المادة    
قال المصنف رحمه الله: [الرابع عشر: التصريح بلفظ (الأين) كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه: {أين الله؟} في غير موضع] ا.هـ.
الشرح:
الدليل الرابع عشر على علو الله تبارك وتعالى بما لا يحتمل التأويل: التصريح بلفظ (الأين)، أي بلفظ: (أين) كما صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وقد وصف المصنف رحمه الله النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث عبارات:
العبارة الأولى: [أعلم الخلق به] أي: بربه، فإذا وصف ربه بشيء، فهو أعلم به من كل أحد سواه.
العبارة الثانية: [وأنصحهم لأمته] ولا يمكن أن يغش نبي أمته أبداً، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والغش يقع فيما لو جعلهم يعتقدون في الله خلاف الحق، فهذا أعظم الغش؛ فذلك الذي يقول للناس: هذا دين الله وشرعه وأمره، ثم هو يأتيهم بالآراء والجهالات والضلالات والبدع، فيجعلها هي دين الله، ويأتي إلى السنن وإلى أوامر الله وإلى دين الله، فيقول: هذا ليس من الدين، هذا تنطع، تطرف، وهذه قشور ليست من الدين.. فذلك هو الغشاش الأكبر؛ لأنه لم يغش الناس في طعام أكلوه، وإنما غشهم في أعظم شيء وهو عقيدتهم ودينهم الذي به يرجون عند الله تعالى الفوز في الدنيا والآخرة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق للأمة، فلا يمكن أن يغشهم فيسأل عن ربه بلفظ وهو يريد سواه، أو يأتيهم بكلام ولا يبين معناه، ولو قرأ الإنسان في أي كتاب من كتب علم الكلام وسمع ما يقوله أولئك -وهم بزعمهم يريدون أن ينزهوا الله، فينفون عنه علوه، وينفون عنه (الأين) يقولون: (ولا يسأل عنه بـ(أين) تنزيهاً له) -لعجب من هؤلاء على من يفترون؟! وعمن يترفعون؟! أعلى أعلم الخلق بالله وأنصحهم لأمته؟!
إن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان ليغش أمته، فيسأل عن ربه بـ(أين) وهي تؤدي إلى التشبيه أو التمثيل، أو أنها من عقائد العرب في الجاهلية -كما تقدم ذكر من قال بذلك- وغير ذلك من التخريجات الباطلة؛ فهو صلى الله عليه وسلم أنصح للأمة من أن يلبس عليهم دينهم، كيف والله سبحانه وتعالى ينعى على أهل الكتاب أنهم يلبسون الحق بالباطل؟! يقول الله عنهم: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ))[آل عمران:71]، ويقول أيضاً عنهم: ((وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ))[آل عمران:78] أي: يقرأ أحدهم كتاب الله ويدخل فيه عبارات من عنده، فيظن السامع أن هذه العبارات من كتاب الله وهي ليست من كتاب الله، فهذا التلبيس من أقبح الدجل وأشنع الغش، فهل يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا والله، ولا الصحابة ولا التابعون ولا أحد من أئمة الدين أبداً؛ لأن بيان الله تعالى أعظم بيان، وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بيان، وهو أبعد الناس عن الغش؛ إذ هو أنصحهم للأمة.
فإذا قال قائل: يجب أن نؤول كل ما جاء في القران أو في السنة ونصرفه عن معانيه؟
نقول: أعطنا ولو حادثة واحدة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لا تعتقدوا هذه الآيات والأحاديث على ظاهرها، بل أولوها، فلن يجد من ذلك شيئاً.
ولهذا لما ترك الإمام الجويني رحمه الله التأويل في آخر أمره كما بين ذلك في رسالته قال: (نظرنا فوجدنا أن القرون الثلاثة مطبقون على عدم التأويل).
فإذا لم يجدوا ذلك، فقد تأكد أن ما قاله صلى الله عليه وسلم هو عين الحق والصواب الذي لا يجوز لأحد أن يعدل إلى سواه.
العبارة الثالثة: [وأفصحهم بياناً] فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أفصح العرب، وأفصح الخلق صلى الله عليه وسلم، ومع هذه الصفات الثلاث يقول المصنف: [بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه] أي: لا يحتمل ذلك أبداً، فهو مع علمه بربه، ونصحه لأمته، وفصاحته وبلاغته التي هي في الذروة؛ يقول للجارية: {أين الله؟ ولما أجابت، وقالت: في السماء قال: أعتقها}.