المادة    
قال المصنف رحمه الله:
[الثالث عشر: الإشارة إليه حسًّا إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم به وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله، في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم: {أنتم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت}، فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء، رافعاً لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء، قائلاً: {اللهم اشهد}، فكأنا نشاهد تلك الإصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع إصبعه إليه {اللهم اشهد} ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين، وأدى رسالة ربه كما أمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين، وحذلقة المتحذلقين، والحمد لله رب العالمين] ا.هـ
  1. إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لربه بالحس

    الشرح:
    قال المصنف رحمه الله: [الثالث عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو]. وهذا من الأدلة على علو الله تبارك وتعالى التي لا تحتمل التأويل ولا الحذلقة ولا التفلسف، وهذه الإشارة الحسية باليد أو بالإصبع مما أجمع عليه العقلاء وأهل الأديان جميعاً أنها إلى الله إنما تكون إلى جهة العلو.
    ويقول المصنف هنا: (حسًّا) أي: بالحس؛ بالأعضاء وبالجوارح المشاهدة؛ لأنها لا تحتمل التأويل؛ ذلك أن الآيات والأحاديث أو الجمل والألفاظ والعبارات قد تؤول بتأويلات بعيدة متكلفة، لكن الإشارة المحسوسة بالإصبع التي تراها العين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقبل التأويل إلا ممن كابر وخرج عن سواء الصراط.
    قال المصنف: [كما أشار إليه من هو أعلم بربه] ويعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أعلم الخلق بربه عز وجل، كما صرح هو بذلك صلى الله عليه وسلم فقال عن نفسه: {أنا أعلمكم بالله}، وكيف لا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العالمين، وهو الذي رقي إلى سدرة المنتهى، وأطلعه الله تبارك وتعالى على الجنة والنار، وخاطبه ربه وخاطبه رسول ربه جبريل عليه السلام، وهو الذي أنزل الله تبارك وتعالى عليه الذكر، وهو الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، فما ترك خيراً قط إلا دلهم عليه، ولا شراً قط إلا بينه لهم ونهاهم عنه؟!
    فإذا عرف حاله صلى الله عليه وسلم وأنه لا أحد أعلم بالله منه صلى الله عليه وسلم، كان الذين يتحدثون في أبواب العقيدة ويقولون: هذا يجب لله، وهذا يجوز، وهذا يمتنع... من عند أنفسهم، ويتركون سنته صلى الله عليه وسلم.. كان هؤلاء مفترين على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف يستدركون عليه؟! كأنهم أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم؟!
  2. بطلان تقسيم المتكلمين لصفات الله عز وجل

    قال المصنف: [بما يجب له ويمتنع عليه] لأن المتكلمين يجعلون العقيدة في الله على ثلاثة أقسام: ما يجب له، وما يمتنع عليه، وما يجوز في حقه.
    وهذا التقسيم باطل؛ لأنه تقسيم بحسب القسمة العقلية، والقسمة العقلية لا تستوفي القضية، وإن ظن أهلها أنها كذلك، ومن ذلك مثلاً: أنهم يقولون: مما يمتنع على الله تعالى وجود شريك معه، ومما يجب لله تبارك وتعالى إثبات أنه حي.
    فما يمتنع عليه هو المستحيل الذي لا يمكن أن يكون، وما يجب له هو الذي يستحيل خلافه؛ لكن بينهما شيء واحد فقط بحسب القسمة العقلية؛ هذا الشيء هو الجائز عقلاً، ويدخلون فيه أنه تعالى يرسل الرسل، وينـزل الكتب، فيجعلون هذا من أقسام الجائز عقلاً.
    فنقول لهم: كونه تعالى يخلق فلاناً من الناس.. يحييه أو يميته، أو يخلق شجرة، أو جبلاً، أو بحراً.. من أي باب هو؟ قالوا: هذا من باب الجائز أيضاً؛ لأنه لا يجب أن يثبت ذلك لله، وكذلك لا يمتنع ولا يستحيل أن يثبت ذلك لله.
    فهم قد ساووا بين إيجاد تلك المخلوقات، وبين إرسال الرسل وإنزال الكتب؛ فنستنتج من هذا: أن جانب الحكمة لا يدخل تحت هذه القسمة العقلية.
    والله سبحانه وتعالى يفعل أشياء بحكمته، ويفعل أشياء أخرى بمشيئته، فإن هناك أشياء يخلقها الله بمشيئته سبحانه وتعالى، وهناك أشياء تكون فيها زيادة على مجرد المشيئة، كأن يقترن بالمشيئة محبة، أو حكمة أخص، فلله الحكمة في كل فعل وفي كل أمر؛ وهناك تصريف وتدبير لله سبحانه وتعالى في هذا الوجود، فهو يخص كل شيء بما يناسبه وفقاً لحكمته سبحانه وتعالى، وعندما نحصر القسمة بهذه القسمة العقلية في ثلاثة أقسام، تكون هذه القسمة باطلة، والنظر في صفات الله سبحانه وتعالى بمنظار العقل وحده وبمنطقه سبب لوقوع الخطأ والضلال، والذي تؤخذ عنه صفات الله سبحانه وتعالى هو كتاب الله الكريم وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بالله، وهو الذي عرفهم بربهم عز وجل، فلا أحد أعلم وأعرف بربه منه صلى الله عليه وسلم، ولا أحد يُعلِّم الناس ويعرفهم بصفات الله سبحانه وتعالى أعلم منه صلى الله عليه وسلم.
  3. الرد على مانعي الإشارة إلى الله بالحس

    وهؤلاء المتكلمون يقولون: يمتنع أن يكون الله في جهة، ويمتنع أن يشار إليه بالحس، وهذا هو قول الفلاسفة، ثم أخذه عنهم المتكلمون من معتزلة وأشعرية فقالوا: يمتنع أن يشار إلى الله إشارة حسية.
    فلذلك يقول المصنف رحمه الله: [كما أشار إليه من هو أعلم ربه وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر].
    فالمشير إلى جهة العلو هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أعلم الخلق بالله، وأفضل خلق الله تعالى.
    وأين كانت الإشارة؟ يقول: [لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله] كان هذا المجمع الأعظم في الحج يوم عرفة، ومن العلماء من قال: إن الخطبة كانت في منى، والإمام البخاري رحمه الله بوب في صحيحه فقال: (باب الخطبة في منى )؛ ومن المتفق عليه: أن هذا المجمع كان في الحج، في حجة الوداع، وفي أعظم يوم، سواء قلنا: إنه يوم عرفة، أو يوم النحر، وفي المكان الأعظم، وهو حرم الله سبحانه وتعالى.. أطهر بقعة في الأرض، وباجتماع هذه الخصال والصفات جميعاً كانت الإشارة الحسية إلى الله تبارك وتعالى، وذلك بعد أن خطبهم ووعظهم وبين لهم حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ونهاهم أن يقتتلوا من بعده، وبين حقوق بعضهم على بعض، حتى بيَّن صلى الله عليه وسلم حق المرأة على زوجها، وحق الرجل على زوجته في تلك الخطبة العظيمة، وبعد ذلك قال: {أيها الناس! أنتم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟} كما قال الله: ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ))[الأعراف:6]، وفي الآية الأخرى يقول: ((وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ))[القصص:65] فالله سبحانه وتعالى يسأل الناس يوم القيامة عن إجابتهم الرسل، وكل إنسان يُسأل في قبره ثلاثة أسئلة، منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنت تقول في هذا الرجل؟
    فكل فرد منا مسئول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا كان يعتقد فيه؟ والجواب ليس هو ما يعتقده الإنسان في ذهنه؛ بل الجواب هو حاله وواقعه، فهو الذي يجيب، ولو أن الجواب عند الله تبارك وتعالى بالفهم أو بالذكاء أو الحفظ؛ لحفظ الإنسان ما يريد أن يقول وأجاب بما يريد، لكنه في الحقيقة لا يجيب إلا بمقتضى حاله في هذه الحياة الدنيا؛ فإن كنت الآن على سنته وعقيدته وهديه ودعوته، فإن جوابك سيكون على وفق ما أنت عليه، وإن كنت معرضاً عن هديه وسنته ومنهجه وشريعته، فإن جوابك في القبر وعرصات القيامة لن يكون إلا بمقتضى ذلك.
    ثم قال: [فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت]؛ هكذا شهد الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، وكان هذا الموقف العظيم موقف الوداع، ولهذا سمى الناس هذه الحجة بحجة الوداع من وقتها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس، فقال: {لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا}، وبالفعل لم يلقوه صلى الله عليه وسلم بعد عامه هذا، بل إنه بعد منصرفه من حجة الوداع ببضع وثمانين ليلة تقريباً أدركه الأجل صلى الله عليه وسلم.
  4. بيان اختلاف الروايات في رفع النبي صلى الله عليه وسلم لإصبعه أو لرأسه

    يقول المصنف رحمه الله: [فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء] هذا الحديث الجليل في خطبة الوداع رواه كل أصحاب كتب السنة ودواوين الإسلام تقريباً، لكن: هل كان رفعه صلى الله عليه وسلم ليده، أو لرأسه؟
    ورد في البخاري (ثم رفع رأسه) -في آخر كتاب الحج.. باب الخطبة بـمنى - ولم يقل: (إلى السماء)، ولكن قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إن الحافظ الإسماعيلي في مستخرجه زاد فقال: (إلى السماء) وواضح أن الرفع لا يكون -وخاصة في ذلك الموقف العظيم وفي مقام الاستشهاد- إلا كذلك، فكلمة الرفع بذاتها تدل على أنه كان إلى السماء، وأتت رواية الإسماعيلي رحمه الله فبينت ما أُجمل، وهو أن رفع الرأس كان إلى السماء.
    وأما ما رواه الإمام مسلم من حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم -وفيه وصف حجته من أولها إلى آخرها تقريباً، وقد شرحه العلامة الشيخ الألباني رحمه الله- فإنه قال فيه: فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ثم ينكتها إلى القوم أو إلى الأرض؛ فـجابر رضي الله عنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال بإصبعه -و(قال) تأتي بمعنى (فعل) فإذا قلت: قال بيده كذا، فهو بمعنى: فعل بها كذا- رفع السبابة وأشار بها إلى السماء، ينكتها أو ينكبها بحسب الاختلاف في اللفظ، فكان صلى الله عليه وسلم يرفعها إلى السماء وينكتها، ويقول: {اللهم قد بلغت اللهم اشهد}.
    فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا أشار إلى ربه تبارك وتعالى في ذلك المجمع العظيم بالإصبع السبابة، وأشار إلى السماء مخاطباً ربه وهو يقول: {اللهم اشهد}، دلَّ ذلك على أن الله تبارك وتعالى في السماء، عالٍ على المخلوقات وفوقها جميعاً بما لا يحتمل التأويل.
    وهذه السبابة هي التي صح فيها الحديث عند مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بها في التشهد في صلاته، وهي التي يتشهد الإنسان بها ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويرفع إصبعه مشيراً بها إلى السماء، وفي الدعاء يدعو الإنسان في تشهده، وكذلك في خطبة الجمعة، وإن كان الأصل في الدعاء رفع اليدين، لكن -أيضاً- يدعى بهذه السبابة ويشار بها.
    وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى بعض الصحابة وهو يشير في صلاته بإصبعين قال له: {أحّد، أحّد}، أي: ادعُ وأشر بإصبع واحدة؛ لأنها إشارة إلى الله ودعاء له، فلهذا قال له: (أحّد، أحّد). يعني: ادع بإصبع واحدة، وهي السبابة كما بين ذلك فعله صلى الله عليه وسلم في رواية جابر هذه، وكما بينته الأحاديث الأخرى كذلك.