وعاصر هذه المرحلة قيام الجهاد الأفغاني الذي اجتمع لـه من أسباب جذب المتطوعين ما لم يجتمع لغيره، وكان ذلك فرصة للطرفين : الحكومة -التي تريد مسايرة رغبة أمريكا في محاربة السوفييت وفي الوقت نفسه تريد التخلص من هؤلاء، ومن المتدينين عموماً بقذفهم في فوهة المدافع الروسية- والشباب المتدين الذي وجدها فرصة للهروب من وطأة السجن والملاحقة والعذاب النفسي من المجتمع والأهل وإحياء فريضة الجهاد.
وفي أفغانستان التقى المتطوعون القادمون - من كل مكان حتى من مصر نفسها - بلا منهج ولا تنظيم بهؤلاء الذين يحملون منهجاً في التغيير وفكراً تنظيمياً ومعاناة طويلة.
وهكذا تأثر بعض الشباب بهم على اختلاف فيما بينهم وتفاوت في الغلو أو الاقتناع باستخدام العنف، وظلت مصر مصدر الوقود لهذا الغلو والتفرق، فقد كانت شناعة التهم والمجازفة في الاتهام والتعميم، وهي من الفنون التي يجيدها الإعلام المصري وقد ذاقها كثير من البلاد العربية، ثم كانت الحملة الشرسة التي بلغ سجناؤها 40 ألفاً، بالإضافة إلى التطبيع مع اليهود، ونشر الفاحشة والرذيلة، ونبذ شريعة الله، ومنع قيام أي تجمع على أساس الدين أسباباً لإعطاء هذه الجماعات شرعية، وإيجاد نسبة من التعاطف معها، ليس فقط بين المجتمع؛ بل داخل الأجهزة الأمنية نفسها.
وهكذا دخلت مصر في دوامة من العنف الاجتماعي بسبب إرهاب الدولة، والتشبث بالحل الأمني أو الحسم - كما سماه جلادوها - فقد بلغ هذا الإرهاب في انتهاك الحرمات واقتراف الفظائع حداً جعل أكثر الناس رقة ولطفاً يضمر الانتقام أو يوالي أهله، الأمر الذي أحرج أصدقاء الحكومة المصرية وعلى رأسهم أمريكا نفسها، ولاسيما حين تتابعت تقارير الخارجية الأمريكية، ومنظمات حقوق الإنسان وتواترت عن صنوف التعذيب وتعسف المحاكمات. حتى أن بعض التقارير الأمريكية أثارت قضية التعذيب باستخدام فيروسات الإيدز.
وهكذا بلغ الشحن النفسي غايته داخلياً وخارجياً، دون أن تتراجع الحكومة المصرية عن مسلسل الحسم وحلقاته، من القتل والتشريد والسجن بالظن أو لمجرد اللحية وغطاء الشعر للفتيات، ومضت قدماً في تحريض الدول الأخرى على الإسلاميين، ونجحت مساعيها من خلال تبني مؤتمرات وزراء الداخلية العرب لذلك، وسرعان ما سابقها النظام التونسي في هذا المجال، ناهيك عن النظام البعثي في سورية الذي كان قد دمر أهم مدينتين لأهل السنة حماه في سورية وطرابلس في لبنان وسجن وشرد عشرات الألوف!! بحيث تجاوزت مأساتهم مأساة الفلسطينيين!! وقل عن دول أخرى مثل ذلك.
وهكذا كان الإنجاز الوحدوي الوحيد للأمة العربية! وأصبح هدف الذين يزعمون أنهم صنعوا العفريت لمواجهة السوفييت أن ينصبوا له المصائد أينما مر حتى لا يبقى له من أثر.
وقد صاحب توقف الجهاد في أفغانستان اشتداد الوطأة في البلاد العربية على كل من ذهب إلى أفغانستان، واستطاعت الحكومات العربية إقناع الغرب بعد جهد جهيد لمسايرتها في المواجهة والحل الأمني. وهكذا لم يجد كثير من الشباب الأبرياء فرصة للحياة المستقرة لا في الدول العربية ولا في الغرب، فأخذوا يبحثون عن مكان يجاهدون فيه ليهربوا إليه، وانضم الذين بقوا في أفغانستان إلى صفوف حركة طالبان.
ومن عاد منهم لبلاده قبل اشتداد الوطأة أو استطاع التفلت من التهمة، أو خرج من السجن وجد الطريق مغلقة في وجهه، فالدعوة محصورة محاربة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفقود أو ضعيف، والأمة غارقة في الشهوات الرخيصة واللهو والعبث، وباختصار وجد كل ما يصادم القيم الجهادية التي يؤمن بها، ولم يجد المحاضن الدعوية التي تهذب وتربي، أو وجدها لكن طبيعته لم تقبلها، وهذه قضية مهمة بالنسبة للدعوة والدعاة، فهم أولى الجهات بأن يعرفوا تقصيرهم ويعترفوا بمسئوليتهم.