الفكر في الحضارة الإسلامية
وعموماً لم تعرف الحضارة الإسلامية حجراً على العقول أو التأليف في أي شأن بل إن قلة الحوادث التي أحرقت فيها بعض الكتب المخالفة دليل على صحة القاعدة، ولو أن جردانو برونو أو جاليلو وأضرابهم استطاعوا الهجرة إلى أقرب بلد إسلامي لأمكنهم التأليف الحرّ والحياة الآمنة بدلاً من الحرق أو قرار الحرمان، أما سبينوزا فيمكن مقارنته بنظيره في الدين موسى بن ميمون.
لم يعرف التاريخ الإسلامي ما يشبه المكارثية الأمريكية إلا في مرحلة قصيرة تسلط فيها المعتزلة وهي الفرقة التي تأثرت بالفكر الإغريقي، وسرعان ما انقلبت على تسلطهم الدولة والأمة، أما فكرهم فقاومه أهل السنة بالحجة والبرهان.
وبما أن إسرائيل هي النموذج الديمقراطي في نظر كثير من الأمريكيين، فنحن ندعو إلى استفتاء يهود "الفلاشا" المهاجرين إليها، عن أيهما أفضل: تعامل المسلمين معهم -في بلادهم وفي داخل إسرائيل- أم تعامل بني دينهم؟
ولكي نزيد الأمر وضوحاً لا بأس بالإشارة إلى ما حدث ويحدث في دول البحيرات الأفريقية: لقد شكل الإسلام الملاذ الآمن لكلا طرفي الحرب العنصرية المقيتة هناك، وذهل المنصرون الغربيون من دخول نحو أربعة ملايين من كلا القبيلتين المتناحرتين في الإسلام بعد الحرب!
وفي خطابه الذي ألقاه في مناسبة قومية سنة (2000م) عبَّر الرئيس الراوندي عن إعجابه الشديد بالإسلام، ودهشته البالغة بعظمته وسرعته في نزع فتيل العداوة والبغضاء بين البشر!
لقد قال لي مفتي رواندا- الذي ترجم لي خطاب الرئيس: "كان الرئيس على وشك أن يعلن إسلامه وأنا أنتظر هذا منه كل يوم".
وإذا عدنا إلى تاريخ المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية فسوف نجد الأمر مختلفاً جداً:
فـالولايات المتحدة الأمريكية أسست على تناقض صارخ بين الأخلاق التطهرية -الكالفينية نموذجاً- وبين النـزعة الإبادية التي ذهب ضحيتها ملايين البشر من السكان الأصليين، الأمر الذي يؤكد - وبمساعدة شواهد أخرى - أن المؤسسين استلهموا شريعة التوراة المحرفة في هذه الإبادة الوحشية، بأن ساروا على نفس المبادئ التي تدعي أن الله أمر يوشع أن يسير عليها في محاربة الفلسطينيين.
وحين تشكَّلَ من المجموعات المهاجرة قوة وطنية، انتقل العنف تلقائياً إلى مواجهة الشعوب نفسها التي قدم منها المهاجرون، ولا سيما الإنجليز، فكانت حرب الاستقلال الأمريكية ثورة البروتستنتي الأبيض على الحكومة البروتستنتية البيضاء، ومن هنا لم يكن لها أي معنى قيمي إلا اطراد مبدأ التوسع والتسلط، ذلك المبدأ المشترك بين الحكومة والمهاجرين.
ولو كانت المسألة مسألة قيم - كالحرية والديمقراطية - لكان أجدر حكومات الغرب بالطاعة هي الحكومة الإنجليزية! فهي بلا جدال أقدم الحكومات الاستعمارية ديمقراطية، وأكثرها تفهماً للحوار، ومن غير مدح للاستعمار البريطاني: نقول إن الشعوب الأخرى المستعمَرة في العالم استبشرت بانتصار البريطانيين على البرتغاليين والأسبان لهذا السبب. فلماذا إذن ثار الفرع على الأصل؟
إن الذي أشعل فتيل الثورة هو قانون السكر الصادر سنة (1764م) وضريبة الشاي، واقتتل الطرفان على أرض ليست حقاً لأي منهماً، ولم يكن لحقوق الإنسان من ذكر ولا أثر!!