4/3/2002): "إن العمليات الفدائية الفلسطينية تنتمي إلى حرب العصابات وليس للإرهاب" وهذه شهادة مهمة على التحول الكبير في المقاومة.
أما يوئيل ماركوس فيشير في مقال له في هآرتس (13/11/2001) إلى فشل إسرائيل في القضاء على ما سماه "الإرهاب القومي" بالقوة.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:- ومن الواضح أن الكاتب يخاف من الحديث عن الانتفاضة باعتبارها مقاومة مشروعة، ولذا يتخفى وراء عبارة "الإرهاب القومي" إلا أنه يعني، في واقع الأمر، "المقاومة الشعبية"، أو "حرب التحرير"، ومما يدعِّم هذا الرأي: أنه هو نفسه يقول: إن فشل إسرائيل ليس فريداً "ففي القرن العشرين لم تنجح دولة في العالم في القضاء على الإرهاب القومي"، وهو بذلك يستدعي -عن غير وعي- إلى عقل المستوطنين الصهاينة تاريخ حركات المقاومة في أفريقيا وآسيا، وهي الحركات التي نجحت في هزيمة الجيوش الاستعمارية وتصفية الجيوب الاستيطانية، سواء في الجزائر أم جنوب أفريقيا.
ويتساءل أبراهام يهوشع في (يديعوت أحرونوت 22/1/2002): "هل بإمكانكم أن تأتوا بمثال واحد من التاريخ نجح فيه شعب في السيطرة على شعب آخر لفترة طويلة؟ هل تعرفون مكاناً واحداً في العالم يعيش فيه بشر دون حقوق إنسان مثل الفلسطينيين؟"
إن ما يُسمى "الإرهاب" ليس إرهاباً، بل هو حرب تحرير؛ لأن الفلسطينيين ليسوا مجرد مجموعة متناثرة من المحاربين، بل هم شعب بأسره له تاريخه ومؤسساته الحضارية، وهذا ما يبيِّنه مايكل بن مائير في (هآرتس 3 مارس 2002م) إذ يقول:
إن الانتفاضة هي حرب التحرير التي يخوضها الشعب الفلسطيني، فالتاريخ يعلمنا أنه لا توجد أمة على استعداد أن تعيش تحت هيمنة شعب آخر، وأن حرب التحرير التي يخوضها شعب مضطهد ستنجح حتماً والإسرائيليون كقوة احتلال يقتلون الأطفال، ويقومون بتنفيذ حكم الإعدام في أشخاص مطلوبين دون محاكمة، لقد أقمنا الحواجز التي حوَّلت حياة الملايين إلى كابوس... إن علماً أسود يرفرف فوق أفعالنا.. إن نظام الاحتلال يقوض المبادئ الأخلاقية ويمنع التوصل إلى سلام، وهكذا فهو يهدِّد وجود إسرائيل.
ولأنها حرب تحرير يشنها المضطَّهد صاحب الحق السليب، فإحساسه بشرعية جهاده يشد من أزره ويحفزه على الاستمرار في الحرب بلا هوادة".
وكما يقول يوزي بنـزمان في (هآرتس 3 مارس 2002م):
فلنتخيل أن كل الأوهام تحققت، وقبضنا على كل الإرهابيين، وصادرنا كل الأسلحة، وحطمنا كل مصانع السلاح حيث تُصنَّع المدافع والصواريخ، فهل سيكون لهذا أي تأثير؟ هل يشك أحد أنه في الصباح التالي ستظهر مصانع سلاح أخرى ستنتج المزيد من الأسلحة التي ستُستخدم ضد إسرائيل؟ هل يشك أحد في أنه في هذا الصباح هناك مئات من الفلسطينيين يذهبون إلى مراكز التنظيم وحماس يعلنون أنهم على استعداد أن يشنوا هجوماً على إسرائيل؟ هل نفد خزان الانتحاريين من نابلس وقطاع غزة؟
ولم يكن يوزي بنـزمان هو من أول من أدرك ذلك، إذ يُروى عن إسحاق رابين أنه عندما نشبت انتفاضة (1987م) سأله الجنود: "من أين يأتي مئات المتظاهرين الذين يلقون بالحجارة علينا؟!" (إبراهام يهوشع - نقلاً عن السفير 25/2/2002).
أما جرشون باسكين المدير العام المشترك للمنظمة الإسرائيلية الفلسطينية للبحوث والمعلومات فكتب يقول:
"إن الفلسطينيين يعرفون أن قوتهم العسكرية أقل بأضعاف من القوة الإسرائيلية، وأنه لا توجد أمامهم أية إمكانية للفوز في أرض المعركة، ولكنهم يؤمنون من الناحية الأخرى بتفوقهم السياسي والأخلاقي، واعتقادهم هو: أن العدل والتاريخ يقفان إلى جانبهم، وهم يقولون: إن إسرائيل هي المحتل الأخير المتبقي في العالم، وأن أحداً لا يستطيع أن يوقف نصرهم في حرب التحرير التي يخوضونها من الاحتلال الأجنبي .. اعتقادهم هو أن اتباع تكتيك مثل حزب الله سيحقق غاياته، وأن الخسائر الفادحة التي تلحقها إسرائيل بهم تعزز من معنوياتهم، وتشكل الفصل الأهم في الرواية الفلسطينية. واستناداً إلى تجربة عملية أوسلو الفاشلة، فهم يعتقدون أنهم لن يتمكنوا من انتزاع انسحاب كامل من المناطق من إسرائيل من خلال المفاوضات السياسية، وهم مقتنعون أنهم سيحققون ذلك في نهاية المطاف من خلال الكفاح الذي يخوضونه الآن" أي: من خلال حرب التحرير الفلسطينية.
ولأنها حركة تحرير، فإن حملة شارون الأخيرة للقضاء على الانتفاضة، وعلى ما يسمونه البنية التحتية للإرهاب، محكوم عليها بالفشل، فهي "إعلان حرب على الشعب الفلسطيني كله"، فالبنية التحتية المشار إليها قد تكون كما قال عوزي في (هآرتس 31/3/2003) "بعض الورش والمباني وبضع عشرات من القيادات والمخازن، وعشرات الآلاف من الأشخاص الحاملين للسلاح، ولكنها أيضاً المجموعة السكانية الفلسطينية التي تعيش في الضفة والقطاع، التي توفر الدعم الأخلاقي والحقيقي للمخربين، وباسم هذه المجموعة يهاجمون إسرائيل، وإليها يعودون لإيجاد مخبأ لهم؛ ولذا فإسرائيل غير قادرة على مطاردة كل واحد من آلاف المخربين الفلسطينيين" وبعبارة واحدة: إن الأرض المحتلة تنفجر تحت أقدام اليهود أينما ذهبوا، والترسانة العسكرية الهائلة تدور أعينها، ولكن العجز ينخر فيها من داخلها!!