وكلا طرفي المعركة غيّر :-
الطرف الأول: إخواننا الفلسطينيون غيروا من الخضوع إلى المقاومة، ومن الخوف إلى الشجاعة، ومن الفرار إلى الثبات، ومن الاتكال على الحكومات إلى التوكل على الله والثقة في الذات.
وأهم تغيير في الحقيقة هو أنهم غيروا من ضعف الإيمان، وقلة التدين، والانخراط في المنظومات العقدية الوضعية (من اشتراكية وقومية وناصرية ووطنية) إلى قوة الإيمان وانتشار التدين، والانضواء تحت راية الإسلام والجهاد.
ومن مظاهر ذلك التغيّر:-
1- الإقبال على الشهادة في سبيل الله بشكل لا نظير له من قبل: فكلمة الشهادة هي الكلمة التي تردد على الشفاه عند كل لقاء مع الصغير والكبير والذكر والأنثى؛ وبقدر ما يتخلصون من الوهن -حب الدنيا وكراهية الموت- يقذفه الله في قلوب أعدائهم.
2- الإقبال على كتاب الله: ففي كل حي أو قرية تقريباً أقيمت حلقة لتحفيظ القرآن أو أكثر، وعددها الآن في الضفة والقطاع يقارب الألف حلقة، نعم. ألف حلقة قابلة للنمو بعد أن لم يكن شيء!!
3- الاهتمام بالعلم الشرعي وانتشار حلقاته وكتبه ووسائله الحديثة: وهذا يعبر عنه ظهور المصطلحات الإيمانية والعلمية في لغة الخطاب السياسي فضلاً عن غيره.
4- الاهتمام بالأرامل والفقراء وإنشاء لجان الزكاة ودور الرعاية في كل حي أو قرية تقريباً، مما جعل التكافل الاجتماعي في الأرض المحتلة مضرب المثل: وفي ذلك إحياء لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله، واستجلاب لنصر الله الذي جرت سنته ألاّ يخزي من كان هذا حاله.
5- الاهتمام بالتربية الإسلامية: مثل المحاضن التربوية والمراكز الصيفية والمهرجانات والمسابقات ... إلى آخر ما يسهم في التوعية العامة للأمة.
6- محاربة الفساد والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فقد صاحب قيام الانتفاضة حملة انتفاضة على دور السينما والفساد وكثير منها أغلق، وضعفت مظاهر الضياع بين الشباب بعد أن كان اليهود والسلطة يعملون لتدمير أخلاقه.
7- الإقبال على الحج والعمرة وزيارة الحرمين الشريفين، ومتابعة إذاعات القرآن الكريم والبرامج الإعلامية الإسلامية في الإعلام الخارجي.
- والملاحظ جيداً: أن كل هذه المجالات يعمل بها منظمات ومؤسسات متخصصة ومتنوعة الأغراض .. الأمر الذي يبشر ببناء اجتماعي جديد يقوم على الدين ويوازي البناء الجهادي المحكم والمنظم.
كما أن النشاط الدعوي لم يعد محصوراً في فئة أو طبقة، بل انتشر ليدخل كل الفئات والقطاعات بما في ذلك بعض المنتمين إلى المنظمات العلمانية.
كما تحول أدب المقاومة شعراً ونثراً من النظرة الوطنية إلى الأفق الإيماني، واقرءوا إن شئتم وصايا الشهداء- بإذن الله- ومنها وصية الشيخ القائد المجاهد صلاح شحاده رحمه الله.
ومما يؤكد هذا التغير العميق: أن تشهد المناطق المحتلة منذ سنة (1368هـ 1948م) نهضة إيمانية تسر المؤمنين وتَغيظ اليهود وأولياءهم.
هذا، وأهلها هم الفئة التي ظلت محرومة مقطوعة، وأريد لها أن تتهود لغة وفكراً! وتنسلخ من دينها ولغتها.
وإن الأنشطة التي يقوم عليها المسلمون داخل تلك المنطقة من التنظيم والتنوع بحيث تمثل خير شاهد على قوة الإيمان وعمق التدين والثقة في المستقبل بإذن الله.
ومن مظاهر ذلك:-
1- إنشاء حلقات لتحفيظ القرآن بعد أن كاد ينسى، وقد بلغ عدد المنضمين لها حوالي أربعة آلاف وخمسمائة طالب وطالبة من الكبار والصغار.
2- إحياء المساجد المندثرة في تلك المنطقة، وتجديدها وحفظ الأوقاف الإسلامية.
3- إيجاد إعلام إسلامي متميز مثل صحيفة صوت الحق والحرية التي لو وقعت في يدك لما تركتها حتى تقرأها حرفاً حرفاً!!
4- تنظيم المهرجانات واللقاءات التي يحضرها عشرات الألوف لإحياء الروح الإيمانية، والتذكير بالقضية الإسلامية لاسيما قضية المسجد الأقصى المبارك.
ومن المبشرات بهذا الشأن: أن عدد المسلمين داخل هذه المنطقة مليون ومائتا ألف، أي أكثر من (20%) ممن يسمون سكان إسرائيل، وأن أنشطتهم تتخذ شكلاً منهجياً وتنظيمياً يدل على العقول الكبيرة المستنيرة التي ترتبه، ومن ذلك:-
1- مسيرة البيارق: وما أعظمها من فكرة وما أروعها من مسيرة! حين خنق اليهود المسجد الأقصى وقطعوا السبل للوصول إليه من المناطق الفلسطينية ابتكرت الحركة الإسلامية داخل الدولة اليهودية خطة تسيير عشرات الحافلات الملأى بالمصلين من الداخل إلى المسجد المبارك يومياً، وأحيت فيه الحلقات العلمية، فمثلاً: في درس الثلاثاء بين المغرب والعشاء للشيخ رائد فتحي يحضر ما بين (6_7) آلاف نسمة، فانظروا بالله كم من المصالح تحققت في هذا!
2- مؤسسة إعمار الأقصى ( إعمار بناء وإعمار علم )، في مقابل الأيدي اليهودية الهدامة قامت الأيدي المؤمنة البناءة بهذا المشروع الرائد المتعدد الفوائد، وفتحت باب الأمل في ليل اليأس وزمن النواح بلا عمل.
3- مؤسسة حراء لتحفيظ القرآن.
4- مؤسسة اقرأ.
5- مؤسسة الإغاثة الإنسانية.
6- صندوق طفل الأقصى لربط النشء الجديد بالمسجد، وإقامة احتفالات لهم في ساحة المسجد الأقصى كان عدد الحضور في آخرها (60) ألفاً.
- وبإيجاز: نبشر الإخوة الدعاة في كل مكان بأن الصحوة داخل هذه المنطقة متميزة، في منهجها وقياداتها ومجالاتها المتنوعة، وهي تبشر بالمستقبل المشرق لهذا الدين، وتعطي الدليل على أن الله مظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
إن من أهم ملامح التغيير: تطوير الانتفاضة ذاتها، ففي المرحلة الأولى كانت انتفاضة الحجر التي نجحت في إظهار حقيقة الاحتلال، وتكذيب خرافة: (أرض بلا شعب)، ووضعت بذرة الحرب غير المتوازية التي سيأتي الحديث عنها.
أما الانتفاضة الحالية فهي باعتراف عدد من قادة الفكر والحرب اليهود: (حرب تحرير وثورة شاملة متنوعة الميادين):
عمليات إستشهادية .. إطلاق صواريخ .. هجوم على المستوطنات .. إطلاق قذائف الهاون .. تفجير دبابات .. تطوير متفجرات .. قتل بالسلاح الأبيض .. هجمات على القواعد .. استخبارات قوية تلاحق الشخصيات اليهودية الكبيرة .. استمالة بعض اليهود مقابل رشوة، وقد بلغ مجموع العمليات العسكرية للانتفاضة خلال سنتين (14000) عملية، مابين عملية استشهادية إلى هجوم بالرصاص أو بالسلاح الأبيض!!
هذا غير الآثار الكبرى على الأمن والاقتصاد والحالة المعنوية لليهود مما يتشعب الحديث عنه ونأتي على بعضه في الفقرات التالية بإذن الله.
وفي الطرف الآخر حدث التغير عند اليهود:-
كانت الجماعات اليهودية المؤسسة للكيان اليهودي كتائب حرب منظمة ومدربة، والمستوطنون كانوا رجال عقيدة وإرادة، والدافع لهم ديني قبل كل شيء، وكانت الهجرة عبادة وتضحية، وكان التوحد في الأهداف والمواقف ظاهراً، والفروق الاجتماعية والعرقية تكاد تكون ملغاة .
أما الآن فقد ظهر جيل الترف والأمراض الاجتماعية، الجيل الذي يبحث عن المتعة الرخيصة بأي ثمن، ولا يؤمن بأي مبدأ أو قيمة، وكثرت مظاهر التراخي والتفرق، فالجنود يهربون من الخدمة، والمستوطنون يبحثون عن الرفاهية، والسياسيون انتهازيون، والوعود التوراتية لم يعد لها بريق، والشباب يدمنون المخدرات، والتمييز العنصري على أشده؛ الأمر الذي جعل قادة الفكر اليهودي يشعرون بهذا التغير ويتحدثون عنه قبل قيام الانتفاضة.
ومنهم مثلاً المفكر المشهور "يشيعا لاييوفيتش" الذي يعد من أبرز رافضي الاحتلال .. بل قال: إن احتلال الضفة وغزة هو بداية الأفول، وصرح بأن على الشعب اليهودي بكل فئاته أن يشكل حركة ترفع شعار رفض الأوامر .
هذا المفكر يتحدث عن التغيير قائلاً:
"إن الذين تلقوا نوعاً من التربية انقلبوا إلى ضدها، فالاشتراكيون أصبحوا فاشيين، والمتدينون أصبحوا ملحدين"!!
وهكذا غيروا من الإرادة إلى الخور، ومن حب التضحية إلى إيثار الرفاهية، ومن الاستيطان إلى الهجرة، ومن الانخراط في الجيش إلى الهروب منه .
وكل هذا له شواهد وإحصاءات ذات أرقام دالة نأتي عليها في مواضعها بإذن الله.
فلننظر ماذا قال الخبير الاستراتيجي اليهودي "فان كرفيلد " -وهو أستاذ الدراسات العسكرية في الجامعة العبرية وعدد من الأكاديميات العسكرية- حين يتحدث عن هذا التغيير ونتائجه، وكيف ربطه بكل جرأة وصراحة بنهاية دولة إسرائيل!!
يقول: " في عام (1994م) دعيت لإلقاء محاضرة في هيئة الأركان الصهيونية العامة، وكان قائدها آنذاك إيهود باراك -رئيس الوزراء فيما بعد- لقد خرجت من المحاضرة مصعوقاً من مستوى وسلوك الجنرالات آنذاك، فبعضهم انشغل في أكل الساندويتشات، والآخر تكلم، والبعض ثرثر، ورابع لعب في الأوراق التي أمامه، وبعضهم انشغل بالحواسيب يلعب بها كالأولاد الصغار، لقد فعلوا في أثناء المحاضرة كل ما يفعله طالب فوضوي، ما عدا قذفهم المحاضر بالأوراق! ولقد سألت باراك إن كانت هذه الفوضى دائماً تحدث أثناء المحاضرة، فأجاب: " بشكل عام.. الوضع أكثر صعوبة " إن مستوى الفوضى لدى الضباط فاجأني، إنهم مجموعة من المتخلفين، ولم ألتق بمجموعة جاهلة كهذه المجموعة في أي إطار، وهم أشد جهلاً في موضوعهم "الجيش الإسرائيلي" بما في ذلك تاريخ ونظريات الجيش".
فيقول له الصحفي: إذن: ماذا يتعلمون في الدورات ؟
فيجيب: "الله وحده يعلم".
فيعود ليقول له: إذن: نحن في طريقنا إلى البحر؟
فيجيب:إذا استمر الوضع على ما هو عليه فإننا سنصل إلى تفكيك "دولة إسرائيل" ليس عندي شك في ذلك، والدلائل موجودة، ولكن قبل أن نتفكك نهائياً ستنشب هنا حرب أهلية، وهذا هو الخط الأحمر بالنسبة لي، ولو وقعت جريمة قتل أخرى كتلك التي حدثت لـرابين فسأرحل أنا وعائلتي تاركاً أبناء شعبي الذين أحبهم هنا؛ ليقتل الواحد منهم الآخر " أهـ.
وقد عبرت الصحافة الإسرائيلية عن مظاهر هذا التغير ونتائجه في الواقع، ومن أبرز الأمثلة على ذلك مقالة الكاتب "يغال سآرنا " في يديعوت أحرونوت (23/10/2002) التي جعل عنوانها " دولة شارون" مع ملاحظة أن الكاتب يتحاشى نسبة التأثير إلى الانتفاضة ويعزوه كله إلى شارون:
"دولة شارون!
صورة دولة صغيرة قامت قبل عامين في الشرق الأوسط على خرائب دولة مختلفة تماماً!
أهلاً بالقادمين إلى دولة شارون . دولة شرق أوسطية صغيرة، أقيمت عام (2001م) على أنقاض إسرائيل القديمة.
لقد هبطتم الآن في (مطار بن غوريون) الذي يحمل اسم أول رئيس حكومة لإسرائيل، الرجل الذي أرسل ضابط المظليات أريئيل شارون للقيام بمهام انتقامية وراء الحدود.
هنا سيتم فحصكم جيداً، فإذا تبين أنكم من نشطاء السلام الفرنسيين سيتم طردكم فوراً إلى أوروبا، وإذا تبين أنكم عمال أجانب فسيتم اعتقالكم، إلا إذا كنتم من عمال المزرعة الخاصة برئيس الحكومة.
شيقل شارون يساوي أقل من شيقل دولة إسرائيل لعام (2000م).
الاقتصاد الذي اعتبر أحد أكثر الاقتصادات تطوراً في العالم في أيام الهدوء التي شهدتها البلاد، يمر الآن في حالة أفول عاجلة.
عبر الإذاعة .. داخل سيارة الأجرة ستستمعون إلى المقرب من رئيس الحكومة الذي يقدم برنامجاً إخبارياً .. لقد اختفى كثير من المذيعين المستقلين!
ستستمعون إلى لقاءات مع وزراء وممثلي جماعات متعصبة وغيبية يتحدثون فيها عن "الترانسفير" والانتقام.
المحللون العسكريون يصفون بتحمس عمليات الاغتيال والإحباط .. فالاغتيال بواسطة صواريخ أطلقتها المروحيات أو الوحدات الخاصة، يتم تنفيذه بمصادقة رسمية من الدولة، ويشارك رئيس الحكومة في المصادقة على عمليات الاغتيال .. أعضاء المجلس الوزاري المصغر، والمجلس الوزاري المصغر يضم أيضاً الحائز على جائزة نوبل للسلام .. السيد شمعون بيرس!!
الحواجز على مداخل المدن قليلة، لكنكم ستجدون حارساً يقف على مدخل كل فندق وكل مقهى وكل مطعم عرفتموه في السابق.
إنه الشخص الذي يفحص الحقائب والجسد، وعادة ما يكون مهاجراً جديداً أبدى استعداده مقابل أجر بخس وفرشة يأوي إليها؛ للتضحية بحياته عندما يحاول الانتحاري تفجير المكان.
اجلسوا بعيداً عن الباب، ويفضل أن تجلسوا وراء حائط أو عمود. إذا جلستم في الخارج ستلاحظون ازدياد عدد المتسولين بشكل هائل.
في المقهى ستجدون الرجال والنساء يقلبون صفحات الجريدة بحثاً عن إعلانات "المطلوبين" للعمل.
الكثير من أبناء الطبقة الوسطى -العمود الفقري لدولة إسرائيل القديمة- يواجهون مصاعب اقتصادية تصل حد الانهيار؛ إنهم يحتسون القهوة على حساب ما وفروه في الأيام الجيدة وينتظرون التغيير.
عندما تسافرون في دولة شارون احذروا السفر في الباصات التي كانت تعتبر في الماضي أكثر الوسائل المريحة للسفر ومشاهدة البلاد .. ابتعدوا عن القدس .. انسوا بيت لحم.
إذا استأجرتم سيارة فاحذروا؛ إذ تعاظم عنف السائقين بسبب تسلل طوابع الوحشية العسكرية إلى المجتمع.
يحتمل أن تسمعوا كثيراً عن وسيلة النقل الجديدة المسماة "بولدوزر مصفح"، إنها سيارة يمكنها محو حارة بأكملها خلال ساعة، وهي نتاج اختراع محلي استبدل بإنتاج الرقائق الإلكترونية المتطورة!
إذا أصررتم على مشاهدة مباراة كرة قدم فاحذروا .. إذ انتقل رشق الحجارة من ساحات القتل إلى قلب الدولة.
احذروا التحدث إلى المحليين؛ فقد اختفى الانفتاح والحوار الإسرائيليين، لقد أخْلت روح الدعابة الإسرائيلية مكانها لصالح التزمت والأسلوب السافل!
لا تشجبوا علانية قتل المدنيين في الجانب الآخر.
أصغوا بصمت إلى المتحدث إليكم، وهزوا رءوسكم علامة على الموافقة على أقواله فقط.
أصغوا إلى التذمر الشديد إزاء وحشية العدو، ولا تذكروا مصطلحات مثل الحل السياسي وأخلاق القتال والتحقيقات والسلام أو المفاوضات.
سيسهل عليكم جداً إقامة شبكة علاقات رومانسية مستقرة، إذا ركزتم الحديث عن تحالف الشر بين القاعدة وعرفات.
إذا صادفتم لقاء مثقفين؛ أصغوا بأدب إلى مهاترات كتاب البلاط الهامشيين الذين احتلوا مقاعد الكتاب المناقشين في الدولة القديمة.
لدى خروجكم من دولة شارون لا تعبروا علانية وأنتم في المطار عن شعوركم بالارتياح، انتظروا حتى تهبط طائراتكم في بلادكم.
احتفظوا بآرائكم حول التغيير الدراماتيكي الذي طرأ على الدولة القديمة، وبرأيكم بشأن عمليات الاغتيال والانتقام والبولدوزرات؛ للتعبير عنها في لقاءاتكم العائلية.
لا تعربوا عن انتقاداتكم كتابة، فقد لا تتمكنوا من العودة إلى دولة شارون. صونوا داخل قلوبكم ذكرى الأصدقاء والأحباب، الذين خلفتموهم هناك" أهـ.