المادة    
قال المصنف رحمه الله: [الخامس عشر: شهادته صلى الله عليه وسلم لمن قال: إن ربه في السماء بالإيمان.
السادس عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى، فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السماوات، فقال: (( يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ))[غافر:36-37]، فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني، ومن أثبته، فهو موسوي محمدي.
السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة، فيصعد إلى ربه، ثم يعود إلى موسى عدة مرار.
الثامن عشر: النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى من الكتاب والسنة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، ولا يرونه إلا من فوقهم: كما قال صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة، سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: (( سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ))[يس:58] ثم يتوارى عنهم، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم). رواه الإمام أحمد في المسند وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه.
ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية، ولهذا طرد الجهمية النفيين، وصدّق أهل السنة بالأمرين معاً، وأقروا بهما، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله، وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك!
وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جداً؛ فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه (الفاروق) بسنده إلى أبي مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقال: قد كفر، لأن الله يقول: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5] وعرشه فوق سبع سماوات، قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، قال: هو كافر، لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء، فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى، لا من أسفل. انتهى.
ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم، مخالفون له في كثير من اعتقاداته، وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم. وقصة أبي يوسف في استتابته لـبشر المريسي لما أنكر أن يكون الله فوق العرش مشهورة. رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره.]
ا.هـ.
الشرح:
ورد هذا في قوله عن الجارية: (أعتقها) وشهد لها بالإيمان كما في رواية أخرى صحيحة: {أعتقها فإنها مؤمنة}.
وأما الاعتراض على هذه الرواية بقول الإمام أحمد -كما في تعليق الشيخ الألباني رحمه الله على كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية- يقول الإمام أحمد: (ليس كل أحد يقول: فإنها مؤمنة) وهذا الكلام للإمام أحمد موجود في كتاب الإيمان - وهو مخطوط- وقد رواه عنه الخلال بسنده، ومراده أن بعض الروايات فيها (أعتقها) وبعضها فيها (أعتقها فإنها مؤمنة).
وهنا تعرض لنا قضية مهمة، وهي أننا إذا فهمنا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام العلماء على الوجه الصحيح، فلن نجد تعارضاً ولا تناقضاً.
والإمام أحمد كان يتكلم عن هذه الرواية في مقام الإيمان، لا في مقام الصفات؛ ذلك أن المرجئة يقولون: إن الناس متساوون في الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الجارية: {أعتقها فإنها مؤمنة} والجارية ما أتت بعمل وإنما أتت بالإقرار والقول فقط.
فيستدل المرجئة بذلك ويقولون: الإيمان هو النطق والإقرار فقط، والناس فيه سواء؛ لأن كل من يقول: (لا إله إلا الله) فهو مؤمن، فهم في الإيمان سواء، ولهذا رد عليهم الإمام أحمد، وفي رده لفتة فقهية من كمال فقهه فيقول: (ليس كل أحد يقول: فإنها مؤمنة) يعني: ليس كل الرواة رووا ( فإنها مؤمنة ) وإن كانت الرواية صحيحة، لكن الاكتفاء بقوله: (أعتقها) كافٍ في بيان مراد النبي صلى الله عليه وسلم. فيريد أن يقول: إن المقصود هنا ليس هو إثبات الإيمان، فالسؤال أصلاً لم يكن عن تفاضل الإيمان وإنما السؤال: هل تجزئ في العتق؟ لذا قال له: ( أعتقها ). لأنها لو لم تجزئ لما قال له: (أعتقها)، والرواية التي جاء فيها: {أعتقها فإنها مؤمنة} معناها: أعتقها؛ فإنها مسلمة أو مؤمنة إيماناً يجزئ في عتقها؛ فإيمانها هذا وإقرارها كافٍ بأن تكون رقبة مجزئة.
فهل الموضوع هو تفاضل الإيمان وزيادته ونقصانه، أو إثبات اسم الإيمان؟
الحقيقة أنه مقام إثبات اسم الإيمان، وهل هي من الكافرين أم من المؤمنين؟ وليس المقصود: هل هي من السابقين المقربين أم من أصحاب اليمين؟ وفرق بين هذا وذاك.
ولذلك فإن كلام الإمام أحمد رحمه الله في هذا المقام إنما هو للرد على المرجئة يقول: (ليس كل أحد يقول: فإنها مؤمنة) أي: أن السؤال كان عن الإعتاق وعن الإجزاء، وعندما قال: (أعتقها) أي: فإنها تجزئ، ورواية {فإنها مؤمنة} صحيحة لكن ليس السؤال عنها.
فشهادته صلى الله عليه وسلم كما هنا لمن قال: (إن ربه في السماء) بالإيمان حق في أن المثبت لعلو الله سبحانه وتعالى مؤمن.
ويوضح ذلك: ما رواه اللالكائي رحمه الله بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أنه كتب إلى قادة الجيوش، فكان من جملة ما كتب: [[وإذا أخرج أحد رأسه وأشار بيده إلى السماء فقتل فله القود]].
أي: إذا حاصر المسلمون حصناً من حصون الكفار، وخيروهم بين الخصال الثلاث التي كان يبعث بها النبي صلى الله عليه وسلم الجيوش، وهي: الإسلام، أو الجزية، أو السيف -القتال- فأبوا الإسلام والجزية، واختاروا القتال، وهم من العجم؛ من الفرس أو الترك أو البربر، وفيهم من لا يستطيع أن يقول: أسلمت، فكيف نفهم من أسلم منهم؟! يقول عمر رضي الله تعالى عنه: [[إذا أخرج أحدهم رأسه ورفع يديه إلى السماء فقتل فله القود]]، إذا قتل بعد أن أشار إلى السماء فإنه يقاد ممن قتله؛ لأنه قد أعلن وأظهر أنه مسلم؛ لأن تلك الإشارة تعني الإشارة إلى وحدانية الله سبحانه وتعالى وعلوه، فهذه علامة الموحدين المؤمنين، وهذا يصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد للجارية بالإيمان عندما قالت: إن الله في السماء.