وأصل الشبهات النقلية عند المرجئة: هو وقوع الجهل والخطأ في الاستدلال بالنصوص من جهتين:
* أولاً: من جهة الثبوت:
افترى وضاعو المرجئة أحاديث وضعوها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تؤيد مذهبهم، وقد كشف ذلك علماء الحديث والرجال المتخصصون، وبالجملة فكل حديث ينفي ما سبق نقل الإجماع عليه، من أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فهو موضوع ولا حاجة للبحث في سنده، وهذه أمثلة يقاس عليها ما وراءها:
1- الحديث المروي عن أبي سعيد الخدري قال: { سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من زعم أن الإيمان يزيد وينقص، فزيادته نفاق ونقصانه كفر، فإن تابوا وإلا فاضربوا أعناقهم بالسيف، أولئك أعداء الرحمن، فارقوا دين الله، وانتحلوا الكفر، وخاضوا في الله، طهر الله الأرض منهم، ألا ولا صلاة لهم، ألا ولا صوم لهم، ألا ولا زكاة لهم، ألا ولا حج لهم، ألا ولا بر لهم، هم براء من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسول الله براء منهم } .
فهذا الحديث وضعه أحد المرجئة من أصحاب الرأي، يدعى " محمد بن القاسم الطايكاني " قال عنه ابن حبان: ''يأتي من الأخبار ما تشهد الأمة على بطلانها وعدم الصحة في ثبوتها'' وأورد هذا الحديث مثالاً لذلك.
2- الحديث المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه { أن وفد ثقيف جاءوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه عن الإيمان: هل يزيد وينقص؟ فقال: لا، زيادته كفر، ونقصانه شرك } .
فهذا الحديث وضعه الحكم بن عبد الله أبو مطيع البلخي قال عنه ابن حبان: ''كان من رؤساء المرجئة ممن يبغض السنن ومنتحليها'' وهو من كبار أصحاب الرأي أيضاً، والعجيب أن أحد أصحاب الرأي سرقه من أبي مطيع وادعاه لنفسه وهو المدعو: عثمان بن عبد الله المغربي الأموي .
فقد روى عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال: { قدم وفد ثقيف على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: " يا رسول الله جئناك نسألك عن الإيمان، أيزيد أو ينقص؟ قال: الإيمان مثبت في القلوب كالجبال الرواسي، وزيادته ونقصانه كفر } .
قال ابن حبان: ''وهذا شيء وضعه أبو مطيع البلخي على حماد بن سلمة، فسرقه هذا الشيخ وحدث عنه'' .
ومما يدل على أمانة شارح الطحاوية، العلامة علي بن علي بن محمد بن أبي العز رحمه الله، وتجرده عن الهوى والتعصب، أنه مع كونه حنفياً قد بين بطلان هذا الحديث نقلاً عن شيخه المحدث الحافظ ابن كثير، وبين فيه علة أخرى غير أبي المطيع، وهو أبو المهزم الذي قال عنه شعبة: " لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً ".
3- الحديث المروي عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: { الإيمان قول، والعمل شرائعه، لا يزيد ولا ينقص } .
فهذا الكلام وضعه أحمد بن عبد الله المعروف بـالجويباري، قال عنه ابن حبان: " دجال من الدجاجلة، وكذاب..." وقال: " شهرته عند أصحاب الحديث قاطبة بالوضع على الثقات ما لم يحدثوا ".
وقال الذهبي: '' يضرب المثل بكذبه " .
وقال: ''قال ابن عدي: كان يضع الحديث لـابن كرام على ما يريد، فكان ابن كرام يخرجها في كتبه عنه '' .
وبهذا يتبين اشتراك المنتسبين إلى المرجئة الفقهاء، والمنتسبين إلى الكرامية في هذه الصفة الشنيعة.
* ثانياً: من جهة الفهم والاستنباط:
بغض النظر عن سوء القصد، واتباع الهوى، اللذين لا يخلو منهما مبتدع، نقول: إن الخطأ يمكن أن يقع في فهم نصوص الإيمان من المرجئ وغير المرجئ، وذلك لسبب واقع في مدلولات النصوص نفسها وفي مواردها.
وإيضاح ذلك؛ أن الإيمان من حيث هو لفظ شرعي، ورد استعماله في نصوص الشارع كثيراً جداً، ولا غرابة في ذلك .
ومع هذه الكثرة تأتي النصوص في الإيمان مرة مطلقة، ومرة مقيدة، وتطلق مرة على الإيمان الباطن، ومرة على الإيمان الظاهر، ومرة عليهما معاً.
وتأتي في بيان الأحكام الدنيوية المترتبة على الإيمان من الحقوق والحدود، دون تعرض لحقيقته وعاقبته عند الله تعالى.
وتأتي أحياناً في خطاب الوعيد والذم للدلالة على وجوب ترك المذموم، دون أن يكون المراد منها الأحكام التطبيقية...، وهكذا مما هو ظاهر لمن جمع النصوص في الإيمان من مصادرها الصحيحة.
فالإيمان له مبدأ وكمال، وله ظاهر وباطن، وله أحكام دنيوية تترتب عليه، وله أحكام أخرى أخروية، وكثيراً ما خلط الناس بين هذه الأمور، فجعلوا النصوص الدالة على أصل الإيمان ومبدئه -كالآيات والأحاديث الدالة على أن القلب محل الإيمان؛ نحو حديث {التقوى هاهنا}- في موضع الإيمان الكامل المطلق، فقالوا: إن عمل الجوارح ليس من الإيمان، كله في القلب فقط.
أو جعلوا النصوص الدالة على بعض أحكام الإيمان الدنيوية في موضع الإيمان من حيث حقيقته الشرعية، كالنصوص الواردة في كف اليد عمن أقر بالإسلام، أو أظهر بعض شعائره، وعصمة ماله ودمه بذلك، أو الحكم له بالإسلام المقتضي ترتب حكم شرعي عليه، كحديث الجارية التي قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمولاها: {اعتقها فإنها مؤمنة} .
أو جعلوا النصوص الواردة في خطاب الذم والوعيد -كالأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن الزاني والسارق، ومن لا يأمن جاره بوائقه، ومن لا يحب لأخيه مثلما يحب لنفسه وأمثالها- في خطاب الأحكام التنفيذية كما فعلت الخوارج.
أو يقعون في عكس ذلك؛ فيجعلون النصوص الواردة في الأحكام في موضع الذم والوعيد؛ كالنصوص الثابتة الصريحة في تكفير تارك الصلاة التي انعقد عليها إجماع الصحابة، لكن المرجئة جعلوها من قبيل الوعيد والتغليظ، فقالوا: إن التارك المصر الذي يعرض على السيف، ويستتاب ثلاثة أيام، ثم يقتل ممتنعاً عن أدائها، إنه مسلم يقتل حداً.
وهكذا مما سبق إيراد كثير منه، في نصوص المرجئة المنقولة سابقاً.
فهذا الأصل العظيم، من فطن له واطلع على مذهب السلف، علم يقيناً أنه المذهب الحق الذي لا تناقض فيه، ولا تعارض بين نص وآخر، وعلم كثيراً من أسباب وقوع الخلاف بين الناس في الإيمان، وأنه لا مخلص له ولا لهم من الخطأ والتناقض، إلا باقتفاء أثر السلف الصالح في كل ذلك .